منوعات

كيف نحافظ على اللغة الأم في عصر العولمة والذكاء الاصطناعي؟/ جمال نعيم

منظمة “يونيسكو” تحتفل بيومها العالمي وتدعو الى صون اللهجات المهددة بالانقراض

أكاديمي لبناني

الجمعة 21 فبراير 2025

إختارت منظمة “يونسكو” الحادي والعشرين من شهر فبراير (شباط) من كل عام، يوماً عالمياً للغة الأم. درجت المنظمة على الاحتفاء بهذا اليوم في نوفمبر (تشرين الثاني) 1999. وباتت عواصم ومدن ومؤسسات وجمعيات في العالم أجمع، تشارك في هذا اليوم، بغية الحفاظ على اللغة الام.

لكل شعب لغة يتميز بها ويعبر بها عن تراثه الثقافي والحضاري، وعليه فإن الحفاظ على اللغات الأم لمن الأهمية بمكان لأنه يحفظ تراث الشعوب ويعزز من انتماء أبنائها إلى مجتمعاتهم ويسهم في تكوين هوياتهم، إذ تبقى اللغة عنصراً رئيساً في نشوء الأمة ومفتاح التواصل الحضاري بين الشعوب والأمم.في هذا السياق يأتي الاهتمام باليوم العالمي للغة الأم بوصفه دعوة إلى الحفاظ على ما تمثله اللغة الأم وتختزنه من إرث ثقافي وحضاري ثمين وتعزيزه ونقله إلى الشعوب الأخرى والأجيال المقبلو. فاللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل وعاء للثقافة والتاريخ والعادات والتقاليد، وهي عنصر فاعل في بناء المجتمعات، واللغة الأم بمنزلة هوية للفرد، بل أيضاً بمنزلة هوية للشعب نفسه، فيها تتجلى المنظومة الثقافية والفكرية. وعليه إذا انقرضت اللغة الأم لشعب ما فإن ذلك سيؤدي حتماً إلى اختفاء ذاتيته الثقافية وفقدان هويته المميزة لأن اللغة بمنزلة وطن، ومن فقد لغته فقد وطنه ومسكنه.

ماذا نعني باللغة الأم؟

اللغة الأم هي اللغة الأولى التي يتعلمها الإنسان منذ طفولته، فتنمو معه وتصبح جزءاً رئيساً من هويته الثقافية والفكرية وهي تقوم بدور أساس في التواصل والتفكير والتعبير عن المشاعر، كما تسهم في إنشاء القيم والمعتقدات الفردية والاجتماعية. وتعتبر اللغة الأم وسيلة رئيسة لنقل التراث الثقافي من جيل إلى جيل، مما يسهم في تعزيز التنوع الثقافي واللغوي في العالم. وعليه اللغة الأم هي اللغة التي يكتسبها الإنسان في طفولته من والديه ومحيطه الأسري، وهي أول لغة يتحدث بها ويتعلم من خلالها فهم العالم من حوله. إنها ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل جزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية والتراثية للفرد والمجتمع.

اليوم العالمي

يحتفل باليوم العالمي للغة الأم سنوياً في الـ21 من فبراير (شباط) من كل عام، وأقرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يوينسكو) هذا اليوم عام 1999. ويرمز هذا اليوم إلى التزام المجتمع الدولي حماية التنوع اللغوي والثقافي، إذ إن اللغات تعتبر وسيلة لنقل المعرفة والتراث الثقافي من جيل إلى آخر.

إن الاحتفال باليوم العالمي للغة الأم يذكرنا بأهمية الحفاظ على التنوع اللغوي والثقافي في عالمنا المعاصر، فاللغة الأم ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل جزء أساس من هويتنا وتراثنا الثقافي، ولذلك تقع على عاتقنا جميعاً مسؤولية حمايتها وتعزيزها للأجيال المقبلة.

ويعدّ الحفاظ على هذه اللغات جزءاً من الحفاظ على التراث الثقافي الإنساني وتعزيز الحوار والتفاهم بين الشعوب. في هذا السياق يكتب الأكاديمي ناصيف قزي ما يلي: “جميل أن تثبت ’يونيسكو‘ الشعوب في بعض أهم خصوصياتها، كأن تحفزها على الإمساك بمفاتيح خزائن إرثها الثقافي، بل الحضاري… لعل تلك الشعوب تحجم عن جلد نفسها، فتخرج من الشعور بالدونية إزاء باقي أمم الأرض، لتنعم بالتالي بما لديها من إشراقات، في زمن الانتظام الكوني… زمن العولمة، بل التعولم باتجاه أحادي… وزمن ازدواجية المعايير”.

وعليه يعمل اليوم العالمي للغة الأم على الترويج لاستخدام اللغات المحلية في مجالات التعليم والإعلام والسياسات العامة وعلى دعم المبادرات المجتمعية للحفاظ على اللغات الأصلية.

أهمية اللغة الأم

وتحمل اللغة الأم أهمية كبيرة في حياة الأفراد والمجتمعات، وأظهرت الدراسات أن التعليم باللغة الأم يسهم في تحسين مهارات التعلم والتفكير النقدي عند الطفل، مما يعزز من فرص النجاح الأكاديمي والمهني. فالأطفال الذين يتعلمون بلغتهم الأم يكتسبون مهارات لغوية ومعرفية على نحو أسرع وأكثر فاعلية من الأطفال الذين يتعلمون بغير لغتهم الأم. وتسهم اللغة الأم في تطوير الذكاء الاجتماعي والعاطفي عند الأطفال وتمكنهم من بناء علاقات صحية وقوية مع أفراد عائلتهم ومجتمعهم. وعليه فإن التعليم باللغة الأم، لا سيما في المراحل الأولى من عمر الطفل، يساعده على فهم أفضل للمفاهيم ويعزز من ثقته بنفسه. كما أن استخدام اللغة الأم في التعليم يسهم في الحفاظ على التنوع اللغوي والثقافي، بل يحفز الإنتاج العلمي والثقافي.

هناك تحديات تواجهها اللغة الأم في عصر العولمة والذكاء الاصطناعي، إذ تتعرض لغات محلية عدة لخطر الانقراض والاندثار بسبب هيمنة اللغات العالمية، لا سيما الإنجليزية منها، ولا ننسى أن فقدان اللغة الأم يعني فقدان جزء رئيس من الهوية الثقافية والتراث.

إن الحفاظ على اللغة الأم مسؤولية مشتركة بين الأفراد والمجتمعات والحكومات، وفي هذا السياق تأتي المطالبة بتعزيز استخدام اللغة الأم في وسائل الإعلام والتعليم والحياة اليومية ويندرج التشجيع على إجراء البحوث والدراسات والنشاطات التي تسهم في الحفاظ على اللغات المحلية.  وعليه فإن الحفاظ على اللغة الأم مسؤولية جماعية تتطلب جهوداً متضافرة من الأفراد والمجتمعات والحكومات لضمان استمرارية هذا الكنز الثقافي للأجيال المقبلة.

هل اللغة منظومة مستقرة؟

ينقل دولوز عن مارسيل بروست ما يلي، “تكتب الكتب الجميلة بنوع من اللغة الغريبة”، أي تُكتب بنوع من الأسلوب الجديد الخارق، عندما نكون ثنائيي اللغة في اللغة الواحدة ذاتها، أي عندما نجعل اللغة ذاتها تتلعثم لا عندما نتلعثم نحن في الكلام. وهكذا نولد لغة غريبة أو أجنبية في اللغة ذاتها، وعليه ليست اللغة منظومة هادئة ومستقرة، بل منظومة متباينة وفي توالد متغاير. وهناك إمكان لاستيلاد لغات أخرى داخل اللغة ذاتها إلى ما لا نهاية.وعليه لكي نحافظ على لغتنا الأم ونبقيها حية وراهنة، علينا دائماً أن نعمل على التجديد في أساليب الكتابة عبر إبداع لغة غريبة داخل اللغة الواحدة ذاتها، غريبة بمفرداتها وغريبة بتركيبها.

علينا أن نتكلم في لغتنا كغرباء، ليس فقط على مستوى المفردات، بل على مستوى التركيـب أيضاً، وعلينا ألا نتعامل مع اللغة بوصفها منظومة هادئة ومتوازنة، بل كمنظومة غير مستقرة وفي عدم توازن دائم. فتلك هي مسؤولية الكتاب الكبار، فكل كاتب هو مشروع أمة في النهاية، وإن كان هذا المشروع يتعلق بالمستقبل أكثر مما يتعلق بالحاضر. وهو يحقق مشروعه عبر الكتابة إذ يبتدع لغة غريبة أو أجنبية داخل لغته. وعليه لا يكفي لكي نحافظ على التنوع اللغوي والثقافي أن نعلن يوماً عالمياً للغة الأم، إذ علينا أن نبذل جهوداً كبيرة لنكون مبدعين في كتابتنا كما علينا أن نكون منتجين ليس فقط في الفلسفة والآداب، بل في العلم والصناعة والاقتصاد.

خلاصة القول إن اللغة الأم تعد جزءاً جوهرياً من هوية الإنسان وثقافته، وهي وسيلة رئيسة للحفاظ على التراث الثقافي والتواصل بين الأجيال، ويعد اليوم العالمي للغة الأم فرصة للاحتفاء بالتنوع اللغوي وتعزيز الجهود الرامية إلى الحفاظ على اللغات المختلفة، مما يسهم في بناء مجتمعات أكثر تنوعاً وشمولية.

——————————-

في اليوم العالمي للغة الأم.. 7 آلاف لغة قد تنقرض

22/2/2025

لم يتوقع طلاب جامعة دكا الذين تجمعوا للتظاهر يوم 21 فبراير/شباط 1952 احتجاجا على ترسيم “الأوردو” لغة وحيدة تمثل جميع أرجاء جمهورية باكستان ومنها ما كان يسمى “باكستان الشرقية” (بنغلاديش) الناطقة باللغة البنغالية.. لم يتوقعوا أن تكون مظاهرتهم تلك الشرارة الأولى لشطر باكستان إلى شطرين؛ باكستان الحالية، وما أصبح يعرف فيما بعد بـ”بنغلاديش”. فقد حاصرت الشرطة الجامعة وتدحرجت الأمور إلى أن فتحت النار على المتظاهرين فقتلت خمسة منهم.

مقتل الطلاب أطلق فتيل الاحتجاجات في كافة الأقاليم البنغالية في باكستان الشرقية فخرج الآلاف في احتجاجات عارمة عُرفت بـ”حركة اللغة البنغالية”، مما اضطر الحكومة إلى الاعتراف باللغة البنغالية لغة متداولة على قدم المساواة مع اللغة الأوردية، وتحولت حركة اللغة البنغالية إلى حدث خالد على مستوى بلاد العالم لتعزيز اللغات الأم، كما تواصلت داخل باكستان الشرقية وصولا إلى انفصالها كليا عن باكستان.

وفي المؤتمر العام لمنظمة الثقافة والتربية والعلوم (يونسكو) في نوفمبر/ تشرين الثاني 1999، وافقت 28 دولة في اليونسكو على اقتراح من بنغلاديش لتخليد اليوم الذي انطلقت فيه مظاهرات طلاب جامعة دكا -وهو 21 فبراير/شباط- تحت عنوان “اليوم العالمي للغة الأم، ومنذ عام 2000 أصبح هذا اليوم يوما للاحتفاء باللغات الأم.

وفي 16 مايو/أيار2007، أهابت الجمعية العامة للأمم المتحدة -في قرار لها- بالدول الأعضاء “التشجيع على المحافظة على جميع اللغات التي تستخدمها شعوب العالم وحمايتها”.

وأعلنت الجمعية العامة -في القرار نفسه- اعتبار عام 2008 سنة دولية للغات لتعزيز الوحدة في إطار التنوع وتعزيز التفاهم الدولي مع تعدد اللغات والتعدد الثقافي.

وخصصت اليونسكو جائزة توزع في هذا اليوم على اللغويين والباحثين ونشطاء المجتمع المدني مقابل عملهم في مجال التنوع اللغوي والتعليم المتعدد اللغات، وشرعت المنظمة في توزيع هذه الجوائز منذ عام 2002، وحازت عليها عدة شخصيات تهتم بميدان اللغات إضافة إلى عدة مؤسسات تعليمية من 11 بلدا.

وباقتراح من دولة بنغلاديش، وافقت اليونسكو على تخليد هذا اليوم تحت عنوان “اليوم العالمي للغة الأم”

اللغات الأم تقاوم العولمة

وتعتبر اليونسكو أن اللغات هي الأدوات الأقوى التي تحفظ وتطور تراث الشعوب، وذلك أن اللغة هي الوعاء الذي ينقل ميراث الشعوب وتقاليدها وعاداتها، وتعبر من خلالها عن هويتها.

وتسعى المنظمة من وراء تخصيص يوم عالمي للاحتفال باللغة الأم إلى تحقيق عدة أهداف منها:

     إبراز أهمية التنوع اللغوي في العالم، في عصر هيمنت فيه ظاهرة العولمة.

     حماية مقومات هوية شعوب الكرة الأرضية، ومن أبرزها اللغة.

     تعزيز التعدد اللغوي والثقافي.

واختارت اليونسكو لعام 2017 موضوع “نحو مستقبل مستدام من خلال التعليم المتعدد اللغات”، وتقول المنظمة التابعة للأمم المتحدة إنه من أجل تعزيز التنمية المستدامة يجب أن يحصل المتعلّمون على المعرفة بلغتهم الأم بالإضافة إلى اللغات الأخرى، كما أن إتقان اللغة الأم يساعد على اكتساب المهارات الأساسيّة في القراءة والكتابة والحساب.

وتساهم اللغات المحليّة -ولا سيما لغات الأقليّات والشعوب الأصيلة- في نقل الثقافات والقيم والمعارف التقليديّة، وبالتالي تساهم على نحو كبير في تعزيز مستقبل مستدام.

تعترف بلدان في المنطقة العربية ببعض اللغات الأم كاللغة الأمازيغية التي يتم تدريسها كما هو الحال في المغرب والجزائر

لغات مهددة بالانقراض

وتؤكد أرقام اليونسكو أن هناك أكثر من 50% من اللغات المحكية في العالم -والبالغة سبعة آلاف لغة حية- معرضة للاندثار في غضون بضعة أجيال، وأن 96% من هذه اللغات لا يتحدث بها سوى 4% من سكان العالم.

أما اللغات التي يُعطى لها بالفعل اهتمام في نظام التعليم فإنه لا يزيد عددها على بضع مئات، ويقل المستخدَم منها في العالم الرقمي عن 100 لغة.

وتجدر الإشارة إلى أن الكثير من البلدان في القارة الأوروبية حصلت على حق التعليم باللغة الأم، مثل اللغة الإيرلندية في جمهورية إيرلندا، والكتالونية والباسكية في الإقليمين المستقلين وكانتا مرتبطتين باللغة الإسبانية، واللغة الكورسيكية وكانت مرتبطة باللغة الفرنسية.

وبالإضافة إلى اللغة العربية، تعترف بلدان في المنطقة العربية ببعض اللغات الأم كاللغة الأمازيغية التي يتم تدريسها وأنشئت لها معاهد تعليمية كما هو الحال في المغرب والجزائر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى