النقابات أمام فرصة تاريخية في سوريا/ حسن إبراهيم | علي درويش | موفق الخوجة

تعترضها الهزّات..
تحديث 23 شباط 2025
بدأت النقابات المهنية في سوريا تتلمس بداية مسارها الطبيعي، عقب تحررها من قبضة حزب “البعث” بعد عقود من تغييب مهامها والهيمنة عليها وتقويض استقلاليتها، وإفقادها الممارسات الديمقراطية والشفافية، وتحويلها من دورها كمدافع عن حقوق الفئة التي تمثلها إلى دور رقابي وأداة بيد السلطة.
“البعث” وحافظ الأسد ومن بعده نجله بشار، الذي هرب قبل شهرين ونصف إلى روسيا، كبّلوا عمل النقابات، وسنّوا قوانين للسيطرة عليها، وأجهضوا أي محاولة لاستقلاليتها، وحولوها إلى أدوات دعائية لدعم سياساتهم، وأدوات للضغط والسيطرة على مختلف الشرائح المهنية، وأفقدوا النقابات قدرتها على التأثير في صنع القرار المهني والاجتماعي، وبدلًا من أن تكون صوتًا للمستقلين والمهنيين، كانت تعكس مصالح الحزب الحاكم.
اليوم، تحاول النقابات استعادة أدوارها، مع وصول إدارة جديدة للبلاد هي حكومة دمشق المؤقتة، بعد إعلان “إدارة العمليات العسكرية”، التي قادت دفة المعارك لإسقاط النظام، حل حزب “البعث” وأحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية”، وما يتبع لها من منظمات ومؤسسات ولجان، وحظر إعادة تشكيلها تحت أي مسمى آخر، وإعادة جميع أصولها إلى الدولة السورية.
في هذا الملف، تسلط عنب بلدي الضوء على محاولات استعادة النقابات “المكانة والدور”، في رحلة لا تزال في طور البدايات، يعززها ووجود تجارب سابقة نشطت بمناطق السيطرة المختلفة في سوريا قبل هروب الأسد، وعلى الانتقادات التي تشوبها من تدخّل السلطة في عملها، ومخاوف محلية ودولية من تقويضها مجددًا، وجعلها “مطيّة وأداة” بيد حكم جديد.
كما تناقش عنب بلدي مع قانونيين وخبراء وباحثين ونقابيين قانونية الإجراءات المتخذة، ومدى أن تكون تجارب النقابات التي نشأت في عهد الثورة السورية أرضية جيدة لنقابات مستقلة، وتستشرف مستقبل الحراك النقابي في سوريا.
النقابات..
أدوات بيد “البعث” والأسدين
منذ الانقلاب الذي قاده حزب “البعث” عام 1963، نص البند التاسع من المرسوم التشريعي رقم “68” من العام نفسه على السيطرة على كل الحراك المدني في سوريا، من خلال إشراف المجلس الوطني لقيادة الثورة (ثورة آذار 1963) على التنظيمات المدنية كافة بما فيها النقابات، الأمر الذي شكّل لبنة أساسية في تطويع المجتمع المدني ليكون في خدمة السلطة.
مع بداية السبعينيات، شرعن حزب “البعث” سيطرته المطلقة على الدولة والمجتمع عبر المادة الثامنة من دستور عام 1973، التي تنص على أن “حزب البعث العربي الاشتراكي، هو الحزب القائد في المجتمع والدولة، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية”، وانعدمت أي استقلالية فعلية للنقابات، وباتت مجرد مؤسسات شكلية وأدوات بيد الحزب والسلطة.
وأجهزت السلطات على ما تبقى من منظمات المجتمع المدني، في 9 من نيسان 1980، عندما حلّ حافظ الأسد نقابات المحامين والأطباء وأطباء الأسنان والصيادلة والمهندسين، واعتقل أعضاءها لتعود وتستبدل مجالسها بمجالس جديدة تابعة للسلطة والأجهزة الأمنية، فكان أن تمت الهيمنة على ما تبقى من منظمات وإلحاقها بحزب “البعث” كمنظمات رديفة.
وسيطر الحزب بشكل كلي على الاتحادات والنقابات المهنية التي ضمت في صفوفها ملايين السوريين، وصار الانتساب لها إلزاميًا لممارسة مهنة ما، وغدت تلك النقابات والاتحادات ساحات لممارسة الرقابة والهيمنة من السلطة على شرائح واسعة من مجتمع السـوريين.
في حزيران عام 2000، توفي حافظ الأسد، ووصل بشار إلى الحكم، مستمرًا في نفس نهج أبيه بالتعامل مع النقابات، ومع انطلاق الثورة السورية عام 2011، أعاد النظام السوري تقييم أدوار المؤسسات الشعبية ودمجها في شبكاته للمساهمة في قمع الحراك، والتحكم بالمجتمع بشكل أكبر.
وأصدرت قوات الأمن التابعة للنظام أوامر للاتحادات والنقابات المهنية بإقصاء أعضائها الذين شاركوا فـي الاحتجاجات، ورُفعت التقارير الأمنية بحقهم، وتمت ملاحقتهم وفصلهم وحرمانهم من حقوقهم المالية، وفق “الشبكة السورية لحقوق الإنسان“.
ورغم إلغاء النظام السوري السابق المادة الثامنة من الدستور (التي كرَّست البعث قائدًا للدولة والمجتمع)، بعد إصداره دستور 2012، فإن حزب “البعث” ظل يمارس نفس الصلاحيات والامتيازات والدور الاستعلائي والوصائي على الدولة والمجتمع السوري، من خلال تحكمه بجميع المؤسسات التي يفترض أن تكون منابر لحكم الشعب ومنها النقابات المهنية.
من الناحية القانونية، شكّلت تدخلات حزب “البعث” والنظام السوري السابق في النقابات المهنية مخالفة لحرية العمل النقابي، وكانت انتهاكًا للقانون الدولي والمحلي.
بعد يومين من سقوط نظام بشار الأسد، قال الأمين العام للاتحاد الدولي للنقابات (ITUC)، لوك ترايانجل، إن عائلة الأسد أخضعت على مدى أكثر من خمسة عقود الشعب السوري لقمع وحشي، وحرمت العمال من حقوقهم الأساسية، مضيفًا أن الاتحاد يراقب عن كثب التطورات في البلاد، معتبرًا أن سقوط هذا النظام القمعي فرصة حاسمة للانتقال من عقود من القمع إلى مستقبل قائم على العدالة والديمقراطية.
النقابات من ناحية العمل النقابي
النقابات العمالية: تضم العمال من الطبقة العاملة، ويعرف الأشخاص بـ”ذوي الياقات الزرقاء” (Blue-collar worker)، وعملهم غالبًا يكون يدويًا، ولا تستدعي أعمالهم بالضرورة الحصول على شهادات من المؤسسات التعليمية.
تنشأ النقابة العمالية بموجب كونها تتبع كمؤسسات لقانون العمل، وتعتبر شخصية قانونية من أشخاص القانون الخاص، أي أنها تتبع لحكم قانون العمل كالأفراد، وعضويتها غير إلزامية، أي أن الانتساب للنقابة لا يعد شرطًا لممارسة العمل، وتضفي زيادة أعداد المنتسبين في النقابات العمالية قوة مجتمعية لها وتمكنها من ممارسة عملها بشكل أقوى.
النقابات المهنية: تضم الأفراد الذين يزاولون نفس المهنة، ويطلق على الأشخاص “ذوي الياقات البيضاء”، مثل المحامين والأطباء والمهندسين والمعلمين، ويمتلك أفرادها مؤهلات تعليمية أعلى من النقابات العمالية، وربما معرفة أكثر تخصصًا، أو مستويات أكثر تعقيدًا من التدريب على المهارات.
وتهدف النقابات المهنية إلى تقديم الامتيازات والخدمات لأعضائها، وتنشأ بموجب قانون خاص بها، إذ إنها تتمتع بشخصية قانونية مستقلة وتعتبر من أشخاص القانون العام، أي إحدى المؤسسات العامة في الدولة، ولها استقلاليتها التامة وسلطتها الخاصة، كما أن عضويتها مشروطة باكتساب المهنة وإلزامية.
علاقة موازية بين النقابة والسلطة
الباحثة نسرين جلبي ترى أن العلاقة بين النقابات والسلطة في الحالة الطبيعية تتمثل في كونها علاقة موازية، حيث تعد النقابات مؤسسات مدنية موازية للمؤسسات الحكومية في القضايا التي تتعلق بالشأن العام داخل الدولة.
وقالت الباحثة لعنب بلدي، إن النقابات في الحالة الطبيعية تخضع لقوانين دستورية وليس لتشريعات تصدر عن السلطة التشريعية، وبذلك، تُعتبر النقابات كيانات قانونية مستقلة، تتمتع بشخصية قانونية وإطار عمل مهني وحراك مدني يميزها عن السلطة.
وتخضع النقابات المهنية للقانون العام في الدولة، ما يمنحها الاستقلالية والقدرة على تشكيل مجموعات ضغط مؤثرة على السلطة الحاكمة من خلال تفاعلها المجتمعي. وبذلك، تشكل النقابات جزءًا أساسيًا من العملية الديمقراطية في أي دولة، وفق الباحثة.
تدخّل وإيعاز حكومي للنقابات..
ما رأي القانون؟
صدرت عن حكومة دمشق المؤقتة قرارات متتالية بحل معظم النقابات، وجرى تعيين نقباء ومجالس جديدة، بعضها جاء من نقابات رديفة كانت تعمل في الشمال السوري، مثل “نقابة المحامين الأحرار” أو “نقابة المهندسين الأحرار”، وتسلمت زمام الأمور وباشرت عملها.
وصدرت قرارات بتعيين أشخاص، بعضها تحت مسمى مجالس مؤقتة، إما من رئاسة الوزراء بشكل مباشر مثل حل “اتحاد الصحفيين السوريين” وتعيين لجنة مؤقتة لإعادة هيكلته، أو من وزارات، مثل وزارة الأشغال العامة والإسكان التي شكلت مجلسًا لتسيير الأعمال في نقابتي المهندسين والمقاولين إلى حين انعقاد المؤتمر العام لهما.
بعض النقابات تغيرت كوادرها من رأس الهرم في الجسم النقابي، دون قرار رسمي، ومعظمها انتقل من النقابات التي كانت تعمل شمال غربي سوريا، ثم تسلمت النقابة المركزية في دمشق، أبرزها نقابة المحامين.
وبعضها الآخر، قدم رأس الهرم فيه استقالته، وتسلم النقابة أحد الأعضاء، وبقي على رأس عمله حتى اللحظة، مثل نقابة المعلمين، بينما لم يتغير العدد الأقل من النقابات.
أما في نقابة الفنانين، فأعلن فنانون عن موافقة وزارة الثقافة على تشكيل لجنة تسيير أعمال لنقابة الفنانين بدلًا من أعضائها الحاليين، وضمت اللجنة المؤقتة كلًا من الفنانين منى واصف وعباس النوري وسمر سامي وشادي جميل ومحمد حداقي وزهير أحمد قنوع وصلاح طعمة ونظير مواس، وذلك إلى حين إجراء انتخابات عامة.
وتزامنت التغييرات النقابية مع قرارات بإعادة المفصولين لأسباب سياسية إلى نقاباتهم في معظم النقابات السورية.
الاتحاد الدولي للنقابات (ITUC) دعا إلى انتقال شامل نحو الديمقراطية في سوريا، وقال إن التحول في سوريا يجب أن يتضمن بناء حركة نقابية حرة وديمقراطية ومستقلة قادرة على الدفاع عن حقوق العمال وحرياتهم.
“انتهاك للاتفاقيات الدولية”
بالنسبة لاتحاد الصحفيين، الذي يعد النقابة الممثلة عن قطاع الصحافة في سوريا، فجرى حلّه مباشرة من رئاسة الوزراء، وعيّنت الأخيرة صحفيين كان معظمهم يعمل في الشمال السوري كمستقلين أو في مختلف وسائل الإعلام، وكلّفتهم بتسلم مهام المكتب التنفيذي ومجلس الاتحاد.
بعد حلّ رئاسة الوزراء للاتحاد، وجه الاتحاد الدولي للصحفيين رسالة إلى الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، ورئيس الوزراء بحكومة دمشق المؤقتة، محمد البشير، مطالبًا إياهما بـ”التراجع عن حل اتحاد الصحفيين”.
الاتحاد الدولي اعتبر أن قرار الحل الذي اتخذته الحكومة “تدخل سياسي في شؤون المنظمات النقابية، وانتهاك للاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي صدقت عليها سوريا، بما في ذلك اتفاقيات منظمة العمل الدولية”.
في المقابل، أرسل الاتحاد السوري كتابًا رسميًا لاتحاد الصحفيين الدوليين ردًا على البيان الذي صدر عنه، موضحًا النقاط المتعلقة بشرعية اللجنة الحالية وأهليتها القانونية وخط عملها، وفق ما قاله رئيس اتحاد الصحفيين (المكلّف من رئاسة الوزارة)، محمود الشحود، لعنب بلدي.
وردّ الاتحاد السوري على نظيره الدولي أن إدارة الاتحاد السوري السابقة تعتبر منحلة، حتى قبل صدور قرار رئيس مجلس الوزراء، بحكم تبعيتها لحزب “البعث”، كما أوضح الشحود.
وقال الشحود إن الاتحاد سيفتح قنوات التواصل مع جميع النقابات والاتحادات الصحفية العربية والدولية، وإن اللجنة المكلفة ستدعو إلى مؤتمر عام يتم من خلاله إجراء انتخابات حرّة، ينتج عنها مجلس إدارة ومكتب تنفيذي.
وربط الشحود الدعوة للمؤتمر بتعديل النظام الداخلي للاتحاد، وفتح باب العضوية لانتساب جميع الصحفيين السوريين على امتداد الجغرافيا السورية.
كما اتفقت اللجنة على جدول زمني تعمل عليه حاليًا، ومدته ستة أشهر قابلة للتمديد بحسب القدرة على إنهاء الملفات كافة، وفق ما أفاد الشحود.
تيسير خياطة، وهو أحد المطلعين على سير نقابة الصيادلة المزمع إنشاؤها، أوضح لعنب بلدي، أن إدارة الشؤون السياسية في حكومة دمشق المؤقتة، أوعزت إلى أعضاء في نقابات رديفة “حرة” لتسلم النقابة المركزية.
وقال خياطة، إن المكلّفين سيختارون نقيبًا من ضمنهم، على أن تجري انتخابات في وقت لاحق، دون أن يحدد المدة الزمنية، كما لم يُنشر قرار رسمي على المعرفات الرسمية حتى لحظة التحرير.
وبحسب ما رصدته عنب بلدي، كان الإجراء المتبع من مكتب إدارة الشؤون السياسية بحلّ النقابات وتعيين أشخاص من نقابات رديفة كانت تعمل شمال غربي سوريا قبل سقوط النظام هو المتبع في معظم النقابات السورية، دون إعلان ذلك على وسائل الإعلام الرسمية.
استناد قانوني
تغيير النقابات وإزالة كوادرها التي كان ولاؤها للسلطة القديمة ولحزب “البعث”، لاقى ردود فعل إيجابية لدى الشارع السوري، والنقابي على وجه الخصوص، إلا أنه واجه انتقادات تتعلق بقانونية الحل وتعيين كوادر جديدة، دون الرجوع إلى انتخابات داخلية، واعتبار الأمر تدخلًا في العمل النقابي.
أرسلت عنب بلدي أسئلة إلى عدة جهات في حكومة دمشق المؤقتة وعلى رأسها رئاسة الوزراء، حول آلية حل النقابة والاستناد القانوني لها، إلا أنها لم تتلقّ ردًا حتى لحظة تحرير الملف.
المحامي عارف الشعال، قال لعنب بلدي، إن القرار بحل اتحاد الصحفيين والصادر عن مجلس الوزراء صحيح، وفقًا للقانون السوري المتبع في النظام السابق، إلا أنه افتقر إلى تبيان سبب الحل، إذ لم توضحه الوزارة وفقًا للعرف القانوني.
وبالنسبة للنقابات الأخرى أوضح الشعال أن قرار الحل يجب أن يصدر عن رئاسة الوزراء أيضًا، وفق القوانين السائدة في العهد القديم، وما حصل من حلّ للنقابات الفرعية ضمن نقابة المحامين جاء مخالفًا للقانون السائد.
ونقابة المحامين كانت أولى النقابات التي حلّت بأمر من السلطة التنفيذية، وجاءت “نقابة المحامين الأحرار” التي كانت تعمل في إدلب قبل سقوط النظام، وتسلمت مركزيتها، ثم عمدت النقابة المركزية إلى حل النقابات الفرعية بكل المحافظات وتشكيل بديل عنها.
المحامي الدكتور عبد الرحمن علاف أوضح من جانبه أن النقابة المركزية يحق لها حلّ النقابات الفرعية، في حال حصول أي مخالفة للقانون من خلال انتخابات الهيئة العامة، أو أي إجراءات أخرى.
ووفق علاف، عملت النقابة المركزية على حل النقابات الفرعية باعتبارها كانت منتخبة بشكل غير قانوني وغير أصولي وبعمليات تزوير من خلال النظام السابق وما يتعلق بـ”الاستئناس” الحزبي وشراء الأصوات.
وعندما سقط النظام السابق، وضعت النقابة المركزية الجديدة يدها على النقابات، وأصدرت قرارًا بحل النقابات الفرعية، وفق علاف.
“شرعية ثورية”.. إشراف لضمان انتخابات حقيقية
المحامي الشعال، يرى أنه رغم عدم قانونية حل معظم النقابات الذي من المفترض أن يصدر من رئاسة مجلس الوزراء، فإنه يأتي من شرعية “فعلية/ ثورية”، لهذه الحكومة وفق اصطلاح الفقه القانوني السوري.
وقال الشعال، إنه بسقوط النظام يسقط الدستور، وبالتالي تسقط القوانين التي لا تتلاءم مع نظام الحكم الجديد الذي جاءت به الثورة.
ولفت القانوني الشعال إلى أن المجالس السائدة في نقابة المحامين كانت “سيئة ومنتفعة” بالمجمل، وكانت أذرعًا أمنية بيد حزب “البعث”.
وأضاف أن المجالس النقابية التي شكّلت في عهد النظام السابق أيضًا لم تكن قانونية، إذ جاءت بتعيين من “البعث”، وخالفت القانون باستخدامها أوراقًا مزورة خلال الانتخابات.
الأكاديمي السوري الدكتور أحمد الحسين، قال لعنب بلدي، إن النقابات والاتحادات في زمان الرئيس المخلوع بشار الأسد ووالده حافظ، لم تكن تمثل أصوات الناس المنتمين إليها، بقدر ما تعبر عن قرار السلطة ومنافع محددة لشرائح من أعضاء تلك النقابات.
وأضاف الحسين أن النقابيين والاتحاديين كانوا في الغالب يشعرون أن هناك فرقًا شاسعًا بين ما يريدون وبين ما تقرره قيادات هذه النقابات.
ويعتقد أن حلها أو تجميد عملها كمرحلة أولى سيكون خطوة سليمة، كي تتخلص هذه النقابات مما أسماها “الإرث البائس”، ولأنها غير قابلة للإصلاح.
ومن الحلول التي يراها الحسين للواقع الحالي في سوريا، تعيين قيادات مؤقتة من قبل الحكومة، تشرف عليها بطريقة تضمن وجود انتخابات حقيقية، تفرز قيادات ملائمة لتلك النقابات وتعبر عن صوت المنتمين لها.
“نقابات الشمال”.. حجر أساس
في عهد الثورة السورية، نشأت عدة نقابات وهيئات خارج مناطق سيطرة نظام الأسد، وحاولت ممارسة أدوارها في انتزاع حقوق الفئات التي تمثلها، واصطدمت بعدة عقبات، في ظل وجود سلطات أمر واقع وانتشار السلاح، لكنها شكلت نماذج ونواة للعمل النقابي.
القيادة العامة في سوريا، اعتمدت عقب سقوط نظام الأسد على وزراء حكومة “الإنقاذ” التي كانت عاملة في إدلب، بإدارة الحقائب الوزارية المركزية، وكلّفت محمد البشير رئيسًا لحكومة دمشق المؤقتة.
السيناريو نفسه يعاد تقريبًا بما يخص النقابات، بحسب ما رصدته عنب بلدي، لكن لم تحسم بعد الأسماء التي ستدير النقابات المركزية، وكيفية إعادة النظر في إدارتها، علمًا أنها يجب أن تكون منتخبة، ولا تتدخل الحكومة في عملها.
مناطق سيطرة المعارضة شمال غربي سوريا سابقًا، انقسمت فيها النقابات بين منطقتي السيطرة بعد تشكيل “الإنقاذ” عام 2017 وإدارتها لإدلب وأجزاء أخرى من شمال غربي سوريا، وأصبحت هناك مثلًا نقابة للمحامين بمناطق نفوذ “الحكومة السورية المؤقتة” بأرياف حلب، وأخرى بمناطق نفوذ “الإنقاذ” بإدلب.
تواصلت عنب بلدي مع خمس نقابات عاملة سابقًا في شمال غربي سوريا، وجميعها أكدت عدم وجود وضوح حول مستقبلها بدقة، لكنها أكدت أنها تعمل بالتنسيق مع الحكومة والنقابات المركزية للوصول إلى هيكلية جديدة.
رئيس فرع إدلب لنقابة المعلمين، العاملة في مناطق نفوذ “الإنقاذ” سابقًا، رافع الرحمون، قال لعنب بلدي، إنه كان لدى النقابة مكتب تنفيذي وشعبي وفروع مقسمة حسب التوزيعات الإدارية.
وبعد سقوط النظام، ذهبت الهيئة التأسيسية للنقابة إلى دمشق، والتقت مع وزير التربية في حكومة دمشق المؤقتة، وكلفت الهيئة التأسيسية بالإشراف على عمل النقابة المركزية.
وفق الرحمون، قسمت الهيئة التأسيسية إلى لجان ووزعت على محافظات، لدراسة الواقع في الفروع لتقديم تقاريرها، مشيرًا إلى وجود فساد وعمل غير منضبط في فروع النقابات والنقابة المركزية العاملة بمناطق سيطرة نظام الأسد سابقًا.
وأجرت نقابة إدلب اجتماعًا مع ممثلي الشعب النقابية، وأجريت انتخابات لترميم فرع إدلب، إذ كان هناك نقص في بعض الأعضاء وتم انتخابهم، والآن الفرع في طور الانطلاق، وفق الرحمون.
عضو نقابة الاقتصاديين في ريف حلب، يوسف فيصل كبصو، قال لعنب بلدي، إن النقابة قائمة ويتم التشاور مع بقية النقابات لهيكلية جديدة تضم الجميع.
المحامي أحمد مزنوق، عضو مجلس “نقابة المحامين الأحرار” بحلب سابقًا، ذكر أن محامي النقابة الذين يبلغ عددهم 800 محامٍ، أبدوا استعدادهم لإدارة فرع حلب، ومتابعة العمل النقابي، ومساندة ما يصب في خدمة المصلحة العامة وتحقيق العدالة، مشيرًا إلى امتلاكهم مقرًا متكاملًا ومنظمًا في مدينة اعزاز شمالي حلب.
الخطوط الأساسية لبناء النقابات، وفق المحامي مزنوق، تعتمد على المحامين العاملين على الأرض وزملائهم في المهجر، الذين يحملون على عاتقهم تحقيق العدالة وسيادة القانون، وتحسين واقع معيشة المحامين، وتأهيل وتدريب محامين من الشبان يتابعون عمل أساتذتهم.
الحالة مشابهة لما يحصل في نقابة المعلمين بريف حلب، إذ أوضح نقيب المعلمين، محمد صباح حميدي، أن النقابة تتابع أنشطتها عبر اجتماعاتها الداخلية، والاجتماع مع مديرية تربية حلب، وممثلين عن الإدارة المؤقتة، إضافة إلى تنفيذ بعض التدريبات والورشات الخاصة بالمعلمين.
وقال حميدي لعنب بلدي، إن هناك تواصلًا مع نقابة معلمي حلب السابقة ونقابة إدلب، لكن لم يحصل اجتماع فيزيائي مع النقابات الأخرى، لرسم خطوط إعادة بناء النقابة، بسبب تجميد عمل النقابة المركزية في دمشق.
بعد سقوط النظام، أوقفت إدارات نقابات مركزية عملها، وانسحب أعضاؤها من المشهد، وهو ما دفع الحكومة إلى تكليف أشخاص من قبلها لإدارة هذه النقابات مؤقتًا، كما هو الحال مع نقابة المعلمين، وهو ما قوبل بانتقادات حول شرعية ذلك.
رئيس الهيئة التأسيسية لنقابة المعلمين، خالد الخالد، قال لعنب بلدي، إن النقابة ما زالت في طور إعادة النظر فيها.
وطرحت عنب بلدي أسئلة على الخالد تتعلق بآلية تسيير النقابة وإعادة هيكليتها عبر الانتخابات، وطريقة تكليفه بتسيير أمور النقابة المركزية، وما زالت بانتظار رده.
المحامي أحمد مزنوق، قال لعنب بلدي، إن نقابة “محامي حلب الأحرار” تواصلت مع النقابة المركزية المكلفة مؤقتًا بتسيير أمور المحامين، فالمرحلة الحالية تقتضي أن يكون هناك مجلس مؤقت، إذ لا مجال للانتخابات التي تتميز بها نقابة المحامين.
علاقة متوترة مع السلطة
خلال السنوات السابقة، لم تكن العلاقة بين النقابات وحكومة “الإنقاذ” على أفضل حال، إذ حاولت الحكومة الدفع إلى تشكيل النقابات لكنها تدخلت في عملها.
ومنعت “الإنقاذ”، في حزيران 2020، تأسيس اتحاد عام للنقابات والاتحادات العامة في الشمال السوري، بعد دعوة 12 نقابة في إدلب وحلب إلى اجتماع من أجل تشكيل اتحاد يضم النقابات كافة في المنطقة.
ونتيجة ضغوط “الإنقاذ” المتزايدة، استقال مجلس نقابة المهندسين بإدلب في تشرين الأول 2020.
سياسة الضغط على النقابات تبعتها سياسة دفع نحو تشكيلها من قبل “الإنقاذ”.
وبحسب تحليل نشره مركز “جسور للدراسات” عام 2022، فإن الكفاءات في مناطق سيطرة “الإنقاذ” دفعتها عدة عوامل للتكتل في إطار نقابات وهيئات مستقلة على غرار نقابة “المحامين الأحرار”.
بالمقابل، سارعت “الإنقاذ” لإصدار قرارات رسمية لتشكيل نقابات وهيئات مدنية، وفرضت على النقابات المستقلة تغييرات مناسبة لها كفرض أشخاص محدّدين.
ويعود اهتمام “الإنقاذ” بالنقابات، وفق تحليل “جسور”، إلى أنها فرصة لاستكمال وتعزيز سيطرتها على المنطقة من الجانب المدني ما يعطيها شرعية أكبر، ولتكون قادرة على الاستفادة من أي منح أو مشاريع تقوم تلك النقابات أو الهيئات بتنفيذها.
وواجهت “الإنقاذ” صعوبة في التعامل مع حالات اعتراض فردية وجماعية على قراراتها، لذا سعت لدمج هؤلاء في مؤسسات مدنية مقيّدة بنظم داخلية من صياغتها وفي قيادتها شخصيات تابعة لها، الأمر الذي يعرقل مساعي الحراك المدني المعارض لها ويجعل إدارة المنطقة أكثر سهولة، وفق “جسور”.
أعضاء النقابات واجهوا تدخل “الإنقاذ” باحتجاجات متكررة قدموا خلالها مطالبهم.
في حزيران 2023، نظم مهندسون احتجاجًا أمام مبنى نقابة “المهندسين السوريين الأحرار” بإدلب، احتجاجًا على قرار “الإنقاذ”، يقضي بسحب بعض المهام من النقابة وتنفيذها من قبل مديرية أنشئت حديثًا.
مؤسس فرع نقابة المهندسين في إدلب، المهندس علي غبشة، قال لعنب بلدي حينها، إن القرار 307 يخالف بشكل واضح قانون النقابات المهنية الصادر عن مجلس “الشورى”، والذي يلزم النقابات بتسوية أوضاعها القانونية خلال مدة معينة ويمنع أي جهة ممارسة أعمال النقابات.
“تجارب قابلة للاستفادة لكن لا تكفي”
ترى الباحثة نسرين جلبي أن الاستفادة من التجارب النقابية لا تقتصر على ما بعد الثورة فقط، بل يجب النظر إلى التجربة النقابية في سوريا على مر تاريخها، وتحليل التجاوزات التي ارتكبتها السلطة، وأدت إلى إفراغ العمل النقابي من مضمونه ومنع مشاركته الفعلية في الشأن العام.
وقالت الباحثة لعنب بلدي، إن التجربة النقابية بعد الثورة لم تكن سهلة من حيث القوننة ومحددات العمل، والمسؤوليات التي تقع على عاتق النقابات تجاه أعضائها والمجتمع بشكل عام. ذلك أن التحديات التي فرضها الواقع في “المناطق المحررة” كانت كبيرة، مثل عدم وجود قوانين ناظمة للعمل النقابي في تلك المناطق، فضلًا عن التذبذب بين الحكومات وسلطات الأمر الواقع المختلفة.
وعلى سبيل المثال، فإن النقابات التي تشكلت في المناطق الخاضعة لسيطرة “الجيش الوطني” التابع لـ”الحكومة السورية المؤقتة” كانت من المفترض أن تكون خاضعة لقانون التنظيم النقابي المنصوص عليه في ميثاق الثورة السورية، الصادر عن “الائتلاف الوطني”، أما المناطق الخاضعة لحكومة “الإنقاذ”، فكان من المفترض أن تكون النقابات فيها خاضعة لقانون تنظيم نقابي مختلف.
ورغم ذلك، يمكن الاستفادة من هذه التجارب النقابية التي تشكلت في ظل النزاع، والتي عملت على إعادة ترميم نفسها، ما أكسبها خبرة ومرونة عالية، وفق الباحثة.
وترى جلبي أن هذه النقابات ستلعب بلا شك دورًا مهمًا في التشكيلات النقابية المستقبلية على مستوى سوريا، نظرًا إلى أن هذه النقابات كانت تتمتع باستقلالية في عملها، ومثلت تجربة ديمقراطية في هيكليتها الداخلية.
واعتبرت أن هذه التجربة تعد قابلة للاستفادة منها على الصعيدين المؤسساتي والتأسيسي، رغم أن التشكيلات النقابية التي تخضع لقوانين ثابتة قد تؤثر على مستوى الدولة.
ما المأمول وما الحاجة؟
الأكاديمي السوري الدكتور أحمد الحسين يأمل من النقابات في الفترة الحالية أن تكون نقابات “مطلبية” تعبر عن مطالب المنتمين إليها، وتسهم في إعادة إعمار البلاد وتطويرها، والمشاركة في الندوات والحوارات، وأن تعطي مثالًا للعمل الديمقراطي في سوريا، لا أداة بيد السلطة، وفق تعبيره.
كما يأمل أن تسهم في العمل التطوعي مثل تقديم الاستشارات المجانية.
الباحثة نسرين جلبي ترى أن سوريا في الوقت الراهن تحتاج إلى ترميم مؤسساتها على جميع الصعد، بما في ذلك النقابات، وتواجه تحديات كبيرة في مسألة العمل النقابي، حيث لا يمكن إعادة تفعيل النقابات التي كانت تعمل في ظل النظام السابق، فهي تجربة مريضة على كافة الأصعدة.
وذكرت أنه لا يمكن الاعتماد على تطبيق التجربة النقابية في “المناطق المحررة” على عموم سوريا. لذلك، يعد وجود هيئات مؤقتة أمرًا بالغ الأهمية لإعادة ترميم النقابات مؤسساتيًا وقانونيًا ومدنيًا.
ومن أجل ضمان عمل نقابي شفاف ومؤثر في المستقبل، يجب على هذه الهيئات المؤقتة دراسة التحديات القائمة، وتحليل الواقع النقابي بطريقة منهجية، مع الاستفادة من القوانين السابقة والبيانات الرسمية، كما ينبغي تحديد الفرص المتاحة لتطوير هذه العملية، وفق الباحثة.
وتعتقد جلبي أن الأساس لوجود مؤسسات نقابية حقيقية هو التركيز على معايير أساسية، أهمها:
ضمان انضمام الأعضاء.
تحقيق حالة ديمقراطية داخل كل نقابة وفي الاتحاد.
تأطير العلاقة بين النقابات والسلطة والمؤسسات الحكومية.
ضمان استقلالية النقابات من خلال قوانين دستورية تحميها من تدخل السلطة السياسية في العمل النقابي.
عنب بلدي