مقالات سينمائية

الدين والسلطة في أقانيم درامية ناجحة/ فارس الذهبي

23 فبراير 2025

أطلق المخرج الفذّ إدوارد بيرغر في صالات السينما العالمية رائعته الجديدة “المجمّع المغلق” CONCLAVE. ومن المتوقع أن يحوز الفيلم على لائحة طويلة من الترشيحات الدولية في المهرجانات الكبرى. كان لنجاح فيلمه ما قبل الأخير- “كل شيء هادئ على الجبهة الغربية”- أثر كبير في تلهف النقاد والمشاهدين على حد سواء لمشاهدة شريطه الجديد الذي اتخذ منعطفًا مغايرًا عن سابقه، فـ”المجمع المغلق” يتخذ من الفاتيكان و(المقر البابوي على وجه التحديد) مسرحًا لأحداثه. هناك حيث ترسم السياسات وتحاك المؤامرات المبنية وسط تقاليد صارمة ودقيقة لجهة تنظيم العمل الداخلي في الصرح البابوي، نقطة البداية في الفيلم تنطلق من لحظة إعلان وفاة البابا السابق بشكل مفاجئ وضرورة اتخاذ كافة التدابير اللازمة لعقد المجمع المغلق لانتخاب خليفة له. في هذا السياق يطلعنا الفيلم على الكواليس الداخلية لعملية الانتخاب، وحجم السرية التي يضربها الفاتيكان على الاجتماع الذي يُحبس فيه الكرادلة طوال مدة تداولهم لانتخاب خليفة للبابا الراحل، حيث يعزل الكرادلة طوال هذه الفترة عن الإعلام، بل عن العالم الخارجي؛ تؤخذ هواتفهم وحواسيبهم، وتقطع عنهم الاتصالات بمختلف أشكالها، بل إن المشرفين على المجمع المغلق يحرصون على إسدال الستائر والنوافذ الخشبية فوق زجاج النوافذ كي لا تتمكن أية وسيلة إعلام، أو أي جهاز استخبارات من التجسس عليهم ومعرفة ما يجري من أسرار في هذا المبنى الذي يحتوي قاعة كبرى للاجتماع وغرف منامة يعزل فيها الكرادلة الآتون من مختلف أنحاء العالم حتى لحظة إعلان اسم الحبر الأعظم الجديد، عبر مدخنة فوق المبنى يخرج منها الدخان الأبيض الذي يرمز إلى اتفاق الكرادلة وانتخاب بابا جديد، وسط احتشاد هائل للمؤمنين والرعايا في ساحة القديس بطرس في الفاتيكان.

يحيطنا الفيلم بتلك الأجواء منذ اللحظة الأولى في تصعيد كبير وترقب وتشويق بوليسي لهذا الحدث الذي ينتظره العالم، من دون أن يدري أحد في الخارج ما يحدث في الداخل، حيث صراع التيارات والأحزاب والمؤامرات الهادئة الحادة بين رؤوس الكنيسة الكاثوليكية حول العالم، حينما يتراجع الحس الديني والإيماني أمام الصراع على السلطة، فتتبدى السلطة الروحية مشابهة لكل سلطة دنيوية أخرى حتى لو كانت في أعلى كرسي إيماني في الغرب.

يبني المخرج وكاتب السيناريو عوالم المجمّع المغلق بهدوء وحذر، مستعرضًا نجوم الكرادلة ممن سيخوضون صراع البابوية، ويستعرض لنا التباينات بين كرادلة إيطاليا وإنكلترا وألمانيا وفرنسا، وحتى إسبانيا. مبينًا تجمع الكتل الرهبانية مع بعضها في صالة الطعام حسب اللغة التي ينطقون بها، بينما يجول حامل الفعل في الفيلم (رالف فينيس) بدور كبير الرهبان أو الميسر الأساسي لعملية الانتخابات، والمشرف على سريتها وأمانتها وسلاسة مرورها. يجول بين طاولات العشاء الافتتاحي مقدمًا مفاجأته الكبرى التي علم بها للتو قبل العشاء بقليل، وهي حضور كاردينال سري جديد إلى “المجمع المغلق” وسط ذهول ودهشة كبيرة من الجميع كان أولهم كبير الرهبان نفسه، الكاردينال الجديد هو أسقف كابول في أفغانستان الذي عينه البابا الراحل منذ عام واحد فقط، وسط سرية كبيرة وغير مفهومة، عزاها كبير الرهبان إلى كون مهمته محاطة بالمخاطر والتهديدات. بعد تقديم الأسقف الجديد وصعوبة تقبّل وجوده بين كتل الأساقفة المعروفين بين بعضهم، الذين يشكلون عماد الكاثوليكية تاريخيًا من دول أوروبا وأميركا اللاتينية والقليل من أفريقيا، نتلمّس شعورًا بالتمييز ضد القادم الجديد، الذي يطلب أن يصلي بهم قبل تناول العشاء صلاة شكر للرب، فيوافق الجميع بدون مقدرة منهم على منع أي أحد من تقديم الشكر للرب، فتتضمن صلاته كلمات شكر للرب على نعمة الطعام، الذي نشاهد بذخه ورفاهيته ودقة تفاصيله من الجبن الفاخر واللحوم والأسماك وحتى الفواكه والخضار، التي حرص المخرج على تصويرها بدقة، وتذكره للفقراء والجوعى حول العالم، حيث تحول الكاميرا على وجوه الكرادلة وكأنه كانوا قد نسوا تلك الوجوه، وشكره للنساء والأخوات اللاتي قمن بصناعة هذا العشاء الطيب.

يبدأ الصراع في الفيلم بين تيارات أساسية تتبدى في الحوار بين كبير الرهبان

يبدأ الصراع في الفيلم بين تيارات أساسية تتبدى في الحوار بين كبير الرهبان، وبين أسقف روما، الذي يبدو مطمئنًا في حواراته مدعومًا بكتلة من الأساقفة الطليان. يعزو أسقف روما تفكك الروابط بين الكرادلة في العالم بسبب التيار الليبرالي الذي غزا الفاتيكان وألغى بدوره حصرية الحديث بين الكرادلة باللغة اللاتينية بدعوى أنها لغة ميتة، وضرورة مخاطبة المؤمنين بلغاتهم التي يتكلمون فيها، مما جعل الأساقفة الإنكليز يتكتلون حول طاولتهم ومثلهم الفرنسيين والإسبان والطليان. تبدو كلمات الأسقف الإيطالي حادة لجهة انتقاد التيار الليبرالي، مطالبًا بهمس حاد كبير الرهبان بضرورة انتخاب بابا من أصول إيطالية وذلك لأن آخر مرة وصل فيها أسقف إيطالي إلى الكرسي البابوي كانت حسب زعمه منذ نصف قرن، وإلا، ويشير برأسه في حركة محافظة لا تخلو من العنصرية إلى الأسقف الأفريقي الذي يجلس بعيدًا عنهم وسط رفاقه قاصدًا بأن الكرسي سيذهب خارج القارة الأوروبية لتفقد معها الكاثوليكية في كل مرة جزءًا من رصانتها ومركزيتها في العالم، حتى ولو كانت الرسالة الإيمانية تدعو إلى التسامح والمحبة والسلام، لكن كل ذلك لا يجب أن يحدث بعيدًا عن المركز، حيث بنى القديس بطرس كنيسته في روما.

تتصاعد التفاصيل الداخلية لعملية الانتخاب مع معرفتنا بالمرشحين، الأسقف تيديسكو، والأسقف بيليني الأكثر شعبية، حيث تبدأ الاجتماعات السرية بين كل فريق، يؤكد بيليني لجماعته حرصه على برنامجه الانتخابي الوسطي، تجاه قضايا مثل الطلاق والمثلية الجنسية والتزامه بعدم العودة إلى القداس الليتورجي اللاتيني، والتسامح مع وجهات النظر في داخل الكنيسة ذاتها، وخصوصًا دور المرأة في الكنيسة، حيث يرفض أحد الأساقفة ما قاله باعتباره خروجًا عن التيار المحافظ في فريقهم، فيصر بيليني على رأيه معلنًا تبنّيه كل ما يعارضه الأسقف تيديسكو.

في اليوم الأول للمجمع المغلق، يخطب كبير الكهنة (رالف فينيس) قائلًا: “هناك خطيئة واحدة أخشاها على الكنيسة، إنها اليقين، اليقين هو العدو القاتل للتسامح، حتى المسيح كان متشككًا وهو في لحظات عذابه الأخيرة عند الساعة التاسعة على الصليب، حينما قال: أبتِ لمَ تخليت عني؟ ثلاث مرات. إن إيماننا هو شيء حي، لذلك يجب أن يسير جنبًا إلى جنب مع الشك، فإن كان هنالك يقين مطلق بلا شك، فلم يكون هنالك أي غموض، وبالتالي لا حاجة لنا للإيمان، فلنصل كي يرزقنا الرب بابا متشككًا، وليمنحنا الرب بابا يخطئ ويطلب المغفرة مواصلًا مسيرته”. يسود القاعة صمت أصم، فكيف لكبير الرهبان أن يتحدث بمثل تلك الفلسفة في هذا اليوم، مشيرًا إلى حاجة الكنيسة إلى عدم اليقين، قاصدًا الطلب من الرب أن يأتي لهم بأسقف أكبر يعالج الأمور المعاصرة بتفكّر وتمحيص بدون يقين مسبق، وبدون أفكار معدة سلفًا، بابا يشكك في القيم القديمة لينتج قيمًا مواكبة للعصر. كان هذا الخطاب هو ذروة الفيلم وملخصًا لفلسفته.

تشتعل المنافسة بين الكرادلة أثناء التصويت في الجولة الأولى، تيار الليبرالية ينقسم بين الأسقف بيليني، ممثلًا الليبرالية الوسط، وبين الأسقف تيديسكو الذي يمثل التيار الإيطالي الكاثوليكي المحافظ الذي يريد أن يعيد عقارب الزمن إلى الخلف رافضًا إرث البابا الراحل. بين هذين التيارين يشق الأسقف أدييمي الأفريقي الأصل الصفوف بحصوله على أعلى أصوات تاركًا الحيرة في قلوب الجميع، وهم يشاهدون صراعهم الأوروبي الداخلي يذهب بأحلامهم جميعًا إلى رجل مختلف تمامًا.

وسط هذا الازدحام تظهر بضعة أصوات لصالح كبير الرهبان نفسه، لنكتشف بأن أحد هذه الأصوات هي من كاردينال كابول ذاته. يشتعل الجدل في معسكر الليبراليين بين كبير الكهنة الذي يعتبر أن الانتخابات ليست أكثر من انتخابات، وبين بيليني الذي يعتبرها حربًا ستقرر مصير الكنيسة وإرثها أمام الأمم.

نتعرف في هذا المجمع المغلق على صفات خفية للأساقفة والكرادلة. سجائر، كحوليون، نزوات جنسية في ماضي الكهنة، مؤامرات ومكائد سياسية بعيدة كل البعد عن الروحانية المطلقة للدين والكنيسة، عالم متوحش شرس، يتمظهر داخل الثياب الباذخة، تتدفق المؤامرات الداخلية لتطيح بالمرشحين واحدًا تلو الآخر، الأسقف أدميي، الإفريقي يتعرض لمؤامرة يفتعلها أحد الكرادلة حينما نبش في ماضيه الشخصي وجلب له من نيجيريا عشيقة سابقة له حينما كان شابًا، أنجب منها طفلًا وتركها. تظهر المرأة في المجمع فجأة فينفجر ترشيحه مثل غمامة أمام طائر. فالكنيسة الكاثوليكية لا تحتمل فضائح جنسية كما أفصح له كبير الكهنة عندما طلب منه التنحي. الكاردينال تريمبلاي، يفقد مصداقيته هو الآخر بعد جلسة التصويت الخامسة التي ظن أنه سيحسمها لصالحه بعد انهيار أدييمي، بسبب وثيقة يكتشفها كبير الكهنة مخبأة في سرير البابا المتوفى.

تحتدم الأمور لتصبح المواجهة حاسمة بين كبير الكهنة والكاردينال توديسكو، حينما يخبره بيليني بأن ترشيحه لمنصب البابا بات واجبًا بعد رفضه الشديد للمنصب بسبب شكوك إيمانية كان قد تعرض لها في سنواته السابقة، بعد أن طلب من البابا قبول استقالته، لكن الأخير رفض بشكل قاطع، لأنه على علم بمرضه ودنو أجله، كبير الكهنة الذي يحرك أهم انتخابات كنسية في العالم الكاثوليكي، عرف بأن البابا أراد له أن يدير هذا المجمع المغلق، لأنه يعلم حجم ما فيه من مؤامرات، وسياسة بعيدة كل البعد عن روحانية المنصب، يقبل بالترشيح ويخبر بيليني بأنه سيختار اسم (جون/ يوحنا) ليكون اسمه في البابوية إن نجح. لكن المفاجأة تحصل لحظة وضعه الورقة التي تحمل اسمه في صندوق التصويت، حينما تنفجر النوافذ لتحطم الصالة الرائعة التي يتم بداخلها التصويت. لقد انفجرت سيارة في الساحة المجاورة وفي عدة مدن أوروبية، عملية إرهابية يتهم بها مهاجر.

في هذه اللحظة وبينما الدماء تسيل على أوجه الكرادلة، يتصدر تيديسكو المشهد بخطاب عنصري يميني محافظ، يدين فيه سياسات الكنيسة التصالحية، وسياسات البابا السابق التي أدت إلى غزو البلاد من قبل (الأعداء المسلمين) الذين يقاتلون الكنيسة منذ ألف عام، ويطالب بقائد جديد حاسم، وقوي يستطيع مواجهتهم والانتصار عليهم.

يسود صمت وقلق عظيم المجلس المتعب من طول فترة الانتخاب، حتى ينهض أسقف كابول، ليقدم واحدًا من أجمل حوارات الفيلم، حينما يتحدث عن منطق الحرب والقتل والموت والتحريض، وبأنه خدم في كابول وبغداد والكونغو، ويعرف علم اليقين معنى الموت والقتل والحرب، مؤكدًا أن الشاب الذي فجّر نفسه في الساحة الخارجية لا ذنب له، فمن حرضه على تفجير نفسه هو رجل دين قابع في المقلب الآخر، غامزًا من قناة التطرف والتعصب الذي صرح به الكاردينال الإيطالي. يسود صمت مدقع الصالة حيث “المجمع المغلق”. حتى يبدأ التصويت مجددًا، في مواجهة حتمية بين كبير الكهنة الذي يمثل التيار الليبرالي المعتدل، وبين تيديسكو الكاردينال من إيطاليا الذي يمثل التيار الصدامي اليميني المتطرف.

يبدو المجمع متعبًا، مصابًا بشظايا التفجير، ومرهقًا من خمس جولات انتخابية لم تفض إلى نتيجة، متداعيًا من حجم المؤامرات والدسائس الخلفية بين الناخبين منهم. حيث يتوقع الجميع اكتساح تيار اليمين للانتخابات وحسمها رغم تعاضد الليبراليين لدعم كبير الكهنة الذي يبدو بدوره جاهزًا نفسيًا لتولي المنصب ومدعومًا من كاردينال كابول ذاته.

لكن المفاجأة تحصل بنيل أسقف كابول أعلى نسبة تصويت ممكنة، وتتويجه بمنصب الحبر الأعظم للكنيسة البطرسية الكاثوليكية في سابقة مدهشة وغير متوقعة.

وبينما يتجهّز المجمع لإشعال الدخان الأبيض، وإعلان الخبر لعموم الناس حول العالم، يتدخل سكرتير كبير الكهنة ليقدم معلومة تقلب كل شيء.

فواحدة من مذكرات ومراسلات البابا تذكر وصول كاردينال كابول إلى جنيف قبل سنوات كي يخضع لعملية خاصة جدًا، عملية تتطلّب سرية مطلقة، ودقّة وحذر وسبق أن استشار البابا بنفسه قبل أن يجريها.

العملية هي استئصال رحم، نعم. فكاردينال كابول مصاب بحالة خاصة جدًا، حينما تعرض في شبابه لظهور أعراض وآلام تبين لاحقًا أنها لظهور رحم داخل جسده. مما يعني أنه في جزء منه أنثى. وهذا ينافي مبادئ الكنيسة الكاثوليكية التي تفرض أن يكون المنصب حكرًا على الرجال فقط. حينها يصاب كبير الكهنة بإحباط شديد، ففضيحة مثل هذه قد تطيح بما تبقى من سمعة للكنيسة الكاثوليكية التي تعرضت لهزّات شديدة بسبب قضايا التحرش والابتزاز في السنوات الماضية.

وحينما يكاشف الكاردينال بما لديه من معلومات، يبتسم الأخير له قائلًا: لقد كنت أنتظرك لتكاشفني بهذه المعلومات.

نعم، لدي رحم، ولكنني اخترت ألا أزيله، لأنني متصالح مع جسدي ولا أخجل منه أبدًا والبابا الراحل على علم بكل تلك التفاصيل، وكان قد قبلني ووافق على قراراتي، القضية في عهدتك الآن.

يمثل خيار المخرج والكاتب بإقحام مثل هذه القضية في انتخاب أعلى سلطة روحية في العالم الغربي، قضية إشكالية كبرى. فالتيار المحافظ الذي يفترض نقاء جندريًا لتلك المناصب، يمارس أعتى أشكال العنف والسلطوية والتبشير بالاختلاف وسحق الآخر، بينما اختار المخرج نموذجًا مختلط الجنسانية، يمثل أكثر مراحل الليبرالية ليكون في مواجهة اليمين ممثلًا للانفتاح والتفهم والتسامح، فإن دعوة الشك التي بدأها كبير الكهنة، وتمنّاها من الرب صفة من صفات البابا الجديد، تجسّدت في شخص كاردينال كابول الإسباني الأصل، الذي عرف معنى الرجولة وعرف معنى الأنوثة، وعرف قيمة السلام والتسامح في ظلال الحرب والعنصرية والحرب الدينية، فذلك “المجمع المغلق” المقفل على أعضائهِ لا يعلم عن أحوال الناس شيئًا، كل ما لديه هو تكرار لممارسات وأفكار الأوّلين في التحريض والمؤامرات وتمارين الصراع على السلطة بعيدًا عن التسامح الديني الحقيقي.

ما أراد المخرج قوله في هذا الفيلم العظيم هو أن قيمة الاختلاف قد تمنح المستقبل دفقًا عظيمًا، لأن الاختلاف يعني تفهم الآخر، يعني تجسد الممارسات الروحية بعيدًا عن الممارسات السلطوية والسياسية. وهذا عدا عن دور الأنثى التي تنبذ العنف بفطرتها وتدعو إلى السلام الهادئ والحوار كمكوّن فكري أساسي في بنيتها.

“الهرطيق”

في تجربة أخرى تطرقت إلى علاقة الدين مع الفلسفة ولكن بأسلوب مختلف، قدّم المخرجان الأميركيان سكوت بيك وبريان وودز فيلمهما الجديد “the Heretic”، أو “الهرطيق” في إطار من الرعب والتشويق والإثارة الفلسفية، حيث يتطرق الفيلم إلى حكاية فتاتين من البعثات التبشيرية تزوران رجلًا منعزلًا في بيته لغرض تبشيره وتركيزه ودعوته إلى كنيستهما الجديدة المنبثقة عن المورمونية في أميركا، لكن هذا الرجل الذي يقوم بدوره الممثل البريطاني هيو غرانت، كان قد أعد لهما الكثير، بغرض تقديم مناظرة حول الدين والفلسفة والإلحاد معهما، حيث يدعي اهتمامه الكبير هو وزوجته، التي تغيب عن المشهد، بكنيستهما.

ولكنه رويدًا رويدًا يحتجزهما في بيته ويخفي أثرهما كي يفسح لنفسه الوقت الكافي لتقديم أطروحته حول الأديان المتشابهة (حسب رأيه) التي تستولد نفسها من الأديان السابقة. يعرض عليهما بعد خطفهما أفكاره التي تبدو أفكار رجل مهووس بتاريخ الأديان، ومفاد مناظرته أن ما تقدمه له الفتاتان من أفكار مرمونية هي تكرار لأفكار دينية سبقتها مثل المسيحية نفسها واليهودية قبلها، وحتى الإسلام. حيث إن هذه الأديان في الجوهر تحمل الأفكار ذاتها، غير أن ما تبدّل هو الغلاف فقط، مدللًا على أفكاره بإحدى الألعاب التي تم إنتاجها قبل 150 عامًا، لكنها لا تزال موجودة اليوم بغلاف مختلف. يحاجج الهرطيق الفتاتين بأنهما مخدوعتان، وأن بضاعتهما قديمة لا أفكار جديدة فيها. ولكنه مع ذلك يحترم ما تقومان به. يريهما “الهرطيق” لوحات منتشرة في بيته تفيد بأن أكثر من مائة ديانة حول العالم تعتمد فكرة مولد نبيها في الخامس والعشرين من الشهر الثاني عشر، لأنه ببساطة موعد الانقلاب الشتوي في حضارات الصين والهند وفارس واليابان، وأن الأمر معروف منذ الأزل لدى تلك الشعوب بتقديس هذا اليوم، فيحدثهما عن إيزيس التي ولدت ابنها بعد أن حملت من الروح القدس بدون أب حقيقي، وعن أن أوزوريس كان يعمل نجارًا، وأن ابنها حورس ولد في الخامس والعشرين من الشهر الثاني عشر، وأنه عاد إلى الحياة بعد أن مات، وهروب إيزيس من الملك سيث وهروب العذراء من غضب هيرودوس. وبأنها تسمى سيدة النور مثل السيدة العذراء ذاتها. وبأن رمز أوزوريس هو الـ djed المماثل للصليب المسيحي.

يحدثهما عن شيفا في الهند، وعن الثالوث الإلهي المشابه الهندوسي. عن ميثرا وبوذا وآلهة أفريقيا وأميركا اللاتينية.

كل هذه التفاصيل تجعل الفتاتين البسيطتين في حيرة من أمرهما، فما الذي يريده منهما هذا الهرطيق الذي اضطر إلى احتجازهما من أجل تقديم أفكاره. لنكتشف لاحقًا أن ما يريده الهرطيق (هيو غرانت) هو السلطة، أي القوة التي يمنحها الدين للكهنة وللسلطات الدينية برمّتها، وهو بصفته هرطيقًا كاشفًا لكل المؤامرات يريد أن يمارس سلطته على المؤمنات المخدوعات.

إن مناقشة الأفكار الدينية العميقة في الأفلام المعاصرة غدت منهجًا رائجًا، يعيد تفكيك المبادئ الروحانية، وهرمسة ارتباطها بالسلطة الدنيوية والناس، كما يقودنا إلى تحرير أكبر للأفكار والمعتقدات التي ستساهم في إعادة الروحانيات إلى الأديان، والواقعية إلى الحياة اليومية للناس.

فهل يأتي ذلك اليوم الذي نستطيع فيه مناقشة مثل تلك الأفكار في عالمنا الشرقي الغارق حتى الثمالة في الاضطرابات الدينية؟ سؤال نسأله في كل مرة نتابع فيها الجدل الكبير بين الدين والسلطة في الأعمال الفنية المحترفة.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى