صفحات الثقافة

الشعار: هل تتحدّد قيمته من خلال مضمونه أو وقعه؟/ سعيد بنكراد

21 فبراير 2025

يُعد الشّعارُ “صيغةً مختصرةً ومعبّرةً وسهْلةَ التذكّرِ، إنّه يُستعمَلُ في الغالبِ واجهةً دعائيّةً في الحمَلاتِ الإشْهاريّةِ والسياسيّةِ بغايةِ التّرويِجِ لـمُنْتَجٍ أو ماركةٍ، أو من أجلِ الدّفعِ بالنّاس إلى تَبنّي بعض الأفكارِ السياسيّةِ أو الاجتماعيّةِ”[1]. إِنَّه لَيْس مُرْتبِطًا بِالإشْهار أو الدَّعايةِ السِّياسيَّة، كما نتوهّمُ، إِنَّه قديمٌ قِدَمَ حاجةِ النّاس إِلى مَن يُفكِّر بدلا عَنهُم. وبذلِك، يَعودُ جُزْءٌ كبيرٌ مِن مَضمُونِه إِلى أَهوَاءِ النفْسِ، فكُتلَةُ الانْفعالاتِ الخفيّةِ فِي حَاجَةٍ إِلى من يَسْتثيرُها مِن خِلَال شِعَارات تُجَسّدهَا فِي موقفٍ أو فِعْلٍ بِعيْنِه.

واسْتنادًا إِلى طبيعَته هَاتهِ، فَإنَّه لَا يَتَحدَّد مِن خِلَال مضْمونِه، أيْ مِن خِلَال مَا يقولُه، بل مِن خِلَال وَقْعهِ، أيْ قُدرَتِه على التَّأْثير فِي المتلقِّي والدَّفْع بِه إِلى الفعْل اِسْتنادًا إِلى مَا لَا يَقولُه: “الـمَسْحوق س يُصبّنُ أحسن”، وهو ما يشكّكُ في بياضِ كلّ المساحيقِ الأخْرى. “الـمعْقول”، ما يدُلُّ على أن ّ الأحزابَ الأخرى لا عقلَ لها، أو ليست جادّةً في ما تَدعو إليه. “القوّة الهادئةُ”[2]، يشيرُ إِلى الحكْمةِ والصَّبْرِ والعَملِ الدَّؤوبِ، ولكنَّه يُشكِّكُ فِي طَبِيعَةِ القوى الأخَرى، فَهِي قد تَكُون بدون مردودٍ اجتماعيّ أو سياسيِّ أو قد تكونُ هَوْجاء لا يَتِم تَصْريفهَا برَزانةٍ وحكْمَةٍ. إنّ القوّةَ مِلْكٌ للسّلطةِ وحدَها، ولكنَّ الأساسيَّ في السياسةِ هو طريقةُ تَدبيرِها.

وهذه السّمةُ هي ما يحدِّدُ موْقعَه الحقيقيَّ فِي سُلُوك الحـُشودِ داخِل الفضَاء العموميِّ. إِنَّه يُخَاطِب الطِّفْل فِي المتلقِّي لِكيْ يَعُود بِه إِلى مُتعَة الشّدْوِ والغنَاء كمَا كان يَفعَل وَهُو يُردِّدُ الأناشيدَ فِي المدْرسةِ. إِنَّه اِسْتثارة لِصبْيانيَّة لَم يَتَخلَّصِ الإنْسانُ مِنها أَبَدًا. إنّه شبيهٌ باللّعب، فنحن لا نَلعبُ من أجل متعةٍ عابرةٍ، بل لكي نتخلّصَ من النفعيِّ في كلماتِنا أو إيماءاتِنا. لِذَلك كان الشّعارُ جُزْءًا مِن قناعَاتٍ جَماعِيّةٍ تَنتَشِرُ فِي الفضائيَّات وفِي الذَّاكرةِ ومن خِلالِهَا يَتَعلَّم النّاس كَيْف يسْتهْلكون وكيْف يُصَرِّفون أحْكامَهم الاجتماعيّةِ والعنْصريَّة، وكيْف ينْتمون إِلى الوطنِ أو إِلى عَقائِدَ مُوَزّعَةٍ على الدِّين والعِرْق والمذهبِ والأيديولوجْيا.

إنّه سِجالِيٌّ أيضًا، فَهُو مَجهُولُ المصْدرِ، وبذلك كانت حقائقُه جُزْئيَّةً، فما يَدعُو إِلَيه أو يُروِّج لَه مُستَمَدٌّ مِن الجِهة التِي أطْلقتْه. وبذَلِك يُبنَى كمَا يُبنى الشِّعْر والتَّعْليقُ العفْوِيُّ والـمثلُ السَّائرُ والقَوْلُ المأْثورُ، ولكنَّه قَادِرٌ على اِسْتيعاب كُلِّ مُحسّنَات القوْل أَيْضًا. ففيه السَّجْعُ والِجناسُ والاسْتعارات الحُرّة. إنَّه يُصنَّف ضِمْن الوظيفةِ الشِّعْريَّة لِلُّغة. فلَا يُمْكِن أن يَكُون الشِّعَار قوْلا مَنثُورا خاليًا مِن أيِّ إِيقاع. وبذَلِك عُدَّ يَافِطةً لَفظِيّةً لا تُخْبِر ولا تُبلِّغ، وإنما تَكتَفِي بِالتَّحْريض والـحثِّ والدَّعْوة إِلى تبنِّي مَا لا يُمْكِن أن يتبنَّاه الفرْدُ مِن تِلقاء نَفسهِ، أو مَا يُقدَّم لَه مِن خِلَال قَوْلٍ نثْريٍّ تقريريٍّ. إِنَّ الشّعار الذِي لا يَدفَعُ إِلى الفعْل لا يُصنَّفُ ضمن حقلِ الشّعاراتِ.

بِعبارة أُخْرى، إِنَّه يُغْرِي ويدْفعُ الكبَار والصِّغار إِلى اللّعِب كمَا كَانُوا يفْعلون وهُم يتعلَّمون كَيْف ينْتمون إِلى المحِيط المباشر كما تُسَميه كلماتُ تبثُّ فيه روحَ الدّعابة والمرحِ. إنَّ الرَّاشد يَستعِيده مِن خِلاله طُفولَته مِن أَجْل التَّخَلُّص مِن رُشْدِه ومِن مسْؤوليَّته عن أفْعاله وأقْواله. ويتخلّص مما يحُدّ من عفويّته أيضًا. إِنَّ قُوتَه تَكمُن فِي إِيقاعه ونبْرِه لا فِي مضْمونه، فَهُو يَرُومُ الذَّهَابَ إِلى الدَّاخلِ المظْلم الذي يَخشى التّصنيفَ، وتلْك طريقَتُه فِي تَعْطِيل الوعْي الصَّاحي. وبذَلِك كان طَرِيقَةً فِي صِياغة مَا يُمْكِن أنْ يَندرجَ ضِمْن ” الفكْر الجاهزِ”، ذاك الذِي يُعْفِي النّاس مِن التَّفْكير. إنّه شبيهٌ بالمثلِ والحكمةِ والقولِ المأثورِ. فهذه أيضًا ليست معنيةً بالإبلاغِ والإخبارِ، فهي مستودعٌ لسلوكٍ محتملٍ، إنّها تَتضمّنُ تعاليمَ تُشيرُ إلى ما يَجبُ فعلُه وما يَجبُ تَجنّبُه.

وهو ما تُثْبتُه الأصولُ الأولى لهذه الكلمةِ. فكلِمةُ slogan في الفرنسيّةِ مشتقّةٌ من أصولٍ ويلزيّةٍ هي: sluagh-ghairm  التي تعني حرفيّا “صرخةُ الحشودِ” الداعيّةِ إلى الحربِ. فلا يمكنُ أن نَستثيرَ أهواءَ فردٍ معزولٍ. إنّ الحربَ عودةٌ بالنّاسِ إلى ما يُشكّلُ بقايا البهيميّةِ فيهم. لذلك نحن في حاجةٍ إلى “طاقةٍ” مضافةٍ لكي نتغلّبَ على الرّعبِ فينا. إنّ الفردَ وحيدًا قادرٌ على التّفكيرِ، أمّا وسط الحشودِ فإنّه يتبنّى انفعالاتِ الحشودِ. إنّ الانفعالَ يُمكّنُه من التخلّصِ من العقلِ لكي يَنْتشِرَ في الحسّيِّ في جسَدِه. لذلك لا يستوطِنُ الشّعارُ الكلِماتِ وحْدها، بل يَستَدعي الجسدَ الحاسَّ باعتِبارِه حاضِنًَا للأحاسيسِ وكاشِفًا عنها. ووفق ذلك كان وسيلةً مثلى عند الدّعاةِ في السياسةِ والدّينِ للدفْعِ بالحشودِ إلى الالتِفافِ حولَ قناعاتٍ مشْتركَةٍ لا يُمكنُ للفردِ أنْ يَعيشَها منعزلًا.

إنّ الشّعارَ حاضرٌ في كلّ مجالاتِ النّشاطِ الإنسانيِّ، فهو سياسيٌّ وأيديولوجيٌّ وإشهاريٌّ وتربويٌّ ورياضيُّ وأدبيُّ، بل قد يَمتُّد سلطانُه ليَستوعبَ داخلَه كلّ ما أنتجتْهُ حِكمةُ الأممِ: “الفْياقْ بَكريِ بالذْهبْ مشْري”[3]. إنّه مثلٌ، ولكنّه يمكنُ أن يكون شعارًا لحثّ النّاسِ على العملِ في الصّباحِ الباكرِ.  ومعنى ذلك، أنّ التّعبيرَ الشّعاريَّ يُكثِّف المجردَ والعام في صيغٍ لغويّةٍ تَتميّزُ بالجمالية والإيجازِ والإيقاعِ الغنائيِّ. إنّه صيغةٌ قابلةٌ للتّكرارِ والتّرديدِ، وتلك أيضًا سمةٌ مركزيّةٌ فيه، “إنّه لا يُقرأ بل يُرى، ولا يُنصَت إليه بل يُسمعُ… إنّه ليس رابطًا بين أنا وأنت، بل بين هُمْ تُخاطبُ هُمْ”[4]. وبذلك يمتدُّ سلطانهُ إلى المتَردّدين والشكّاكين والـمُقتنِعين والذين لا قَناعةَ لهم. 

إِنَّه بِذلك، يَتَوجَّه إِلى العاطفة والانْفعال لا إِلى ضَوابِط العقْل وأحْكامه. ففي الاندفاعِ دائمًا شُحْنَة مِن يقينٍ، أو وَهْم بِحقيقةٍ مُطلَقَةٍ يُمْكِنُ أنْ يتبناها المجْتمعُ كُلّهُ. وَذَاك مَا تحْتاجُه الحُشود وتطْمَئنُّ إِليْه. إنّ “الْإيمان” لا يُعَبَّر عَنْه بِالـمفاهيم ولا يُعَاش فِيها، إِنَّه يَتَجسَّد فِي صِيغٍ لُغَويَّةٍ تَختصِره وتُشخِّصُه، فالإيمانُ الذي يَحتاجُ إلى أدلةٍ وبراهينَ ليس إيمانًا. وبهذه الصّفةِ تَلتقِطه الأفْئدةُ وتردِّدُه الحناجرُ فِي الشَّوارعِ والسَّاحات العامَّة. إِنّه صِيغةٌ سِحْريَّةٌ مُوَجّهَةٌ لِاسْتئْصال القلقِ والتردّد في النّفوسِ واسْتجْماعِ الطَّاقات وحشْدِها، أو “هُو طَرِيقَةٌ يَتَماهَى مِن خِلالِهَا الشَّعْب مع نَفسِه”[5]. إنّه سبيلٌ هوَويٌّ إلى نفْسٍ تَستعْصي في الغالبِ على الضّبطِ العقليِّ.

ووفق ذلك كان الشِّعَارُ فِي المقَام الأوَّل أَدَاةً لِلتَّسْويقِ، تَسوِيق الـمُنْتجات والأفْكار والانْتماءات السِّياسيَّة والأيديولوجيَّة. وقد يَكُون مِن أَسبَاب ذَلِك أنَّ الشِّعَار يدْفعُنا، عَكْس مَا هُو سَائِدٌ فِي الأشْكال الدِّعائيَّة البسيطةِ والصِّيغ التَّمْثيليَّة العامَّة التِي تسْتعْملهَا الوصْلة الإشْهاريَّة مَثَلا، إِلى الاعْتقاد فِي قَضيَّة مَا: “الإسْلام هُو الحَلُّ”، لا يُشكّل هذا الشّعارُ لحظة عابرةً في مشروعٍ سياسيٍّ يُعرَضُ على النّاخبين، كما هي الشّعاراتُ الوضعيّةُ، بل هو تنشيطٌ لذاكرةٍ دينيّةٍ تعجُّ بالنّماذجِ السلوكيّةِ الجاهزةِ. ولكنّه يَجُبُّ ما حوْله وما قبله أيضًا، وذاك مضمونُه الحقيقيُّ، إنّه يشيرُ إلى تهافتِ كلّ الوَصفاتِ السياسيّةِ والاقتصادّيِة التي تَدعو إليها التياراتُ الأخْرى.

وبذلك كان الشّعارُ وَاسِطةً بَيْن مَضمُونٍ أيديولوجيٍّ أو عَقائِديٍّ أو سِياسِيٍّ، وبيْن قناعَات بَسِيطَة يتداولهَا النَّاس ويبْحثون لَهَا عَمَّا يُسْندهَا فِي “الجاهز” الدِّينيِّ أو المذهبيِّ وفق ما تَقتضيه قواعدُ الأخْلاق العامَّة. فلَا وُجُود لِشعاراتٍ مَوضُوعة ” لِلتَّأَمُّل” و”التَّدَبُّر”، فالشّعار يُصاغُ ضمن كلماتٍ لا تُعيّنُ أو تسمّي، بل تُوحي وتُوهمُ وتُسْقِطُ المعطى سلفًا أو القابلِ للتحقّقِ. وبذلك كان الجسدُ الفاعلُ في الفضاء العموميِّ هو ضابطُ إيقاعها الرئيسّيّ. إنّه ليس “مَسْكوكًا”، فالمسكوكُ ثابتٌ وممتدٌّ في الزّمانِ كما هو المثَلُ أيضا، أمّا الشّعارُ فمحدودٌ في الزمانِ، لأنّه ليس من الخبرةٍ الشعبيّةٍ، بل حاصلُ قرار تسويقيِّ. لذلك لا يُمكنُ أنْ تَكونَ صيغةُ “الأمْرِ”: “ممنوع التّدخين” شعارًا، فهذه الصيغةُ تُحدّدُ للمأمور فضاءً لا يمكنُ تجاوزهُ، إنّ الأمرَ يُعلي من شأنِ الآمرِ ويَحطُّ من شأنِ المأمورِ. إنّه لا يَدفعُه إلى الحلُم، بل يَحدُّ من حريّته، أما الشّعار فيرومُ انصهارَ الصوتِ الباثِّ في ذاكرةِ المتلَقي.

ولكنّ مضمونَ الأمرٍ واردٌ في الشّعار أيضًا، إنّه الأمرُ الذي يَدفعُ المستَهلكَ أو النّاخبَ إلى القيامِ طوْعًا بما يأْمرُ به الشّعارُ من أجل الانخراطِ في فعلٍ مخصوصٍ. وذاك ما يشيرُ إليه الشّعارُ الشّهيرُ “ضَعوا نمرًا في محرّكِكُم”[6]. إنّه صيغةٌ آمرةٌ ولكنّها مليئةٌ بالأحلامِ أيضًا، فهو لا يأمُرُ من أجلِ الفِعلِ فقط، بل يَعِدُ بكينونةٍ تُعلي من شأنِ المستعمِلِ. “إنّه يُشيدُ بنوعٍ من البنزينِ، فهو أكثرُ فعاليّة من الأنواعِ الأخرى، ولكنّه يشيرُ أيضًا إلى مدّ السيارة بقوّةٍ تُمكن سائقها من التّفوقِ على كلّ السياراتِ، بل قد يُوحي، من خلالِ هذه القوّةِ، إلى أنّ السائِقَ نفسَه يُمكنُ أنْ يُصبِحَ نَمـِرًا. إنّ الإسْقاطَ يَسلُكُ سبيلًا يَنتقِلُ من الصّفَةِ إلى الفِعلِ ومنَ الفعلِ إلى الذّاتِ”[7].

وهذا بعدٌ آخر من أبعاد الشّعار. فعلَى عَكْس مَا يُمْكِن أنْ يَتَبادَر إِلى الذهْنِ، فَإِنّ الشِّعَار لا يُكثِّف مَضمُون قضايَاه فِي مَلفُوظ خاصٍّ يَكُون بديلًا مُطْلقًا عَنْها، بل يَعمَل على “تبْسيطِهَا” واخْتصارهَا فِي مَا يُشْبِه صِيغة شِعْريَّة تُشيرُ إِلى تَقابُلٍ إِقْصائيٍّ يَكُون العالمُ فِيهَا مَشدُودا إِلى قُطْبيْنِ لا رَابِط بيْنهما: مَا هُو مَقبُولٌ ومَا هُو مَرفُوض ولَا شَيْء غيْرهمَا (إذَا كان الإسْلام هُو الحلُّ، فَإِن المجْتمع الحالي لَيْس مُسْلِما). “الأسدُ أو نُحرِقُ البلدَ”، إنّه نموذجٌ للشّعارِ “الابتزازيّ”، إنّه لا يخيّر المتلَقي (من ذا الذي يقبَلُ بأن تُحرقَ سوريّة)، بل يَفرضُ خيارًا واحدًا هو القبولُ بالأسَدِ حاكمًا أبديًا لسورية، أنا وبعدي الطوفانُ.

لِذَلك كان مِن الصَّعْب تَرجمَة الشِّعارات. فَهذِه الصِّيغ تُثير الـمُتعةَ بِشكْلِهَا لا بِمعْناها، فالنَّاس يُردِّدون الشِّعَار لِأَنّه يَرُوق الأُذن قَبْل الذّهْنِ. وقد كان المثَال الذِي قَدّمَه أوليفير روبول في كتابه “الشّعار” بالغ الدّلالةِ في هذا السياقِ: “لا تتآكلُ البطاريّة إينوكسود وُوندر إلا إذا استُعمِلتْ”[8].  فالجملة تتميّزُ بموضوعيةٍ لا حدّ لها، فهي حاضنةٌ لخبر يعودُ إلى بطاريّة تباعُ في الأسواقِ. ومع ذلك فهي شعارٌ خالصٌ أيضًا. فالأساسيُّ فيها ليس الخبر، بل نفيُها أنْ يكونَ هناك ما يُشبِهها في السّوقِ. فقد قُدمَتْ إِلى المسْتهْلك مِن خِلَال أَدَاة التَّعْريف “ال” الدالّةِ على الاستغراقِ، ما يُفاضلُ هذا عن ذاك. وبذلك تُحرِمُ كُلَّ البطَّاريَّاتِ الأخْرى من أيةِ فعَّاليَّةَ، تمامًا كما هو “البنكُ الشعبيُّ”، حيث التّعريفُ فيه يَنفي “الشعبيّة” عن كلّ البنوكِ الأخرى.

وكانتْ فرنْسَا قديمًا قد نصَبتْ على حُدودِهَا لَوحَةً كَبِيرَة كُتِب عليْهَا: “هُنَا يَبدَأ بلدُ الحُريّةِ”. يتعلّقُ الأمرُ بجملةٍ إخباريّةٍ صريحةٍ، ولكنّها لا تُحيلُ على معناها إلّا من خلالِ استحضارٍ ما هو مُضْمَرٌ فيها. فقد تكونُ فرنسا حقًا بلدًا للحريّةِ، وذاك ما تَشهدُ عليه ذاكرةُ الإنسانيّةِ، فالجملَةُ تشيرُ إلى الثّورةِ الفرنسيّةِ التي خلّدَها التّاريخُ في مَبادئِ “الحريّةِ والمساواةِ والإخَاءِ”، إلّا أنّ مضمونَها الحقيقيَّ تستمدُّه من شيءٍ آخر، أو من جُملٍة أخرى: “وهنا تَنتَهي حدودُ بلدانٍ كثيرةٍ لا تَسودُ فيها الحريّةُ”[9]. إنّ قيمةَ الشّعار لا تَكمُنُ، في أغلبِ الحالاتِ، في ما يَقولُه بشكلٍ مباشِرٍ، بل في ما لم يَقلْه، أو في ما حاوَلَ التّغطيّةَ عليه من خلالِ التّعميمِ المفْرطِ أو التّخصيصِ المخِلّ، كما أشرنا إلى ذلك أعلاه. ومع ذلك، فإنّ ما يَقولُه هذا الشّعارُ ليس تَضليلًا بل قد يَكونُ دعوةً إلى القيامِ بثوراتٍ شَبيهَةٍ بثوْرةِ فرنسا.

إِنَّ الشِّعَار هُو أيْضًا الأدَاةُ التِي مِن خِلالِهَا يَستطِيع الفاعلونَ فِي الإشْهار التَّصَرُّفَ فِي الحاجات وَخلقِها وتحْويلهَا إِلى مَا يُمْكِن أن يُصْبِح كينونةً جديدةً تَأتِي إِلى النَّفْس مِن خارجِها. وهِي صِيغةٌ أُخرَى لِلْقوْل، إِنَّ الشِّعَار يُمْكِنُ أنْ يُصبحَ أَدَاةً لِتحْوِيلِ “حَاجَة وَاقعِيّةٍ (الشُّرْب) إِلى مَوضُوعٍ مُصطَنَعٍ (الـمَاءُ المعْدنيُّ) ، بِفَضل حَاجَة أُخرَى غير مرئيّةٍ من خلال مضمون الشّعار الظاهرِ (الحظوة والأبّهة)، إِنَّه تَحوِيل يَقُوم الشِّعَار بِتثْبيتِه ضِمْن سِلْسلة لغويّةٍ: “بِيرْيِي، شامْبانْيَا مِيَاه المائدة”. فلَا يُمْكِن أن نَدفَع حِمارًا إِلى الشُّرْب إِذَا لَم يكن عطْشانًا؛ ولكنّنَا نَستطِيعُ فعل ذَلِك مع الإنْسانِ. وتلْك هِي سُلطَة الكلَامِ”[10].

لِذَلك كان مُجتَمَع الاسْتهْلاك هُو أَكثَرُ المجْتمعات إِنْتاجًا لِلشِّعارات وأكْثرُهَا قُدرَة على التَّرْويج لَهَا واعْتمادِهَا فِي تَسوِيق كُلِّ شيْء. فنحْن نعيشُ بِالشِّعارات ونسْتهْلكُ بِالشِّعارات ونتداولُ فِي الكثِير مِن القضايَا اِسْتنادًا إِلى مَا تُوحي بِه الشَّعاراتُ أو تَدعُو إليه.

لقد اسْتوْطن الشِّعَارُ الفكْرَ وحوَّله إِلى وَصَفاتٍ “جَاهِزةٍ” يَستَنِد إِليها النَّاس مِن أَجْل تَدبِير أُمورِهم فِي السِّياسةِ والاجْتماعِ والاسْتهْلاك. فَمِن الشِّعَار يسْتمدُّون الكثِير مِن قناعاتهمْ، ومن خِلاله يتعلَّمون كَيْف يُبرِّرون سُلوكًا ويبرِّرون الهزائم ويتوهَّمون الانْتصاراتِ. فالصغيرُ ذاتُه لم يَسْلمْ من الشّعاراتِ، فهو عُرضةٌ لسيلٍ كبيرٍ منها ولا يلتقطُ سوى الإيقاعِ الذي يُوجّه سُلوكَه الرّاشدَ مستقبلًا.

إنّ النّاسَ ميالون إلى “الأحكامِ الجاهزةِ”، إلى من يُريحهم، إنّهم في حاجةٍ إلى “الأب” الذي يأخذُ على عاتقِه حلّ مشاكلِهم ومشاكِلِ أبنائهِم: “بَـــنْككم يتكفّل بكلّ شيءٍ”. “أرْييل يُصبّنُ أحسن”، إنّه الواحدُ في ميداِن الاستهلاكِ الذي يَستحضِرُ من خلالِه المتلقي صورةَ الله الواحدِ في الدّين. يتعلّق الأمرُ بالإحالةِ على سيكولوجيّة الحشودِ، فهي ميالةٌ أيضًا إلى “القَطْعيّةِ” والأحْكامِ المسبقةِ والتقاطباتِ الضدّيِّةِ. إنّ الشّعار مانَويٌّ، فما ليس خيرًا يجبُ أنْ يُصنّف ضمن الشرِّ، وما ليس أبيضَ فهو أسودُ، فلا وجودَ للرماديّ في ذاكرتِها. إنّها تقْتاتُ من أحكام إطلاقيّةٍ لا تَعرفُ “الوسط”، فإمّا السّلبُ وإما الإيجابُ، من ليس مَعي فهو ضِدّي، والبَعدُ يَجُبُّ القبلَ بالإلغاءِ لا بالتّقادُمِ الزمنيِّ[11].

ورغم هذه الحقيقة، هناك من الشّعاراتِ ما لا يَهدفُ دائما إلى تَخديرِ العقولِ أو تشويهِ الحقائقِ، فالكثيرُ منها كان يَدعو إلى تَغييرٍ حقيقيٍّ وإلى قيمٍ إنسانيّةٍ تحتفي بالإنسانِ وتَرفعُ من شأنِه. لقد رفعَها أولئك الذين كانوا يَحلُمون بِبناءِ مجتمعٍ عادلٍ. فلم تُكنْ: “يَا عُمَّال العالم اِتحِدوا” صَرخَة جِيَاع بِلَا أُفُق، ولم تَكُن دَعوَة إِلى الحقْد والكراهية، لَقد كَانَت تُعبِّر عن رَغبَة النَّاس فِي بِنَاء مُجْتمعات حُرَّة وَعادِلة فِي تَوزِيع الثَّرواتِ. تمامًا كمَا كَانَت شِعارَات طَلبَة فرنْسَا الَّذين نَزلُوا إِلى شَوارِع باريس سنة 68 يُطالبون بِمجْتَمع قَادِر على اِسْتيعاب مَا كان يَتَطوَّر على هَامِش القوانين السَّائدة أو ضِدَّها. لَقد طالبوا بِمجْتَمع جديد يعيش بِالـحُلم، ولا يَعرِف الممْنوع: “مَمنُوع المنْع”، “اِنْسوْا كُلَّ مَا تعلَّمْتم وابْدؤوا بِالْحلْم”، “اأُركُض يَا رَفيقِي فالْعالم القدِيم وَرَاءكَ”…

[1] –  Trésor de la langue Française

[2] – la force tranquille   وهو الشعار الذي تصدر حملة فرانسوا ميتران في رئاسيات 1981

[3] -الاستيقاظ باكرا يساوي الذهب

[4] – Olivier Reboul : Le slogan,  éd P U F, 1975, p.34

[5] — Olivier Reboul : Le slogan, p.24

[6] -mettez un tigre dans votre moteur

[7] – Olivier Reboul : Le slogan, op cit , p.86

[8] -« La pile Wonder ne s’use que si l’on s’en sert »

[9] – Olivier Reboul : Le slogan,  , p.11

[10] –  Olivier Reboul : Le slogan,  p.58

[11] – أنظر مقالنا “الشّعار”، في: بين اللفظ والصورة، تعددية الحقائق وفرجة الممكن، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2017

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى