أبحاثالأحداث التي جرت في الساحل السوريسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

في المظلومية السنية و العلوية السياسية/ عبد الناصر كحلوس

هي مقالتي الأولى في سوريا الحرية بعد التحرر والانعتاق، بعد النصر وهروب الجزار… بعد حوالي 62 سنة من سرقة البلاد واستلاب العباد، منذ انقلاب 63 وتوغل النظام العسكرتاري في حياتنا وأحلامنا وشراييننا… هي الحرية التي حلمنا بها وتمنيناها.

كثيرًا ما يردد الناس المثل: “كلمة الحق بتقهر”، فهل هي فعلًا كذلك؟! وكيف يرى الناس ذلك على الأرض، بعيدًا عن الميديا وثرثرتها، وعن حديث النخب وفلسفة المثقفين والمتثاقفين؟

ربما لأننا اعتدنا على المجاملات أو على النفاق وتمسيح الجوخ، بات الحق مكروهًا، والحقيقة موجعة مؤلمة، أو ربما هي تجلٍّ لمقولة عمر بن الخطاب: “ما ترك لي الحق من صاحب”. وعليه، سأتكلم بصراحة دون مواربة، حتى لو كانت جارحة.

فلا سكوت بعد اليوم، بعد الثمن الباهظ الذي دفعناه جميعًا، يجب أن نتكلم ونسمي الأشياء بمسمياتها، ونفتح كل الجروح ونعقمها حتى لو آلمتنا، وننبش كل الألغام وننزع فتيلها، حتى نبني سوريا بقواعد سليمة وعلى أرضية صحيحة نظيفة، كما نتمنى ونشتهي.

باتت مفردة “الأقليات” الكلمة الأكثر تداولًا وانتشارًا بعيد التحرير، وصار الحديث بها وعنها “ترند” كما يقال بلغة الميديا. وحاولت جاهدًا ألّا أتحدث عنها، لكن غلبتني شهوة الكتابة بعد الحرية أولًا، واللغط الذي قد يحدث شررًا قد لا تحمد عقباه ثانيًا، فرأيت أن أدلي بدلوي فيما أعتقد.

هناك فهم خاطئ، سهوًا أو عمدًا، لمفهوم الأقلية والأكثرية، حين يكون المعيار هو الكم والعدد، لا الفعل وقوة التأثير. فالطائفة السنية أو السنة في سوريا هم أقلية منذ انقلاب 63 وتسلم اللجنة العسكرية وبداية تحييد المكون السني من مراكز القرار والفعل، ومن المناصب الفعلية السيادية، والإبقاء على ديكورات سنية كركوزاتية هنا أو هناك. وتبعها لاحقًا تحييد مكونات أخرى كالدروز مثلًا (حركة تسريح الضباط الدروز بعد قتل حاطوم)، ثم العمل على “علونة” الدولة، وزج الطائفة العلوية كواجهة لحكم عائلة الأسد (وهو أحد أسباب الخلاف مع صلاح جديد ورفاقه وحبسهم)، فيما سمي بـ “الحركة التصحيحية”.

ما جعل كل الإدارات الهامة والحساسة، كالجيش والأمن والمخابرات، تدار بقيادات علوية، حتى وإن بدا في الواجهة ضباط سنة. ولا يختلف الأمر كثيرًا في كافة مناحي الحياة السورية من مدراء ووزراء ومحافظين، مع إطلاق يدهم بلا رادع ولا قانون في النهب والفساد والإفساد، لا بل وزاد على ذلك استصدار قوانين تحميهم من الملاحقة القانونية أو العقابية، إضافة إلى قوانين الإيجار والاستيطان في المدن الكبرى، ونقل النفوس والخلط واللغط لصالح الدوائر الانتخابية… إلخ، مما عرفه السوريون وعاشوه وعانوه.

وجاءت مجزرة حماة وأحداثها والاستهداف السني “المظلومية السنية ” . لتكرس العلوية السياسية وهي وليدة توظيف العصبية الطائفية في لعبة السلطة  و تحولت اللهجة العلوية وطريقة نطق حرف القاف إلى جواز مرور، وصار البعض من غير الطائفة  يستخدمه على مبدأ التقية، وباتت اللهجة العلوية ومكان قيد النفوس في البطاقة الشخصية (إن كان “من فوق، من الضيعة أو محيطها”) جواز مرور دبلوماسي في دوائر الدولة ومفاصلها، يضفي حصانة ورهبة لحامله.

واستمر الحال على ذلك حتى بداية الثورة السورية، آذار 2011، حين قرر بشار الأسد الحرب على السوريين، وأعاد الاعتبار للمكون السني وجعله الأكثرية!! فكانت أكثرية المدن التي دمرت سنية، وأكثرية الشهداء من السنة، وأكثرية المعتقلين من السنة، والمهجرين من السنة، والمفقودين والملاحقين من السنة، وأعيد الاعتبار لهم ولكن بأكثرية الموت.

هل يعني ذلك أن كل الطائفة العلوية كانت مع الأسدين؟ لا أبدًا، فهناك مهمشون وفقراء ومعارضون علويون دفعوا أثمانًا من حياتهم في معارضة الأسد، ومنهم من القرداحة نفسها، معقل حافظ الأسد. وإن كانت غالبية الطائفة العلوية قد تم اختطافها عبرتفقيرقراها وتغييب أي خدمات أو فرص عمل، لزجهم بطريق واحد هو الدولة والقائد.

قد يخطر لسائل : ألم تشارك باقي المكونات بالثورة ؟ الجواب : نعم شاركوا وقدموا شهداء على مذبح الحرية، كما كل مكونات الوطن السوري، وكل أصيل وحر، ومنهم من العلوية أيضًا. ولكن كانت مشاركاتهم فردية، على كثرتها أو قلتها، ولم تتحول لحالة جمعية أو تترافق ببيان من مجموعة أو كتلة ما أو جهة ما أو كنسية ما , هذه الحالات (طبعا لها أعذارها ومبرراتها). ولا ينفي ذلك وطنيتها وسعيها للحرية ونصرة أبناء وطنها.

وجاء يوم 8/12/2024، وهرب الأسد، وانتصر البلد، وتحقق الحلم و أكثر، فعموم السوريين أنهكهم التعب، وتسلل لقلوبهم اليأس من فشل المحاولات خلال 14 سنة للإطاحة بالأسد، ولكن الفجر انبلج وسوريا حرة بدون الأسد… حصلت المعجزة والمفاجأة للناس والدول معًا، كيف حدث ذلك بدون أي تدخل خارجي أو تقسيم أو وصاية وبأيدي أبنائها؟! وأخيرًا تنفس السوريون الحرية.

وبدأ السوريون كمن خرج للضوء بعد سنين في العتمة، وظهر ذلك جليًا في تعبيراتهم عن الحرية وانفعالاتهم في الساحات. فقبل أن يفرغ أهالي المعتقلين من البحث عن ذويهم، أو أن يأخذ السوريون حيزًا لحزنهم والبكاء على من فقدوا، خرجت أصوات تتساءل عن شكل الدولة، وعن النسوية، وعن الدستور، وعن المحاسبة والقصاصوعن وعن !! مما أثار موجة غضب بين عموم السوريين المكلومين، خصوصًا بعد كشف أسرار السجون والمعتقلات والمسالخ البشرية، وعلى رأسها سجن صيدنايا.

وهُنا، وبسببِ الاستقطابِ الرهيبِ والاحتقانِ بين المظلومية السنية والعلوية السياسية ، اعتقدَ الكثيرونَ أنَّ العلويينَ سينكفئونَ في مدنِهم وقُراهُم، وسيخبُو صوتُهم ولو لفترةٍ حتى تهدأَ النفوسُ وتمضيَ الأيامُ الأولى فالمشهد عظيم ومهول…. إلَّا أنَّ العكسَ حدث.

وبدأتِ القصةُ حينَ أعطتِ السلطةُ الجديدةُ مهلةً لتسويةِ أوضاعِ العسكريينَ أو المقاتلينَ أو فلولِ النظامِ وتسليمِ أسلحتِهم، وبعدَ مضيِّ المهلةِ وبدءِ التمشيطِ وحدوثِ بعضِ التجاوزات، خرجَ بيانٌ يدَّعي تمثيلَ العلويينَ أشعلَ النارَ. فقد كان ينبغي أن يُعلنَ، وبِلُغةِ التسامحِ ولهجةِ التوددِ، اعتذارَ الطائفةِ للشعبِ السوريِّ عن تحكُّمِ عائلةِ الأسدِ بها، وتجنيدِ غالبيتِها لخدمةِ بطشِه، وعن إدانتها لكلِّ من تلطَّختْ أيديهِ بدماءِ السوريينَ، واستعدادِها لتسليمهِ لقضاءٍ عادلٍ نزيهٍ، وأنَّها كانتْ مغلوبةً على أمرِها ومختطَفةً من الأسدِ.

لكنَّ ذلكَ لم يحصلْ، بل جاءَ الخطابُ بفوقيةٍ ولهجةِ السلطةِ وفرضِ الشروطِ، وليُختتمَ بالوعيدِ والتهديدِ!! وتتابعتْ بعدَه بعضُ الحوادثِ في الساحلِ، وبياناتٌ أخرى ادَّعى مُطلقوها أنَّهم مشايخُ الطائفةِ، وتطوَّرَ الأمرُ معهم من التهديدِ إلى طلبِ الحمايةِ الدوليةِ والتدخُّلِ الخارجيِّ، ما دفعَ بعضَ المكوناتِ أيضًا لطلبِ العونِ حتى من إسرائيلَ!!

ويجدرُ التنويهُ أنَّ هذا الطرحَ لا يُمثِّلُ الطائفةَ ولا بقيَّةَ المكوناتِ، فقد ظهرتْ أصواتٌ علويةٌ وطنيةٌ غلَّبتْ سوريَّتَها على طائفيَّتِها، ورفضتْ ذلكَ جملةً وتفصيلًا، لا بل وهاجمتْه، وطالبتْ أن تُحلَّ مشاكلُنا تحتَ سقفِ سوريَّتِنا، وأنْ ينضويَ الجميعُ تحتَ سلطةِ الدولةِ، وأن الخلاص من الأسد خلاص للجميع وأن مستقبل سوريا الحرة هدفنا و كلُّنا سوريونَ أولًا وقبلَ كلِّ شيءٍ.

مما أوردْنا أعلاهُ نلحظُ أنَّ الأسدَ نجحَ إلى حدٍّ ما في ترسيخِ فكرةٍ لدى عمومِ السوريينَ أنَّ العلويةَ والسلطةَ والاستبدادَ والقمعَ والأسدَ واحدٌ، وأنَّ المستهدَفَ هو الأكثريَّةُ العدديَّةُ السُّنيَّةُ، دونَ أنْ يُعفيَ باقي المكوناتِ من الضررِ أيضًا. وهُنا توجَّبَ على الجميعِ التحلِّي بأخلاقِ وشعاراتِ الثورةِ: واحد واحد، الشعبُ السوريُّ واحد، وأنْ تكونَ العدالةُ الانتقاليةُ هي المقدِّمةَ نحوَ السِّلمِ الأهليِّ، دونَ أنْ يُعفيَ ذلكَ المكوناتِ جميعًا من استحقاقاتٍ تتمثلُ بـ:

  • هناكَ فلولٌ للنظامِ السابقِ ومنتفِعونَ ومهرِّبونَ وتجارُ مخدراتٍ سيضربونَ على وترِ السِّلمِ الأهليِّ، كما أنَّ هناكَ خلايا لدولٍ لا يعجبُها التحريرُ، وهناكَ ميليشياتٌ نائمةٌ، وهناكَ وهناكَ… الكلُّ يتربَّصُ بسوريا وحريتِها، فيجبُ الوعيُ والحذرُ.
  • يجبُ أن يتحلَّى المكونُ السُّنيُّ بخُلقِ الثورةِ وتعاليمِ شريعتِهِم بالعدلِ والإحسانِ والتسامحِ، وأنَّه لا تزرُ وازرةٌ وِزرَ أخرى، وأنَّ خسارتَهُ الكبيرةَ كانتْ مِهرًا للحريةِ، وأنَّ الآخرينَ خسروا أيضًا، وإنْ بنسبةٍ أقلَّ، لكنها كبيرةٌ نظرًا لصِغرِ مكوِّنِهم، والابتعادِ عن روحِ التشفي والانتقامِ والثأرِ وفكرةِ المظلوميةِ حتى نَبنيَ وطنًا، لأنَّ ذلكَ لا يُفضي إلَّا إلى الخرابِ والدمارِ والخسارةِ للجميعِ.
  • أن يُبادرَ العلويونَ أفرادًا أو كياناتٍ إلى الاعتذارِ من الشعبِ السوريِّ، والاعترافِ بجرائمِ النظامِ، والاعترافِ بزجِّ الطائفةِ معه في حربِه، وتوجيهِ الأصابعِ إلى من ساندهُ منهم، وذكرِ أسماءِ من ساعدَهُ في القتلِ وسفكِ الدمِ، وتسليمِهم، والإرشادِ عنهم، ودعوةِ العقلاءِ منهم لضبطِ النفسِ حيالَ كلامِ التعميمِ من البعضِ والخلطِ بينَ النظامِ والعلويينَ تدريجيًّا سيزول ، لنمنح الوقت لاستتبابِ الأمنِ والعدالةِ الانتقاليةِ التي تُنصفُ الجميعَ، وتقبُّلِ فكرةِ أنَّ العلويينَ اليومَ مواطنونَ عاديونَ، وليسوا سادةً أو قادةً أو أصحابَ امتيازاتٍ، وأنَّ لهم حقوقًا وعليهم واجباتٌ أسوةً بكلِّ سوريٍّ في الوطنِ.
  • الحفاظُ على النصرِ والدفاعُ عنهُ، والعملُ على التنميةِ والنهوضِ بالبلدِ، وأنَّ الإصلاحَ درجةٌ درجةٌ ويحتاجُ إلى وقتٍ.

       يجب ان نعي أن سوريا فعليًّا فيها طائفتانِ:

        طائفةُ القتلِ والإجرامِ، وتتمثَّلُ بالنظامِ وكلِّ من وقفَ معهُ وساندَه وشاركه بأي شكل.

      طائفةُ الشرفاءِ، وهي كلُّ من عارضَ الأسدَ، وظُلمَ، وأيَّدَ الثورةَ، ووقفَ معها ودعمها .

كلُّنا سوريونَ، وكلُّنا عانينا من تسلُّطِ وبطشِ النظامِ، وإنْ بدرجاتٍ متفاوتةٍ. لا فضلَ لأحدٍ على أحدٍ في الثورةِ، ولا لمدينةٍ على مدينةٍ… كلٌّ قدَّمَ على قدرِ استطاعتِه ونحن ننظر للمستقبل… سورية لوحة جميلة بكل ألوانها.

انتصرَتْ ثورتُنا، ويجبُ أنْ ننتصرَ نحنُ على خلافاتِنا وعلى وجعِنا، وأنْ نمضيَ قُدُمًا نحوَ سوريا الجديدةِ، وأنْ نحيا من اليومِ

مواطنينَ لا رعايا                                 شركاءَ لا أُجراءَ                                   أحرارٍ لا عبيدَ

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى