لماذا تلهم “تفاهة الشّر” سوريّين اليوم؟/ جوي سليم

تحديث 22 شباط 2025
لنتخيّل المشهد التالي: في أحد أيام السنوات الخمسين الماضية، في غرفةٍ معتمة داخل أحد السجون – سيئة السمعة – التابعة للنظام السوري السابق، يجلس ضابط متوسط الرتبة يتفحّص قائمة الأسماء.
لا يسأل عن سبب وجود أولئك المعتقلين، ولا يهتم بمعرفة ما إذا كانوا مذنبين أم أبرياء. وظيفته واضحة: الموافقة على جولة الاستجواب المقبلة – والتي من المرجّح أنها ستتضمّن أساليب تعذيب معتادة أو جديدة – وضمان سير العملية “بسلاسة”، ثم الانتقال إلى المهمة التالية.
بعد سنوات طويلة وبطيئة، سوف يسقط نظام آل الأسد، وسيُسأل هذا الضابط كيف استطاع الإشراف على تعذيب آلاف المعتقلين بشكلٍ منهجي. قد يهزّ كتفيه ويقول ببساطة: “كنتُ فقط أنفّذ الأوامر”.
عندئذٍ، سيعرف من كان قد اطلع ولو قليلاً على كتابات المفكّرة الألمانية حنة آرنت أنه أمام تجسيدٍ آخر لمفهومها الشهير عن “تفاهة الشرّ” الذي ابتكرته في عملها على تغطية محاكمة الألماني أدولف آيخمان، المسؤول عن تنظيم عمليات الترحيل إلى معسكرات الاعتقال في ألمانيا النازية.
حجزت حنة آرنت مكاناً متقدماً لها لدى محلّلي الواقع السوري في العقد الأخير؛ حيث اهتم عدد من المفكّرين والمثقفين السوريين بأعمالها لفهم بنية النظام السوري السابق وممارساته.
وشكّلت مفاهيمها حول الطغيان والشمولية و”تفاهة الشرّ” والعنف، وغيرها، إطاراً فكرياً هاماً لتحليل الاستبداد وآلياته في سوريا.
وبينما سعت آرنت إلى فهم الأنظمة الشموليّة في القرن العشرين، وجد مثقفون سوريون في كتاباتها أدوات نظرية تمكّنهم من تفكيك البنية السلطوية التي حكمتهم لعقود، وتمنحهم رؤية أعمق لما تعنيه الدولة القمعية في سياقهم الخاص.
وربما كان الكاتب والباحث السوري ياسين الحاج صالح من أوائل الكتّاب الذين استعانوا بآرنت في السياق السوري واستخدموا عدستها لفهم الواقع المعقّد في سوريا.
من هي حنة آرنت وما أبرز أفكارها؟
يعد كتابها أصول الشمولية (1951) من أبرز الدراسات حول الأنظمة الاستبدادية، حيث قارنت فيه بين النازية والستالينية، وسعت إلى تفسير كيف تتحول الدول الحديثة إلى أنظمة شمولية تُخضع الشعوب بالكامل عبر مزيج من الإيديولوجيا، والبيروقراطية، والعنف المنهجي.
وتميّزت آرنت بأنها ظلّت مفكرة مستقلّة، إذ فصلت نفسها عن المدارس الفكرية والإيديولوجية، وأولت حرية التفكير أهمية مطلقة. وشكّلت في ذلك مصدر إلهام للكثير من المفكّرين والكتّاب الساعين للاستقلالية الفكرية.
في كتابها “حنة أرنت: حيوات نقديّة”، تقول الأكاديمية الأمريكية سامانثا روز هيل: “تُظهر لنا أرنت كيف نفكّر في العالم من جديد، كيف نحرّر أنفسنا من تقاليد الفكر السياسي الغربي، كيف نتحمّل مسؤولية أفعالنا، كيف نفكر نقدياً من دون الخضوع للإيديولوجيا. فقط عندما نفعل هذا، تقول، سنتمكن من حب العالم”.
في ما يلي أبرز أفكارها:
الشمولية (التوتاليتارية): رأت أن الشمولية شكل جديد من الحكم السياسي يعتمد على الإيديولوجيا والدعاية والإرهاب والقضاء على العفوية الفردية.
تفاهة الشر: في كتابها “آيخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشرّ” (1963)، طرحت فكرة مثيرة للجدل بأن أدولف إيخمان لم يكن وحشاً شريراً، بل مجرد بيروقراطي ينفذ الأوامر دون تفكير، مما أظهر كيف يمكن للأشخاص العاديين ارتكاب الشر دون اقتناع إيديولوجي عميق.
الفعل والفضاء العام: في كتابها “الشرط الإنساني” (1958)، شددت على أهمية الفعل (praxis) كركيزة أساسية للسياسة والحرية، ودعت إلى مشاركة المواطنين في فضاء عام مشترك.
الثورة والحرية السياسية: في كتابها “عن الثورة” (1963)، ميّزت بين الثورات الاجتماعية والسياسية، وأشادت بالثورة الأمريكية لإنشائها مؤسسات مكّنت المواطنين من المشاركة السياسية الفاعلة.
اضمحلال المجال السياسي: حذّرت آرنت من تراجع الحياة العامة في المجتمعات الحديثة، مؤكدة أن المجتمع الجماهيري (مجتمعات خمسينيات القرن الماضي الخاضعة للثقافة والإعلام الجماهيريين) والحكم البيروقراطي يقمعان المشاركة السياسية الحقيقية ويفرضان نمطاً من الامتثال السلبي.
الحُكم والتفكير: بحثت في كيفية مساهمة التفكير المستقل في منع الشر، مؤكدة على ضرورة التأمل الذاتي بدلاً من الطاعة العمياء للسلطة.
“تفاهة الشرّ” مقابل “الشرّ الجذري”
لعلّ أشهر مفهوم ابتكرته آرنت وأكثر أفكارها شعبيةً كان مفهوم “تفاهة الشرّ”.
ويمكن القول إنّ أهم ما حقّقه هذا المفهوم هو أنه قدّم حجّةً ضد اختزال الشرّ بشيطنة أو وحشية معيّنة لدى المجرم؛ حيث يبيّن هذا المفهوم أن ارتكاب الشرّ ليس فعلاً محصوراً بعالم الأشرار أو بالأشخاص “الوحوش”.
ليس الشرّ بالضرورة فعلاً معزولاً وبعيداً، مرتبطاً بعطبٍ ما أو بحالة خاصة، وليس المجرمون كما صوّرتهم السينما بمعظمها، أدهياء وماكرين ويتمتعون بذكاء منقطع النظير.
الشرّ بالنسبة لآرنت يمكن أن يكون تافهاً وأحياناً عرضياً؛ إذ أن الأفعال الشريرة قد تنتج عن سطحية الإنسان، غياب تفكيره، وخوائه، وعجزه عن إقامة حوار داخلي مع ذاته.
طرحت آرنت في كتابها “آيخمان في القدس: تقرير عن تفاهة الشر” (1963) مفهوم “تفاهة الشر” لوصف الظاهرة التي جسدها أدولف آيخمان أثناء محاكمته في إسرائيل عام 1961.
كان هذا المفهوم محاولة لفهم كيف يمكن للأشخاص العاديين، أن يرتكبوا جرائم مروعة لمجرد امتثالهم للأوامر واندماجهم في البيروقراطية القاتلة. لاحظت أرنت أن آيخمان لم يكن شخصية شريرة استثنائية، بل مجرد موظف بيروقراطي عادي، بدا متفانياً في تنفيذ الأوامر من دون تفكير نقدي أو إدراك لحجم الفظائع التي ساهم فيها. لقد كان، كما وصفته، “عادياً بشكلٍ رهيب ومرعب”.
في ابتكارها لهذا المفهوم، كانت آرنت أيضاً تراجع طرحها الخاص في كتاب “أصول التوتاليتارية” حيث استعارت مفهوم “الشرّ الجذري” من الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط لوصف المحرقة النازية. بالنسبة لآرنت، يجعل الشرّ الجذري البشر كائنات بشرية “فائضة عن الحاجة”، مثلما حدث في الهولوكوست.
وتقول إن السمة المميّزة للشر الجذري هي أنه لا يُرتكب بدوافع بشرية مفهومة مثل المصلحة الشخصية، بل يُرتكب ببساطة لتعزيز السيطرة الشمولية وفكرة أن “كل شيء ممكن”.
وكان كانط قد كتب عن “الشرّ الجذري” في كتاب “الدين في حدود مجرّد العقل” (1763). ويوضح دارسون عديدون لفلسفة كانط أن الشرّ الجذري عنده لم يكن يعني الشر المطلق أو الرهيب كما قد يُفهم من الوهلة الأولى. فمصطلح “الجذري” هنا يعني أن سلوك الإنسان قد يكون فاسداً من الجذور حينما لا يُعامَل القانون الأخلاقي كقاعدة مطلقة، بل كأمر يمكن تبريره أو التنازل عنه تبعاً للظروف والمصالح الشخصية.
وهنا جوهر الاختلاف بين “تفاهة الشرّ” و”الشرّ الجذري”؛ فالأول يرتكبه الأفراد نتيجة للسطحية وانعدام التفكير والنزعة إلى الطاعة العمياء، في حين أن الشر الجذري يشير إلى فساد أخلاقي عميق حيث يختار الأفراد الشر بوعي عبر تفضيل مصلحتهم الشخصية على القانون الأخلاقي، ما يجعل الشر خياراً مقصوداً بدلاً من مجرد امتثال.
تعرضت آرنت لانتقادات لاذعة بسبب هذا الطرح، خصوصاً أنها يهودية، إذ اعتبرها البعض متساهلة تجاه آيخمان أو حتى ملقية باللوم على الضحايا اليهود لعدم مقاومتهم بشكل كافٍ، غير أن جوهر فكرتها لم يكن تبرير أفعال آيخمان، بل الإشارة إلى أن الأنظمة القمعية قادرة على تحويل البشر إلى أدوات لتنفيذ الشر من خلال فرض الطاعة العمياء وإلغاء القدرة على التفكير النقدي.
وبسبب الهجوم الواسع الذي تعرّضت له واتهامها من قبل البعض بأنها “معادية للسامية” و”يهودية كارهة لنفسها”، ظلّت أعمالها من دون ترجمة عبرية حتى عام 1999، تاريخ ترجمة أول عمل لها إلى اللغة العبرية.
“آرنت في سوريا”: نظرة ياسين الحاج صالح
زوجته، الكاتبة والناشطة سميرة الخليل، اختُطفت عام 2013 في دوما مع الناشطين رزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي فيما يُعرف بقضية “مخطوفي دوما الأربعة”، ولم يُعرف مصيرهم حتى اليوم.
وتطرّق الحاج صالح في مقالاته إلى أفكار حنة آرنت حول الشر، واهتم بفكرتها القائلة بأنه ليس من الضروري أن يكون مرتكبو الشر أشراراً بطبيعتهم، بل إنهم قد يكونون جزءاً من ظروف تجعلهم يتصرفون من دون تفكير، مما يؤدي إلى انتشار الشر بسهولة.
كما أشار أيضاً إلى فكرة آرنت عن كيفية استخدام التكنولوجيا لارتكاب الشر بشكل مبتذل أو عادي، كما ظهر في الهولوكوست وفي الحروب الحديثة: “التكنولوجيا تجعل قتل الأفراد وتحقيق القوة العسكرية أسهل وأكثر طبيعية في السياسة الحديثة، مما يقلل من الإحساس بالذنب والمراجعة الإنسانية”.
ويوضح الحاج صالح أن الشر، حسب حنة آرنت، ليس مجرد أفعال عنف أو قمع، بل هو ما كان يمكن تجنبه ولم يكن له ضرورة، سواء من الناحية العسكرية أو حتى من منظور المصالح الشخصية لمرتكبيه. فالشر، في هذا السياق، لا ينبع من دوافع قوية أو أهداف لا بد منها، بل من قرارات تعسفية أو طاعة عمياء.
ويؤكد مع آرنت أن “أفعال الشر ليست مقصورة على الأشخاص الأشرار أو المنحرفين، بل يمكن لأي شخص أن يصبح شريراً بممارسة الشر، مثلما يصبح المدخن مدخناً بمجرد ممارسة التدخين”.
ويوضح أنه “كما في حالة داعش، حيث كان الشر متفنناً ومعقداً وغير ضرورياً، فإن الشر الأسدي كذلك يتمتع بطابع إبداعي، بخاصةٍ في التعذيب الذي يعكس فناً خاصاً وذاكرة موضوعية للشر. على عكس البيروقراطية النازية، التي حوّلت الشر إلى صناعة موت جماعية، كان الشر الأسدي أقرب إلى فن إبداعي
في هذا السياق، تجدر الإشارة على سبيل المثال لا الحصر إلى سجن صيدنايا الذي وصفه الناجون منه بـ”المسلخ البشري”، حيث مارست قوات النظام السوري مختلف أشكال التعذيب والإعدامات الجماعية بحق المعتقلين.
ووفقاً لمنظمة العفو الدولية، قُتل بين عامي 2011 و2015 وحدها ما بين 5 آلاف و13 ألف معتقل شنقاً في هذا السجن، في عمليات إعدام سرية أُطلق عليها “حفلات الإعدام”.
ويُضاف إلى ذلك ملف قيصر الذي يضم حوالي 55 ألف صورة توثق 11 ألف جثة لمعتقلين قضوا تحت التعذيب في مراكز الاحتجاز السورية بين عامي 2011 و2013. وقد كشفت الصور جثثاً تحمل آثار تجويع شديد، وتعذيب منهجي، وعمليات قتل بوسائل غير إنسانية.
وكانت منظمة “هيومن رايتس ووتش” ومنظمات أخرى قد وثّقت شهادات ناجيات أكدن تعرضهن للعنف الجنسي في المعتقلات، سواء من قبل المحققين أو عناصر الأمن. كما أشارت لجنة الأمم المتحدة للتحقيق في سوريا إلى أن النظام “استخدم الاغتصاب كسلاح حرب، ليس فقط بحق النساء، ولكن أيضاً ضد الرجال، لفرض الإذلال والسيطرة”.
كذلك، ربط الحاج صالح بين تجربته ككاتب لاجئ وبين تجربة آرنت التي عاشت اللجوء مرتين: مرةً في فرنسا ومرة في الولايات المتحدة، وهو ما منحها برأيه “صلة خاصة بالسوريين” الذين يعانون بسبب النزوح واللجوء.
وحتى عام 2024، كانت تقارير الأمم المتحدة تفيد بأن ما لا يقل عن 7.4 مليون سوري لا يزالون نازحين داخلياً، بينما يبحث حوالي 4.9 مليون عن اللجوء في الدول المجاورة. بالإضافة إلى ذلك، استقر 1.3 مليون آخرون في أماكن أخرى، معظمهم في أوروبا.
كما تناول الكاتب السوري أيضاً يهودية آرنت وسياق اضطهاد اليهود في ألمانيا، موضحاً أن السوريين اليوم يشتركون مع اليهود في تجربة النفي والتشرّد.
والأهم في فكر آرنت، وفقاً للحاج صالح، “هو العلاقة بين التفكير والضمير”، إذ هي ترى أن غياب التفكير يؤدي إلى غياب الحسّ الأخلاقي. وفيما يشير الكاتب إلى ضرورة التعدّد للتفكير السليم ولتنمية الضمير، يوضح كيف أدى قمع التعدد في سوريا إلى العنف والاضطهاد.
“جهد عملي ناقص” للتعامل مع “الشرّ” الأسدي
من تجمع للجالية السورية تضامناً مع ضحايا سجون بشار الأسد في سوريا في ساحة الباستيل في باريس يوم 21 ديسمبر 2024.
من وجهة نظر نقدية، يرى الكاتب والصحفي اللبناني سمير سكيني في حديث إلى بي بي سي عربي، أن استحضار حنة آرنت في السياق السوري، على أهميته، يعكس أيضاً “فقراً في معجمنا الفكري في مقاربة مواضيع العنف والفظيع والإبادة”. ويستغرب أننا في وقتٍ “نعيش فيه في منطقتنا مستويات متقدمة من العنف وسياسات الإبادة، لا زلنا نستعير أدوات تفكير من تجربة النازية واليهود حتى نفهم واقعنا”.
وبينما يؤكد على أهمية عمل ياسين الحاج صالح على تعريب فكر آرنت، هو يرى أن راهنية المفكّرة الألمانية كانت أوضح خلال حكم الأسد “لفهم شرّ النظام وممارساته”.
ويضيف “أما وقد سقط الأسد، فلم تعد هذه المسألة بهذه الدرجة من البداهة، لأن آرنت لمع نجمها عندما كانت تحلّل محاكمة آيخمان، في لحظة كان فيها العالم كله متفقاً على ضرورة تطهير أوروبا من لوثة النازية. أما اليوم، فقد كُشف الغطاء عن الأسد، لكن لا يزال هناك غياب لأي جهد عملي حقيقي لتطهير سوريا من لوثة النظام الأسدي، خصوصاً وأن الجهة الحاكمة في سوريا اليوم تمتلك أيضاً هامشاً لارتكاب الفظائع. والأمر يزداد تعقيداً بسبب التعامل المستهتر مع السجون، إضافة إلى الإهمال الكامل للملف المتعلق بمخلفات الفظائع التي ارتكبها النظام الأسدي، وأبرزها ملف المختفين قسراً”.
وهنا تجدر الإشارة إلى ممارسات وانتهاكات هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) في محافظة إدلب، ولا سيما السمعة السيئة لسجن العقاب.
وقد اشتهر السجن في السنوات بالانتهاكات ووسائل التعذيب التي تعرض لها المعتقلون داخله. وقد أفاد معتقلون سابقون بتعرضهم لأساليب تعذيب قاسية، مثل “الشبْح” والجلد والحرق والاحتجاز في “النعش الحديدي”.
لتحميل الكتاب اتبع الرابط التالي
كتاب ايخمان في القدس ؛ تقرير حول تفاهة الشر من تأليف حنة أرندت