بلاغة السينما.. عزف العناصر الصوتية على أوتار الصورة/ هاني بشر

12/2/2025
يغمر الضوء امرأة في خريف العمر أمام إحدى نوافذ منزلها وهي ترتب الورود، يتماشى لون تنورتها الصفراء مع لون زجاج النافذة ويتماهى ذلك مع النقوش الصفراء التي تزين كرسيين بجوار النافذة، وتبدو السلالم وحواف الجدران الداكنة إطارا جماليا يميل للون البني، ويوفر ذلك إطارا طبيعيا للوحة ناطقة في الفيلم.
كأنه احتفاء بصري باللون بالأصفر في هذا المشهد، يعكس نوعا من الهيام مع فكرة الأرض والقمح؛ وهو الموضوع الرئيسي لفيلم “موندوف” للمخرج اللبناني كريم قاسم، وقد شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي 2024.
ترسم تكوينات المشهد نوعا من بلاغة الصورة، لتبني معنى تريد إيصاله للمشاهد، باستخدام الإضاءة والحركة والمونتاج، وأشكال المكونات الرئيسية وألوانها. ولا يقف الأمر عند حدود المعنى، بل يتجاوزه إلى نقل مشاعر معينة، مرتبطة بموضوع الفيلم، يريد المخرج أن تصل للمتلقي بأسلوب غير مباشر.
ينقل المخرج للمشاهد معاناة شح المياه في قرية غريفة بمحافظة جبل لبنان، وقد استخدم ممثلين غير معروفين من أهل المكان، فهم لا يمثلون بقدر ما يروون تجربتهم بالتعبير العفوي عن قصتهم، تحت إشراف المخرج، وذلك أحد أشكال الدراما الوثائقية (الدوكودراما).
طفولة السينما.. فن بصري يخاطب العيون دون الآذان
يعتمد مخرج فيلم “موندوف” في سرده البصري أساسا على الصورة لا الحوار، وذلك نهج بدأته السينما في بداية عهدها، قبل أن يغزو الحوار المشاهد، ويهيمن على طريقة السرد السينمائي، لا سيما في الأفلام الجماهيرية المنتشرة في دور العرض السينمائي التجارية، التي تستهدف الربح.
فقد بدأت السينما صامتة تخاطب العيون دون الآذان، وكان المشهد هو وحدة التواصل الوحيدة مع المتلقي، ولم تكن الألوان قد شقت طريقها إلى الشاشة الفضية، فكان الأبيض والأسود العنصرين الرئيسين لتجسيد الواقع.
وكان ذلك تحديا لصناع الفيلم، فقد كان على المخرج أن يستخدم هذين اللونين فقط، من أجل أن يسرد بصريا قصته للمتلقي.
“إن الصمت من شيم الآلهة، وحدها القردة هي من تثرثر”
باستر كيتون
ولم يعجز مخرجو تلك الحقبة عن وضع الصوت بجوار الصورة، لكنهم آثروا أن تنفرد الصورة بالمشهد، لا ينازعها فيه تأثير صوتي، ليهيمن السرد البصري القصصي، مصحوبا بجماليات تأمل الصورة وكل إطار في المشهد، وربما راهنوا على صوت المتلقي الداخلي، لتحديد انطباعات متباينة، تختلف باختلاف ذائقة كل متلقٍّ، كما يراهن منتجو المواد الإذاعية على خيال المستمع المرئي.
بلاغة الصمت.. رهان خائب أمام تحديث السينما
حين بدأ الصوت يزاحم الصورة في السينما، قوبل ذلك باعتراض كثيرين، منهم رائد السينما الصامتة الممثل والمخرج الأمريكي “باستر كيتون”، الذي قال عبارته الشهيرة: “إن الصمت من شيم الآلهة، وحدها القردة هي من تثرثر”.
وقريب من ذلك رأي عالم الاجتماع والناقد السينمائي الفرنسي “كريستيان ميتز”، ففي كتابه “لغة الفيلم” قال إنما مثل استخدام الصوت في السينما، كمثل قوم أرادوا دعوة موسيقي كبير على العشاء، فاضطروا لدعوة زوجته الثرثارة معه.
كان هؤلاء جميعا من الداعين لفكرة النقاء البصري في السينما، وعدم تشويش الصوت عليها، لكن رهانهم خاب مع الزمن، واستطاع الصوت أن يفرض نفسه على السينما بطريقة ربما أدت لتهميش الصورة نفسها أمام الصوت.
غلاف كتاب “لغة الفيلم” لعالم الاجتماع والناقد السينمائي الفرنسي “كريستيان ميتز”

هذا الرهان على الصورة والعنصر البصري ينطلق من مسلّمات لا تتعلق بجماليات المشاهد السينمائية وحسب، بل بنوع البلاغة التي يقدمها المشهد السينمائي، فيُحدث تأثيرا لا يقل عن تأثير العبارة البليغة في الشعر والأدب، وذلك ما يعطي مبررا لترسيخ كينونة هذا الفن، وسببا جماليا لبقائه، بصفته سبب بقاء الشعر والنثر والرواية.
واليوم أصبحت بلاغة المشهد السينمائي أسيرة أفلام مسابقات المهرجانات، تستهدف ذائقة الناقد السينمائي الجمالية، لا سيما لجنة التحكيم، فلم تعد تقوى وحدها على رفع أسهم فيلم ما في شباك التذاكر.
وبذلك استعصى على المشاهد العادي إدراك بلاغة المشهد السينمائي، بعد أن رفعت السينما التجارية مستوى الأدرينالين التشويقي والإثارة في منتجاتها، فأصبح المشاهد عاجزا عن أن يرى المشهد السينمائي وحدةً بصرية جمالية متكاملة، بل يراه مجرد وسيط في نقل القصة، التي يدفعه الفضول لمتابعة فصلها التالي وأحداثها، من غير تأمل في دلالات وجماليات كل عنصر بصري على حدة مما يشاهده.
تغييب الحوار السينمائي.. بلاغة الصورة وأصوات المؤثرات
إن المشهد السينمائي يحتوي في حقيقته على بلاغة قادرة على البقاء زمنا طويلا في وجدان المتلقي، إذا أحسنت صياغته فنّيا. والبلاغة هنا تختلف عن جماليات المشهد، فجمال المشهد ينطلق من عناصره وتكوينه التي يستحسنها الناظر إليه، أما البلاغة فهي إضافة عناصر أخرى للمشهد، تكسبه معاني فوق المعاني الجمالية، وعادة ما تكون هذه المعاني جزءا من رسالة الفيلم للمتلقي، وآلية غير مباشرة لتوصيل المعنى.
نمثل لذلك بفيلم “لورانس العرب” (Lawrence of Arabia)، الذي أخرجه ديفيد لين (1962)، فمشهد عود الثقاب والصحراء في الفيلم من المشاهد السينمائية التاريخية، فقد كان أول ظهور للصحراء مشهدا جماليا لشروق الشمس، لكن بلاغته تكمن في أنه أتى بعد لقطة ضيقة على عود ثقاب مشتعل في يد “لورانس” وهو ينفث فيه ليطفئه، فخمد ضوء النار في العود، ثم اشتعل الضوء في الأفق البعيد.
وهنا تأتي لقطة واسعة جدا بعد لقطة ضيقة جدا، فبضدّها تبرز الأشياء، وتتضح المقارنة بين ضوء وآخر وحجم وآخر، لإبراز التحدي الذي سيقدم عليه “لورانس” والأفق الجديد الذي ينتظره.
هذا واحد فقط من المشاهد الأيقونية التي لا تزال حاضرة في ذاكرة السينما عبر السنين. وفي هذا الإطار يقول مدير التصوير الشهير سعيد الشيمي في كتابه “بلاغة المشهد السينمائي بالشرح والصور”، إنه شاهد أفلاما كثيرة في صباه، ولا تزال مشاهد عدة عالقة في ذاكرته، التي تجاوزت 80 عاما.
بذلك يزيح الشيمي الحاجز بين الأدب والسينما، فيستعير مصطلح البلاغة، ويخلعه على المشهد السينمائي، فهو يرى أنه جدير بهذه الصفة، بالنظر إلى التأثير الذي يحدثه في الوجدان والذاكرة، فالبلاغة لا تقف عند حدود النصوص الأدبية.
“دونكيرك”.. رهان مغامرة سينمائية تهمش الحوار
غامر المخرج “كريستوفر نولان” بتقليص الحوار إلى أدنى درجاته في الفيلم الحربي “دونكيرك” (Dunkirk) عام 2017، الذي يتناول انسحاب قوات التحالف في الحرب العالمية الثانية، وقد راهن “نولان” على رواية القصة بالصورة والموسيقى والمؤثرات الصوتية، وكانت تجربة سينمائية مهمة، وغير معتادة في سينما هوليود.
أحدث الفيلم انقساما بين من شكا من عدم فهمه للقصة، بسبب غياب الجرعة المعتادة من الحوار، وبين من حاول تذوق الفيلم بصريا، واعتمادا على الموسيقى.
إن من يشاهد فيلم “دونكيرك” لا يكاد يتذكر أيا من أسماء أبطاله، ولا يذكر جملا حوارية شهيرة، بل لا يتذكر أي قصة إنسانية متماسكة من قصص هؤلاء الجنود في الفيلم، فالبطولة المطلقة كانت للصورة فقط.
إنها مغامرة مزدوجة، فليس الحدث قصة خيالية أو عادية، بل هو تاريخ معروف ووقائع مشهودة، وعادة ما يكون مثل هذه القصص مادة خاما للأفلام الوثائقية، التي تستهدف إعادة تقديم التاريخ، وحتى إن دخلت إلى عالم السينما، فإنما تدخله من بوابة أفلام الدراما، وتأخذ شكل الملاحم، ولا تكون فيلما يعتمد على بلاغة المشاهد والأمور الرمزية.
عناصر الصوت التي تؤثث المشهد
والسؤال الذي ربما يتوارد إلى الذهن هو: لماذا لا تقوم بلاغة الحوار السينمائي بديلا تعويضيا أو تكميليا لبلاغة المشهد السينمائي؟ وفي هذه الحالة تكون بلاغة اللغة والأدب قد أدت دورها بجوار بلاغة الصورة والمشهد، وبذلك نجمع بين الحسنيين، ونكسب بلاغتين بدلا من واحدة.
ولإجابة هذا السؤال، ينبغي التنبيه إلى أن الحوار إنما هو عنصر واحد من عناصر الصوت في المشهد السينمائي، فهناك الصوت الطبيعي، والموسيقي، والمؤثرات الصوتية الأخرى.
وبهذا يصبح الحوار -على أهميته في السرد- عنصرا غير أساسي في حد ذاته، إن لم يكن هامشيا في بعض الأحيان، فضلا عن أن كل عنصر من العناصر الصوتية الأخرى له عالم خاص به في التأثير السمعي على المتلقي.
“التفاعل بين الموسيقى والصوت والصورة”
يدور تقييم الأفلام السينمائية ونقدها ودراستها حول الصورة وفلسفتها، ويأتي الصوت بكافة أشكاله في المرتبة الثانية، أو تابعا للصورة. ولا ينفي هذا أن من النقاد والباحثين مَن حاول التنظير لمساحة التزاوج بين الصورة والصوت، ليرتفع بالصوت من رتبة التابع إلى رتبة الشريك.
وقد بزغ مصطلح “سمعي-بصري” بوصفهما وحدة واحدة تشير إلى التزاوج بين الاثنين في شتى الفنون، ومنها فن السينما بطبيعة الحال.
غلاف كتاب “السينما والخيال السمعي البصري: الموسيقى والصورة والصوت” للكاتب “روبرت روبرتسون”

في هذا الإطار يذهب الكاتب “روبرت روبرتسون” بعيدا في كتابه “السينما والخيال السمعي البصري.. الموسيقى والصورة والصوت”، فهو يرى أن ولادة مصطلح “سمعي-بصري” ينطبق على المسرح والأوبرا وفنون الأداء الراقص، ولذلك فليس حكرا على السينما وحدها.
وهنا يدمج “روبرتسون” بين الصورة والصوت معا، ويربط بينهما بشكل لا يبقي لأحدهما غنى عن الآخر، وبهذا يصك تعريفا جديدا لمعنى “سمعي-بصري”، فيسميه “التفاعل بين الموسيقى والصورة والصوت”، وهو تعريف يستقيه من كتابات المخرج والمفكر الروسي الشهير “سيرغي آيزنشتاين”، الذي تحدث كثيرا عن مفهوم “سمعي-بصري”، من غير أن يقدم تعريفا محددا له.