سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 23 شباط 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
——————————-
التشاور على الطريقة السورية: نحو طريقة تعددية ومتدرجة لإعادة بناء الدولة السورية/ عمرو نجار
2025.02.23
مع بداية الجولات التي تقوم بها الهيئة التحضيرية للحوار الوطني، واقتراب شهر آذار/مارس وهو الموعد الذي ستعلن فيه تشكيلة الحكومة الانتقالية الجديدة. تتزايد التساؤلات حول طريقة الوصول إلى التعددية السياسية في سوريا.
وبسبب تجارب إقليمية ماثلة أمامهم ينفر معظم السوريين من فكرة المحاصصة أو تقاسم السلطة على أساس “كوتات” أو حصص محددة سلفاً. وغالباً ما يؤدي هذا النوع من المحاصصات إلى جمود سياسي، إذ تحوّلت الحكومات إلى ساحة للصراعات بين الفصائل بدلًا من أن تكون أداة لحلها. كما ينتج هذا النوع من التسويات أنظمة سياسية غير ديمقراطية تتخندق فيها النخب الطائفية والإثنية في المؤسسات في مقابل تعطيل أي تمثيل سياسي مجتمعي فاعل.
من جهة ثانية، يرى كثيرون أن الأولوية في المرحلة الانتقالية يجب أن تكون لتحقيق الأمن واستعادة مؤسسات الدولة قبل فتح المجال لأية عملية سياسية واسعة. هذا الطرح يبدو منطقياً من حيث تجنّب الفوضى، والتركيز على تأمين الخدمات الأساسية للناس وخاصة بعد سنوات طويلة من عدم الاستقرار والركود الاقتصادي والعقوبات.
ولكن في نفس الوقت، قد يكون الانتظار حتى نهاية المرحلة الانتقالية لإطلاق الحياة السياسية محفوفاً بالمخاطر. فمن دون مسارٍ سياسي واضح، قد تصبح السلطة التنفيذية مهيمنة على القرار، مما يزيد من حالة عدم الثقة ويفتح المجال أمام أزمات جديدة.
بين هذين الطرحين – التقاسم المبكر للسلطة أو تأجيل العملية السياسية – تبرز الحاجة إلى مسار متدرّج Gradual يجمع بين الاستقرار السياسي والتطور والانفتاح التدريجي للمؤسسات. هذا النهج يسمح بتوسيع المشاركة السياسية بالتوازي مع تعزيز الأمن وبناء مؤسسات قادرة على إدارة العملية الانتقالية. فبدل الذهاب فوراً إلى انتخابات شاملة أو فتح المنافسة السياسية بشكل كامل، يجب البدء بإعلان آلية تضمن إشراك القوى السياسية بطريقة مدروسة، تمنع الفوضى وتؤسس لمرحلة انتقالية أكثر استقراراً.
التدرج أم إعطاء الأولوية لبناء المؤسسات
في حين سيطرت فكرة الانتخابات السريعة على الحالات الانتقالية في التسعينيات وخلال العقد الأول من الـ 2000 واعتبرت الانتخابات خطوة ضرورية لضمان التعددية وكسب الشرعية، ركنت التجارب الانتقالية في العقد الأخير إلى الابتعاد عن هذا التسرع الذي قد يؤدي إلى نتائج عكسية. عندما تكون الأوضاع الأمنية غير مستقرة، فالانتخابات والمنافسة السياسية لا تسهم في بناء الديمقراطية بقدر ما تفتح الباب أمام مزيد من الفوضى والصراعات.
ويدور نقاش مستمر ضمن حقل دراسات التحول السياسي، حول التسلسل Sequencing الأمثل لعملية الانتقال من النزاع إلى الاستقرار السياسي. يذهب بعضهم إلى أن الأولوية يجب أن تُعطى لبناء مؤسسات الدولة قبل السماح بعملية سياسية واسعة. ويستند أنصار ما يعرف بـ “بناء المؤسسات قبل الانفتاح السياسي” (Institutionalization Before Liberalization – IBL)، إلى أن أي انفتاح سياسي قبل ترسيخ المؤسسات القادرة على استيعاب التنافس الديمقراطي سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار بدل تحقيق الديمقراطية. يجادل هذا التيار بأن الدول الخارجة من نزاعات تحتاج أولاً إلى مؤسسات تنفيذية قوية، ونظام قانوني مستقر، وآليات فعالة لضبط الخلافات قبل التفكير في أي انفتاح انتخابي أو سياسي. تستند هذه الحجة إلى تجارب مثل أنغولا (1992) وليبيريا (1997)، حين أدت الانتخابات المبكرة إلى تجدّد النزاع المسلح بدل تحقيق الاستقرار.
في المقابل، يرى تيار آخر أن تأخير العملية السياسية بحجة بناء المؤسسات قد يؤدي إلى ترسيخ حكم غير خاضع للمساءلة. هذا النموذج، ينطلق من فرضية أن تركيز السلطة في يد حكومة مؤقتة غير منتخبة لفترة طويلة قد يعزز منطق السلطوية ويؤدي إلى إطالة أمد المرحلة الانتقالية من دون الوصول إلى نتائج واضحة.
نجاح المرحلة الانتقالية في سوريا لا يكمن في مجرد إطلاق مفاوضات سياسية عامة بين الأطراف الفاعلة، بل في بناء آليات تشاور منظمة تضمن اللاعبين السياسيين، ممثلين عن المجتمع المدني، وأن يكون كل ذلك مدعماً بتقارير الخبراء والهيئات الاستشارية.
لكن بين هذين النموذجين – إعطاء الأولوية لبناء المؤسسات، أو الانفتاح السياسي المبكر – برزت مقاربة ثالثة تقوم على التدرج السياسي الموجّه Gradualist Approach، وهو نهج يوازن بين ضرورة توطيد الأمن وتقديم الخدمات وتعزيز المؤسسات وبين السماح بفتح المجال السياسي وفق معايير مضبوطة. بحيث يرى أنصار هذا النهج أن التدرج يسمح ببناء مؤسسات قادرة على استيعاب التعددية والتدرج لا يعني تقاسم السلطة في صيغ محاصصة غير فعالة، ولا يعني القفز مباشرة نحو انتخابات شاملة. بل هو مسار يقوم على توسيع تدريجي للحياة السياسية، بحيث يتم إشراك القوى السياسية وفق مراحل متتالية تضمن عدم تحول التنافس السياسي إلى عامل يهدد الاستقرار. وبحيث تتحول الفترة الانتقالية إلى عملية إعادة تشكيل تدريجية للمجال السياسي المفقود في البلاد منذ عقود حتى لا يكون مصدراً للصراع، بل وسيلة لحلّه.
وهنا بالتحديد يبرز دور عمليات آليات التشاور Consultative Mechanisms المنظمة والواسعة، فقد أثبتت التجارب السابقة أن المشاورات الوطنية، إذا تم تنظيمها بشكل صحيح، تسهم في تحقيق إجماع حول النظام السياسي الجديد، مما يقلل من احتمالات الانقسام مستقبلاً.
ولكن كيف تعمل آليات التشاور؟
على الرغم من أن التشاور يمثل أحد أهم الآليات لضمان انتقال سياسي مستقر، إلا أنه ليس عملية سهلة أو مضمونة النتائج. ففي العديد من التجارب السابقة، تحوّلت آليات التشاور من أداة لتحقيق الاستقرار إلى ساحة صراع بين القوى السياسية، حيث استُخدمت من قبل بعض الأطراف لترسيخ نفوذها بدلاً من التوصل إلى توافق وطني حقيقي. ولذلك يمكن الجزم أن نجاح التشاور يعتمد بشكل أساسي على ثلاثة عوامل: 1) مشاركة الفرقاء والقوى السياسية في البلاد 2) إشراك المجتمع الأهلي والمدني بشكل فاعل 3) مستوى عالٍ من الشفافية الإعلامية خلال العملية التشاورية.
التوازن بين النخب والمجتمع: من يحق له المشاركة؟
سياسياً، إحدى المعضلات التي تعترض أية عملية تشاور وطني هي تحديد المشاركين المدعوين إلى طاولة الحوار وتحديد التوازن بين ما يسمى بالنخب السياسية من جهة والمجتمع من جهة أخرى.
يستخدم مصطلح “النخب” Elites في هذا السياق للإشارة إلى الأطراف العسكرية التي لها وجود على الأرض أو القوى السياسية التي شاركت بشكل أو بآخر في الثورة أو في العملية السياسية خلال السنوات السابقة وأصبح لها وزن سياسي وعسكري وهرمية قيادية هو الأمر الذي يدفع إلى تصنيفها ضمن النخب الفاعلة. وخلال فترة الانتقال السياسي، تكتسب هذه النخب دوراً أساسياً في إنجاح أو إفشال العملية السياسية الانتقالية.
فمن حيث المبدأ، كلما كانت العملية شاملة للنخب، زادت فرص نجاحها، لكن محاولة إشراك الجميع قد تتحوّل إلى عامل تعطيل بدلًا من أن تكون وسيلة لتحقيق الاستقرار. لأن إشراك جميع الفاعلين السياسيين، بمن فيهم الجماعات التي ليس لديها التزام واضح بالعملية الانتقالية، قد يسمح بعرقلة الحوار بدلاً من دفعه إلى الأمام. وتاريخياً، عانت بعض الدول من انهيار المفاوضات بسبب مشاركة ما يسمى بالـ “Spoilers”، أو الجهات التي تستفيد من الفوضى أو التي لا ترى في الحل السياسي مصلحة لها ولذلك كان من الأفضل استثناؤها.
في المقابل، قد تؤدي سياسات الإقصاء غير المدروسة إلى خلق معارضة خارج النظام الانتقالي، مما يهدد الاستقرار على المدى الطويل. لذا، لا بد من وضع معايير واضحة وشفافة للمشاركة توازن بين تحقيق الشمولية ومنع تعطيل العملية السياسية.
كيف تسيطر النخب على مسارات التشاور؟
رغم أن هذه “النخب” هي من دون شك جزء من الحل، إلا أنها كثيراً ما تكون جزءاً من المشكلة أيضاً. إذ تمتلك أدوات عديدة للسيطرة على المشاورات وتوجيه نتائجها لصالحها. وأحد أكثر التكتيكات التي تتبعها هذه النخب شيوعاً هو التحكم في من يصل ومن يشارك بالعملية السياسية حيث تتولى أمر تحديد من يشارك ومن يتم استبعاده، مما يضمن أن يكون الحوار موجّهاً لصالحها، فتتحول المشاورات إلى تثبيت حكم هذه النخب والمحاصصة بينها بدلاً من أن تكون وسيلة لإعادة فتح الحياة السياسية.
التلاعب بالمعلومات يمثل أداة أخرى للهيمنة على المشاورات. فعبر التحكم في وسائل الإعلام والخطاب السياسي، تستطيع النخب تقديم صورة معيّنة عن العملية، إمّا لتضخيم شرعيتها أو لإضعاف المعارضة التي قد تنشأ ضدها. في بعض الحالات، يتم تضليل الجمهور عبر تسويق المشاورات على أنها شاملة وديمقراطية، في حين تكون في الواقع محصورة ضمن دائرة ضيقة من الفاعلين الذين لا يمثلون سوى جزءا من القوى السياسية الفاعلة. إذ يتم تحويل مشاركة المجتمع المدني والأهلي إلى مشاركة رمزية تعرف باسم Tokenism، وهي ممارسة يتم فيها إشراك بعض الفئات بشكل رمزي فقط، من دون منحهم القدرة الفعلية على التأثير في القرارات النهائية. في هذه الحالة، تُستخدم المشاورات كأداة لإضفاء شرعية شكلية على قرارات مُسبقة، مما يجعلها مجرد واجهة لإعطاء الانطباع بوجود مشاركة واسعة، في حين تبقى السلطة الحقيقية محتكرة بيد قلة من الفاعلين السياسيين. هذه الممارسة لا تؤدي فقط إلى إضعاف المشاورات، بل تسهم أيضاً في فقدان الثقة في العملية الانتقالية برمّتها، مما يزيد من احتمالات الفشل السياسي وعدم الاستقرار.
لكي يكون الانتقال السياسي في سوريا مستقراً وقابلاً للاستمرار، يجب أن يُصمم بشكل تدريجي ومدروس، بحيث يراعي المتطلبات الأمنية والسياسية، ويضمن توسيع المشاركة وتحقيق التوازن بين إشراك الفاعلين السياسيين من جهة، وإشراك فعاليات وقوى سياسية واجتماعية جديدة منبثقة من المجتمع من جهة ثانية.
العراق: نموذج للتشاور الفاشل
تُعتبر التجربة العراقية بعد 2003 مثالاً واضحاً عن كيف يمكن لعملية تشاور غير متوازنة أن تؤدي إلى عدم الاستقرار على المدى الطويل. فبدل أن يكون الانتقال السياسي في العراق مبنياً على توافق وطني واسع، تم إقصاء عدد من الفاعلين الأساسيين، خصوصاً المكون السني، من العملية السياسية، مما ولّد شعوراً واسعاً بأن النظام الجديد لا يمثل جميع العراقيين.
لم تقتصر المشكلات على إقصاء فاعلين سياسيين مهمين محسوبين على النخب، بل شملت أيضاً غياب الشفافية في آليات التشاور. فاللجنة التحضيرية التي أُوكلت إليها مهمة الإشراف على العملية السياسية عملت بسرّية تامة، ولم تكن هناك آليات واضحة لمساءلتها أو ضمان التزامها بالمعايير الديمقراطية. نتيجة لذلك، خرجت العملية الدستورية بمؤسسات مشكوك في شرعيتها، مما أدّى لاحقاً إلى موجات من العنف السياسي وعدم الاستقرار الدائم.
ما حدث في العراق يقدّم درساً واضحاً: التشاور لا يمكن أن يكون مجرد إجراء شكلي، ولا يمكن أن يُدار بمنطق الإقصاء والتلاعب. فلكي تنجح عملية التشاور، يجب أن تكون شاملة بحدود واضحة، شفافة في إدارتها، وملتزمة بمخرجات قابلة للتنفيذ.
جنوب أفريقيا: نموذج للتشاور الناجح
على الجانب الآخر، تقدم تجربة جنوب إفريقيا نموذجاً مهماً، حيث لم تكن المشاورات مقتصرة على الفاعلين السياسيين فحسب. فقد نجحت محادثات CODESA في جمع قادة الحركة المناهضة للفصل العنصري والحزب الحاكم وغيره من المنظمات المجتمعية لمعالجة القضايا الخلافية قبل إجراء الانتخابات. وتم تصميم عملية تشاورية وطنية مكّنت قطاعات واسعة من المجتمع من المساهمة في صياغة الدستور، مما عزز من قبول العملية الانتقالية ومنع احتكارها من قبل نخب محددة.
المشاورات على الطريقة السورية
لكي يكون الانتقال السياسي في سوريا مستقراً وقابلاً للاستمرار، يجب أن يُصمم بشكل تدريجي ومدروس، بحيث يراعي المتطلبات الأمنية والسياسية، ويضمن توسيع المشاركة وتحقيق التوازن بين إشراك الفاعلين السياسيين من جهة، وإشراك فعاليات وقوى سياسية واجتماعية جديدة منبثقة من المجتمع من جهة ثانية، وحماية العملية من الفشل بسبب فقدان الأمن والخدمات في البلاد، وسوء إدارة العملية الانتقالية أو التنافس غير المنضبط داخلها من جهة ثالثة. وبناءً على التجارب السابقة، يمكن تحديد عدد من المبادئ الأساسية التي يجب أن تحكم هذا المسار.
البداية مع “النخب”: مفاوضات منظمة بين الفاعلين السياسيين الأساسيين
يوصى بأن تبدأ المشاركة السياسية بشكل تدريجي، بحيث تكون المرحلة الأولى مخصصة لبناء تفاهمات أولية بين القوى الفاعلة سياسياً. لا يعني ذلك اقتصار المرحلة الانتقالية على النخب، لكنه يعني أن أية محاولة لإطلاق عملية سياسية واسعة قبل تحقيق حد أدنى من التفاهم بين الفاعلين الرئيسيين قد تؤدي إلى شلل سياسي وانقسامات حادة تؤثر على المرحلة الانتقالية برمتها.
فقد قدمت التجربة الليبية مثالاً واضحاً على مخاطر القفز إلى العملية الانتخابية قبل بناء تفاهمات بين القوى السياسية والعسكرية. فغياب إطار مشترك بين الفاعلين أدى إلى مشهد سياسي غير مستقر، حيث تنافست الحكومات على الشرعية من دون وجود مرجعية واضحة لحل النزاعات السياسية.
توسيع المشاركة تدريجياً ليشمل المجتمع المدني والجمهور
بعد تحقيق الحد الأدنى من الاستقرار في المشهد السياسي، يجب أن تتوسع العملية الانتقالية لتشمل المجتمع المدني والجهات الفاعلة غير الحكومية. والمشاركة المدنية لا تعني أن يكون لكل طرف محلي دور مباشر في الحكم الانتقالي التنفيذي، لكنها تعني أن يكون للمجتمع أدوات حقيقية للتأثير في العملية السياسية، عبر منصات تشاورية تتيح نقاشاً واسعاً حول القضايا الأساسية للانتقال.
إن إشراك المجتمع المدني ضروري للحفاظ على شرعية العملية السياسية، لكنه يجب أن يتم ضمن إطار يسمح بمشاركة منظمة، وليس مجرد إضافة أصوات غير مؤثرة. ففي نموذج جنوب أفريقيا لم تكن المشاورات مقتصرة على الفاعلين السياسيين، بل تم تصميم عملية تشاورية وطنية مكّنت قطاعات واسعة من المجتمع من المساهمة في صياغة الدستور، مما عزز من قبول العملية الانتقالية ومنع احتكارها من قبل نخب محددة.
الإعلام وتوافر المعلومات شرط أساسي
واحدة من أهم المشكلات التي تواجه عمليات الانتقال السياسي هي غياب الشفافية وضعف تدفق المعلومات، مما يخلق بيئة من عدم الثقة ويجعل العملية التشاورية عرضة للتلاعب والتضليل. ولضمان نجاح المرحلة الانتقالية، يوصى بنشر الوثائق والمقترحات السياسية للجمهور بدلاً من إبقاء المداولات محصورة في دوائر مغلقة. كما يوصى بإطلاق منصات إعلامية رسمية لمتابعة عملية الانتقال. أخيراً، لا بد كم ضمان حرية الوصول إلى المعلومات، بحيث يتم تمكين المجتمع من متابعة العملية التشاورية وفهم معايير إشراك الأطراف واتخاذ القرارات.
وضع معايير واضحة لاختيار المشاركين في المشاورات
العملية التشاورية يجب ألا تكون انتقائية، لكنها في الوقت ذاته لا يجب أن تكون مفتوحة بشكل يؤدي إلى تعطيلها أو فقدان فعاليتها. المشاركة يجب أن تستند إلى معايير واضحة ومعلنة تضمن تمثيلاً حقيقياً للفاعلين السياسيين من دون السماح باستخدامها كأداة للتعطيل. بحيث تتولى اللجان التحضيرية اختيار المشاركين على أساس شروط معلنة مثل التأكيد على رفض العنف كوسيلة لتحقيق الأهداف السياسية واختيار فعاليات سياسية قادرة على تمثيل شرائح سياسية واجتماعية محددة، تكون قادرة أن تنطق باسمها، وأخيراً أن تتعهد الأطراف المشاركة بالالتزام بنتائج التشاور كإطار ناظم للعملية الانتقالية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الاستفادة من التجارب التشاورية التي جرت في حالات انتقالية مشابهة هو أمر بالغ الأهمية. لما في هذه التجارب من دروس يمكن الاستناد إليها منها في حالة الانتقالات الناجحة نسبياً (بوروندي وألبانيا حيث تم دعم العملية السياسية ببرامج مدنية ضمنت أن المجتمع لم يكن مجرد متفرج بل كان جزءاً فاعلاً في العملية الانتقالية). أو الفاشلة نسبياً كالعراق وتيمور الشرقية (حيث وقع فشل مزدوج مع النخب ومع المجتمع وهو الأمر الذي أضعف شرعية العملية الانتقالية لاحقاً).
ضرورة الاستعانة بلجان الخبراء
لضمان أن تكون آليات التشاور فعالة وتحقق نتائج ملموسة في سوريا، لا يكفي أن تُختزل في حوارات سياسية بين الأطراف الفاعلة، بل يجب أن تُبنى على هياكل مؤسسية واضحة تُسهم في إدارة عملية الانتقال بشكل منظم وتدريجي، مما يمنع الاحتكار السياسي ويضمن توسيع المشاركة بشكل عملي ومدروس.
وعليه، يمكن تصنيف آليات التشاور إلى مستويات متكاملة، حيث يسهم كل نوع من اللجان في تحقيق أهداف محددة تخدم الاستقرار وبناء المؤسسات:
فرق العمل الخاصة (Task Forces): تُشكَل هذه الفرق بشكل مؤقت لمواجهة التحديات العاجلة، مثل إعادة هيكلة الاقتصاد السوري أو إصلاح الأجهزة الأمنية، على غرار تجربة جنوب أفريقيا في ضبط المرحلة الانتقالية اقتصادياً عبر فرق متخصصة.
اللجان الموضوعية (Thematic Committees): تُعنى هذه اللجان بالقضايا الجوهرية ذات المدى المتوسط، مثل صياغة الدستور، إصلاح القضاء، والسياسات الاجتماعية، مستفيدة من تجربة نيبال في إنشاء لجان متخصصة لضمان شمولية العملية الدستورية.
لجان الخبراء الاستشارية (Expert-Led Advisory Groups): تضم هذه اللجان متخصصين وأكاديميين في مجالات مثل الاقتصاد، القانون، والإدارة العامة، بهدف تقديم توصيات مبنية على دراسات وأبحاث علمية، كما حصل في كوسوفو بعد عام 1999، حيث أسهمت هذه اللجان في صياغة سياسات إعادة الإعمار.
دمج هذه الآليات في المشهد السوري يضمن نهجاً مرناً ومتدرجاً يسمح بتحقيق الإصلاحات من دون القفز مباشرة إلى انتخابات غير محسوبة العواقب. فمن خلال فرق العمل الخاصة، يمكن معالجة القضايا العاجلة وإعادة بناء القطاعات الحيوية، في حين تتيح اللجان الموضوعية وضع أسس إصلاح المؤسسات وضبط العملية الدستورية بعيداً عن التجاذبات السياسية. أما لجان الخبراء، فتضمن أن تكون القرارات مبنية على معايير علمية لا على مصالح آنية، مما يعزز الاستقرار ويمهد لانتقال ديمقراطي أكثر رسوخاً.
الخلاصة: تشاور منظم وليس مفاوضات عامة
إن نجاح المرحلة الانتقالية في سوريا لا يكمن في مجرد إطلاق مفاوضات سياسية عامة بين الأطراف الفاعلة، بل في بناء آليات تشاور منظمة تضمن اللاعبين السياسيين، ممثلين عن المجتمع المدني، وأن يكون كل ذلك مدعماً بتقارير الخبراء والهيئات الاستشارية. وتسهم العملية المتدرجة في بناء الثقة وتعزيز التعاون والانفتاح السياسي التدريجي. هذا النهج التراكمي يضمن أن يكون التشاور أكثر من مجرد إجراء رمزي، إذ يتم تعزيز الشعور بالمسؤولية المشتركة، حين تكون معظم مخرجات المشاورات ملزِمة وقابلة للتنفيذ من خلال آليات متابعة واضحة. ويتم نشر تقارير شفافة عن تقدم العملية ويتطور هذا التشاور إلى مسار حقيقي لإعادة بناء الدولة.
تلفزيون سوريا
——————————-
رئيس وزراء سوريا القادم.. وسيناريوهاته الأربعة/ إياد الجعفري
الأحد 2025/02/23
من المغري تصوّر سيناريو أن يستيقظ السوريون في صباح أحد أيام مطلع آذار/مارس المقبل على خبر تكليف رجل الأعمال السوري- البريطاني، أيمن أصفري، بتشكيل الحكومة السورية الجديدة.
وقبل الخوض في غياهب هكذا سيناريو، لا بد من الإشارة إلى النفي المتداول لهذا الاحتمال، نقلاً عن مصادر مقرّبة من أصفري نفسه. لكن انفتاح مسؤولي الإدارة السورية الجديدة في دمشق على رجال الأعمال السوريين، ولقاءاتهم المتكررة معهم، أنعشت تصوّرات مبنية على هذا السيناريو. سيناريو أن يتولى تشكيل الحكومة المرتقبة، رجل أعمال سوري من طراز رفيع.
يمكن أن نقول، بالفم الملآن، إن كثيراً من الآتي في سوريا يتوقف على تركيبة الحكومة المقبلة، وهامش استقلاليتها. ونتفق في ذلك مع تصريح المبعوث الأممي الخاص بسوريا، غير بيدرسن، الذي قال مؤخراً إن تشكيل حكومة شاملة خلال الأسابيع المقبلة سيساعد في تحديد ما إذا كان سيتم رفع العقوبات الغربية في ظل جهود إعادة الإعمار. وفيما نتوقع أن بيدرسن يقصد أن تتضمن الحكومة المأمولة شخصيات ممثلة لمختلف مكونات الطيف السوري، تماشياً مع مطالب دول غربية وأطراف إقليمية، نضيف من جانبنا، البعد الذي لا يقل عن ذلك أهمية، وهو أن تتضمن تلك الحكومة شخصيات تملك القدرة على وضع سوريا على سكة التعافي من القاع الاقتصادي السحيق الذي وصلت إليه.
وإن أردنا تصوّر المُنتَظر لتركيبة هذه الحكومة، فسنكون أمام أربعة سيناريوهات، لكل منها إيجابياتها وسلبياتها، بطبيعة الحال. ولنبدأ بأكثر السيناريوهات طموحاً، ذاك الذي لفتنا إليه في مطلع مقالنا، أن يقود الحكومة المقبلة، رجل أعمال من وزن أيمن أصفري، أو وليد الزعبي، أو موفق قداح، أو أنس الكزبري، أو أي اسم آخر من أسماء كبار المطوّرين العقاريين والمستثمرين الصناعيين والماليين السوريين الناشطين على المستوى الإقليمي أو الدولي. وتتوقف فاعلية هكذا سيناريو، على مقدار الهامش الذي سيتمتع به رئيس الحكومة في اختيار تشكيلة الوزراء العاملين معه من جانب، وفي إدارة المشهد الاقتصادي السوري بأريحية كبيرة، من جانب آخر. فإن لم يتحقق هذان الشرطان، فلن يكون من معنى لتولي رجل أعمال من الوزن الثقيل، لرئاسة الحكومة. أما إن تحققت هذه الشروط، فإننا قد نكون أمام قفزة نوعية إلى الأمام، عبر فتح أبواب أكبر نحو الغرب ودول الإقليم على الصعيد الاقتصادي- الاستثماري، والسياسي، في آن.
كما أن لهذا السيناريو، انعكاسات ذات احتمالية مرتفعة، على صعيد توافر حياة سياسية نشطة في سوريا. ذلك أنه من الصعب تشكيل تكتل صلب من رجال الأعمال، وسيكون التنافس بينهم، في مجال الاستثمار، وانعكاساته السياسية، رافعة لحرية صحافية واعدة وتنافس حزبي، من طراز ذاك الذي كان قائماً في سوريا، في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، حينما انقسمت البورجوازية السورية بين حزبَي الشعب والوطني، وتنافسا على السلطة، بأدوات سياسية اعتمدت المساومات والحلول الوسط، مع فعالية كبيرة لأثر صندوق الاقتراع. في مقابل إيجابيات هذا السيناريو، له ما له من سلبيات، قد يكون أبرزها، ذات السلبية التي عانى منها السوريون في خمسينات القرن الماضي، وهي عدم الاستقرار السياسي، وتدخل العسكر في السياسة عبر الانقلابات المتتالية، متذرعين بصراعات الساسة من الطبقة البورجوازية. وهذه السلبية تملك احتمالية مرتفعة للتحقق اليوم، أيضاً.
أما إن انحرف هذا السيناريو باتجاه مختلف، فقد نجد أنفسنا أمام تحالف سلطوي مكوّن من الأثرياء برفقة الممتلكين للنفوذ العسكري والأمني. أي سنكون أمام “أوليغارشية” قد تعيد إنتاج ذات النتائج التي عشناها في عهد النظام المخلوع. أما إن ذهب هذا السيناريو إلى أقصاه المطلق، وامتلك رجال الأعمال الأثرياء اليد العليا في السلطة، على حساب العسكر، فقد يتشكّل حينها حكم “بلوتوقراطي”. أي حكم القلّة الثرية بصورة مباشرة. ولهذا الصنف من الحكم، آثار اجتماعية سلبية على المدى البعيد. لكن دعونا لا نذهب بتخيلاتنا إلى هذا الحد، فسيبقى للعسكر كلمتهم في سوريا، في السنوات القليلة المقبلة، من دون شك. وقد تكون الأولوية، والتحدي الأكبر، اليوم، هو لجم نفوذ العسكر في السياسة والاقتصاد، وحصر أدوارهم بالجانب الأمني.
لذلك، فإن سيناريو آخر، طموح أيضاً، لكنه أقل إطلاقاً لناصية الخيال، قد يقودنا إلى حكومة تكنوقراط. التحدي الأكبر لنجاح هكذا سيناريو، هو أن تكون حكومة التكنوقراط تلك، هي الحاكمة فعلاً. بمعنى، ألا نعيش التجربة ذاتها التي عشناها في عهد الأسدين، حينما كان يتم الإتيان بشخصية فنية رفيعة المستوى، من الخارج -من البنك الدولي مثلاً، أو من إحدى المؤسسات البحثية الدولية- ليتم تسليمها موقعاً وزارياً هاماً، قبل أن يتم تقييدها، بتدخلات شبه يومية من المتنفذين في السلطتين الأمنية والعسكرية. أن تتمتع حكومة التكنوقراط من الفنيين المتخصصين، باستقلالية عالية عن السلطة السياسية- العسكرية- الأمنية، هو الضمان لفاعلية هكذا حكومة. وهي ستكون قادرة بالفعل، على وضع البلاد على سكة التعافي.
أما السيناريو الثالث، فهو الذهاب إلى حكومة ظاهرها تكنوقراطي، وباطنها أقرب للمحاصصة، بمضمون طائفي وفصائلي، بغية تلبية مطالب الخارج بتمثيل كافة مكونات السوريين من جهة، وتلبية مطالب الحلفاء في السلطة بتمثيلهم جميعهم في تركيبة الحكومة، من جهة أخرى. وهي وصفة مجرّبة في العراق ولبنان، ونتائجها جليّة في البلدين. ونراهن أن إدارة الرئيس أحمد الشرع، لن تذهب بهذا الاتجاه، وفق تصريحات مباشرة من مسؤوليها، تكشف أنهم يدركون خطر التورط في لعنة المحاصصة. وإن كانت المخاوف تبقى مبررة، بناءً على المحاصصة الجلية في توزيع مناصب المحافظين على شخصيات تمثّل الفصائل الحليفة للفصيل الرئيس في السلطة.
أما السيناريو الرابع، فهو الذهاب إلى حكومة ظاهرها تكنوقراطي، وباطنها يمثّل النواة الضيقة في رأس هرم السلطة القائمة اليوم في دمشق.. على غرار الحكومة القائمة حالياً، المستنسخة من حكومة “الإنقاذ” في إدلب. هكذا سيناريو، حتى لو طُعّم ببضع شخصيات من خارج هذا “اللون الواحد”، يعني أن السلطة القائمة لم تفهم حجم التحدّي المتمثّل في إدارة بلدٍ كسوريا، وبالحالة التي هي عليها اليوم. وبطبيعة الحال، سيكون لهذا السيناريو نتائجه السلبية الكبيرة في مدى زمني قريب.
من جانبنا، نعتقد أن السيناريو الثاني، حكومة التكنوقراط، هو الأقرب للتحقق بناء على المعلومات المتاحة عن اللقاءات مع خبراء ورجال أعمال سوريين، والتي توحي بإدراك السلطة الحالية أن التحدي الاقتصادي السوري أكبر من قدرات “فريقها المنسجم”. ومن جانب آخر، سيناريو حكومة التكنوقراط، هو الأكثر واقعية. إذ نستبعد أن تكون السلطة القائمة على استعداد لإشراك شخصيات في دائرة صنع القرار، من طراز رجال الأعمال السوريين ذوي الوزن الإقليمي أو الدولي.
وفي الختام، لا يمكن لحكومة التكنوقراط، أو أي حكومة أخرى مقبلة في سوريا، أن تفعل الكثير، إلا إن توفر شرط أساسي، غاب تماماً عن كل حكومات سوريا ورجالاتها، في عهد الأسدين. وهو هامش استقلالية مرتفع، في مواجهة الممسكين بالقوة العسكرية والأمنية في البلاد.
المدن
——————————
عن خريطة مؤتمر الحوار الوطني في سورية/ رضوان زيادة
23 فبراير 2025
الحوار آلية أساسية من آليات حل النزاعات في المجتمعات المنقسمة (Divided Societies)، أي المجتمعات التي تمتلك خطوط صراع طائفي أو عرقي أو إثني أو سياسي، كما هو الحال في سورية، حيث هناك نزاع، فاعلاً كان أم خامداً بين الطوائف أو بين الإثنيات (في مقدّمتهم الكرد) والقوى السياسية المختلفة. ولذلك يلعب الحوار بوصفه آلية سياسية – اجتماعية دوراً محورياً في نزع فتيل هذه الصراعات الخامدة، ويمنعها من التحوّل إلى صراعات علنية، مسلحة كانت أم تهديداً سياسياً عبر التظاهرات في الشارع، مع خطورة هذا الشكل من الاحتجاجات التي من شأنها أن تقود إلى انقسامات اجتماعية أكثر حدّة، ثم تأخذ أشكالاً أكثر عنفاً وراديكالية، مثل حمل السلاح ضد الحكومة الشرعية التي يجب أن تحتكر العنف، ويكون لها، في الوقت نفسه، القدرة على استيعاب المكونات السياسية والاجتماعية المختلفة كي لا تدخل البلد في اضطرابات تعيق عملية الاستقرار وتؤخر عملية البناء السياسي والديمقراطي والتنموي.
… منذ اليوم الأول لتشكيلها، قوبلت اللجنة التحضيرية للحوار الوطني السوري بارتياح سياسي ومجتمعي كبير، ولعب الإعلام دوراً رئيسياً في حسن تلقي هذه اللجنة ودورها وأعضائها، فمن المهم التركيز على “وطنية” اللجنة ودورها، كي تكون قادرة على القيام بمهامها ودورها على أحسن وجه وتحقيق الغاية التي يهدف إليها مؤتمر الحوار. لذلك من المهم التركيز على الدور السياسي الوطني الذي تقوم به اللجنة، وليس البعد التقني فقط (يعني استلام قوائم الأسماء واقتراح أسماء الأعضاء)، فكما سبقت الإشارة، الدور السياسي لفكرة الحوار المنظم الذي تقوده الإدارة السورية الجديدة حالياً أهم بكثير من مجرّد عقد مؤتمر للحوار، فهذا الحوار يجب أن يكون حرّاً ومفتوحاً، يشارك فيه كل السوريين على اختلاف طوائفهم وعرقياتهم وميولهم السياسية والاجتماعية، وهو ما يحقق الهدف السياسي المنوط بالحوار، تخفيف الصراعات السياسية ونزع فتيل الخامد منها، في المرحلة الانتقالية، وإشعار السوريين بأن الإدارة السياسية الجديدة ترغب بالاستماع منهم جميعاً، وأنها تهتم بآرائهم، وتهمها مشاركتهم جميعا في المرحلة الانتقالية، بهدف مشاركة الكل السوري في تحقيق الاستقرار والتنمية. وهو ما يعني تثبيت شعار الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن
shall have a new birth of freedom and that” government of the people, by the people, for the people، ويعني أن “الحكومة الجديدة تمثل ولادة حرّية جديدة لحكومة من الشعب، يشكلها الشعب، وتهدف إلى خدمة الشعب”.
وتهدف عملية الحوار إلى أكبر مشاركة مجتمعية ممكنة، ولذلك يجب عدم اختصارها أو تقصيرها، فكلما طالت عملية الحوار المجتمعية، حققت الأهداف السياسية المنوطة بها. ولذلك يجب أن يستمر عمل اللجنة ثلاثة أشهر على الأقل، بهدف التأكد من شمول عملية الحوار السياسي والاجتماعي كل الجغرافيا السورية، وشمول كل الفئات العمرية السورية أيضاً، فكما يقال في مبدأ شمولية العملية الانتقالية أن
“The Process is More Important than the Result”، وتعني أن العملية أكثر أهمية من النتيجة ذاتها. والمقصود بهذا المبدأ التأسيس لفكرة الشمولية في المراحل الانتقالية، ما يعني أن شعور المشاركة في عملية الحوار يعطي نتائج سياسية أكثر أهمية من مخرجات العملية نفسها، وهي عقد مؤتمر الحوار.
كما يجب أن تحظى عملية الحوار بالدعم السياسي والإعلامي الكافي والضروري، من أجل تحقيق أهدافها السياسية، التي تخدم الإدارة السياسية الجديدة أكثر بكثير من الاستعجال بعقد المؤتمر بسرعة لتشيع انطباعاً سلبياً بأن “كل الأمور مطبوخة وجاهزة”، فيجب إعطاء عملية الحوار وقتها الضروري والكافي، من أجل تحقيق أهدافها السياسية المتمثلة في الرسالة التي تريد الإدارة الجديدة أن ترسلها إلى الشعب السوري، وهي أن فترة التجاهل والإهمال التي سادت خلال عقود الأسد انتهت، وظيفة الإدارة الجديدة الاستماع والمشاركة، وبذلك يتحقق هدف إطلاق عملية الحوار كلها. وفي الوقت نفسه، تساعد عملية الحوار في تقريب وجهات النظر السياسية المختلفة بين السوريين، ما يسهل التوافق بشأن القضايا السياسية الخلافية التي ستظهر فيما بعد، خاصة في مرحلة كتابة الدستور الدائم، والانتخابات المقبلة وهوية الدولة، وغيرها من ترتيبات المرحلة الانتقالية، فالحوار المبكّر في هذه القضايا يسهل عملية بناء التوافق السياسي، ويخفف من الاستقطاب الذي من شأنه أن يقود إلى نزاع سياسي وانقسامات مجتمعية تفتّت العملية الانتقالية وتدمّرها.
إلى ذلك، يجب ألا تكون هناك أية علاقة أبداً أو ربط بين عملية الحوار التي يمكن أن تستمر ثلاثة أشهر وتنتهي بعقد مؤتمر للحوار الوطني ومسار تشكيل المجلس التشريعي الذي تشكله لجنة تحضيرية لم يعلن عن أسماء أعضائها بعد، فهما مساران متوازيان، كما أعلن رئيس الجمهورية أحمد الشرع، في خطابه الثاني بعد خطاب النصر، عن تشكيل لجنتين، واحدة للتحضير لمؤتمر الحوار الوطني وأخرى لتشكيل الهيئة التشريعية المفترض أن يصدر عنها الإعلان الدستوري المؤقت، ولا يجب أن يصدُر هذا الإعلان عن مؤتمر الحوار الوطني، فدستورياً وقانونياً، من يصدر الإعلان الدستوري هي الجهة التشريعية، فهي المخوّلة بهذا، كي يملأ هذا الإعلان الفراغ الدستوري أولاً، وثانياً ليكتمل العمود الثاني في مؤسسات الدولة الحديثة، وهي السلطة التشريعية التي من واجباتها إصدار الإعلان الدستوري وإقراره، ثم أداء الرئيس السوري قسم الجمهورية أمامها، وتوضيح العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وإصدار قانون بتشكيل مجلس القضاء الأعلى، بحيث تستكمل السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، وهي الجهة المخوّلة أيضاً بالمصادقة على موازنة الدولة ومنح الثقة للحكومة الانتقالية المقبلة في الشهر المقبل (مارس/ آذار).
… المرور بخطوات التسلسل الانتقالي كما ذكرت أعلاه بالغ الأهمية، لضمان دستورانية العملية الانتقالية، وفي الوقت نفسه، ضمان سيرها في الخط السياسي الذي يمنحها الشرعية القانونية والداخلية والدولية، وفي الوقت نفسه، العبور بالخطوات نفسها التي ذكرها الرئيس الشرع. ولذلك إذا استمرّت عملية الحوار ثلاثة أشهر وانتهت بعقد مؤتمر الحوار الوطني في نهاية مايو/ أيار المقبل، فإن هذا المؤتمر سيقدّم توصيات للمجلس التشريعي الذي يُفترض تشكيله خلال هذه المدة، ويُصدر الإعلان الدستوري المؤقت. ولذلك يقدّم هذا المؤتمر توصياته إلى المجلس التشريعي الذي يدرسها بعناية، ويقرّ بعضها أو كلها وفقاً للنقاشات داخله ووفقا للمصلحة الوطنية العليا.
العربي الجديد
————————
نحو مؤتمر وطني سوري حقيقي: التحديات والمسارات الممكنة/ مها غزال
الأحد 2025/02/23
يمثل تنظيم مؤتمر وطني سوري شامل، الخطوة الأهم في سبيل إعادة بناء البلاد ووضع أسس مستقبلها السياسي والاجتماعي، بعد عقود من سيطرة نظام الأسد والتمزق المجتمعي الذي خلفه. فالواقع السوري المعقد يفرض على جميع الأطراف، بمختلف توجهاتها وانتماءاتها الفكرية والسياسية والقومية، البحث عن صيغة توافقية تتيح للسوريين تقرير مصيرهم بأنفسهم، بعيداً عن الإقصاء أو فرض الإرادات بالقوة. إن أي انتقال سياسي حقيقي لا يمكن أن يستقيم دون إيجاد إطار وطني جامع يعكس تطلعات مختلف شرائح المجتمع السوري، ويضمن تمثيل المحافظات السورية كافة بصورة عادلة، كما يحقق توازنا بين مختلف الأجيال العمرية، بحيث لا يكون قرار المستقبل حكراً على فئة أو نخبة بعينها.
التحدي الأهم أمام أي إدارة انتقالية مستقبلية في سوريا يتمثل في القدرة على تنظيم هذا المؤتمر الوطني بحيث يكون نقطة تحول حقيقية، وليس مجرد لقاء شكلي يفضي إلى إعادة إنتاج الأزمات ذاتها. فالمؤتمر ليس مجرد تجمع سياسي، بل هو عملية إعادة صياغة للعقد الاجتماعي السوري، وإرساء لقواعد السلم الأهلي في بلد بات هشّا على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي. لذا، فإن تحقيق هذا الهدف يتطلب سلسلة من الخطوات الضرورية التي لا يمكن تجاوزها، لأنها تشكل الأساس الموضوعي لإنجاح أي حوار وطني جاد.
أولى هذه الخطوات، إصدار قانون للأحزاب السياسية، يكون بمثابة الإطار القانوني الذي يسمح بتنظيم العمل السياسي بشكل سليم، بعيداً عن العشوائية أو الخضوع لاعتبارات المحاصصة والولاءات الضيقة. فمن دون إطار قانوني واضح يشجع على تأسيس الأحزاب، ويمنحها الشرعية والقدرة على التفاعل مع الشارع السوري، سيظل أي نقاش حول الديمقراطية مجرد شعار فارغ لا يجد تطبيقاً على أرض الواقع. لقد أثبتت التجارب السياسية في العديد من الدول التي مرت بتحولات جذرية أن وجود أحزاب قوية وفاعلة هو أحد الشروط الأساسية لأي انتقال ديمقراطي ناجح. ففي ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، تم سن قانون للأحزاب يهدف إلى ضمان تمثيل كافة التيارات الفكرية، مع وضع آليات تمنع عودة الديكتاتورية، وهو الأمر الذي أسس لاحقا لأحد أكثر الأنظمة الديمقراطية استقراراً في أوروبا. لأن “الديمقراطية ليست مجرد عملية تصويت، بل منظومة تفاعلية تضمن حرية تكوين الرأي وتبادل الحجج وتشكيل الإرادة السياسية عبر الحوار العقلاني”، حسب الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس.
إلى جانب قانون الأحزاب، لا بد من إعادة الزخم للعمل النقابي في سوريا، إذ لطالما كانت النقابات المهنية والعمالية ركيزة أساسية في التعبير عن مطالب الفئات الاجتماعية المختلفة، وشكلت في العديد من التجارب العالمية أداة ضغط فعالة لتحقيق التحولات الديمقراطية. وإذا أرادت سوريا بناء مستقبل ديمقراطي حقيقي، فلا بد من منح النقابات الاستقلالية الكاملة، بعيداً عن تدخل الحكومة الانتقالية أو أي سلطة أخرى، بحيث تعبر عن مصالح أعضائها بحرية تامة. كما يجب إجراء انتخابات نقابية حرة، تتيح للعمال والمهنيين اختيار ممثليهم بعيداً عن الإملاءات الفوقية.
كما يعد تنشيط الحراك الطلابي داخل الجامعات السورية خطوة ضرورية لتعزيز المشاركة السياسية لدى الشباب، الذين سيكونون القوة الأساسية في أي عملية تغيير مستقبلية. فالتاريخ أثبت أن الطلبة كانوا دوما في طليعة الحركات الديمقراطية، كما حدث في فرنسا عام 1968، وكوريا الجنوبية عام 1987، حيث قادت الحركات الطلابية احتجاجات واسعة أدت إلى تغييرات سياسية جذرية.
ولا يمكن الحديث عن أي تحول وطني في سوريا دون التطرق إلى أهمية دور الجاليات السورية في الخارج، والتي باتت تمثل جزءاً أساسيا من النسيج الاجتماعي السوري. فوجود ملايين السوريين في الشتات يجعل من الضروري تنظيم هذه الجاليات في إطار مؤسسي قادر على التأثير في المشهد السياسي والاقتصادي داخل سوريا، كما فعلت الجالية الإيرلندية في الولايات المتحدة خلال القرن العشرين، عندما لعبت دوراً حاسماً في دعم استقلال أيرلندا عن بريطانيا. يجب أن تكون الجاليات السورية قوة ضغط إيجابية، تدفع نحو دعم المسار الديمقراطي، بدلًا من أن تتحول إلى تجمعات هامشية معزولة عن الواقع السياسي.
إلى جانب ذلك، يبقى للإعلام المستقل دور أساسي في تشكيل وعي سياسي متوازن، وتعزيز اللحمة الوطنية. فالتحولات الديمقراطية الناجحة لم تتحقق في أي بلد إلا بوجود إعلام حر، قادر على كشف الحقائق، ونقل وجهات النظر المختلفة، ومواجهة حملات التضليل.
وفي ظل هذا النشاط السياسي والمجتمعي، يأتي دور اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني، التي يجب أن تضم شخصيات تتمتع بالكفاءة والنزاهة، قادرة على وضع خارطة طريق واضحة لهذا المؤتمر، من خلال دمج هذه المبادرات المختلفة، وضمان تمثيل عادل لكافة الفئات. إن نجاح مثل هذه اللجنة يعتمد على استبعاد أي شكل من أشكال المحاصصة الطائفية أو المناطقية، والتركيز على اختيار ممثلين يمتلكون رؤية سياسية واضحة، وخبرة في إدارة الحوار الوطني. يمكن الاستفادة في هذا الصدد من تجربة الحوار الوطني في جنوب إفريقيا، الذي قاده نيلسون مانديلا بعد سقوط نظام الفصل العنصري، حيث تمكن من جمع أعدائه السياسيين تحت سقف واحد، وخلق بيئة تفاوضية أفضت إلى بناء دولة ديمقراطية قوية.
إن الوصول إلى مؤتمر وطني سوري حقيقي ليس مهمة سهلة، لكنه ليس مستحيلاً. فالتجارب التاريخية أثبتت أن الدول التي خرجت من الحروب والنزاعات لم تستطِع تحقيق استقرارها إلا من خلال حوار وطني شامل، يضع حداً للانقسامات، ويؤسس لعقد اجتماعي جديد قائم على المواطنة والعدالة. كما قال المفكر الفرنسي ألكسيس دو توكفيل: “المجتمعات الحرة لا تُبنى بالقوانين وحدها، بل بالتفاعل المستمر بين الدولة والمجتمع.” إن تحقيق ذلك في سوريا يستلزم إرادة سياسية حقيقية، وإصلاحات عميقة، وأرضية ديمقراطية تتيح للسوريين تقرير مصيرهم بأنفسهم، بعيدا عن الإقصاء أو فرض الأمر الواقع. إن لم تتحقق هذه الشروط، فسيبقى أي مؤتمر وطني مجرد خطوة شكلية لا تساهم إلا في إطالة أمد الأزمة، بدلاً من حلها.
المدن
—————————
بين “الهلال الإيراني” و”التمدّد التركي”/ محمد أبو رمان
23 فبراير 2025
يعلّق سياسيون عرب وغربيون كثيرون بأنّ سورية خرجت من عباءة إيران ودخلت في عباءة تركيا، وهي لا تزال مسرحاً للنفوذ الإقليمي وضحية لمصالح هذه الدولة أو تلك. وهذا قياسٌ قد يكون واقعياً في المجمل، لكنّه على أرض الواقع يقفز عن الاختلافات الجوهرية بين الاستراتيجيتَين الإقليميتَين، الإيرانية والتركية، بالرغم من أنّ كلا الدولتين ترسم سياستها الخارجية، بالضرورة، وفقاً لمنطق المصالح السياسية والاقتصادية وتصوّرات كل منهما لأمنها القومي.
اختلط النفوذ الإيراني في المنطقة العربية بالمسألة الطائفية التي فجّرت الخلافات الداخلية في العديد من دول المشرق العربي، بخاصة في العراق وسورية، وأدّى ذلك إلى تحوّل كبير في مسار بعض الحركات الأصولية، مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بدايةً، الذي استثمر الاعتبارات الطائفية في العراق لتجنيد أعداد كبيرة، ثم الصحوات السنية التي اعتبرت ما وصفته بـ”الاحتلال الصفوي الفارسي” أشدّ خطراً من الاحتلال الأميركي وانقلبت على “داعش”، وقاتلت لصالح الأميركيين بعد أن تحولت قناعات عديدين من قيادات هذه المجموعات المقاومة سابقاً بأنّهم سيخسرون المعركة في حال وقفوا ضد الأميركيين وإيران والسلطة الجديدة في الوقت نفسه.
بالإضافة إلى حرصها على السيطرة على العواصم ومدّ نفوذها بدرجة كبيرة سياسياً وطائفياً؛ تجنبت طهران الاعتماد فقط على الحكومات، بل بُنيت الاستراتيجية الإيرانية على أدوار “الجماعات المسلّحة” التي شكّلتها في العراق وسورية واليمن ولبنان، وجعلتها متواصلةً مباشرةً معها، عبر فيلق القدس، ما أدّى إلى وجود أكثر من سلطة هذه الدولة وأحدث حالة من الفوضى وأضعف الدولة الوطنية بصورة أساسية، ما انعكس على صورة إيران لدى الرأي العام العربي، بخاصة بعد الحرب على سورية التي وقفت فيها طهران مع النظام السوري ودفعت مقاتلي حزب الله إلى هناك، وولّد أزمات إقليمية وداخلية ذات بعد طائفي!
صحيحٌ أنّ الصورة الأخرى لإيران كانت أفضل حالاً على صعيد الرأي العام العربي، بخاصة في ما يتعلّق بشعارات المقاومة والممانعة، ودعمها بقوة حركة حماس وحزب الله في لبنان، لكن هذه الصورة كانت مشوبة بمشكلات وأسئلة وازدواجية كثيرة؛ والمفارقة الكبرى أنّه بالرغم من الضربات القاسية التي تعرّضت لها إيران خلال الحرب على غزّة، وخسارتها جزءاً كبيراً من نفوذها الإقليمي في لبنان وسورية، وارتباك أوضاعها في العراق، فإنّ هذا أيضاً قاد أصدقاء إيران وحلفاءها إلى التساؤل عما إذا كانت مستعدة للتضحية بهم من أجل حماية المركز، وأنّهم فقط أحجار أو بيادق في لعبة إيران الإقليمية!
على الجهة المقابلة، فإنّ السياسة الخارجية التركية، بالرغم من التقلب الذي شهدته، بخاصة منذ لحظة الربيع العربي، وحالة التوتر والتهدئة التي مرّت بها علاقتها بدول عربية عديدة، وتحوّل أنقرة وإسطنبول إلى ملاذ لآلاف المعارضين الإسلاميين العرب؛ إلاّ أنّ سياسة تركيا اتسمت بالبراغماتية والتكيّف مع المتغيّرات على صعيد العلاقة مع الولايات المتحدة، وحتى مع روسيا، ولم تتورّط في المشكلات الطائفية في العالم العربي. وساعدتها في هذا مسألتان: أنّها قوة سنية، مقارنة بالجيوبوليتيك الشيعي، وحالة الفراغ الاستراتيجي في المنطقة، مع انكسار النظام الإقليمي العربي، واضمحلال أدوار كل من العراق وسورية وانكفاء مصر خلال الفترة الماضية لمعالجة مشكلاتها الداخلية.
على النقيض من إيران، لم ترفع تركيا شعارات المقاومة، لكنّها أخذت بعداً دبلوماسياً في المواجهة مع تل أبيب، وعملت على ترميم علاقتها بالدول العربية، حتى التي شهدت علاقتها معها توتراً كبيراً، مثل الإمارات ومصر، وقدّم الرئيس أردوغان تنازلاتٍ عديدة على صعيد مواقفه الشخصية لتصويب مصالح بلاده في المنطقة. وبعد فترة بدت فيها السياسة التركية في حالة من الترنّح والتراجع، ما انعكس على الحالة الداخلية، جاء سقوط بشار الأسد بمثابة مفتاح لدور تركي جديد في المنطقة، وبدلاً من القلق من وجود علاقة قوية بين أحمد الشرع وأنقرة، أصبحت دول المنطقة والدول الغربية ترى في تركيا وسيطاً قادراً على رعاية النظام الجديد، ومنعه من الانهيار أو الانجراف نحو مسارات خطيرة.
بالضرورة، لا نتحدث هنا عن مسائل محسومة أو مطلقة، على قاعدة الأبيض والأسود، إنما عن سياسات ومصالح، والسؤال اليوم: هل يمكن أن يكون الدور التركي محفّزاً لتطوير توازن قوى جديد إقليمياً في مواجهة الهيمنة الإسرائيلية، من دون الارتطام بالمسألة الطائفية؟ وهل يمكن أن تكون الرعاية التركية للنظام السوري الجديد ضرورية لمساعدته في مرحلة الانتقال وتطوير قدراته، أم أنّ غياب تركيا بوزنها في هذه الملفات الرئيسية هو الأفضل؟ سؤالان برسم الإجابة للسياسيين والمثقفين العرب.
العربي الجديد
—————————–
المخاض السوري والصراعات على الإقليم/ عبد الباسط سيدا
تحديث 23 شباط 2025
لا يستطيع أحد أن ينكر أن التطورات السريعة التي حدثت في لبنان، ومن ثم في سوريا، كانت نتيجة من نتائج ما جرى في غزة بعد عملية «طوفان الأقصى» التي نفذتها حماس بالتعاون مع منظمة الجهاد الإسلامي بصورة أساسية. وقد قيل الكثير حول توقيت تلك العملية، والجهة التي اتخذت القرار، والهدف منها بصورة عامة.
وفي المقابل، لا يمكن للمرء أن يتجاهل بأن حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة قد استغلت تلك العملية، فأعلنت حربا مدمرة على قطاع غزة بأكمله، دفع ثمنها المدنيون الغزيون بالدرجة الأولى، هذا إلى جانب اغتيال معظم قيادات حماس من الصف الأول والثاني، سواء في داخل القطاع أم في الضاحية الجنوبية من بيروت أو في دمشق، وحتى في طهران نفسها. وكانت تلك الحرب، بناء على ما تم الإعلان عنه وتطبيقه إسرائيلياً، انتقاما جماعياً لقتل وخطف العشرات من العسكريين والمدنيين الإسرائيليين ومن حملة الجنسيات الأخرى، هذا إلى جانب الحسابات الداخلية الإسرائيلية ذات العلاقة بالانتخابات، والمحافظة على تماسك الحكومة، ورغبة نتنياهو في إرجاء مسألة محاكمته، وربما محاسبته في حال إدانته بقضايا الفساد المتهم بها.
ولكن حديث نتنياهو المتكرر حول الشرق الأوسط الجديد، ولاحقاً إعلان ترامب رغبته في تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى دول الجوار لتحويل القطاع إلى «ريفييرا الشرق الأوسط»، ربما كانا يوحيان بوجود أفكار أو مخططات جديدة لدى الجانبين الإسرائيلي والأمريكي بشأن إعادة النظر في المعادلات الإقليمية، وتغيير قواعد اللعبة مع إيران بعد أن تمكّنت هذه الأخيرة من الوصول إلى مرحلة التحكّم بالوضعين العسكري والسياسي في ثلاث من دول المنطقة الحيوية.
وبالموازاة مع حرب غزة؛ انتقلت إسرائيل في لبنان إلى مرحلة متقدمة في عملياتها ضد حزب الله تمثلت في عملية البيجر وأجهزة الاتصالات الخاصة بحزب الله، وهي العملية التي أدت إلى مقتل وتعطيل الآلاف من قيادت حزب الله. ثم كانت عملية ملاحقة قيادات وكوادر حزب الله الفاعلة، وتمت عمليات القتل والاغتيال بقنابل متطورة، وأسلحة نوعية، وكان من الواضح أن كل ذلك كان يوجه بناء على معلومات وجهود استخباراتية دقيقة. أما الدعم الأمريكي المفتوح لإسرائيل لمتابعة عملياتها في لبنان فلم يكن خافيا على أحد.
بعد لبنان جاء الدور على «الدكتور» في سوريا الذي كان يعيش في وضع لا يُحسد عليه، فهو يعرف أن القرار الإسرائيلي بشأن مستقبله هو الحاسم، ولكنه في الوقت ذاته لم يكن قادرا على فك ارتباطه مع النظام الإيراني الذي تمكن من خلال قواته وأذرعه من التغلغل إلى مفاصل الدولة السورية المدنية ومنها والعسكرية والأمنية.
والنظام الإيراني من ناحيته أدرك أن إسرائيل جادة في قرارها بشأن اخراجه من سوريا، ويبدو أنه قرأ الموقف الروسي أيضا، وفهم أنه لم يعد متحمساً لبقاء سلطة آل الأسد؛ وذلك قد يكون مبنياً على توافقات مع الجانب الأمريكي حول الترتيبات المستقبلية التي ستكون بشأن وقف الحرب في أوكرانيا.
وضمن كل هذه الأجواء والمتغيرات المأتي على ذكرها، وعلى الأرجح بموجب توافقات غير معلنة، تحركت قوات هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها نحو حلب، ثم تابعت طريقها إلى دمشق، بمبادرة ذاتية منها، وذلك وفق تحليلات المقربين منها؛ أو نتيجة توافقات دولية مع تركيا بناء على تحليلات المختصين المتابعين لأوضاع الإقليم وتشابكاتها الدولية (نترك حقيقة هذا الموضوع للمستقبل). ولكن المهم والأهم هو سقوط سلطة آل الأسد، وهروب بشار والمقربين منه، وتلاشي الجيش الذي استخدمه في حربه على السوريين المناهضين لحكمه المستبد الفاسد. بالإضافة إلى هذه الحصيلة كان خروج القوات الإيرانية مع الأذرع التابعة لها من سوريا، وذلك وفق التصريحات الرسمية.
وكان الاعتقاد السائد هو أن الضربات الإسرائيلة للأذرع الإيرانية ستستمر لتشمل فصائل الحشد الشعبي في العراق التابعة للنظام الإيراني، خاصة بعد إعلانها بانها ستتدخّل لصالح سلطة بشار، ولكن يبدو أن جهود الحكومة العراقية الدبلوماسية، وقيامها بنقل الرسائل إلى الجماعات الإيرانية، وهي الرسائل التي فهم أن مضمونها كان يتمحور حول جدية الأمور؛ وأن الضربات التي ستوجه إليها ستكون قاصمة إذا ما تجاوزت الخطوط الحمراء، هذا إلى جانب معرفة تلك الجماعات بوجود تذمر بين شيعة العراق، لا سيما بين النخب والشباب، بعد عقدين من الفساد الأسطوري الذي تميزت به الطغمة المهمينة على الجماعات ذاتها.
ولكن، ورغم كل التحولات غير المسبوقة التي جرت حتى الآن، تبدو أوضاع المنطقة هشة، وهي قابلة للانفجار هنا وهناك. ولعل هذا يجد تفسيره في الإصرار الإيراني على استعادة زمام المبادرة، والمراهنة على حواضن مشروعها التوسعي؛ ولهذا يسعى النظام المعني بكل الوسائل لجمع أوراقه الضاغطة التي فقدها على حين غرة ليستخدمها على مائدة المفاوضات مع الجانب الغربي والأمريكي تحديدا، هذا رغم معرفته بأن المفاوضات مع الإدارة الأمريكية الجديدة ستكون على غاية الصعوبة في أجواء التفاهم شبه التام بين كل من ترامب ونتنياهو.
ففي غزة ما زالت حركة حماس على تحالفها السابق مع النظام الإيراني، وهو التحالف الذي يستخدمه الأخير كورقة تفاوضية لصالحه مع القوى الغربية، وربما حتى مع إسرائيل بصورة غير مباشرة. وما يحصل في لبنان منذ انتخاب رئيس الجمهورية جوزيف عون، واختيار رئيس الوزراء نواف سلام، من تشنجات وتهديدات مبطنة وأعمال شغب متنقلة من جانب عناصر «حزب الله» و«حركة أمل»، وقطع طريق المطار أكثر من مرة، إنما يأتي ضمن سياق رفض الجانب الإيراني الاعتراف بالخسارة، وإصراره على الدفع بمناصريه للتحرك في سبيل تهديد السلم الأهلي على الصعيد المجتمعي، والإساءة إلى سمعة الدولة اللبنانية من خلال اضعاف مؤسستي رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء. وهذا الوضع لن يكون بعيدا عن الانفجار ما لم تأخذ القوى اللبنانية، ومن ضمنها القوى الشيعية الوطنية التي كانت من أولى ضحايا حزب الله، مواقف حاسمة ترفض ما يحصل، وتدعم الدولة اللبنانية بكل امكانياتها، وتصر على ضرورة ضبط السلاح وجعله حكراً على الدولة دون غيرها.
أما في سوريا فهناك مخاطر حقيقية تهدد الوضع الجديد، وهذا ما يستشفه المرء من تصريحات المسؤولين الإيرانيين، والتحركات واللقاءات المريبة التي تتسرب أخبارها من حين إلى آخر إلى الإعلام. بل هناك تصريحات للقوى التي كانت تحسب نفسها على المعارضة التي رفضت استبداد وفساد سلطة آل الأسد، وهي تصريحات تتقاطع حول عدم القبول بما جرى، وهي تستغل بعض الأخطاء والتصريحات غير الموفقة هناك وهناك، إلى جانب بعض الانتهاكات التي لا ينبغي أن تكون. فضلاً عن اللغة غير الواضحة بشأن كيفية التعامل مع التنوع السوري أو إدارته، هذا التنوع الذي يتمظهر في صيغ مجتمعية وسياسية وفكرية لا بد أن يتم الاعتراف بها، وبحقها في التعبير عن نفسها ضمن إطار القانون.
ومن هنا تتجلى أهمية، بل وضرورة إشراك السوريين من خارج إطار هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها في الحكومة والإدارات المختلفة، لتصبح الإدارة الجديدة معبرة عن حالة وطنية سورية عامة، يرى فيها السوريون أنفسهم، وعلى أتم الاستعداد للدفاع عنها بقوة إذا ما تعرضت لأي مخاطر من جانب النظام الإيراني وأذرعه الخارجية والداخلية، لا سيما من جهة فلول سلطة آل الأسد.
الثورة في سوريا نجحت، وذلك بفضل تضحيات السوريين وصبرهم وتحملهم منذ نحو 14 عاماً، بل منذ عقود تمتد إلى بدايات سيطرة حافظ الأسد على مقاليد الحكم في سوريا عبر انقلاب عسكري. ولم يكن لهيئة تحرير الشام، ولا لغيرها إنجاز ما تم من نصر مبين لولا تعاطف ودعم غالبية السوريين لما قد حصل، ولولا الضريبة الباهظة التي دفعها السوريون من أجل الحرية والكرامة والعدالة.
ومن واجب سائر السوريين الذين يريدون كل الخير لشعبهم ووطنهم، المحافظة على ما تم وتطويره بفاعلية بناءة؛ فهناك الكثير من الثورات التي أخقفت بعد نجاحها حصيلة الخلافات البينية بين أجنحتها، أو بين ما أفرزته من قيادات والشعب الذي احتضنها، أو بفعل جهود قوى الثورة المضادة من المحليين والإقليميين، وحتى على المستوى الدولي.
التحديات التي تواجهها المنطقة، وسوريا على وجه التخصيص كبيرة وجدية، والضمان الأمثل لتجاوز المخاطر هو الاستقواء بالشعب أولاً، وذلك عبر الاستماع إلى ملاحظاته النقدية البناءة الحريصة على الوطن وأهله.
*كاتب وأكاديمي سوري
القدس العربي
————————————–
هل تتوحّد سورية من جديد؟/ فاطمة ياسين
23 فبراير 2025
يذهب البيان الصادر قبل أيام عن مجموعة القوى المدنية والعسكرية الفاعلة في شرق سورية بعيداً في إظهار الود تجاه الحكومة المركزية في دمشق، فبعد الكلام الذي قيل عن اجتماعين عقدهما أحمد الشرع مع قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي في قاعدة الضمير عقب إسقاط نظام الأسد، قرّرت القوى العاملة تحت هذه القوات أن تقترب خطوة إضافية نحو دمشق، بمباركة تنصيب الشرع رئيساً، والموافقة على عقد مزيد من الاجتماعات مع حكومته لزيادة التنسيق بينهما، وتوفير الأمن، وكل ما يمكن لتسهيل عودة اللاجئين، ولكن الأهم من ذلك كله بند قبول الانضمام إلى هيكلية الجيش السوري. تشكّل “قسد” القوة التي حالت دون إزالة الفواصل بين شرق البلاد وغربها. وبالموافقة على الدخول تحت راية الجيش السوري، تكون، من حيث المبدأ، كل العقبات قد أزيلت أمام إتمام وحدة البلاد، وتبقى نقطة مخفية حول العنوان الذي ستنضم “قسد” تحته إلى الجيش السوري، ويبدو أن هذه النقطة لم تُحلّ بعد.
كان الشرع قد اشترط على عبدي أن تدخل قواته ضمن تشكيلات الجيش السوري أفراداً، وليس على شكل وحدة مقاتلة متماسكة، وهو ما رفضه عبدي بشدّة حينها، وأكّد أن القوات الكردية يجب أن تبقى بشكلها الحالي وترفع علم الجيش السوري. وكان الشرع، منذ اللحظة الأولى لدخوله قصر الشعب، قد رفض أن يتعامل مع أي مكوّن سابق على شكل كتلة، وأصرّ على أن للجميع الحق بالمشاركة في مؤسسات الدولة، ولكن بوصفهم أفراداً، وقد انطبق هذا القانون على الأجسام السياسية التي تشكلت في السنوات الماضية تحت عناوين الثورة، وانحلّت الواحد تلو الآخر. وطبق الشرع هذه القاعدة على الوحدات العسكرية التي شاركت في عملية ردع العدوان نفسها، وكان بعضها حاضراً بقوة وتأثير في العملية، ورغم ذلك، حلت نفسها للدخول بشكل نهائي ضمن تشكيلات الجيش الذي يجرى بناؤه. وبما أن هذه القاعدة قد طُبقت على الجميع، بمن فيهم أصدقاء الأمس، فلا بد أن تطبق على “قسد”.
إصرار مظلوم عبدي على الاحتفاظ بقواته بشكلها الحالي وقراره أن ترابط في مواقعها لا يجعلانها منضوية ضمن الجيش السوري، فهو بهذا القرار يكرّس التقسيم. وباستناده إلى قواتٍ تأتمر بأمره، يكون انضمامها إلى الجيش شكلياً، ويهدّد مفهوم وحدة البلاد. ويدرك عبدي أن الشكل الحالي لمناطق شرق سورية غير قابل للحياة على المدى الطويل، حتى مع تمتّع المنطقة بثروات نفطية، وفيها تدفق مائي من نهري الفرات ودجلة، وبالتالي، مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية. ورغم ذلك كله، لا تستطيع المنطقة الحياة في معزل عن قسم سورية الآخر. وهي لا تملك أي منفذ بحري تصدّر منه بترولها الخام، ومحيطها الجغرافي ليس منفتحاً على التعامل معها، فلدى إقليم كردستان العراق اتفاقيات مع تركيا تمنعه من إجراء تعاونٍ بيني مع “قسد”.
تبقى لدى عبدي ورقة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وهي ورقة مهمّة، يستطيع أن يلعب بها. وقد أظهرت القوات الكردية فيما سبق تفانياً في التخلص من هذا التنظيم، بمساعدة جوية وأرضية من قوات التحالف الدولي. والقائد مظلوم عبدي يرفع الصوت قائلاً إن التنظيم يمكن أن يظهر في أية لحظة، وهذا ادّعاء حقيقي، ولكنه يتجاهل وجود قوة مختلفة في دمشق، وترابط على طول نهر الفرات في المنطقة الفاصلة بين شرق سورية وغربها، ومستعدّة، ولديها النية لمواجهة “داعش” لو ظهر من جديد، فللقوات التي جاءت مع الشرع من الشمال تاريخ طويل في القتال ضد هذا التنظيم، وللشرع نفسه مواجهات شرسة مع أبو بكر البغدادي، ولا شك في استعداده لمثل هذه المواجهة اليوم. بكل تأكيد، يدرك عبدي هذه النقاط جميعها، ويبقى أمامه أن يقرّر الاندماج حتى تصبح سورية جغرافيا واحدة، كما كانت قبل عام 2011.
العربي الجديد
————————
التعليق الفعلي للعقوبات/ عبسي سميسم
23 فبراير 2025
من شأن إصدار الاتحاد الأوروبي قراره الرسمي، تعليق العقوبات المفروضة على سورية، خلال اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الـ27 في بروكسل، غداً الاثنين، والتي ستشمل قطاعات المصارف والطاقة والنقل، أن يحل نظرياً عشرات المشاكل في كل قطاع من هذه القطاعات، لعل أبرزها تمكين مصرف سورية المركزي من التعامل مع المصارف الدولية، وبناء كتلة نقدية من القطع الأجنبي. كما من شأنه أن يمكّن آلاف السوريين في الخارج من تحويل الأموال لسورية التي يعتمد الكثير من سكانها على حوالات أبنائهم المغتربين، والتي كانت تتآكل معظمها كرسوم تحويل بطرق غير شرعية.
يشجع القرار كذلك المصارف وشركات التأمين العربية والأجنبية على فتح فروع لها في سورية، كونها مقبلة على مرحلة نمو اقتصادي، وبالتالي حركة أموال كبيرة. ويشكل رفع العقوبات عن القطاع المصرفي كذلك خطوة أولى على طريق تمكين وتشجيع المستثمرين السوريين والأجانب على إقامة مشاريع استثمارية في سورية. كما أن رفع العقوبات عن قطاع الطاقة من شأنه أن ينعش الاستثمار الحكومي في هذا القطاع الذي تهالك بسبب سنوات العقوبات، فيمكّن الحكومة الجديدة من صيانة محطات توليد الكهرباء ومصافي البترول، واستيراد وتصدير كل أنواع الطاقة.
من شأن ذلك توفير الطاقة الكهربائية للمواطنين الذين حرموا منها على مدار عشر سنوات، كما من شأنه توفير مصادر الطاقة للصناعات المحلية. بالإضافة إلى ذلك، فإن رفع العقوبات عن قطاع النقل سيمكّن سورية من استيراد وتصدير كل السلع التي تحتاجها البلاد، سواء كانت سلعاً استهلاكية أو مواد أولية للصناعة أو معدات هندسية لبناء بنى تحتية لمعظم المؤسسات المتهالكة. كما من شأنه أن يفتح الباب واسعاً على تجارة الترانزيت عبر سورية التي تشكل بوابة برية لتركيا وأوروبا على دول الخليج العربي، وبوابة عبر البحر المتوسط لكل أوروبا إلى شرق آسيا. كما يمكّنها من صيانة شبكة الطرقات والسكك الحديدية التي توقف صيانة معظمها بسبب العقوبات، طبعاً هذا عدا عن إمكانية تجديد أساطيل النقل البري والبحري والجوي.
لكن على الرغم من تعليق العقوبات المشروط بتحقيق الإدارة السورية الجديدة تقدماً خلال المرحلة الانتقالية على مستوى الحريات، وإشراك كل السوريين في هذه العملية، فإن رفع العقوبات لن يحقق معظم النتائج آنفة الذكر ما لم يتزامن مع صدور موقف أميركي واضح حيال الإدارة السورية الجديدة. يعود ذلك إلى عدم امتلاك الأخيرة أي مقومات تساعدها على استغلال رفع العقوبات وتنفيذ عملية إصلاح شاملة لاقتصادها ولمؤسساتها، ما لم تتلقَ دعماً عربياً ودولياً، والذي يبدو حتى اللحظة في انتظار صدور موقف أميركي واضح من هذه الإدارة. ويبدو أن هذا الموقف لا يزال مؤجلاً، ربما لبداية المرحلة الانتقالية وظهور ملامحها مع الحكومة الانتقالية الموعودة، وظهور آليات الانتقال السياسي وشكل نظام الحكم في البلاد بشكل أوضح.
العربي الجديد
——————————-
خبز وحرية وأكثر.. ماذا يريد السوريون؟/ سلمان عز الدين
تحديث 23 شباط 2025
في الفيلم المصري الشهير “الإرهاب والكباب” يجد المواطن الغلبان، أحمد فتح الباب، نفسه وقد صار زعيم تمرد في مجمع حكومي كبير في القاهرة. ملابسات طريفة، ومأساوية مع ذلك، جعلته يضغط بالخطأ على زناد بندقية رفعها في وجهه جندي. ومع رشقة مفاجئة من الطلقات كان الأمر قد حسم: لقد صار متمردًا. وبانضمام غلابة آخرين إليه صار قائدًا لجماعة متمردة. أما الموظفون والمراجعون فقد تحولوا برمشة عين إلى رهائن.
يحضر وفد حكومي رفيع لمفاوضتهم وسؤالهم عن طلباتهم. “ماذا تريدون؟”.. يسألهم الوفد. “ماذا نريد؟!” هبط السؤال كالصاعقة على رؤوس المعتصمين بالمبنى، خاطفين ورهائن.. اكتشفوا أنهم يريدون كل شيء، يريدون حيوات كاملة، واكتشفوا أيضا أنهم يواجهون هذا السؤال لأول مرة في أعمارهم الشقية، وربما لآخر مرة. ازدحمت أمنياتهم وأحلامهم واختلطت أولوياتهم، إلى أن أنقذتهم بطونهم الجائعة من الحيرة المعذبة بتقديم إجابة: “كباب”.. فراحوا يهتفون: “الكباب الكباب.. يانخلي عيشتكو هباب!”.
هل تذكرون ذلك الصنف من النكات الذي ساد فترة طويلة من الزمن؟ ثلاثة.. دوما هناك ثلاثة، اثنان منهم أجنبيان والثالث سوري. وبالطبع عند السوري تكون قفلة النكتة عبر فوز مستحق بمسابقة عجيبة، أو إجابة عبثية عن سؤال أهبل. إحدى هذه النكات تقول: واجه ثلاثة هذا السؤال: ما هو رأيك بأكل اللحم؟ أجاب الأول: ما معنى اللحم؟ وأجاب الثاني: ما معنى الأكل؟ أما السوري فقال: ما معنى رأيك؟!
لسنا اليوم في مسابقة من هذا النوع، وليس ثمة وفد حكومي رفيع جاء ليسألنا مباشرة عن طلباتنا. غير أن واقع الحال، السياق الحالي الذي أعقب سقوط النظام البائد، يفترض حتمًا وجود هذا السؤال: ماذا نريد؟
ومثل أبطال المجمع الحكومي تزدحم الرغبات في نفوسنا، ومثلهم نكتشف أننا نواجه هذا السؤال لأول مرة في أعمارنا الشقية. نريد كل شيء.. كل شيء، وفي الوقت نفسه لا نعرف ماذا نريد بالضبط. تختلط الأولويات لتصنع قوائم غريبة: دولة القانون مع رغيف خبز أكبر قليلًا وأرخص كثيرًا، ديمقراطية تمثيلية بمازوت نظيف، مؤتمر حوار وطني في ضوء ساعتين إضافيتين من الكهرباء، مواطنة كاملة تتيح جرة غاز لكل مواطن، تعددية حزبية ومنع “التشفيط” بسيارات المدعومين.
وأكثر: نريد استعادة شبابنا، ونريد صياغة جديدة لماضينا، نريد ذكريات أخرى.. ونريد الخلود لتعويضنا عن هذه الحياة التي فوق أنها فانية فقد انقضت في مسلخ مرعب.
نفهم أن يرتبك أهل الحكم الجديد أمام سيل رغباتنا، ونتسامح مع استهجان المراقبين لفوضى أولوياتنا.. ولكن نرجوكم لا تسخروا ولا تظنوا أنكم إزاء فيلم كوميدي جديد. هذا للأسف فصل آخر (نتمنى أن يكون الأخير) من المأساة السورية.
مشاريع صغيرة
يبدو السوريون اليوم وكأنهم يعيشون بين صفحات قاموس سياسي.
على مدار الساعة، في مقاهيهم وفي بيوتهم وعلى شاشات هواتفهم الصغيرة، يتداولون العشرات من المفاهيم والمصطلحات السياسية المختلفة. ولكن لا شيء فيها يخرج عن المألوف: مدنية، علمانية، ديمقراطية، تعددية، صبغة إسلامية، إسلام وسطي، النموذج التركي، ليبرالية.
غير أن مصطلحًا جديدًا (نسبيًّا)، وغير مألوف كثيرًا في حكي السوريين، راح يعلو أكثر من سواه: الخصوصية الثقافية.
وإذا كان الأكراد السوريون هم أكثر من يستطيع إيضاح هذه الخصوصية، كونهم يتحدثون عن هوية قومية متمايزة ومعلنة، فإن سوريين آخرين يستخدمون المصطلح كيافطة تخفي حرجهم من استخدام تعبير آخر، لا يزال غير محبذ في علن الحياة السورية (وإن كان عزيزًا وغزيرًا جدًا في سرها)، وهو: حقوق الطوائف والأقليات الدينية والمذهبية.
وكما هو معروف، فإنه في نصف القرن الذي حكمنا فيه حافظ الأسد وابنه كان الحديث العلني عن الطوائف والطائفية من المحرمات، على اعتبار أننا شعب واحد هو جزء من أمة واحدة تسعى إلى إقامة دولة كبيرة واحدة، وبالتالي فأي حديث عن مكونات ومذاهب وطوائف هو حديث تقسيمي مشبوه وعلامة على عمالة مؤكدة للاستعمار والصهيونية.. ولا نحتاج إلى براهين لتأكيد أنها كانت كذبة كبيرة، عراها نظام بشار نفسه بتنصيب نفسه حاميا للأقليات وقائدا لتحالفها!
ومن هنا فإن صعود المصطلح الآن، في منظور كثيرين، يمثل نوعًا من “الوعي المطابق للواقع”، حيث نرى الواقع كما هو لا كما تزينه لنا أيديولوجيا ما. فنحن بالفعل نتوزع على انتماءات مذهبية ودينية عديدة، صاغت عبر الزمن حساسيات ثقافية متباينة، عادات وتقاليد ورؤى متمايزة، دون أن يعني هذا الاعتراف عدم وجود إمكانية كبيرة لصياغة هوية وطنية جامعة تتجاوز هذه الخصوصيات دون أن تنفيها.
ومع ذلك يبقى المصطلح مثيرًا للقلق ولشيء من الريبة، إذ يُخشى أن يتحول إلى ما يشبه نظام الملل والنحل، أو إلى محاصصة طائفية تعيق قيام الهوية الوطنية وتعطل فعالية الدولة.
تحتاج الخصوصية هذه، كي تكون آمنة، إلى نجاح مؤكد في أمرين، أولهما: الإعلاء من شأن الحرية الفردية وصيانتها تحت سقف القانون، وثانيهما: تأسيس ميدان سياسي عام متاح لجميع المواطنين من مختلف مشاربهم وانتماءاتهم الدينية والمذهبية والمناطقية.
ضمان الحرية الفردية يجعل الانتماء الطائفي خيارًا طوعيًا بعيدًا عن القسر والإلزام، والميدان السياسي المفتوح للجميع يضعف الحدود بين الطوائف ويمنعها أن تكون صلدة ومقسمة، مقدمًا فرصة كبيرة للتلاقي على قواسم ومشتركات عامة، ما يحول دون نجاح هذه الطوائف في تشكيل هويات بديلة عن الهوية الوطنية الجامعة.
وإلا فالخصوصية الثقافية لن تعني سوى جعلنا أسرى طوائفنا وجنودًا في خدمة طموحات وجهائها وشيوخها. وكما ضاعت الهوية الوطنية السورية، في عهد البعث، تحت وطأة المشاريع الموهومة الكبيرة، فقد تضيع الآن على يد المشاريع “الواقعية” الصغيرة.
الترا سوريا
——————————
عن معركة سوريين في سجن لبناني/ عمر كوش
23 فبراير 2025
مضى حوالي أسبوعين على إضراب عن الطعام أعلنه سجناء ومعتقلون سوريون في سجن رومية اللبناني احتجاجاً على أوضاعهم وظروفهم الكارثية، التي دفعتهم إلى خوض صراع يومي مع الموت للبقاء على قيد الحياة. وسبق أن تسبّبت في فقدان عشرة معتقلين سوريين حياتهم فيه، لذا لم يبق أمامهم سوى الاستمرار في إضرابهم عن الطعام إلى حين تحقيق مطالبهم الإنسانية، وخصوصاً التي تتصل بحسن المعاملة وتأمين ضروريات الصحة والغذاء، وقرّروا عدم القبول بفتات الطعام المقدّم من إدارة السجن.
ويبدو أن المعركة التي يخوضها سوريون في هذا السجن اللبناني قد أجبروا عليها لاعتباراتٍ عديدة، لا تنحصر في الوضع الصعب الذي يعانون منه، وخاصة سوء المعاملة وانعدام الرعاية الصحية، بل في استمرار سجنهم، على الرغم من أن بيان وزارة الخارجية السورية بعد انتهاء زيارة رئيس الوزراء اللبناني السابق نجيب ميقاتي إلى دمشق، في الـ11 من الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، أكد “الاتفاق على استرداد جميع المعتقلين السوريين من لبنان”. لذلك يأتي إضرابهم عن الطعام في سياق مطالبتهم السلطات اللبنانية بتنفيذ الاتفاق القاضي بتسليمهم إلى بلدهم، لاستكمال محاكماتهم فيه أو إتمام فترة عقوبة المحكومين من بينهم.
تفيد تقارير منظمات حقوقية لبنانية وسورية بأن معظم السجناء اعتقل وحوكم بناء على اعتبارات سياسية. ويقبع بعضهم في زنازين السجون اللبنانية منذ عام 2013 من دون محاكمات عادلة، حيث وجهت إليهم تهمٌ بارتكاب أعمال إرهابية مزعومة، على خلفية مساندتهم الثورة السورية أو وقوفهم معها، الأمر الذي يفسّر عدم حصول أي تقدّم في عمل اللجنة القضائية اللبنانية المشكلة لمتابعة هذه القضية، إضافة إلى أن بعض أحكام أصدرتها محكمة التمييز الخاصة ببعض السجناء لم يجر تنفيذها أيضاً، لأن القضية بحاجة إلى قرار سياسي من السلطات اللبنانية.
إذاً، ليست القضية قضائية أو قانونية، ولا تتعلق بأفراد ارتكبوا أعمالاً إرهابية بحسب تهم كيدية وجّهت إليهم، بل سياسية بامتياز، على خلفية موقفهم المعارضة لنظام الأسد البائد، حيث كانت قوى لبنانية طائفية تحالفت مع هذا النظام مهيمنة على الدولة اللبنانية، وتتحكّم في مختلف مفاصلها، وخاصة المحكمة العسكرية التي سجنت، بحسب المرصد اللبناني لحقوق السجناء، حوالي 2351 سورياً، يشكلون 30% من إجمالي السجناء في عموم لبنان، بينهم 400 من معتقلي الرأي، وجّهت المحكمة العسكرية إلى 250 من بينهم تهماً بالانتماء إلى تنظيمات إرهابية وسواها من التهم المتصلة بالإرهاب، بينما أُوقف الباقون بتهم جنائية أخرى، ترتبط، في الغالب، بظروف اللجوء القاسية والمعاملة السيئة من الأجهزة الأمنية والقضاء اللبناني. أي أن غالبية المسجونين السوريين كانوا ضحية الوضع السياسي والأمني الذي كان سائداً في لبنان قبل سقوط نظام الأسد، حيث كانت السلطات اللبنانية تستهدف معارضي ذلك النظام، ويلفّق عناصر فيها أدلة ضدهم وتقدّمهم إلى محاكمات صورية. يضاف إلى ذلك كله أن هؤلاء المعتقلين يتعرّضون للتعذيب خلال استجوابهم، وهو ما تجسّد بوضوح في قضية بشّار عبد السعود، الذي قتل تحت التعذيب في 30 أغسطس/ آب 2022 في مركز تبنين التابع لجهاز أمن الدولة في الجنوب اللبناني. وقد دفع تواتر عمليات تعذيب السوريين في السجون اللبنانية منظمّة العفو الدولية إلى إصدار تقرير في عام 2022، ذكرت فيه بشكل مفصل بعض مآسي لاجئين سوريين، احتجزتهم السلطات اللبنانية بشكل تعسّفي، وتعرّضوا لمختلف أنواع التعذيب وأساليبه، وشملت استخدام كابلات وأجهزة كهربائية، وضربهم بالأسلاك والقضبان، وربطهم بطريقة “بساط الريح” و”البلانكو” و”الشبح” وسوى ذلك.
المشكلة هي في استمرار مخلفات المرحلة المظلمة في تاريخ العلاقات السورية اللبنانية، على الرغم من انتهاء ما سمّي “عهد الوصاية”، إضافة إلى انتخاب الرئيس جوزاف عون، وتشكيل حكومة لبنانية برئاسة نوف سلام، حيث لا تزال السلطات اللبنانية تأخذ موقف وزير العدل السابق هنري خوري الرافض تسليم أيٍّ من المعتقلين السوريين إلى بلادهم، بحجة أنهم ارتكبوا جرائم استهدفت أمن الدولة وهدّدوا السلم الأهلي. ويرى خوري أن ينفذوا محكوميتهم في لبنان عوض تسليمهم إلى دمشق، متذرّعاً بأن “من غير المنطقي أن تتنازل الدولة عن حقها”. ويلتقي موقفه مع موقف قضاة ممن عملوا في المحكمة العسكرية. وبالتالي، فإن من واجب السلطات السورية مطالبة سلام بتنفيذ الاتفاق، وتسليم جميع السجناء والموقوفين السوريين إلى بلادهم، خاصة أنه يمتلك الصلاحيات والأدوات التي تمكّنه من حلّ القضايا القانونية والإنسانية داخل السجون اللبنانية، وبما يعيد تأسيس العلاقات السورية اللبنانية وفق مبادئ مختلفة عن التي سادت في المرحلة السابقة.
لقد عانى سوريون معارضون لنظام الأسد عديدون منذ سنوات في سجن رومية سيئ الصيت، ويخوضون اليوم معركة الجسد من أجل البقاء أحياء، ووضع حدٍّ لمأساتهم، لكن المؤسف ألا تلتفت السلطات اللبنانية إلى معاناتهم، بالرغم من أنهم مشمولون باتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب لعام 1984، التي تطالب بضمان حقوق المعتقلين وتحسين ظروف الاحتجاز وتوفير بيئة إنسانية تحمي حقوقهم الأساسية، إضافة إلى أن المنظمات الحقوقية الدولية تحثّ على ضمان عدم التمييز وإلغاء محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية. ولعل السلطات السورية الجديدة مطالبةٌ ببذل مزيد من الجهود لإيقاف معاناة المضربين عن الطعام، الذين يضحون بأجسادهم وأرواحهم تعبيراً عن توْقهم للحرية، ويستخدمونها في معركة سلمية احتجاجاً على الإجحاف وسوء أوضاعهم، والأمل معقود على أن تسعى إلى حلّ قضيتهم.
العربي الجديد
—————————–
عن خطورة التمدد الإسرائيلي في الجولان/ أحمد مظهر سعدو
2025.02.23
لم يترك العدو الإسرائيلي أي وقت لدى السوريين ليهنؤوا به، بعد زوال نظام بشار الأسد، إذ سارع جيش الاحتلال الإسرائيلي بعملياته العسكرية وتحرك نحو الأراضي السورية، متمدداً داخل الأرض والجغرافيا السورية في محافظة القنيطرة، ومن ثم السيطرة على كثير من المساحات الجغرافية، في ما يسمى المنطقة العازلة، التي كان قد نص عليها اتفاق “فض الاشتباك” الموقع بين حافظ الأسد، والكيان الصهيوني، عام 1974 إبان حرب تشرين الأول وما تمخض بعدها من تفاهمات واتفاقات.
ولعل هذا التمدد والاحتلال الإسرائيلي قد بات حقيقة من أشد الأخطار المحدقة بسوريا، والتي تعتبر صعبة الحل، حيث تحاول إسرائيل عبرها أو من خلالها، تهديد وجود الإدارة الجديدة في دمشق، واقتناص الفرصة واستغلالها، في لحظة زمنية ما، تدرك فيها إسرائيل عدم قدرة حكومة ما بعد انتصار الثورة، على التصدي لأية عملية احتلال، ومن ثم تمكن إسرائيل من احتلال المزيد من الأراضي السورية، في ظل وضع عربي رسمي متهالك، وغير قادر على لجم هذا التمدد، ومع وجود إدارة أميركية برئاسة دونالد ترمب المغرقة في انسجامها مع تحركات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وكل ما يقوم به أو يفعله، سواء في قطاع غزة التي يريد ترمب تهجير أهلها، أو في جنوبي لبنان، أو أيضاً في الجولان السوري.
حيث يدرك نتنياهو أن حالة الظفر والعنجهية التي وصل إليها كيانه الصهيوني أضحت فائض القوة بحيث لن يستطيع أحد الآن على الأقل أن يعوقها، بل لعله يستطيع استغلال الوقت الأكثر خصوبة وتهيئة له على القيام بعمليات قضم الأراضي في الجولان السوري، أو جنوبي لبنان، والحقيقة تقول: إن من أهم الحالات الصعبة التي تعيق النهوض الحداثي والديمقراطي في سوريا ما بعد الأسد هي هذا الفائض من القوة، الذي بات يمتلكه نتنياهو وبالتالي ممارسته للسياسة والعسكرتاريا، وفق هذه الفوائض من القوة والتقنيات العسكرية الحديثة، وهو ما يجعل حكومة دمشق عاجزة بكل أسف على فعل أي شيء، لكن الصمت عن ذلك، وعن كل ما تقوم به إسرائيل من احتلالات وعنجهية بربرية، يفقد حكومة دمشق كثيراً من شعبيتها السورية التي اكتسبتها بعد التحرير، لأن الشعب السوري ما يزال يعتقد أنه لا بد من إعادة كامل الجولان السوري إلى أهله السوريين، وعدم السكوت على تحركات وتمددات إسرائيل مهما كان الأمر صعباً الآن .
لكن وكي نكون أكثر وعياً وعقلانية نقول كيف لحكومة الرئيس أحمد الشرع وإدارته الجديدة أن تتعاطى مع المشكلة التي أصبحت بكل هذا الحجم من الخطر، وهذه المساحة من الحركة المعوقة لأي حل داخلي، والمهددة للوجود السوري بحد ذاته.
إنه الواقع الأكثر صعوبة، والذي يحتاج إلى كثير من الجهود الدبلوماسية، من قبل حكومة دمشق، لعل أولها ما فعلته دمشق عبر التواصل مؤخراً مع هيئة الأمم المتحدة ودعوة عناصرها وقواتها الموجودة في الجولان السوري، وفق الاتفاقات الأممية المشار إليها سابقاً، إلى دفعها لأخذ دورها، والتعهد من قبل حكومة ورئاسة السيد أحمد الشرع للالتزام باتفاق فض الاشتباك الآنف الذكر والموقع عام 1974.
لكن ذلك كله لم يعد يكفي لوحده، إذ لا بد من العمل وبشكل حثيث، وعبر تمتين العلاقة مع الأوروبيين، وكذلك مع الأميركيين، عبر تحريك المصالح المشتركة بين سوريا وكل منهما، ومن ثم ممارسة الضغط الأوروبي والأميركي، إن أمكن ذلك كي ينسحب جيش الاحتلال الاسرائيلي من الأراضي التي أقدم على احتلالها في المنطقة العازلة بين سوريا والكيان الصهيوني. ويمكن أن يكون ذلك عبر المزيد من تمتين العلاقات الدولية بين الدولة السورية الجديدة، وتلك الدول الفاعلة والمؤثرة، وكذلك لا بد إثارة الموضوع بشكل أكثر جدية وفاعلية، ونحن قادمون على مشاركة سورية فاعلة في مؤتمرات القمة العربية الطارئة في القاهرة، والعادية في بغداد ومع كل هيئات ومنظمات جامعة الدول العربية، أو مع بعض الدول العربية الفاعلة والمؤثرة مثل المملكة العربية السعودية، ودولة قطر، وكذلك جمهورية مصر العربية، وهم قادرون على ذلك، فيما لو كانت هناك مباحثات وحوارات وعلاقات جدية مصلحية بين هذه البلدان وسورية الجديدة.
ولعل تفعيل ذلك أيضاً عبر تقديم الشكاوى تلو الشكاوى إلى مجلس الأمن الدولي بات ضرورياً ومهماً، وهو ما يخفف نسبياً من غلواء الألم على صدر السوريين، الذين يعتقدون أن إسرائيل سوف تستمر في صلفها هذا إن لم يتم توقيفها عند حدها دبلوماسياً وسياسياً أو عبر أساليب أخرى ممكنة وعديدة.
ولا يجب إغفال الدور التركي الأكثر أهمية، وهي الدولة الإسلامية الصديقة للشعب السوري والقادرة على فعل الكثير تأميناً عسكرياً وتدريباً وعملاً دبلوماسياً من خلال وجودها المهم في حلف “الناتو” وأيضاً عبر العلاقات الشخصية القوية المتوفرة بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الأميركي ترمب.
وتجدر الإشارة إلى أن أوضاع الجولان السوري المحتل، تعتبر من المسائل الأكثر صعوبة
كملفات سياسية وأمنية كبرى تمسك بها الإدارة الجديدة في سوريا، وهي ما تزال تعتبر المحك الأساسي الذي ستبنى عليه ومن خلاله مواقف الدولة السورية الصاعدة، والمختلفة كلياً وتماماً عن السياسات البائسة السابقة التي عملت عليها السياسة السورية أيام حافظ الأسد أو ابنه بشار الأسد. لذلك كان لا بد من الاهتمام بها، ومعالجتها والتعاطي معها بدقة وروية، اتكاءً على بناءات للوطن السوري الحر القوي المتماسك والناهض نحو دولة المواطنة السورية الديمقراطية التي تقيم الدولة الوطنية، والتي تعلي من أهمية سيادة القانون، وكذلك سيادة الوطن كل الوطن على كل جغرافيته السورية الوطنية.
تلفزيون سوريا
——————————-
الاحتلال الإسرائيلي والابتزاز التطبيعي/ زياد ماجد
21 شباط 2025
نجح نواف سلام، مدعوماً من رئيس الجمهورية جوزاف عون، في تشكيل حكومة هي أفضل الممكن في ظلّ النظام الطائفي وفي ظل موازين القوى في المجلس النيابي، متجاوزاً لأول مرة منذ العام 2008 قدرة هذا الطرف أو ذاك على تعطيل السلطة التنفيذية. وقد ضمّت الحكومة أشخاصاً مثل طارق متري وغسان سلامة يُشهد لهم بالاستقامة السياسية والخبرة الدبلوماسية والثراء الثقافي، وتمكّنت الحكومة من إصدار بيان وزاري دقيق في توازناته وواضح في تحديد مهامّه الجسام للأشهر الستّة عشر المقبلة. لكن، بعد كلّ ذلك، طرأ على المشهد اللبناني عنصر توتّر خطير ينبغي التفكير الجدّي بمؤدّياته.
ذلك أنّ إسرائيل قرّرت عدم الانسحاب من خمسة مواقع استراتيجية احتلّتها خلال حربها الأخيرة مع حزب الله في جنوب لبنان، وقرّرت تحصينها وإبقاء وحدات عسكرية فيها، وسط مناطق دمّرتها بالكامل.
هذا يعني عملياً منع عودة الآلاف من الجنوبيين إلى عدد من البلدات الحدودية لإعادة بنائها. ويعني منع الجيش اللبناني من الانتشار على مقربة من المواقع المحتلة. ويعني أيضاً الضغط على الداخل اللبناني لإيجاد شرخ إضافي بين القوى السياسية والطائفية متباينة المواقف تجاه الواجب فعله جنوباً، ودفع حزب الله إلى التهديد والمزايدة على الحكومة ومساعيها الدبلوماسية المُعلنة، بما يُبقي الاحتقان السياسي والاجتماعي شبحاً يتهدّد «الإجماعات» الوطنية ومسارات الإصلاح الشائكة المرتقبة.
الأرجح أنّ إسرائيل تريد ربط المواقع اللبنانية الخمسة التي قرّرت مواصلة احتلالها، بالمواقع السورية التي احتلّتها آخر العام 2024، بحيث تبني خطاً يمتدّ من البحر المتوسّط لبنانياً وحتى الجنوب السوري، مروراً التفافياً حول جبل الشيخ (والجولان المحتل)، يترجم مقولتها بتغيير أحوال المنطقة وبتكريس واقع جديد يصعب التعامل معه. فلا الحرب معها ممكنة في ظل الاختلال في موازين القوى الذي تعمّق وتكرّس بعد ضرب حزب الله ولبنان، ولا الدبلوماسية ومجلس الأمن سينفعان في ظلّ دعم أميركا لتل أبيب واحتمال توظيفها الاحتلال العسكري في استراتيجية شرق أوسطية تربط فيها كل انسحاب إسرائيلي بتطبيع عربي مع الإسرائيليين.
هكذا يبدو لبنان مقبلاً على ابتزاز أميركي إسرائيلي جديد، مفاده القبول باتفاق سياسي مع إسرائيل يتخطّى مسألة ترسيم الحدود البرّية، مقابل الانسحاب من الأراضي المحتلة. وهكذا أيضاً، قد تكون سوريا مقبلة على مشروطية مماثلة تربط مثلاً رفع العقوبات الأميركية والاستثمار فيها بالتطبيع مع تل أبيب، بما يسمح لدونالد ترامب بالقول يوماً إن جميع الدول العربية ذات «الحدود» مع إسرائيل وافقت على «السلام» الذي أطلق عجلته من خلال «صفقة القرن» و«اتفاقيات إبراهام» في ولايته الأولى، وإنه أنهى بالتالي صراعاً ينبغي أن يدفع الفلسطينيون ثمن تصفية ما تبقّى من رواسبه عبر استسلامهم أو إخراجهم من أرضهم.
والأمر هذا إذ يبدو الآن تقديراً لما يُعدّ له من عروض، يُفترض أن تتعامل الحكومة اللبنانية جدياً مع احتمالاته ومع تبعاته. فخطره على الداخل اللبناني كبير، لوجود تباينات سياسية وطائفية متوقعة تجاهه، ولكون تداعياته الاقتصادية مؤذية إذا ما قرّر ترامب توظيفه كشرط أو كوسيلة ضغط دائمة بهدف عزل حزب الله، في ظل صعوبة المرحلة والحاجة الى مساعدات مالية خارجية كبرى، والى إصلاحات ستواجه بدورها انقسامات داخلية ترتبط بتوزيع الخسائر المصرفية وبأولويات النهوض وموازناتها.
نحن إذاً أمام مأزق جنوبي لا حلّ له في المستقبل القريب. فلا المقاومة العسكرية (المشروعة قانوناً) متاحة أو مرغوبة بعد النكبة التي حلّت بالجنوبيّين. ولا المواقع المحتلة على تماس مع بلدات مأهولة أو مع كتلة بشرية يمكن للفعل المقاوم شعبياً التحرّك ضمنها. ولا الدبلوماسية الرسمية، الضرورية في جميع الأحوال، قد تكفي لإنهاء الاحتلال، ولا حتى الشكوى الى محكمة العدل الدولية، الممكنة، قد تُفضي سريعاً إلى تغييرٍ في المعادلة التي تريد إسرائيل تكريسها بدعم أميركي لم يسبق أن بلغ هذا الحدّ من التواطؤ، على الأقل خارج الخريطة الفلسطينية.
وهذا كلّه يتطلّب مصارحةً للرأي العام، وحواراً شفافاً وعلنياً مع حزب الله لتحديد المسؤوليات والحيلولة دون تهويل ومبالغات خطابية يسهل تحوّلها إلى صخب ميداني وأعمال شغب. ولكنّه يتطلّب أيضاً وعياً وحكمةً من خصوم حزب الله، الذين قد تقود الأوهام والحسابات الخاطئة بعضهم، نحو إجهار القبول بمشاريع ليست في صالح لبنان طالما أنها تعمّق الانقسامات داخله، ولن تُنهي في أيّ حال الصراع في فلسطين وآثاره في المنطقة ككلّ.
وهو يتطلّب أخيراً تنسيقاً مع الحكم الانتقالي في سوريا للبحث في مختلف السيناريوهات المقبلة، وحملات إعلامية ودبلوماسية عربية ودولية لدعم الحكومة اللبنانية سياسياً واقتصادياً، بمعزل عن المشروطيات الأميركية والإسرائيلية.
ميغافون
—————————
سورية ولبنان.. هل يتغيّر نهج التهريب؟/ سالي موسى
22 فبراير 2025
منذ نشأتنا في منطقة البقاع الغربي، كان من بين الأمثال الشعبية المتداولة: “دنّق حمير لالا على طريق الشام”. وعند الاستفسار عن معناه، كان الجواب أنّ المهربين كانوا يرسلون الحمير في طقس قارس لتسلك الطرق المألوفة، حيث كانت هذه الحيوانات تعرفها جيدًا. أصبح هذا المثل، الذي كان جزءًا من الذاكرة الشعبية، اليوم رمزًا لصراعٍ مستمر مع ظاهرة التهريب عبر الحدود اللبنانية السورية.
تُعتبر الحدود اللبنانية السورية إحدى أبرز المناطق المتوتّرة، إذ شهدت العديد من التحوّلات السياسية والأمنية في ظلّ الأحداث الإقليمية والمحلية المستمرة. وفي هذا السياق، لعبت الفرقة الرابعة التابعة للنظام السوري السابق دورًا محوريًا في تنظيم عمليات التهريب عبر هذه الحدود، ما ساهم في تعزيز النفوذ الاقتصادي للنظام السوري من خلال سيطرتها على عدّة معابر غير شرعية.
ومع تولي إدارة جديدة في سورية زمام الحكم، يبرز ملف ضبط الحدود باعتباره أحد التحديات الأكثر تعقيدًا. ففيما تشهد بعض المناطق الحدودية، مثل تلك المحاذية للهرمل، تشديدًا أمنيًا واشتباكات متكرّرة، تبقى ممرات التهريب في مناطق أخرى، مثل البقاع الغربي، نشطة من دون إجراءات صارمة. هذا التفاوت في الإجراءات الأمنية يثير تساؤلات عن منهجية التعامل مع التهريب، والعوامل التي تؤثّر في تحديد أولويات الضبط، سواء كانت أمنية، اقتصادية، أو ذات أبعاد اجتماعية وسياسية.
تتمحور المعضلة الأساسية اليوم بين الفرقة الرابعة والإدارة السورية الجديدة في السؤال الآتي: هل تستطيع السياسات الأمنية والاقتصادية الجديدة كسر دائرة النفوذ الطائفي التي كانت تُشكّل حجر الزاوية في تنظيم التهريب عبر الحدود اللبنانية السورية، فتعتمد سياسة موحّدة تشمل جميع المعابر غير الشرعية ، أم أنّ الروابط الطائفية ستظل تتحكّم في آليات التعامل مع هذه الظاهرة؟
على مدار سنوات، تولى ماهر الأسد دور “شرطي التهريب”، حيث وجّه الفرقة الرابعة لتنظيم طرق التهريب وفقًا للاعتبارات العائلية والطائفية، مع فرض عقوبات شديدة على المخالفين تراوح بين الغرامات المالية والسجن. وكان واضحًا أنّ للفرقة علاقات وثيقة ببعض المجموعات الشيعية؛ تجلّت هذه العلاقات في الصور التي كانت تُعرض لماهر الأسد على الطرق المؤدية إلى جديدة يابوس، مقدّمة من قبل بعض العشائر البقاعية، ما عكس متانة الروابط بين الطرفين.
ومن خلال هذه العلاقات، تمكّن شخص مثل حسن دقو، المرتبط بحزب الله، من توسيع شبكة تهريب المخدرات، خصوصاً في مناطق البقاع اللبناني المتاخمة للحدود السورية. كذلك سهّلت الفرقة الرابعة مرور هذه الشبكات عبر المعابر غير الشرعية، ما أوضح التفضيل الذي حظيت به بعض الفصائل الشيعية في هذه الأنشطة المشبوهة وفق محاضر اعترافات دقو لدى الأمن اللبناني.
ورغم أنّ الإدارة السورية الجديدة عبّرت عن رغبتها في تغيير السياسات المتبعة، إلا أنّ الواقع كشف أنّ المعابر في المناطق السنية حظيت بمعاملة خاصة. فعلى سبيل المثال، بعد اشتباكات الحدود في منطقة الهرمل، أُغلِقت بورصة الأسلحة في مجدل عنجر يومها، حيث بلغ سعر الكلاشينكوف 50 ألف دولار لكلّ وحدة. أما منطقة لالا في البقاع الغربي، فلولا كونها معبرًا رئيسيًا تاريخيًا للتهريب، لما اكتسبت شهرتها الواسعة من خلال الأمثال الشعبية.
من المهم التأكيد اليوم أنّ التهريب ليس مجرّد تهمة تُلصق بطائفة أو فئة معينة بناءً على التغيّرات التي قد تطرأ على الأنظمة السياسية؛ بل هو جريمة دولية عابرة للحدود تتجاوز القوانين وتهدّد العدالة الاقتصادية والاجتماعية. يُعبّر التهريب عن شبكة معقدة تضم عناصر متعدّدة تتجاوز الانتماءات الطائفية والقبلية، حيث يستغل البعض حاجة أبناء القرى الحدودية للحصول على فرص حياة أفضل، ليحقّقوا مصالح غير قانونية تضرّ بمصلحة الدول والشعوب.
إن التصدي لهذه الظاهرة يتطلّب بناء مؤسّسات قوّية تُعزّز سيادة القانون وتوفّر فرصًا اقتصادية شرعية لسكان المناطق الحدودية، ما يسهم في تقليص الحاجة إلى الأنشطة غير القانونية مثل التهريب عبر توفير بدائل اقتصادية مستدامة، وخلق بيئة مستقرة تُسهم في الإنماء.
ختاماً، يبقى ملف التهريب عبر الحدود اللبنانية السورية تحديًا معقدًا يتداخل فيه الأمن والسياسة والاقتصاد، ويتعدى كونه قضية طائفية أو فئوية. فقد أثبتت التجارب السابقة بقيادة ماهر الأسد والفرقة الرابعة أنّ تنظيم التهريب لم يكن قائمًا على السيطرة العسكرية فقط، بل استغل الفرص والثغرات القانونية لتحقيق مصالح غير شرعية. وفي ظلّ الإدارة السورية الجديدة، أصبح من الضروري كسر دائرة التواطؤ الطائفي وإعادة صياغة سياسة أمنية شاملة تضع سيادة القانون في المقام الأول. ويتطلّب ذلك إرادة سياسية حقيقية وتعاوناً وثيقاً بين الدولتين اللبنانية والسورية لتطوير حلول قانونية وأمنية مشتركة تُعيد الثقة وتحوّل نقاط التوتّر إلى جسور للتنمية والاستقرار. إذ إن تجاوز الانقسامات التقليدية والارتقاء بمصالح الشعوب قد يمهّدان الطريق نحو تحوّل حقيقي يُعيد للحدود قيمتها أداةً للتعاون، لا منصةً للصراع.
——————————
حلب.. بوابة لإنعاش الاقتصاد السوري/ غيث مكتبي
22 فبراير 2025
لطالما كانت حلب قلب الاقتصاد السوري، مستفيدةً من موقعها الاستراتيجي على طرق التجارة القديمة، ومهارة أبنائها في الصناعة والتجارة. حيث ازدهرت المدينة بأسواقها وصناعاتها التقليدية، مثل صناعة صابون الغار والنسيج، وظلّت عبر العصور مركزًا تجاريًا وصناعيًا رئيسيًا، حتى غدت العاصمة الاقتصادية الأولى في المنطقة، وشريان المال الذي لا ينضب بفضل تجارها المتماسكين تاريخيًا.
إلا أنّ المدينة تعرّضت خلال العقود الأخيرة لسياسات ممنهجة أضعفت دورها، حيث فُرِّغَت من محتواها الاقتصادي وحُجِّمَت حركة أبنائها في القطاعين الصناعي والتجاري، إلى جانب تغييرات إدارية، كفصل إدلب عنها، ما أثر في ثقلها وتمثيلها السياسي، بالإضافة إلى توتير العلاقة بين أهل المدينة والريف. هذا النهج والتهميش استمرّا لعقود، ما انعكس سلبًا على الدور الاقتصادي لحلب.
واليوم، في ظلّ التحديات الاقتصادية الراهنة، تبرز الحاجة إلى إعادة إحياء دور حلب محرّكًا أساسيًا للنهوض بالاقتصاد الوطني. وخلال زيارته الأخيرة للمدينة، اجتمع الرئيس أحمد الشرع مع عدد من الصناعيين والتجار والفاعلين من عدّة خلفيات ثقافية واختصاصية، حيث طُرحت مقترحات عدة، كان أبرزها عقد مؤتمر اقتصادي في حلب خلال الصيف المقبل.
قد يمثّل هذا المؤتمر فرصة محورية لإعادة إنعاش الاقتصاد السوري بمختلف قطاعاته، عبر توحيد الجهود الوطنية والاستفادة من الموقع الاستراتيجي لحلب ودورها التاريخي الريادي، وإنّ نجاح هذا المؤتمر من شأنه أن يخلق منصة حيوية لرجال الأعمال والمستثمرين والخبراء الاقتصاديين، سواء من داخل البلاد أو المغتربين، ما يتيح تبادل الخبرات وطرح استراتيجيات تنموية فعالة. كذلك فإنه قد يشكّل خطوة رئيسية نحو تحفيز خطط التنمية المستدامة، عبر جذب الاستثمارات، وتطوير القطاعات الإنتاجية، وإعادة تأهيل البنية التحتية، وتعزيز خطط الإعمار. بناءً على ذلك، وضعتُ تصوّرًا لما قد يتضمنه هذا المؤتمر من مناحٍ مهمة، الذي أتوقع له أن يكون محطة مفصلية في مسار التعافي الاقتصادي السوري، وبداية لرسم ملامح المرحلة الاقتصادية المقبلة:
– إعادة الإعمار والتنمية: فرصة لخلق منصة لطرح مشاريع إعادة الإعمار في مختلف المدن السورية، عبر تقديم حوافز استثمارية ووضع أطر تعاون مع الدول والشركات المهتمة بالمساهمة في إعادة الإعمار.
– جذب الاستثمارات وتحفيز الاقتصاد: من خلال تسويق الفرص الاستثمارية المتاحة، قد يسعى المؤتمر لجذب مستثمرين محليين ودوليين، ما يساهم في خلق فرص عمل جديدة، وتعزيز الإنتاج المحلي، وتنشيط الدورة الاقتصادية. بالإضافة إلى إمكانية تحديد أبرز السلع والصناعات الجاهزة للطرح في الأسواق، وتنظيم آليات تسويقها محليًا ودوليًا، ولا سيما المنتجات التراثية والتقليدية السورية التي تحتاج لإعادة إحياء واهتمام.
– تعزيز التعاون بين القطاعات الاقتصادية: إمكانية العمل على تحقيق تكامل بين القطاعات المختلفة، مثل الصناعة والزراعة والتكنولوجيا، عبر تشجيع الشراكات بين المستثمرين والتجار والصناعيين، ووضع آليات مستدامة لدعم المشاريع المتوسطة والصغيرة وفق رؤى استراتيجية.
– تطوير البنية التحتية الاقتصادية: توصيات المؤتمر قد تكون بمثابة خريطة طريق لتحسين البنية التحتية في حلب والمدن السورية الأخرى، بدءًا من شبكات النقل والخدمات اللوجستية، وصولًا إلى تحديث المناطق الصناعية والمراكز التجارية وإعادة تأهيلها لتلبية متطلبات الاقتصاد الحديث.
– تعزيز العلاقات الاقتصادية الخارجية: المؤتمر فرصة لبناء شراكات اقتصادية إقليمية وعالمية، من خلال وضع اتفاقيات تعاون مع الدول المجاورة، ولا سيما تركيا والأردن، وتسهيل حركة التجارة والاستثمار عبر حدود أكثر تنظيمًا، بما يضمن تكاملًا اقتصاديًا يخدم جميع الأطراف.
– نقل المعرفة ودعم السياسات الاقتصادية: المؤتمر فرصة لخبراء الاقتصاد السوريين المقيمين في سورية والمغتربين لتقديم رؤى واستراتيجيات حديثة تعزّز الاستقرار المالي، وتساهم في وضع سياسات اقتصادية جديدة تدعم النمو المستدام، بما يتماشى مع متطلبات المرحلة القادمة.
من الأفضل أن يسبق المؤتمر الاقتصادي، عقد ورشات عمل في كلّ محافظة ضمن غرف الصناعة والتجارة والنقابات، ما يتيح جمع البيانات والمقترحات المحلية، وتنظيم وتوحيد الرؤى الاقتصادية بين مختلف المناطق وفق الحاجات والواقع المحيط، ما يضمن وضع استراتيجيات متكاملة، إضافةً إلى ذلك، تضمن الورشات إعداد توصيات مدروسة وقابلة للتطبيق، ما يجعل المؤتمر أكثر فاعلية في تحفيز التعافي الاقتصادي والتنمية المستدامة.
العربي الجديد
————————————
“اللحظة” الكردية في الإقليم.. بين الفرص والتحديات؟/ سمير صالحة
2025.02.23
تحتاج مراقبة الحراك الإقليمي بشقه الكردي على أكثر من جبهة في هذه اللحظة الفارقة بالمقاييس التركية والعربية والكردية، إلى أكثر من عين تتابع وتسجل ولا تهمل التفاصيل مهما كانت بسيطة وثانوية.
هي تستدعي ربما وجود العين السابعة التي جرى الحديث عنها في الأساطير، والتي تعتبر تجسيدا لقوة خارقة قادرة على رؤية أبعد من الواقع المادي، ومراقبة أكثر من مكان، ورصد أكثر من زاوية، والتمييز الدقيق بين المواقف والتصريحات، وتحليل شكل اتخاذ القرار في التعامل مع وقائع ملموسة أو دوافع إعلان مواقف لأسباب مخفية في الزمان والمكان.
يصف البعض في الأوساط الكردية ما يجري بأنه أبعد من عملية رصد ومتابعة للتحركات السياسية على أكثر من جبهة محلية وإقليمية. تطورات المشهد كما يريدها العديد من القيادات الكردية هي أن تذكر بأجواء ما قبل قرن من الزمن لحظة “سيفر” ثم “لوزان” وعصيان الشيخ سعيد وبعدها “جمهورية مهاباد”. لكنها وحسب قيادات تركية هي مرتبطة بفرصة سانحة لإخراج الملف من الثلاجة مجددا، وبعد سنوات طويلة من التريث وفي أعقاب فشل أكثر من محاولة لإنهاء لغة السلاح وتفكيك عناصر “حزب العمال الكردستاني” وسحب هذه الورقة من يد قوى عديدة تلعبها ضد الإقليم. الجانب العربي من ناحيته يريد تسوية الموضوع بعيدا عن لغة التصعيد والمواجهة العسكرية، ومن خلال حوار بناء لا يهدر الفرصة التاريخية السانحة اليوم كي تنهي كل دولة داخل حدودها نقاشات الملف في إطار، مسار وطني يحمي وحدة الدولة وتماسكها.
عندما تحرك دولت بهشلي الزعيم القومي المتشدد لتفعيل الملف الكردي بشقه التركي في مطلع تشرين الأول/أكتوبر الماضي، لم يكن يتوقع لا هو ولا غيره حجم مفاجأة المشهد السوري التي أطاحت بنظام الأسد، وما حملته التطورات هناك من نقاشات سياسية داخلية مرتبطة بما يجري في شرق الفرات، وفرص الوصول إلى تفاهمات سورية – سورية، ومدى الاستعداد لحسم نقاشات الموضوع من دون تصعيد واحتقانات لا يحتاجها السوري لفترة زمنية طويلة. وكذلك لم يكن في الحسبان أن نقاشات كردية – كردية عابرة للحدود على خط أربيل – القامشلي – أنقرة – دمشق ستجري بهذا الزخم، للبحث عن حلول وطنية – إقليمية تستعد لمواجهة رغبات البعض في فرض شرق أوسط جديد يستفيد من حالة الانقسام والشرذمة والتباعد في المواقف والرؤى حول هذا الملف المزمن. وهو لم يضع في الحسبان أنه سيأتي اليوم الذي يتسلم فيه زعيم “الحزب الديمقراطي الكردستاني ” في إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني، رسالة من أوجلان، نقلها وفد من حزب “المساواة وديمقراطية الشعوب” التركي، خلال استقباله الوفد في أربيل. وحيث أعرب البارزاني عن استعداده الكامل لدعم عملية السلام في تركيا وإنجاحها، مشيرا إلى أنها الطريق الوحيد الصحيح للوصول إلى حل.
نحتاج إلى قدر كبير من الرؤية الشاملة. إلى عيون النسر الحادة التي لا يفوتها أي تفصيل ونحن أمام مشهد التحولات الكبرى التي تشهدها الساحة الإقليمية بشقها الكردي.
فهناك: حراك تركي على مستوى الداخل منذ 5 أشهر من خلال تفعيل ورقة عبد الله أوجلان من جديد بعد فشل أكثر من محاولة سابقة. وحراك سوري على جبهتي دمشق – القامشلي بعد متغيرات أواخر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. ودخول سريع للقيادة السياسية الكردية في أربيل، مستفيدة من تحسن علاقاتها بأنقرة، في محاولة لتقديم خدماتها على خط الوساطات والتهدئة بين أكراد سوريا أولا ثم بين أكراد سوريا والعراق ثانيا وبعدها نقاشات ذلك مع الجناح الكردي السياسي الناشط في تركيا ثالثا. حدود الضوء الأخضر الذي توفره أنقرة هنا مهمة جداً. فحساسية الموضوع في الداخل التركي معروفة. وإذا ما شعرت القيادات السياسية التركية أن المسار يتقدم باتجاه مغاير لما تنتظره وتريده في شرق الفرات لناحية حسم وجود المجموعات الإرهابية وسحب السلاح الأميركي من يد “قسد” والتلويح الدائم بورقة “داعش”، فهي ستقطع الطريق سريعا على محاولات تتعارض مع حساباتها وأولوياتها.
قناعة الكثيرين هي أن حراك اليوم يجمع بين التحديات والفرص، يحتاج إلى قراءات مختلفة تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات المحلية والإقليمية السياسية والأمنية والاقتصادية. لكن العقبة الأخرى الواجب الاستعداد لها هي الجبهة الإيرانية الغائبة والتي تقول طهران إن لا علاقة لها بها. ثم إصرار تل أبيب على تسجيل اختراق سياسي أمني في الملف لصب الزيت فوق النار وإبقاء “التوتر” الكردي الإقليمي قائماً. من دون أن نُغفل هنا مسألة أن واشنطن لن تفرط بورقة “قسد” قبل أن تطمئن على مصالحها في سوريا. فالإمساك بالورقة الكردية هناك يقوي موقفها التفاوضي مع أنقرة ودمشق وبغداد في الملف. كيف ومتى سيعلن ترمب موقفه من مسألة سحب القوات الأميركية من سوريا؟ هل هو الآخر ينتظر ما سيقوله عبد الله أوجلان في الرسالة المرتقبة التي يجري الحديث عنها وسيوجهها من سجنه في آذار/مارس المقبل موعد عيد نوروز ليحدد موقفه؟
بقدر ما ستكون الأعين مشدودة نحو حراك القيادة الكردية في أربيل على أكثر من مسار، ستكون الأنظار موجهة نحو ما الذي سيقوله أوجلان، وهل سيكون لما سيقوله تأثيره على المتبقي من كوادر “حزب العمال” في شمال العراق وشرق الفرات؟ وكيف ستتلقى قيادات “حزب المساواة وديمقراطية الشعوب” الكردية فحوى الرسالة وتلتزم ببنودها؟
رمى دولت بهشلي وهو يعلن بداية مسار جديد تحت عنوان “تركيا بلا إرهاب” الكرة في ملعب الآخرين. هو كان يتحدث عن الملف بشقه التركي، لكن أردوغان كما يبدو أراد دمج الموضوع بالمشهد السوري وتوسيع رقعة النقاشات لتكون عابرة للحدود، ويسحب من خلالها الورقة الكردية من يد أكثر من لاعب إقليمي ودولي يتمسك بتحريكها منذ عقود. التقاء ما تفعله أربيل عند ما سيقوله أوجلان وقبول قيادات حزب “ديم” وشرق الفرات به، هو ما سيساعدنا على التعرف إلى الرؤية الكردية الجديدة ومدى استعدادها للتعامل مع ما تنتظره أنقرة ودمشق وبغداد وطهران حتى ولو تجاهلت الأخيرة ما يجري.
القنبلة السياسية التي فجرها قبل أيام “حزب هدا بار” الكردي الإسلامي بحسب توصيفات الكثيرين وشريك “تحالف الجمهور” والعدو الأول لحزب العمال، وهو يستعرض نتائج أعمال ورشة نظمها في دياربكر حول الموضوع الكردي أغضبت الكثيرين، وستحمل معها نقاشات داخلية كبيرة كما يبدو. هو يريد التذكير بنفسه وبحصته في المشهد، لكنه يفعل ذلك وهو يطرح “المساءلة التاريخية لأسباب إنسانية” حول ما ارتكب من أخطاء، ويتحدث عن “الاستقرار الذي يريده الجميع في كردستان وأن سعادة أنقرة تمر عبر استقرار ديار بكر”. بقدر ما تحتاج الأمور الى عين سابعة، هي تحتاج أيضا الى اجتراح معجزات في التعامل مع ملف بالغ التعقيد والتشابك.
تلفزيون سوريا
—————————-
عفرين السورية “الجمهورية” الرابعة/ شفان إبراهيم
2025.02.23
دخلت قوات الأمن العام التابعة للإدارة السورية، إلى مدينة عفرين الكوردية السورية، وسط مشهد مهيب للقواعد الاجتماعية من حيث الاستقبال والعراضة والحشّد الجماهيري، ورفع علمي كوردستان والثورة السورية، وسط الأغاني الكوردية والسورية القومية والثورية. مع رفع لافتات حول إطلاق سراح المعتقلين لدى فصائل المعارضة السورية السابقة، والتي اندمجت بوزارة الدفاع السورية، والعودة الأمنة للأهالي، وسحب السلاح من المسلحين، مُختزلة معاناة المجتمع المحلي منذ عقود طويلة. تلاها زيارة رئيس المرحلة الانتقالية السيد أحمد الشرع ولقائه مع ممثلي المجلس الوطني الكوردي ووجهاء وأهالي عفرين، وتأكيده على وضع حد للمظالم والانتهاكات السابقة.
تعود تسمية المدينة لعهد الإغريق والتي سُميت بنهر “أفرينوس” أيّ رغوة الصابون، حيث منبع النهر. كما جاء في كتاب “ذكرياتي عن بلاد ألف ليلة وليلة” للملحق التجاري الفرنسي في حلب ما بين سنوات 1556-1548، إنه وبحكم “مهنتي في استيراد الحرير كنت أسافر إلى كلس وعنتاب واعزاز وجبل الأكراد وما إليها”. أي أن تسمية الجبل “بالأكراد” كانت معروفة منذ ذلك التاريخ على الأقل. وسماها الكورد باسم “جيايي كورمينج” أي جبل الكورد، ككناية عن الشعب الذي قطنه وسكن تلك الجبال. وخلال العهد العثماني كان القضاء تابعاً لولاية حلب، حيث سُميت بــــ (كورد داغ) أيّ جبل الأكراد وفقاً للمصطلح العثماني، ثم ولاية كلس إدارياً، ومع الانتداب الفرنسي على شرق البحر المتوسط وسوريا، قُسمت إلى قسمين: الأول ظل تحت سلطة فرنسا في سوريا، في حين أُلحق الثاني بتركيا. يبلغ عرض المنطقة من الشرق إلى الغرب 55 كيلومترا، وطولها من الشمال إلى الجنوب 75 كيلومترا، وتساوي مساحتها حوالي 3850 كيلومترا مربعا، تعادل 2% من مساحة سوريا وكان يقطنها أكثر من 700 ألف نسمة حتى ما قبل 2011 وفق إحصائيات لدوائر النفوس السورية، لكن لا يمكن ذكر النسب السكانية الدقيقة حاليا بسبب الهجرة والتهجير. وخلال فترة رئاسة فوزي سلو أصدر في 22 كانون الأول/ديسمبر 1952 المرسوم التشريعي رقم (179) القاضي بإعادة تسمية بعض المحافظات والأقضية باسم مراكزها، ومنها قضاء جبل الكورد الذي تم إعادة تسميته نسبة إلى المركز الجديد، فبات (قضاء عفرين) مركزاً لمنطقة عفرين.
يتذكر كاتب الأسطر عفرين جيداً، فهي المدينة التي طالما احتضنت طلبة جامعة حلب، من أبناء المنطقة الكوردية خاصة، وشمال شرقي سوريا عموماً المفتقدة للمناطق السياحية والجمالية، بعكس عفرين وقراها وما تتميز بها من جمالية المشهد والمظهر والهواء النقيّ. وغالباً كانت الرحلات الجامعية أو الزيارات الشخصية هي مدماك الوصول إلى عفرين والبقاء فيها، خاصة شلالات ميدانكي، وراجو، وجندريسي وحمامات الشفاء الكبريتي، وباسوطة، وبرج عبدالو، إضافة إلى التلال الأثرية مثل قلعة سمعان، وتل عين دارا، ومزار النبي هوري، وجبل ليلون، عدا عن الغابات والأنهار والبحيرات، والتي حولت عفرين إلى مقصد سياحي للسوريين والأجانب ودول الجوار السوري.
لكن هذه المدينة ذات الطبيعة البشرية المميزة بدماثة خلقها وعفويتها وكرمها، لم تنل الراحة والاستقرار منذ سيطرة البعثيين على البلاد وحتّى اليوم. عاشت عفرين كبقية المناطق السورية، تحت حُكم عنصري بغيض، ارتكب أربع جرائم مركبة بحقهم، الأولى: شراكته في أرزاق الناس وخاصة أشجار ومعاصر الزيتون وزيته، والثانية: التجهيل ومنع اللغة الكوردية، والثالثة: حملات الاعتقالات للسياسيين والكتّاب، والرابعة: الفصل التام بينهم وبين عموم السوريون والكورد في باقي المناطق الحدودية، عبر دعم جيوب ومناطق مُستحدثة لفصلهم عن بقية الكورد، إضافة لإفقار الريف بشكل مُمنهج. في حين أسهمت البيئة والطبيعة في منحها تلك الجمالية، إضافة لغلبة طابع العمل والإنتاج على المجتمع المحلي، والتي يتجاوز مساحتها مساحة كُلا من محافظات اللاذقية 2300 كلم، درعا 3730كلم، القنيطرة1860كلم، طرطوس 1890كلم، ولم يكن يمنع من تحويلها إلى محافظة سوى النزعة العنصرية والإقصائية، حيث أُلحقت إدارياً بمحافظة حلب، وهو ما منع وفقاً للنسب والتناسب العددي، من وصول أهالي عفرين إلى مجلس الشعب، أو مجلس المحافظة، أو البلدية، وعموم الدوائر والمؤسسات الأخرى. وبذلك نجح النظام السوري في الحفاظ على عفرين بعيداً عن السياق السوري السياسي والمجتمعي والاقتصادي العام.
بقيت الأمور الى حالها إلى حين بدء الثورة السورية والتي التحقت عفرين بركبها ولبت نداء السوريين، بالتظاهرات ورفض النظام السوري، قبل أن ينسحب النظام منها ويُسيطر حزب “الاتحاد الديمقراطي” على المدينة في عام 2012، ويؤسس “الإدارة الذاتية” فيها عام 2015. ووفقاً لكثير من الشهادات والتقارير الإعلامية، فإن تلك الفترة لم تكن عصراً ذهبياً ولا تحولا ديمقراطياً في مسار الحياة السياسية والاجتماعية والمعيشية في عفرين، من حيث فرض التجنيد الإلزامي، ومناهج تعليمية مؤدلجة أدت لهجرة مُكثفة صوب الداخل السوري، أو خارج سوريا، ورغم تدريس اللغة الكوردية، بأهميتها كأرضية أساسية للهويّة الكوردية، لكنها لم تنل أيّ اعتراف أو شرعية للمناهج، إضافة للممارسات والضغوط وحملات الاعتقال والاختفاء وفقدان الأشخاص، وخنق الحياة السياسية والإعلامية للكتّل السياسية والإعلاميين غير المنخرطين مع “الإدارة الذاتية”، مع فرض لون ورتم سياسي وحزبي واحد، وشراكة الأهالي في أرزاقهم، وبذلك لم يختلف الوضع لدى الأهالي كثيراً، بل إن مشاعر الغُبن زادت لدى الأهالي، ولم يصل المجتمع المحلي للاستقرار الذي تأملوه من الثورة السورية.
بقي الأمر على حاله حتّى سيطرة فصائل المعارضة السورية في عام 2018، بدعم من تركيا على عفرين، في عملية “غصن الزيتون”، وخلال سيطرة تلك الفصائل حتى بدايات 2025، تميزت بأنها المرحلة الأكثر سواداً وعنفاً وقمعاً في تاريخ كورد سوريا عموماً وعفرين خصوصاً. من حيث الخطف وطلب الدية لأطلاق سراحهم، إلى تقليص عدد ساعات تدريس اللغة الكوردية لصالح مواد دينية غير داخلة في المناهج المدرسية، إلى النهب المنظم لأرزاق الناس وتزوير عقود الملكية ومصادرة الأراضي الزراعية وحقول الزيتون والآليات الزراعية، وإخراج الأهالي من منازلهم أو السيطرة على منازل الأهالي المُهجرين من بلداتهم، وسرقة المواشي والدواجن، إلى قطع الأشجار وبيعها وتجريف الآثار والسيطرة على مزارات الإيزيديين والعبث بها وبمراقدهم الدينية، وصولاً للقتل العام العمد على الهويّة كما حصل مع عائلة “بشمركة” خلال إشعالهم للنار عشية عيد النوروز في 20-3-2023 بجنديرس وعشرات الحالات الأخرى، عدا عن تحويل عفرين إلى مركز للإسلام السياسي الذي أنهى جميع مفاصل ومباهج وتجليات الحياة الطبيعية فيها. وباختصار فإن ما جرى في عفرين خلال العقد الأخير كان إسقاطاً وإنهاءً لكُل قيم الثورة والمساواة والعدالة الاجتماعية والحق.
وضمن التغيرات التي عصفت بسوريا بعد إسقاط النظام السوري، والإعلان عن إدارة سياسية جديدة في دمشق، والبدء بترتيبات المرحلة الانتقالية. حمل المشهد المهيب لاستقبال وصول قوات الأمن العام إلى عفرين، ثم السيد أحمد الشرع رسائل واضحة، هي مناجاة للبدء بالعيش بسلام وأمان. عُرف عن أهالي عفرين شغفهم بالعمل والإنتاج، لدرجة إن لهم دور واضح في تحريك عجلة الاقتصاد والأسواق في المناطق التي لجأوا إليها مثل القامشلي والحسكة وغيرها. الرسالة التي يوجهها المجتمع المحلي في عفرين إلى السيد أحمد الشرع رئيس المرحلة الانتقالية هي: لو أن الأمن العام سيتولى الإشراف على عفرين، فإن المطلوب أولاً وفوراً إبعاد الفصائل التي “أزالت” الحياة المدنية في عفرين وريفها، وتقليل وصولها لحياة الناس المدنية وضبط سلوكياتها. ويطالبون بدور أكبر لهم ضمن جهاز الشرطة المدنية، فالمطلوب حالياً ضبط الأمن ومنع الفوضى ووضع حد للانتهاكات والنهب المنظم، وهذا ما لن يتم قبل حصر القرار بجهة منظمة، إضافة لمنع نقل ملكيات الخاصة لعقارات الأهالي ومحاضر البناء، التي ضربها زلزال شباط 2023، ومساعي بعض الجهات لإعادة إعمارها وقيد العقار بأسماء من سكنها عنوة. يقول الأهالي للإدارة في دمشق: هذه هي الحكومة الرابعة التي تتولى أمرنا وحيواتنا ومصائرنا، فهل ننجو عبرها من الموت، ونصل للاستقرار بواسطتها؟
تُنادي النساء الكورديات: سئمنا وماعاد لنا من قدرة وطاقة على فقدان أبنائنا وبناتنا، سواء عبر الخطف أو القتل أو التهجير، فهل سننام مُرتاحي البال؟ يقول الرجال للحكومة في دمشق: وكأن القدر فرض علينا أن نشتغل ونعمل ونطور الاقتصاد لصالح جيوب الحكومات التي حكمتنا، فهل سنجد ذلك اليوم الذي نتصرف بأملاكنا كما نشاء؟ يقول الشباب: خطفٌ وقتلُ وتغييب وتهجير وتجنيد إجباري، هل بأماكننا التجول في أحيائنا بأمان؟ ويقول الجميع معاً: نرغب أن نُبني بلدنا وقرانا، وأن نُطور من مناهجنا التعليمية، وأن لا تُصبح اللغة الكوردية عرضة للابتزاز والتفاوض. يقول العفرينيون بصوتٍ واحد: نأمل خيراً في الحكومة الجديدة على قاعدة مشاركتنا في صناعة ورسم السياسات العامة و الخاصة ضمن مدينتنا وعموم سوريا، ونأمل أن نراها محافظة على غرار المحافظات التي تقل عن عفرين من حيث المساحة وعدد السكان.
تلفزيون سوريا
—————————-
ألوية الجنوب.. مخاوف تتبدد باتفاق مع دمشق ونقاش عن التوزع الجغرافي للخدمة
2025.02.23
في الوقت الذي كان يتخوف فيه السوريون من عقدة فصائل الجنوب السوري، سواء في السويداء أو درعا، وصعوبة تفكيكها في مسار تشكيل جيش موحد بسبب شبكة المصالح والنفوذ، توصلت وزارة الدفاع في الحكومة السورية إلى اتفاق مع الفصائل وأنهت كامل ترتيباتها، تمهيدا لتشكيل ألوية عسكرية من أبناء المنطقة وإدماجها ضمن الجيش.
ورغم تأكيد مصادر إعلامية وعسكرية بشأن التوصل إلى الاتفاق، إلا أن الغموض لا يزال يلف آلية التنفيذ، خاصة فيما يتعلق ببقاء هذه التشكيلات العسكرية في مناطقها، وما قد يترتب على ذلك من إشكاليات مستقبلية تتعلق بالولاء والاستقلالية واحتمالات التمرد.
ومع غياب أي إعلان رسمي من وزارة الدفاع يوضح تفاصيل التطبيق، تبرز تساؤلات جوهرية حول إيجابيات وسلبيات القرار، وإمكانية الإدارة الجديدة تحقيق التوازن المطلوب، لضمان عدم تحوله إلى مشروع مناطقي داخل الجيش، يهدد وحدة المؤسسة العسكرية على المدى الطويل.
اتفاق بعد خلاف
على مدى الشهرين الماضيين، واجهت الإدارة السورية الجديدة تحديات كبيرة في الانتقال من واقع الفصائلية إلى بناء جيش منظم، وهي مهمة لم تكن سهلة في ظل تعقيدات المشهد العسكري والسياسي.
ورغم قرار حل جميع الفصائل خلال “مؤتمر النصر”، وما حملته تصريحات وزير الدفاع مرهف أبو قصرة من مؤشرات إيجابية بشأن خطة لإدماج الفصائل كافة، إلا أن هذه العملية لا تزال في إطارها النظري بانتظار التطبيق الفعلي على الأرض.
منذ سقوط نظام الأسد وطرح فكرة إعادة تشكيل الجيش السوري، برزت التحديات المرتبطة بالفصائل العسكرية المتباينة في توجهاتها وداعميها، وعلى رأسها فصائل الجنوب السوري، درعا والسويداء.
في درعا اصطدمت جهود الاندماج بموقف “غرفة عمليات الجنوب” بقيادة أحمد العودة، قائد اللواء الثامن، الذي رفض الانضمام إلى الجيش، وفقا لما أعلنه وزير الدفاع، لتبدأ عملية التراشق بالاتهامات بين الطرفين.
في 6 من الشهر الحالي، صرح أبو قصرة لصحيفة “واشنطن بوست
” أن “نحو 100 فصيل مسلح في سوريا وافقوا على الانضمام لوزارة الدفاع لكن هناك عدد من الفصائل الرافضة للانضمام بما في ذلك أحمد العودة، الذي قاوم محاولات وضع وحدته تحت سيطرة الدولة”.
بدوره رفض “اللواء الثامن” تصريحات أبو قصرة، ووصفها القيادي في اللواء نسيم أبو عرة، في تسجيل مصور
في 10 من الشهر، بأنها “اتهام غير دقيق”، معرباً عن أسفه لما أسماه “خطاب التخوين والتشكيك”.
وقال أبو عرة إن “أبناء الجنوب هم أول من نادى بتأسيس وزارة دفاع وطنية تعمل وفق القواعد العسكرية الحرفية المنضبطة، بما يحقق الاستفادة المثلى من خبرات الضباط الشرفاء والثوار الأحرار، ويضمن تمثيل جميع مكونات سوريا دون إقصاء أو تهميش”.
كما رفض القيادي بشكل قاطع ما يروجه بعضهم بالانفصال عن سوريا، وأكد أن أبناء الجنوب كانوا ولا يزالون في طليعة المدافعين عن وحدة سوريا أرضاً وشعباً.
لم يمض يومان على التراشق وتبادل الاتهامات حتى انتشرت صورة على مواقع التواصل الاجتماعي تجمع القياديين نسيم أبو عرة وعلي باش مع وزير الدفاع، في خطوة اعتبرها بعضهم محاولة لرأب الصدع واحتواء التوتر.
قادة اللواء الثامن في درعا الذي يقوده احمد العودة “نسيم أبو عرة” و “علي باش” اجتمعوا مع وزير الدفاع السوري مرهف ابو قصرة
نسيم أبو عرة وعلي باش ووزير الدفاع السوري مرهف ابو قصرة
وأعقب الاجتماع تسريبات إعلامية، من دون إعلان رسمي، حول توصل وزارة الدفاع إلى اتفاق مع فصائل الجنوب السوري يقضي بتشكيل أربعة ألوية عسكرية تابعة للوزارة.
وأفادت مصادر خاصة لـ”تلفزيون سوريا” أن الاتفاق يتضمن تشكيل أربعة ألوية بقوام 15 ألف مقاتل من أبناء المنطقة، وتشمل لواء في درعا، ولواء في ريف درعا الغربي والقنيطرة، وآخر في الريف الشرقي، بالإضافة إلى لواء يتم التحضير له في السويداء.
وحسب مصادر إعلامية من درعا فإن الألوية، ثلاثة منها مشاة ولواء عمليات خاصة، ستكون تحت قيادة العقيد بنيان الحريري.
السويداء.. العقدة الأكثر تعقيداً
لم تكن معضلة اندماج فصائل السويداء ضمن الجيش السوري الجديد أقل تعقيداً من نظيرتها في درعا، بل ربما بدت أكثر إشكالية بسبب حساسية الطائفة الدرزية التي تشكل غالبية سكان المحافظة، ما يجعل أي خطوة نحو تسليم السلاح أو الاندماج في المؤسسة العسكرية مسألة شديدة التعقيد.
كما برزت قضية التمايز في المواقف بين الزعيم الروحي لطائفة الموحدين الدروز الشيخ حكمت الهجري، الذي أكد في تصريحاته وخطاباته على موقفه الرافض لتسليم السلاح قبل ضمان قيام دولة حقيقية تمتلك دستوراً جامعاً لكل السوريين، وبين الفصائل العسكرية على الأرض التي وافقت على تسليم السلاح والاندماج ضمن الجيش السوري.
مطلع كانون الثاني الماضي قال الهجري في حوار تلفزيوني إن “تسليم السلاح أمر مرفوض نهائياً لحين تشكيل الدولة وكتابة الدستور لضمان حقوقنا”.
حديث الهجري بشأن عدم تسليم السلاح فتح عليه أبواب الانتقادات، فقد رأى بعضهم أن التمسك بالسلاح قد يبقي المحافظة في حالة من العزلة العسكرية.
وبعد أيام أعلن أكبر فصيلين عسكريين في المحافظة وهما “رجال الكرامة” وفصيل “لواء الجبل” استعدادهما للاندماج ضمن جسم عسكري، مؤكدين أن حمل السلاح كان “دفاعاً عن أهل السويداء بكافة أطيافهم”، وأنه “وسيلة اضطرارية وليس غاية”.
كما تم تأسيس مجلس شورى عسكري لأكبر خمسة فصائل عسكرية في المحافظة، يضم “حركة رجال الكرامة” و”قوات رجال الشهيد أبو فهد البلعوس” و”لواء الجبل” و”تجمع أحرار جبل العرب” و”درع التوحيد”، هدفه التوصل إلى قرارات فيما يخص العمل والقرار العسكري في المحافظة، حسب ما أكده أمير الجبر، قائد كتائب سلطان باشا الأطرش.
وكشف الجبر، المنضوي ضمن المجلس العسكري، عن مباحثات جرت بين الفصائل وزارة الدفاع، تتعلق بتشكيل فرقة عسكرية بالجنوب، تضم محافظات درعا والقنيطرة والسويداء، يكون قيادتها بنسبة كبيرة في المنطقة الوسطى بدرعا.
وقال الجبر لموقع تلفزيون سوريا إن الخطة المطروحة تنص على حل الفصائل العسكرية والاندماج في الجيش ضمن هيكلية منظمة على مستوى الدولة السورية، حيث ستتكون فرقة الجنوب من أربعة ألوية عسكرية، يتم تشكيلها من أبناء المنطقة، مع منح بعض التشكيلات دوراً إدارياً أو أمنياً ضمن الأمن العام.
وأضاف الجبر أن نصف الفصائل في المحافظة وافقت على خطة الاندماج وأبدت استعدادها المبدئي لقبول الفكرة ومستمرة في التواصل مع الفصائل والاجتماع معهم، إلا أن هناك حالة من التخوف من قبل بعضهم حتى الآن من نوايا الحكومة الجديدة والتجارب السابقة.
وحول تصريحات الهجري برفض تسليم السلاح، أشار الجبر إلى أن نسبة كبيرة من فصائل السويداء والمجتمع غير موافق على الأفكار التي يطرحها الشيخ الهجري، فمعظم أهالي المحافظة مع الهوية السورية والحكومة السورية.
وكان الهجري قال في كلمة مسجلة قبل أيام، “نحن أول من طلب هيكلة الدولة وهيبتها على أسسها السليمة، وحين تتعافى وتظهر، فمن المؤكد أن أبناءنا الذين يحملون السلاح سينضمّون لجيش دولتهم النظامية وبأي صفة داعمة تحت ستائر القانون والتنظيم”.
تحديات التشكيل
مع تصاعد النقاشات حول إعادة هيكلة الجيش بعد حل الفصائل، برز توجه جديد يقضي بخدمة أبناء كل منطقة ضمن نطاقهم الجغرافي، بهدف تسهيل عمليات الدمج وتقليل التوترات الاجتماعية.
لكن هذا الطرح، رغم ما يحمله من إيجابيات تتعلق بالاستقرار المحلي والانتماء الاجتماعي، يثير في المقابل مخاوف من تكريس الانقسامات الجغرافية والطائفية داخل المؤسسة العسكرية، مما قد يؤدي إلى تعقيد المشهد الأمني على المدى الطويل.
يحدد عمار فرهود الباحث بالشأن العسكري وجماعات ما دون الدولة، إيجابيات وسلبيات القرار، ويرى في حديثه مع موقع تلفزيون سوريا أن “أبرز الإيجابيات من تشكيل فرق قتالية من أبناء المنطقة هي أنها تستطيع الدفاع عن منطقتها في حال تم تشكيل جيش ذي هوية دفاعية، وسيؤدي ذلك إلى إعطاء هؤلاء المقاتلين دافعاً معنوياً كبيراً جداً لخدمة المؤسسة العسكرية لأن ذلك يرتبط بشكل مباشر ليس فقط بخدمه الوطن وإنما بخدمة الأقرباء المباشرين بشكل مباشر”.
أما سلبيات القرار فإن هذه الفرق العسكرية في حال كانت ذات هوية واحدة صرفة، فإنه من الممكن في حال نشوب خلاف بين هذه الألوية العسكرية أو بين المنطقة التي ينبثق منها هذا التشكيل العسكري وبين الحكومة المركزية فإنه سيكون قادراً على القيام بتمرد عسكري ضد الإدارة المركزية في دمشق.
ومن أجل تحقيق الإدارة الجديدة التوازن المطلوب ضمن هذه الألوية، يجب عليها اتخاذ عدة تدابير حاسمة، وفقاً لما يراه فرهود، وتشمل:
إدماج وحدات عسكرية من خارج المنطقة، بحيث تكون موازية لها من حيث القوة أو حتى متفوقة عليها من حيث نوعية التسليح.
سن قوانين صارمة تمنع هذه التشكيلات العسكرية من اتخاذ أي قرارات استراتيجية من دون الرجوع إلى القيادة المركزية في دمشق.
إقرار تشريعات تتيح للسلطة استخدام قوات عسكرية من مختلف المناطق السورية لمواجهة أي فرقة عسكرية قد تتمرد على القيادة المركزية في دمشق، سواء لأسباب مناطقية، أو انفصالية، أو بما يهدد السياسة العامة للدولة.
لم يكن موضوع تشكيل الألوية العسكرية من أبناء المنطقة الواحدة غائباً عن اجتماعات وزارة الدفاع مع فصائل الجنوب، إذ أكد قائد كتائب سلطان باشا الأطرش، أمير الجبر، أن هذه المسألة خضعت لنقاش مستفيض.
وأوضح أن الخطة المطروحة تقتضي أن تكون الفرقة العسكرية على مستوى الجنوب السوري، من دون أن يكون هناك شرط لخدمة أبناء السويداء داخل محافظتهم فقط، إذ يمكن أن يتمركزوا في درعا أو القنيطرة أو ريف دمشق، لكن ضمن نطاق جغرافي قريب من مناطقهم، لتجنب تكرار تجربة النظام السابق، إذ كان يتم إرسال الجنود للخدمة في مناطق بعيدة مثل حلب أو دير الزور.
وأكد الجبر أن الحكومة تأخذ بعين الاعتبار الارتباطات العشائرية والمخاوف المحلية، معتبراً أن فكرة دمج المجتمع السوري بأكمله عسكرياً في مختلف المحافظات تبدو صعبة في الوقت الحالي، وأن الواقع الفصائلي الذي استمر في البلاد على مدار 14 عاما خلق نمطاً معيناً من التأقلم لدى الناس، ما يجعل هذه الصيغة هي الأنسب للمرحلة القادمة
تلفزيون سوريا
———————————–
الأزمة الدستورية في أميركا: ترمب يقضم الديمقراطية كتفاحة!/ وائل السواح
22.02.2025
أولى خطوات دونالد ترامب نحو ترسيخ سلطته الدكتاتورية، هي الإعلان عن “أزمة وطنية” تقمّص ترامب فيها دور “القائد” ذي السلطات الواسعة في المعركة، بدلاً من أن يكون حارساً للديمقراطية.
في المناظرة الوحيدة التي جرت بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومنافسته الديمقراطية كاملا هاريس، في أيلول/ سبتمبر 2024، أكّد ترامب أن قادة العالم يحبّونه ويهابونه. ولتأكيد ذلك، أتى بمثال مفضّل لديه: فيكتور أوربان.
قال ترامب: “اسمحوا لي أن أحدثكم عن قادة العالم. فيكتور أوربان، أحد أكثر الرجال احتراماً؛ يُطلقون عليه لقب “الرجل القوي”، إنه شخصية صارمة، ذكي، رئيس وزراء هنغاريا. عندما تساءل البعض: لماذا يشتعل العالم بأسره، ولم يكن كذلك قبل ثلاث سنوات؟ لماذا يتفجّر الآن؟ فأجاب: لأنكم بحاجة إلى عودة ترامب إلى الرئاسة. كان الجميع يخشونه. الصين كانت تخشاه، كوريا الشمالية كانت تخشاه. انظروا، فيكتور أوربان نفسه قالها: الشخص الأكثر احتراماً والأكثر مهابة هو دونالد ترامب. لم نواجه أية مشكلات حين كان ترمب رئيساً”.
فيكتور أوربان هو أطول رؤساء وزراء هنغاريا بقاءً في السلطة، وقد عاد بعد فوزه في الانتخابات في 2010، ليُحكم قبضته على الإعلام والقضاء، ويُضعف المؤسسات الديمقراطية. عُرف بمواجهاته مع الاتحاد الأوروبي دفاعاً عن السيادة الوطنية، وببناء تحالفات مع دونالد ترامب ومارين لوبين، وتعزيز علاقاته مع روسيا والصين. وفيما يراه أنصاره حامياً للقيم المسيحية والهوية الهنغارية، يصفه معارضوه بالمستبد الذي يقوّض الديمقراطية. هو إذاً، انعكاس أوروبي لترامب نفسه.
على أية حال، لم يكن كلام ترامب مفاجئاً في 2024، كما كان حاله في 2016؛ عندما امتدح دكتاتور كوريا الشمالية كيم جونغ أون، ووصفه بأنه “رجل قوي وحادّ الذكاء”، أو حين أسرّ لكبير موظفي البيت الأبيض في عهده جون كيللي، قائلاً: “إن الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر قام ببعض الأمور الجيدة”، مشيراً بشكل خاص إلى النمو الاقتصادي في ظل الحكم النازي، وإلى قدرة الفوهرر على فرض الولاء المطلق بين جنرالاته.
وقبل انتخابات 2000، التي هُزم فيها ترامب أمام جو بايدن، طلب ترامب من الدكتاتور الصيني شي جين بينغ “مساعدته على الفوز في انتخابات 2020″، وفقاً لما أورده جون بولتون مستشار الأمن القومي السابق لترامب، في كتابه الذي كشف عن خفايا إدارة الرئيس السابق. وفي الاجتماع نفسه، حين دافع شي عن بناء الصين معسكرات تضمّ ما يصل إلى مليون مسلم من الإيغور في شينجيانغ، أبدى ترامب موافقته على ذلك السلوك، وقال: “على شي أن يبني المزيد من المعسكرات، لأن ذلك هو القرار الصائب تماماً”.
ليس استثناء
هذه الحكايات ليست استثناء، فيوماً بعد يوم، يبيّن ترامب دونما حرج، رغبته الشديدة وسعيه الحثيث لتعزيز نفوذه والحكم كـ “رجل قوي”، وفي مرات عديدة أبدى ترامب إعجابه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الفليبيني السابق رودريغو دوتيرتي، الذي تباهى مرة بأنه ألقى بتجار المخدرات من طائرة هليكوبتر.
وترامب نفسه ليس استثناء فريداً. ففي التاريخ الأميركي أشخاص مؤثّرون لم يخجلوا من إبداء شغفهم بطغاة من العالم. في كتابه الجديد، “أميركا أخيراً: قصة قرن من افتتان اليمين الأميركي بالطغاة الأجانب”، يستعرض الصحافي جاكوب هيلبرون بتفصيل دقيق وأسلوب حي، كيف وجد اليمين الأميركي منذ الحرب العالمية الأولى، تآلفاً عميقاً مع الحكام المستبدين والطغاة، من القيصر فيلهلم الثاني إلى بينيتو موسوليني وفرانشيسكو فرانكو وأدولف هتلر وأوغستو بينوشيه. ويوثّق هيلبرون كيف أشاد مفكرو اليمين الأميركي وسياسيوه بهؤلاء القادة، باعتبارهم حصوناً ضد الشيوعية والاضطرابات العمالية، وروّجوا لصورة الأنظمة الاستبدادية على أنها أكثر كفاءة واستقراراً ثقافياً مقارنة بـ “الانحلال الليبرالي”، ولم يترددوا في تمجيد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، ودعم الأنظمة الدموية والفرق القاتلة في أميركا الوسطى والجنوبية وإفريقيا.
يستحضر هيلبرون شخصيات بارزة في تاريخ اليمين الأميركي، ممن لم يُخفوا إعجابهم بالمستبدين، مثل والتر هارنشفيغر، رجل الأعمال الذي دعم صعود جوزيف مكارثي، واعتبر محاكمات نورنبيرغ “أسوأ مما فعله هتلر، بل أسوأ من داخاو” المعسكر النازي سيئ الصيت. كما يقتبس من ويليام باكلي جونيور، حين كتب عام 1977 عن الدكتاتور التشيلي أوغستو بينوشيه، قائلاً: “في تشيلي، الجنرال بينوشيه هو القائد النموذجي. صورته تُعرض الآن في كل مكتب حكومي؛ يقف شامخاً، بصدر مفتوح، ونظرة ثاقبة، مع لمحة خفيفة من الشك، تتناغم مع شاربيه المحدودين بخط دقيق: ملكيّ، هذا وصف آخر له”. وفي عام 1986، أشادت جين كيركباتريك السفيرة السابقة للرئيس رونالد ريغان في الأمم المتحدة، بقائد الميليشيا الأنغولي جوناس سافيمبي، الذي كان دمية في يد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وحاكماً وحشياً قتل معارضيه وأرهب بلاده لعقود، ورفض نتائج انتخابات حرة. ولكن كيركباتريك لم تخجل من أن ترى فيه: “رجلاً ذا إنجازات مذهلة… لغوياً، فيلسوفاً، شاعراً، سياسياً، محارباً، ومخطط حرب عصابات”.
خطاب تنصيب ترامب: بيان نحو الديكتاتورية
ولا يحاول ترامب إخفاء نواياه في الحكم كدكتاتور. ففي خطابه في حفل تنصيبه الثاني في 20 كانون الثاني/ يناير، خالف كل التقاليد الأميركية التي كانت تحتفي بالتداول الديمقراطي للسلطة، فكان الخطاب بياناً لعهد من السلطة المطلقة. وعلى عكس التواضع التقليدي والتقدير الدستوري الذي ميّز خطابات التنصيب السابقة، جاء خطاب ترامب كمرسوم استبدادي، يكشف عن عزمه على إعادة تشكيل أميركا وفق رؤيته الخاصة، متحرراً من أي قيود قانونية أو مؤسسية. من خلال خطابه، رسم ترامب ملامح رئاسته على أُسس الانتقام والتفويض الإلهي والسلطة المطلقة، متجاهلاً بذلك التوازن الدقيق الذي لطالما كان حجر الأساس في النظام الأميركي.
كانت أولى خطوات ترامب نحو ترسيخ سلطته الدكتاتورية، هي الإعلان عن أزمة وطنية. فقد أعلن حالة طوارئ وطنية، بموجب قانون الطوارئ القومية وقوانين الأجانب والتحريض لعام 1798، مستنداً إلى ما وصفه بأنه أزمة مفتعلة على الحدود الجنوبية. أما إعلانه أن 20 كانون الثاني/ يناير هو “يوم التحرير”، فلم يكن مجرد تعبير رمزي، بل كان لغة حرب، تقمّص ترامب فيها دور القائد في معركة وطنية، بدلاً من أن يكون حارساً للديمقراطية.
بهذا النهج، استغلّ ترامب حقيقة راسخة في السياسة الأميركية: الرؤساء في أوقات الحرب يتمتّعون بسلطات أوسع بكثير من نظرائهم في زمن السلم. فمن تعليق أبراهام لينكولن لحق المثول أمام القضاء، إلى احتجاز فرانكلين روزفلت للأميركيين من أصول يابانية، أثبت التاريخ أن الأزمات توسّع من سلطات الرئيس. لكن استراتيجية ترامب كانت مختلفة، فهو لم يكن يواجه حرباً حقيقية، بل كان يختلقها لتبرير سلطته المطلقة.
التفويض الإلهي والشعبي: سلطة بلا مساءلة
لم يكتفِ ترامب بادّعاء تفويض شعبي، بل زعم أنه مفوّض من الله. وعلى عكس الرؤساء السابقين الذين استدعوا العناية الإلهية لتوجّههم وتحثّهم على التواضع، استخدم ترامب الإيمان بالله كتبرير لتوسيع سلطته. فقد أشار إلى نجاته من محاولة اغتيال باعتبارها “علامة إلهية”، تدل على أنه “إنما أُنقِذ ليجعل أميركا عظيمة من جديد”، متقمصاً بذلك دور القائد المختار بمشيئة إلهية؛ وهو أسلوب طالما استخدمه الملوك والمستبدّون عبر التاريخ.
بهذا الخطاب، لم يعد الاعتراض على ترامب مجرد خلاف سياسي، بل تحوّل إلى تحدٍّ للإرادة الإلهية والشعبية. وبذلك، لم يعد ترامب رئيساً يخضع للدستور، بل بات زعيماً ذا رسالة مقدّسة تتطلّب سلطات مطلقة لتحقيقها.
وفيما يمكن وصفه بأنه استعراض أوهام جامح للسلطة غير المقيدة، أطلق ترامب العنان لخياله في محاولة لإعادة تعريف الواقع نفسه. فقد أعلن عزمه على تغيير اسم خليج المكسيك إلى “خليج أميركا، وهو قرار؛ وإن بدا عبثياً، يعكس إيمانه بأن سلطته تتجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ والدبلوماسية الدولية، وحرم وكالة “أسوشييتد برس” من دخول البيت الأبيض، لأنها لم تغيّر اسم الخليج. وقرر إعادة تسمية جبل ماكينلي، في إشارة إلى أنه الوحيد القادر على إملاء الهوية التاريخية والثقافية للأمة. وزاد في مطالبته بضمّ كندا كولاية أميركية وشراء غرينلاند، وفي وهمه أن البلد الشاسع ليس سوى ملكية عقارية يمكن شراؤها وبيعها.
لكن محاولته الأكثر إثارة للقلق لإعادة تشكيل الواقع، تمثّلت في إصدار مرسوم رئاسي يقرّ بأن “هناك جنسين فقط، الذكر والأنثى”، وهو اعتداء مباشر على الحقيقة العلمية، وسعي متعمّد إلى إلغاء الاعتراف بالمتحوّلين جنسياً في السياسات العامة والتشريعات. لم يكن هذا مجرد خطاب سياسي محافظ، بل كان فرضاً لأيديولوجيا الدولة بقوة السلطة، وهي سمة جوهرية للأنظمة الاستبدادية التي تسعى إلى إملاء الحقيقة بالقوة، بدلاً من الاعتراف بالوقائع.
وفي تأكيد فوري لهيمنته، أصدر ترامب في يومه الأول في الحكم 26 أمراً تنفيذياً، متجاوزاً بذلك أي رئيس أميركي آخر. وكان من بين هذه الأوامر محاولة لإعادة كتابة التعديل الرابع عشر للدستور، وهو انتهاك صارخ لقسمه بالحفاظ على الدستور وحمايته والدفاع عنه. كشف هذا الإجراء بوضوح عن استخفافه التام بالقيود القانونية، إذ إن تعديل الدستور يستلزم موافقة الكونغرس والولايات، ولا يمكن أن يجري بقرار رئاسي منفرد.
الترامبية كتهديد للديمقراطية
في كتاب جديد صدر مؤخراً لثلاثة من علماء السياسة الأميركيين (إريكا فرانتز، وأندريا كندل- تايلور، وجو رايت) يقدّم الكتّاب الثلاثة نظرية جديدة عن تحوّل الأحزاب السياسية المتمحورة حول هدف سياسي، إلى أحزاب شخصانية، تتمحور حول فرد واحد. الكتاب “أصول الرجال الأقوياء المنتخبين”، يرسم اتجاهاً عالمياً نحو الأحزاب الشخصانية، حيث تتحوّل التنظيمات السياسية إلى أدوات لزعيم واحد، بدلاً من كونها مؤسسات أيديولوجية ذات ضوابط مؤسسية. وقد جسّد الحزب الجمهوري تحت قيادة ترامب هذا الاتجاه، حيث بات الولاء للقائد يتفوّق على القيود المؤسسية، وأصبحت المعارضة الداخلية تُقمع بشكل منهجي، مما أدى إلى تفكيك الحواجز الديمقراطية.
لم يعد الحزب الجمهوري كما كان قبل ترأمب. فبينما ركّز القادة الجمهوريون السابقون على السياسات المحافظة التقليدية، أعاد ترامب تشكيل الحزب ليصبح أداة تخدم أجندته الشخصية، حيث بات الولاء له يتفوّق على الالتزام بالأيديولوجيا.
في 7 آب/ أغسطس 1974، توجّه السيناتور باري غولدووتر؛ ضمير الحزب الجمهوري في ذلك الوقت، برفقة زعيم الجمهوريين في مجلس النواب جون رودس، وزعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ هيو سكوت، من مبنى الكابيتول إلى البيت الأبيض لإبلاغ الرئيس ريتشارد نيكسون بأن مسيرته الرئاسية قد انتهت. لم يأبه قادة الحزب الجمهوري وقتها بشعبية نيكسون الواسعة، وبكونه فاز بالرئاسة مرتين، آخرهما قبل عام واحد فقط، بانتصار ساحق حصد فيه 49 ولاية. وفيما بعد، كتب غولدووتر في مذكراته أن نيكسون “كان يعلم، من دون أدنى شك، أن رئاسته قد انتهت، بطريقة أو بأخرى. لم يكن لدينا شك في النتيجة. كان سيستقيل”. وبالفعل، في التاسع من آب/ أغسطس، كتب نيكسون رسالة قصيرة من جملة واحدة: “أقدّم بموجب هذا استقالتي من منصب رئيس الولايات المتحدة الأميركية”.
أما حين أصدرت هيئة المحلفين حكمها في قضية ولاية نيويورك ضد دونالد ترامب، مُدينة إياه بـ 34 تهمة جنائية، تتعلّق بتزوير سجلات تجارية للتستّر على دفع أموال، صمت بهدف إخفاء فضائحه الجنسية غير المشروعة، لضمان فوزه بالانتخابات، سارع القادة الجمهوريون إلى إصدار بيانات دعم معدّة سلفاً، وشنّوا هجوماً على النظام القضائي، وسوّقوا ترامب باعتباره ضحية للاضطهاد السياسي. قادة بارزون مثل رئيس مجلس النواب مايك جونسون، وزعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، رفضوا شرعية المحاكمة، حتى إن جونسون أشار إلى أن المحكمة العليا قد تتدخّل لإلغاء الحكم. وهكذا، تحوّل الحزب الجمهوري إلى حزب شخصاني، باتت فيه الطاعة العمياء لترامب تتفوّق على أي اعتبار قانوني أو أخلاقي.
إن فشل الحزب في التصدّي لإنكار الانتخابات والخطاب الاستبدادي، يشير إلى أن الترامبية لم تعد مجرد توجّه عابر، بل أصبحت إحدى السمات الأساسية للمحافظين الأميركيين المعاصرين.
في كتابها شركة الاستبداد: الطغاة الذين يريدون حكم العالم، تجادل آن أبلباوم في أن العالم يشهد انقساماً متزايداً بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية، حيث تعمل أنظمة مثل روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية، كأنظمة نهب سياسي (kleptocracies) تسخّر السلطة والثروة لخدمة بقائها. ولكن المؤلّفة ترى الخطر الأكبر في حالة التراخي واللامبالاة، التي تتّسم بها المجتمعات الديمقراطية، والتي غالباً ما تعجز عن إدراك هذه التدخلات أو التصدّي لها. وتضيف أن التهديد لا يقتصر على الخارج، إذ تنبثق داخل الديمقراطيات ذاتها – بما فيها الولايات المتحدة – حركات تسعى لفرض نماذج سلطوية على النظام القائم.
حتى لو ذهب ترامب فالترامبية لن تختفي
باختصار، الترامبية ليست حالة فريدة، بل جزء من موجة عالمية من التراجع الديمقراطي. فمثلما استمرّت الشعبوية الاستبدادية في هنغاريا بعد أوربان، وفي فنزويلا بعد شافيز، ستظل الترامبية قائمة، لأن العوامل التي ساعدت على صعودها؛ كالتشكيك في المؤسسات، والشعبوية القومية، والاستياء الثقافي، لا تزال تحرّك السياسة الأميركية، وبالتالي، من غير المرجح أن تختفي الترامبية بسهولة.
عقد الكثير آمالاً عريضة على أن خسارة ترامب في الانتخابات ستكون خاتمة المطاف له وللترامبية. إلا أن الواقع أثبت عكس ذلك، وتحوّلت الترامبية من مجرد حملة انتخابية إلى حركة أيديولوجية متجذّرة اجتماعياً ومؤسسياً.
لم تعد الترامبية مجرد انزياح تاريخي لمرة واحدة، فإن قاعدة ترامب، المكوّنة بشكل أساسي من البيض من غير ذوي التحصيل العلمي والناخبين المحبطين من العولمة، لم تتراجع، بل ترسّخت أكثر. ونجح ترامب، الذي استغلّ مشاعر السخط الاقتصادي، ومعاداة النخب والمظلومية الثقافية، في بناء حركة شعبوية قادرة على الاستمرار حتى بعد مغادرته المشهد السياسي، مما يفتح الباب أمام قادة مثل جي دي فانس أو رون دي سانتيس لمواصلة مسيرتهم.
درج
————————-
الغرب وروسيا.. قراءة في السياسة الخارجية لسوريا الجديدة/ حمود علوش
23/2/2025
تُشكل الجغرافيا السياسية وقوانينها الضاغطة على الدول، التي تكون محور تنافس إقليمي ودولي عليها، تحديًا كبيرًا بالنسبة لسياساتها الخارجية. ويُصبح هذا التحدي مُضاعفًا عندما تكون هذه الدول خارجة للتو من صراع دمّرها وأفقدها سيادتها الوطنية وتتواجد على أراضيها العديد من القوات الأجنبية.
في حالة سوريا، فإن هذا النمط من تحدي الجغرافيا السياسية ليس غريبًا عنها في الواقع. فعلى مدى ما يقرب من عقد ونصفٍ من الحرب، كان عامل المنافسة الإقليمية والدولية مُهيمنًا على الأشكال الأخرى للصراع. وهذا الوضع يفرض هذا التحدي كأولوية رئيسية ينبغي التعامل معها للحد من مخاطرها على عملية التحول.
لقد أظهر الرئيس الانتقالي أحمد الشرع حتى الآن قدرًا كبيرًا من الإدراك لتحدي الجغرافيا السياسية وحاجة سوريا إلى تجنب الانخراط السلبي فيها. على سبيل المثال، أبدى الشرع على نحو غير متوقع براغماتية لافتة في التعاطي مع ملف العلاقة مع روسيا ويُظهر استعدادًا لقبول مبدأ إقامة علاقة جيدة مع موسكو رغم دورها الحاسم في تشكيل موازين الصراع لصالح نظام المخلوع بشار الأسد بعد النصف الثاني من العقد الماضي.
وتبدو هذه البراغماتية مفهومة. فروسيا لا تزال تحتفظ بقاعدتين عسكريتين في سوريا، وحاجة إدارة الشرع إلى تكريس أركان السلطة الجديدة واستقرار الوضع الأمني يفرض عليه تجنب موقف عدائي مع موسكو يُمكن أن يجلب مخاطر غير مرغوب بها على عملية التحول.
علاوة على ذلك، ينظر الشرع إلى مستقبل القواعد الروسية في سوريا كورقة لتحسين موقفه التفاوضي مع الغرب للحصول على قدر أكبر من الشرعية والدعم من جانب الغربيين.
مع ذلك، تظهر العلاقة مع كل من تركيا والسعودية كأحد المظاهر الرئيسية لمعضلة الجغرافيا السياسية الإقليمية المؤثرة بشكل أكبر على التحول السوري. إن اختيار الشرع للسعودية ثم تركيا كأول وجهتين خارجيتين له تعكس أولًا إدراكه الحاجة إلى تنويع الشراكات الإستراتيجية بين قوتين إقليميتين مُهمتين بالنسبة لسوريا، وثانيًا حرصه على تجنب التموضع الإقليمي في أحد المحاور.
ويبدو ذلك مفهومًا أيضًا. فتركيا هي شريك إستراتيجي طبيعي لسوريا الجديدة بحكم الجغرافيا ودعمها القوي للثورة السورية وحضورها الكبير ومُتعدد الأوجه في سوريا. لكن السعودية هي ركيزة العمق العربي، الذي يرغب الشرع في توجيه سوريا الجديدة نحوه، وهي بوابة للحصول على الدعم الاقتصادي السخي وإعادة الإعمار، فضلًا عن كونها تستطيع التأثير بشكل قوي على السياسات الغربية في سوريا.
على مستوى العلاقة مع الغرب، فمن الواضح أن اهتمام الشرع بإقامة علاقات جيدة مع الدول الغربية لا يقتصر فقط على حاجة سوريا إلى تفكيك العقوبات المفروضة عليها رغم أهمية هذا العامل.
فالولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بوجود عسكري في شمال شرق سوريا. والعلاقة الجيدة معها تُعظم من فرص التوصل إلى تفاهم يُفضي إلى الانسحاب الأميركي، ومعالجة مُعضلة ملف وحدات حماية الشعب الكردية التي تُشكل أكبر تهديد لوحدة الأراضي السورية.
كما أن التحدي الجديد الذي أضافه احتلال إسرائيل أجزاء من الأراضي السورية بعد سقوط النظام المخلوع يزيد من حاجة الشرع إلى مخاطبة الغرب للضغط على إسرائيل من أجل انسحابها من الأراضي التي احتلتها.
إن التعامل مع ملف الوجود العسكري التركي والأميركي والروسي والإسرائيلي يتطلب قدرًا كبيرًا من الحنكة في موازنة الشراكات الخارجية لسوريا الجديدة. ومثل هذه الموازنة لا تحدّ فحسب من مخاطر الضغط الذي تُشكله الجغرافيا السياسية على التحول السوري، بل تُوجد كذلك هامشًا قويا للشرع لتنويع الشراكات وتحفيز الفاعلين الإقليميين والدوليين على الانخراط الإيجابي في دعم التحول وإظهار أهمية واضحة للتعامل مع حاجة سوريا إلى إيجاد أطر تُعالج ملف الوجود العسكري الأجنبي على أراضيها بما يُمكنها من استعادة سيادتها الوطنية على كافة أراضيها.
لقد أظهر مُعظم هؤلاء الفاعلين رغبتهم في إنجاح عملية التحول السوري، لكنّ هذه الرغبة لا تُخفي حقيقة أن التنافس الإقليمي والدولي على سوريا الجديدة سيظل عنصرًا مؤثرًا في تحديد سياقات التحول ومدى قدرتها على التعامل مع معضلة الجغرافيا السياسية.
في ضوء ذلك، يَظهر مساران مُحتملان لتحدي الجغرافيا السياسية على التحول السوري. يتمثل الأول في العناصر الضاغطة التي سيجلبها هذا التحدي على التحول إذا فشل الشرع في تحقيق موازنة دقيقة في الشراكات الجديدة على المستوى الإقليمي خصوصًا مع تركيا والسعودية.
كما أن قدرة تركيا والولايات المتحدة على التفاهم حول مستقبل الوحدات الكردية ستُحدد حجم الآثار السلبية لعوامل المنافسة الخارجية على سوريا.
ويتمثل المسار الثاني في تحول الجغرافيا السياسية إلى عنصر داعم للتحول إذا ما تمكنت تركيا والسعودية من تحقيق قدر كبير من الانسجام في سياستهما السورية وإدارة أهدافهما وطموحاتهما على قاعدة التعاون التنافسي، وإذا ما استطاع الشرع الموازنة بين علاقات ودية مع روسيا وعلاقات جيدة مع الغرب.
وتبدو مثل هذه الموازنة صعبة لكنها لا تبدو ضرورية بالنظر إلى أن ما يُمكن أن يُقدمه الغرب لسوريا تفوق أهميته ما يُمكن أن تُقدمه روسيا لها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
باحث في العلاقات الدولية
الجزيرة
———————–
علويو سوريا… مسالك العزلة مجددا/ رستم محمود
امتحان تجاوز مرحلة الأسدية السياسية
23 فبراير 2025
بينما بدأت مختلف الجماعات الأهلية/المكونات السورية، إطلاق عملية إعادة هيكلة سياسية جذرية، لهوياتها ومواقفها وخطاباتها، ومواقف نخبها، وشكل تنظيماتها السياسية، بعد قرابة ثلاثة أرباع القرن من الموات العام، بسبب الشمولية السياسية، يجد “علويو سوريا” ذاتهم يعيشون “رضة سياسية كبرى”، لا يستطيعون بسببها تأطير، وتحديد أي من أدواتهم للتعامل مع البنيان السياسي السوري الجديد. يحدث ذلك في وقت يجد فيه “سنة سوريا” ذاتهم، وقد عادوا إلى “المكانة والموقع السياسي الاعتيادي لهم”، ويتمركز “دروز سوريا” حول المرجعية الروحية للمطالبة باللامركزية الموسعة، ويرفض “أكراد سوريا” تسليم ما بحوزتهم من أسلحة، وتفكيك تنظيماتهم المسلحة قبل الحصول على ضمانات دستورية لحقوقهم السياسية، وينادي “مسيحيو سوريا” بدولة مدنية ديمقراطية… إلخ.
ارتباك وهشاشة
بعد شهرين من سقوط النظام السوري، لا يزال العلويون السوريون متلعثمين في تحديد موقفهم العام من السلطة/النظام الحاكم الجديد للبلاد، وعلى عكس التكوينات السورية الأخرى. فهم حذرون تماما في الإعلان العام الصريح عن ذاتهم كـ”جماعة سياسية”، وغير قادرين على فرز مجموعة من المعبرين والممثلين السياسيين عنهم، وقبل كل شيء لا يستطيعون تحديد تنظيم سياسي، يكون معبرا عن تطلعاتهم العامة.
كل التعثر السياسي الراهن لـ”الجماعة العلوية السورية” متأت من جذرين سياسيين متراكبين: من طرف عدم القدرة على تحديد هوية النظام السوري السابق، وشكل علاقتهم معه: فهل كان “نظاما علويا”، فقط لأنه كان يمنح العلويين شعورا داخليا بالطمأنينة الأمنية، ولو كان شعورا مزيفا. أم كان نظاما مشيدا على شبكة من المنتفعين المتحالفين فيما بينهم سلطويا، من جهات وجماعات سورية مختلفة، لكنه استغل العلويين كأداة وكتلة أهلية موالية مأمونة الجانب على الدوام، فقط لأن رأس هذا النظام كان “واحدا من أبناء هذه الجماعة”، بينما كان العلويون مثل باقي السوريين، خاضعين لكل فروض وجبروت وفظائع النظام السابق.
بالتوازي يجد العلويون صعوبة في خلق مسافة واختلاف بينهم وبين النظام السوري السابق في ذهنية أبناء الجماعات السورية الأخرى، تحديدا أبناء وذوي الضحايا، أو أعضاء التنظيمات السياسية والعسكرية المحافظة/الطائفية، الحاكمة راهنا. ففي الذهنية السورية العامة، وتحديدا بالنسبة لهاتين الطبقتين الصاعدتين في المتن السياسي السوري الحالي، ثمة ربط محكم بين الجماعة العلوية والنظام السوري السابق، بالذات فيما ارتكبه من جرائم، وسيسعى هؤلاء غالبا لأن يدفع العلويون أثمانا جراء ذلك، أثمانا سياسية على الأقل.
تحطيم العزلة
خلال السنوات الأولى لتشكيل الدولة السورية الحديثة، عاش العلويون السوريون مخاضا سياسيا مطولا إلى أن اندمجوا سياسيا في الكيان الجديد. فالعلويون عاشوا قرونا كثيرة من المحق السياسي والديني في ظل الإمبراطورية العثمانية ومن قبلها الدويلات المملوكية، أجبرهم ذلك على عزلة سياسية وتقية طائفية وحذر اجتماعي وحياتي مستدام، أصبحت بالتراكم بنية نفسية واجتماعية وسياسية لدى عوام أبناء هذه الجماعة السورية، وشكلت المؤثر الأكثر حيوية في نمط علاقتهم مع الكيان السوري الحديث.
ومع تأسيس الدولة السورية الحديثة، في أوائل العشرينات من القرن المنصرم، كانت نسبة العلويين إلى مجموع السكان تتراوح بين 12-15 في المئة، ويشكلون أغلبية أرياف الجبال الساحلية والسهول الغربية لمحافظتي حماة وحمص، ومثلها قرى ومناطق متفرقة ممتدة حتى هضبة الجولان. كان العلويون بذلك التموضع يشكلون أقلية سكانية واضحة، منتشرة بشكل مطلق في المناطق الريفية الأقل تحديثا وتعليما وتواصلا مع العالم الخارجي، وطبعا الأكثر فقرا والأفقر بالخيرات الاقتصادية. معها كلها، كان العلويون الجماعة المذهبية السورية الوحيدة الخالية من أي هيكل سياسي ديني/طائفي، كما لدى الطوائف الإسلامية أو المسيحية الأخرى، ودون تجربة سياسية كيانية سياسية تاريخية، كما كانت أحوال الدروز أو الموارنة أو حتى الإسماعيليين في بلدان المشرق العربي.
وبناء عليه، غلبت الريبة والقلق في موقف “النخبة السياسية والاجتماعية العلوية” من الكيان السوري الحديث في سنوات تشكله. إذ تراوحت مواقفهم بين طلب الاستقلال/الانفصال عن الدولة المزمع تأسيسها من قِبل الفرنسيين، عبر ما سمي “وثيقة الاستقلال” حسب الموقعين عليها من الوجهاء العلويين عام 1926، والتي أرسلوها لسلطات الانتداب الفرنسي، طالبين منها “بقاءهم خارج سوريا المسلمة”، معتبرين أن ضمهم إلى الكيان الجديد سيعني “الموت والإبادة”.
بعد قرابة عشر سنوات، تبدل المزاج العام للنخبة الاجتماعية/السياسية العلوية السورية تماما، وأصدروا في عام 1936 ما أسموه “الوثيقة الوحدوية”، التي طالبت السلطات الفرنسية ذاتها بإدماجهم في الكيان السوري، وكان من بين الموقعين شخصيات كانت قد وقعت على الوثيقة الأولى، أو من أبنائهم.
حسب ذلك السياق، تستعيد الذاكرة السياسية الجمعية السورية على الدوام ما حدث في ربيع عام 1936، حينما زار الوجهاء العلويون العاصمة دمشق، واستقبلوا باحتفاء بالغ من قِبل “زعماء سوريا الوطنيين”، يتقدمهم الرؤساء شكري القوتلي وهاشم الأتاسي وساسة مثل فارس الخوري وجميل مردم بيك، في تظاهرة حاشدة شهدتها مدينة دمشق، ونعتتهم الصحف المحلية وقتئذ بـ”الوفد العلوي”.
خلال هذه السنوات، كان العلويون قد مروا بتجربة سياسية استثنائية تماما، لم يشهدوا مثلها طوال تاريخهم. فمع فرض الانتداب الفرنسي لسلطته على سوريا عام 1920، بعد الإطاحة بالملك فيصل الأول، أصدر الحاكم الفرنسي الجنرال غورو مرسوما بالانتداب على “إقليم العلويين” في الساحل السوري، بعد يوم واحد من إعلانه تأسيس “دولة لبنان الكبير”، ذات الجذر السياسي المسيحي/الماروني. كان ذلك بمثابة انبلاج سياسي لهذه الجماعة في مسرح التاريخ، إذ صارت لهم تسمية وموقع جغرافي ذو دلالة عليهم، وفوق ذلك حماية عليا من دولة منتصرة في الحرب العالمية الأولى الطاحنة.
تبدلت هوية وشكل هذا الكيان/الإقليم المستحدث عدة مرات خلال السنوات التالية، من إقليم منتدب في عام 1920 إلى دويلة ضمن ما كان يعرف بـ”الاتحاد السوري” في صيف عام 1922، والذي كان يضم دويلتي حلب ودمشق وقتئذ، وصار للعلويين ممثلون سياسيون ضمن هذا الاتحاد. وصولا إلى إعلان “الدولة العلوية” من قِبل فرنسا في أواخر عام 1923، والتي حددت مدينة اللاذقية عاصمة لها، ومجلسا تمثيليا مؤلفا من 16 نائبا، ثمانية منهم علويون. وليس انتهاء بإعلان فرنسا تشكيل “حكومة اللاذقية المستقلة” في أواخر عام 1930، وانتهاء بالإدماج الكامل لهم بالدولة السورية الحديثة في عام 1936 والتي تذهب أغلب التحليلات إلى أن صعود النازية في ألمانيا، وبروز ملامح الحرب العالمية الثانية كانت الدافع الرئيس لأن تشيد فرنسا دولا مركزيا في مناطق انتدابها واحتلالها، تأمينا لما قد تحتاجه أثناء سنوات الحرب القادمة.
صحيح، فقد العلويون في المحصلة كل هوية كيانية حظوا بها خلال السنوات القليلة تلك، لكن التجربة أكسبتهم طاقات ومهارات وموقعا وطنيا عموميا، خرجوا بسببه من “العزلة التاريخية”، وصاروا، ولو نسبيا وبتقادم بطيء، جزءا من المتن العام، خصوصا بعدما تلقوا مساهمة موضوعية من ثلاثة عوامل متراكبة:
الفرنسيون مثلا شجعوا العلويين على الانخراط في الجيش السوري، لما كانوا يعتقدون أنه عامل مساعد على خلق توازن مع السنة السوريين، الرافضين للانتداب الفرنسي، ولاعتقاد الضباط الفرنسيين بأن العلويين سيكونون “مقاتلين شجعانا”، لطبائعهم الجبلية والقروية والعشائرية. وخلق الانخراط في الجيش ثقة للعلويين في ذاتهم، وأمن لهم أعضاء في طبقات اجتماعية كانوا محرومين منها طوال قرون، ومنحهم أمانا داخليا استثنائيا بسبب عضوية أبنائهم في الجيش.
على المنوال ذاته، ساعدت الخطابات والتنظيمات القومية واليسارية “الشعبوية” خلال السنوات التالية للتأسيس، ساعدت العلويين على مغالبة “شعور وحالة العزلة”. فتلك التنظيمات وخطاباتها ونوعية الوعي والتطلعات التي تبشر بها، كانت متعالية على الحساسيات الأهلية، بل وتنبذها وتشيد بتمايزها بالتضاد معها. فإرث الحركة القومية العربية المناهضة للعثمانيين، تسرب إلى كل التنظيمات اللاحقة، كجهات ترى في الصراعات الدينية والمذهبية مصدرا لما اعتبرته “تفتت الأمة”. فخلا حركة “الإخوان المسلمين”، لم تغلق أي من التنظيمات السياسية السورية طوال عقود الحيوية السياسية بعد الاستقلال أبوابها أمام العلويين، لينتموا إليها وحتى يصعدوا ضمن جهازها التنظيمي والسياسي. حتى أن نسبة العلويين في أي من هذه التنظيمات، كانت تزيد عن نسبتهم الكلية إلى عموم السكان، بسبب تلهفهم للمشاركة في مساحات من العمل العام غير المتعالي والنابذ لهم.
وصول حافظ الأسد إلى سدة الحكم، أعطى العلويين قيمة مضافة في كسر العزلة، ليس لتحولهم إلى طائفة حاكمة، فالعلويون في المحصلة كانوا مطابقين لباقي السوريين في ظروف حياتهم العامة، وإن كان بعض أعضاء النخبة الأمنية والعسكرية الحاكمة من أبنائهم. لكن نظام الأسد خلق للعلويين مظلة أمان كلية، منحتهم قدرة على الثقة بالذات وعدم الخشية من باقي المكونات والفضاء العام. بسبب من ذلك، أنتج “المجتمع العلوي”- لو صح التعبير– طبقات جديدة ما كانت متوفرة ضمنه سابقا، إذ ارتفعت نسبة التعليم ضمن أوساطهم، وغادر مئات الآلاف منهم القرى الجبلية النائية، وصاروا يعيشون في مراكز المدن، وبرزت ضمنهم أصوات ثقافية وفنية رائدة، وانخرطوا بكثافة في الجهاز البيروقراطي للدولة، وصار الكثير منهم يزاولون مهنا ما كانت متوفرة في بيئتهم المحلية من قبل، كالعمل في التجارة والصناعات الحرفية، والقضاء والسلك الدبلوماسي، واقتصاد الخدمات ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدولية.
عودة العزلة
يعيش العلويون راهنا لحظة انتهاء المسار التاريخي الذي أخرجهم من تموضعهم التاريخي التقليدي. فالاستراتيجيات والحسابات الدولية التي فككت “دولة جبل العلويين” عام 1936، دفعت العلويين وقتئذ للاختيار بين الاعتزال ومقاومة سيادة الدولة السورية عليهم، أو الاندفاع نحو سوريا الجديدة والتفاعل مع فضائها المتشكل حديثا، وقد نزعوا للمسار الأخير بكل حيوية وقتئذ. الحسابات والاستراتيجيات الدولية ذاتها التي أسقطت النظام السوري السابق تبدو راهنا، وكأنها تطرح السؤال ذاته على العلويين مجددا.
لا تبدو الخيارات كثيرة أمام أفراد هذا المكون السوري، ونخبه الاجتماعية والسياسية القليلة راهنا، ويمكن تصنيفها على ثلاثة مستويات:
إما على العلويين أن ينخرطوا في تنظيمات سياسية واجتماعية ذات خطاب وهوية مدنية/ديمقراطية كلية ومنظمة على مستوى البلاد، ويبدو هذا الطرح مبشرا، لكن دونه الكثير من أشكال العطب. فكل التنظيمات المدنية، ستبدو هشة وغير ذات جدوى في المستقبل المنظور، بسبب التشكل العصبياتي/الطائفي للفضاء السوري الراهن، وتاليا على العلويين أن ينتظروا طويلا حتى تبرز في سوريا أحزاب سياسية مدنية حقيقية، ذات ثقل وقدرة على استيعابهم وقضاياهم باعتبارهم مواطنين سوريين، وتاليا طرحها، ونيل مواقف من السلطات الحاكمة حيالها.
هذه التنظيمات التي ستحمل “قضايا العلويين”، ومثلهم كل الأقليات المذهبية السورية الأخرى، من منطلق التخفيف من هوية وخطاب السلطة الحاكمة لسوريا، لتكون “أقل طائفية” وأكثر مدنية، لن تتمكن من منح العلويين، وغيرهم من أبناء الطوائف، أي اعتراف بخصوصياتهم الدينية، وحقهم بالحضور في المتن العام. فسوريا في المحصلة “دولة سنية”، تقوم كل المؤسسات العامة والمواثيق الدستورية، والقوانين الناظمة والعالم الرمزي والقضاء والتعليم فيها على ذلك الأساس. حتى نظام الأسد لم يستطع أو يتجرأ على محاولة تغيير ذلك المعطى.
المسار الآخر قائم على تأسيس العلويين لتنظيمات سياسية ذات واجهة وخطاب مدني، لكن على بنية تنظيمية ووعي داخلي بتمثيلها للعلويين فحسب، شيء مثل الأحزاب السياسية العراقية أو التركية، شديدة الوعي والانغلاق الطائفي على ذاتها، لكن بواجهة وخطاب مدني/وطني عمومي.
يشكل الشعور بالهلع العام ضمن الأوساط العلوية راهنا مانعا أمام اجتراح مثل تلك التنظيمات، لكن انفتاح الحياة السياسية السورية مستقبلا، وتمركز جماعات أهلية أخرى، مثل الدروز والأكراد على مثل تلك التنظيمات، سيدفعهم لتأسيس ما هو مشابه لها. لكن نقطة ضعف العلويين في ذلك السياق، هي الغياب شبه التام للمؤسسة الدينية “الأكليروس” ضمن أوساطهم. فهذه الأخيرة عادة ما تكون حليفة النخبة السياسية في تشكيل مثل هذه الأحزاب متعددة الأوجه والأدوار.
أخيرا، فإن العلويين أمام امتحان تاريخي، لتجاوز مرحلة الأسدية السياسية، بمزيج من التصالح مع الوقائع شديدة القسوة التي حدثت، وإدراك عميق باستحالة الحصول على أي دعم خارجي ذي مردود سياسي و”ميداني” له قيمة. فالسؤال الأهم بالنسبة لعلويي سوريا راهنا هو كيفية مغادرة مرحلة الأسد، مع الحفاظ على ميزة عصره الوحيدة بالنسبة لهم: “الخروج من العزلة”؟
المجلة
———————–
النقابات أمام فرصة تاريخية في سوريا/ حسن إبراهيم | علي درويش | موفق الخوجة
تعترضها الهزّات..
تحديث 23 شباط 2025
بدأت النقابات المهنية في سوريا تتلمس بداية مسارها الطبيعي، عقب تحررها من قبضة حزب “البعث” بعد عقود من تغييب مهامها والهيمنة عليها وتقويض استقلاليتها، وإفقادها الممارسات الديمقراطية والشفافية، وتحويلها من دورها كمدافع عن حقوق الفئة التي تمثلها إلى دور رقابي وأداة بيد السلطة.
“البعث” وحافظ الأسد ومن بعده نجله بشار، الذي هرب قبل شهرين ونصف إلى روسيا، كبّلوا عمل النقابات، وسنّوا قوانين للسيطرة عليها، وأجهضوا أي محاولة لاستقلاليتها، وحولوها إلى أدوات دعائية لدعم سياساتهم، وأدوات للضغط والسيطرة على مختلف الشرائح المهنية، وأفقدوا النقابات قدرتها على التأثير في صنع القرار المهني والاجتماعي، وبدلًا من أن تكون صوتًا للمستقلين والمهنيين، كانت تعكس مصالح الحزب الحاكم.
اليوم، تحاول النقابات استعادة أدوارها، مع وصول إدارة جديدة للبلاد هي حكومة دمشق المؤقتة، بعد إعلان “إدارة العمليات العسكرية”، التي قادت دفة المعارك لإسقاط النظام، حل حزب “البعث” وأحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية”، وما يتبع لها من منظمات ومؤسسات ولجان، وحظر إعادة تشكيلها تحت أي مسمى آخر، وإعادة جميع أصولها إلى الدولة السورية.
في هذا الملف، تسلط عنب بلدي الضوء على محاولات استعادة النقابات “المكانة والدور”، في رحلة لا تزال في طور البدايات، يعززها ووجود تجارب سابقة نشطت بمناطق السيطرة المختلفة في سوريا قبل هروب الأسد، وعلى الانتقادات التي تشوبها من تدخّل السلطة في عملها، ومخاوف محلية ودولية من تقويضها مجددًا، وجعلها “مطيّة وأداة” بيد حكم جديد.
كما تناقش عنب بلدي مع قانونيين وخبراء وباحثين ونقابيين قانونية الإجراءات المتخذة، ومدى أن تكون تجارب النقابات التي نشأت في عهد الثورة السورية أرضية جيدة لنقابات مستقلة، وتستشرف مستقبل الحراك النقابي في سوريا.
النقابات..
أدوات بيد “البعث” والأسدين
منذ الانقلاب الذي قاده حزب “البعث” عام 1963، نص البند التاسع من المرسوم التشريعي رقم “68” من العام نفسه على السيطرة على كل الحراك المدني في سوريا، من خلال إشراف المجلس الوطني لقيادة الثورة (ثورة آذار 1963) على التنظيمات المدنية كافة بما فيها النقابات، الأمر الذي شكّل لبنة أساسية في تطويع المجتمع المدني ليكون في خدمة السلطة.
مع بداية السبعينيات، شرعن حزب “البعث” سيطرته المطلقة على الدولة والمجتمع عبر المادة الثامنة من دستور عام 1973، التي تنص على أن “حزب البعث العربي الاشتراكي، هو الحزب القائد في المجتمع والدولة، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية”، وانعدمت أي استقلالية فعلية للنقابات، وباتت مجرد مؤسسات شكلية وأدوات بيد الحزب والسلطة.
وأجهزت السلطات على ما تبقى من منظمات المجتمع المدني، في 9 من نيسان 1980، عندما حلّ حافظ الأسد نقابات المحامين والأطباء وأطباء الأسنان والصيادلة والمهندسين، واعتقل أعضاءها لتعود وتستبدل مجالسها بمجالس جديدة تابعة للسلطة والأجهزة الأمنية، فكان أن تمت الهيمنة على ما تبقى من منظمات وإلحاقها بحزب “البعث” كمنظمات رديفة.
وسيطر الحزب بشكل كلي على الاتحادات والنقابات المهنية التي ضمت في صفوفها ملايين السوريين، وصار الانتساب لها إلزاميًا لممارسة مهنة ما، وغدت تلك النقابات والاتحادات ساحات لممارسة الرقابة والهيمنة من السلطة على شرائح واسعة من مجتمع السـوريين.
في حزيران عام 2000، توفي حافظ الأسد، ووصل بشار إلى الحكم، مستمرًا في نفس نهج أبيه بالتعامل مع النقابات، ومع انطلاق الثورة السورية عام 2011، أعاد النظام السوري تقييم أدوار المؤسسات الشعبية ودمجها في شبكاته للمساهمة في قمع الحراك، والتحكم بالمجتمع بشكل أكبر.
وأصدرت قوات الأمن التابعة للنظام أوامر للاتحادات والنقابات المهنية بإقصاء أعضائها الذين شاركوا فـي الاحتجاجات، ورُفعت التقارير الأمنية بحقهم، وتمت ملاحقتهم وفصلهم وحرمانهم من حقوقهم المالية، وفق “الشبكة السورية لحقوق الإنسان“.
ورغم إلغاء النظام السوري السابق المادة الثامنة من الدستور (التي كرَّست البعث قائدًا للدولة والمجتمع)، بعد إصداره دستور 2012، فإن حزب “البعث” ظل يمارس نفس الصلاحيات والامتيازات والدور الاستعلائي والوصائي على الدولة والمجتمع السوري، من خلال تحكمه بجميع المؤسسات التي يفترض أن تكون منابر لحكم الشعب ومنها النقابات المهنية.
من الناحية القانونية، شكّلت تدخلات حزب “البعث” والنظام السوري السابق في النقابات المهنية مخالفة لحرية العمل النقابي، وكانت انتهاكًا للقانون الدولي والمحلي.
بعد يومين من سقوط نظام بشار الأسد، قال الأمين العام للاتحاد الدولي للنقابات (ITUC)، لوك ترايانجل، إن عائلة الأسد أخضعت على مدى أكثر من خمسة عقود الشعب السوري لقمع وحشي، وحرمت العمال من حقوقهم الأساسية، مضيفًا أن الاتحاد يراقب عن كثب التطورات في البلاد، معتبرًا أن سقوط هذا النظام القمعي فرصة حاسمة للانتقال من عقود من القمع إلى مستقبل قائم على العدالة والديمقراطية.
النقابات من ناحية العمل النقابي
النقابات العمالية: تضم العمال من الطبقة العاملة، ويعرف الأشخاص بـ”ذوي الياقات الزرقاء” (Blue-collar worker)، وعملهم غالبًا يكون يدويًا، ولا تستدعي أعمالهم بالضرورة الحصول على شهادات من المؤسسات التعليمية.
تنشأ النقابة العمالية بموجب كونها تتبع كمؤسسات لقانون العمل، وتعتبر شخصية قانونية من أشخاص القانون الخاص، أي أنها تتبع لحكم قانون العمل كالأفراد، وعضويتها غير إلزامية، أي أن الانتساب للنقابة لا يعد شرطًا لممارسة العمل، وتضفي زيادة أعداد المنتسبين في النقابات العمالية قوة مجتمعية لها وتمكنها من ممارسة عملها بشكل أقوى.
النقابات المهنية: تضم الأفراد الذين يزاولون نفس المهنة، ويطلق على الأشخاص “ذوي الياقات البيضاء”، مثل المحامين والأطباء والمهندسين والمعلمين، ويمتلك أفرادها مؤهلات تعليمية أعلى من النقابات العمالية، وربما معرفة أكثر تخصصًا، أو مستويات أكثر تعقيدًا من التدريب على المهارات.
وتهدف النقابات المهنية إلى تقديم الامتيازات والخدمات لأعضائها، وتنشأ بموجب قانون خاص بها، إذ إنها تتمتع بشخصية قانونية مستقلة وتعتبر من أشخاص القانون العام، أي إحدى المؤسسات العامة في الدولة، ولها استقلاليتها التامة وسلطتها الخاصة، كما أن عضويتها مشروطة باكتساب المهنة وإلزامية.
علاقة موازية بين النقابة والسلطة
الباحثة نسرين جلبي ترى أن العلاقة بين النقابات والسلطة في الحالة الطبيعية تتمثل في كونها علاقة موازية، حيث تعد النقابات مؤسسات مدنية موازية للمؤسسات الحكومية في القضايا التي تتعلق بالشأن العام داخل الدولة.
وقالت الباحثة لعنب بلدي، إن النقابات في الحالة الطبيعية تخضع لقوانين دستورية وليس لتشريعات تصدر عن السلطة التشريعية، وبذلك، تُعتبر النقابات كيانات قانونية مستقلة، تتمتع بشخصية قانونية وإطار عمل مهني وحراك مدني يميزها عن السلطة.
وتخضع النقابات المهنية للقانون العام في الدولة، ما يمنحها الاستقلالية والقدرة على تشكيل مجموعات ضغط مؤثرة على السلطة الحاكمة من خلال تفاعلها المجتمعي. وبذلك، تشكل النقابات جزءًا أساسيًا من العملية الديمقراطية في أي دولة، وفق الباحثة.
تدخّل وإيعاز حكومي للنقابات..
ما رأي القانون؟
صدرت عن حكومة دمشق المؤقتة قرارات متتالية بحل معظم النقابات، وجرى تعيين نقباء ومجالس جديدة، بعضها جاء من نقابات رديفة كانت تعمل في الشمال السوري، مثل “نقابة المحامين الأحرار” أو “نقابة المهندسين الأحرار”، وتسلمت زمام الأمور وباشرت عملها.
وصدرت قرارات بتعيين أشخاص، بعضها تحت مسمى مجالس مؤقتة، إما من رئاسة الوزراء بشكل مباشر مثل حل “اتحاد الصحفيين السوريين” وتعيين لجنة مؤقتة لإعادة هيكلته، أو من وزارات، مثل وزارة الأشغال العامة والإسكان التي شكلت مجلسًا لتسيير الأعمال في نقابتي المهندسين والمقاولين إلى حين انعقاد المؤتمر العام لهما.
بعض النقابات تغيرت كوادرها من رأس الهرم في الجسم النقابي، دون قرار رسمي، ومعظمها انتقل من النقابات التي كانت تعمل شمال غربي سوريا، ثم تسلمت النقابة المركزية في دمشق، أبرزها نقابة المحامين.
وبعضها الآخر، قدم رأس الهرم فيه استقالته، وتسلم النقابة أحد الأعضاء، وبقي على رأس عمله حتى اللحظة، مثل نقابة المعلمين، بينما لم يتغير العدد الأقل من النقابات.
أما في نقابة الفنانين، فأعلن فنانون عن موافقة وزارة الثقافة على تشكيل لجنة تسيير أعمال لنقابة الفنانين بدلًا من أعضائها الحاليين، وضمت اللجنة المؤقتة كلًا من الفنانين منى واصف وعباس النوري وسمر سامي وشادي جميل ومحمد حداقي وزهير أحمد قنوع وصلاح طعمة ونظير مواس، وذلك إلى حين إجراء انتخابات عامة.
وتزامنت التغييرات النقابية مع قرارات بإعادة المفصولين لأسباب سياسية إلى نقاباتهم في معظم النقابات السورية.
الاتحاد الدولي للنقابات (ITUC) دعا إلى انتقال شامل نحو الديمقراطية في سوريا، وقال إن التحول في سوريا يجب أن يتضمن بناء حركة نقابية حرة وديمقراطية ومستقلة قادرة على الدفاع عن حقوق العمال وحرياتهم.
“انتهاك للاتفاقيات الدولية”
بالنسبة لاتحاد الصحفيين، الذي يعد النقابة الممثلة عن قطاع الصحافة في سوريا، فجرى حلّه مباشرة من رئاسة الوزراء، وعيّنت الأخيرة صحفيين كان معظمهم يعمل في الشمال السوري كمستقلين أو في مختلف وسائل الإعلام، وكلّفتهم بتسلم مهام المكتب التنفيذي ومجلس الاتحاد.
بعد حلّ رئاسة الوزراء للاتحاد، وجه الاتحاد الدولي للصحفيين رسالة إلى الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، ورئيس الوزراء بحكومة دمشق المؤقتة، محمد البشير، مطالبًا إياهما بـ”التراجع عن حل اتحاد الصحفيين”.
الاتحاد الدولي اعتبر أن قرار الحل الذي اتخذته الحكومة “تدخل سياسي في شؤون المنظمات النقابية، وانتهاك للاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي صدقت عليها سوريا، بما في ذلك اتفاقيات منظمة العمل الدولية”.
في المقابل، أرسل الاتحاد السوري كتابًا رسميًا لاتحاد الصحفيين الدوليين ردًا على البيان الذي صدر عنه، موضحًا النقاط المتعلقة بشرعية اللجنة الحالية وأهليتها القانونية وخط عملها، وفق ما قاله رئيس اتحاد الصحفيين (المكلّف من رئاسة الوزارة)، محمود الشحود، لعنب بلدي.
وردّ الاتحاد السوري على نظيره الدولي أن إدارة الاتحاد السوري السابقة تعتبر منحلة، حتى قبل صدور قرار رئيس مجلس الوزراء، بحكم تبعيتها لحزب “البعث”، كما أوضح الشحود.
وقال الشحود إن الاتحاد سيفتح قنوات التواصل مع جميع النقابات والاتحادات الصحفية العربية والدولية، وإن اللجنة المكلفة ستدعو إلى مؤتمر عام يتم من خلاله إجراء انتخابات حرّة، ينتج عنها مجلس إدارة ومكتب تنفيذي.
وربط الشحود الدعوة للمؤتمر بتعديل النظام الداخلي للاتحاد، وفتح باب العضوية لانتساب جميع الصحفيين السوريين على امتداد الجغرافيا السورية.
كما اتفقت اللجنة على جدول زمني تعمل عليه حاليًا، ومدته ستة أشهر قابلة للتمديد بحسب القدرة على إنهاء الملفات كافة، وفق ما أفاد الشحود.
تيسير خياطة، وهو أحد المطلعين على سير نقابة الصيادلة المزمع إنشاؤها، أوضح لعنب بلدي، أن إدارة الشؤون السياسية في حكومة دمشق المؤقتة، أوعزت إلى أعضاء في نقابات رديفة “حرة” لتسلم النقابة المركزية.
وقال خياطة، إن المكلّفين سيختارون نقيبًا من ضمنهم، على أن تجري انتخابات في وقت لاحق، دون أن يحدد المدة الزمنية، كما لم يُنشر قرار رسمي على المعرفات الرسمية حتى لحظة التحرير.
وبحسب ما رصدته عنب بلدي، كان الإجراء المتبع من مكتب إدارة الشؤون السياسية بحلّ النقابات وتعيين أشخاص من نقابات رديفة كانت تعمل شمال غربي سوريا قبل سقوط النظام هو المتبع في معظم النقابات السورية، دون إعلان ذلك على وسائل الإعلام الرسمية.
استناد قانوني
تغيير النقابات وإزالة كوادرها التي كان ولاؤها للسلطة القديمة ولحزب “البعث”، لاقى ردود فعل إيجابية لدى الشارع السوري، والنقابي على وجه الخصوص، إلا أنه واجه انتقادات تتعلق بقانونية الحل وتعيين كوادر جديدة، دون الرجوع إلى انتخابات داخلية، واعتبار الأمر تدخلًا في العمل النقابي.
أرسلت عنب بلدي أسئلة إلى عدة جهات في حكومة دمشق المؤقتة وعلى رأسها رئاسة الوزراء، حول آلية حل النقابة والاستناد القانوني لها، إلا أنها لم تتلقّ ردًا حتى لحظة تحرير الملف.
المحامي عارف الشعال، قال لعنب بلدي، إن القرار بحل اتحاد الصحفيين والصادر عن مجلس الوزراء صحيح، وفقًا للقانون السوري المتبع في النظام السابق، إلا أنه افتقر إلى تبيان سبب الحل، إذ لم توضحه الوزارة وفقًا للعرف القانوني.
وبالنسبة للنقابات الأخرى أوضح الشعال أن قرار الحل يجب أن يصدر عن رئاسة الوزراء أيضًا، وفق القوانين السائدة في العهد القديم، وما حصل من حلّ للنقابات الفرعية ضمن نقابة المحامين جاء مخالفًا للقانون السائد.
ونقابة المحامين كانت أولى النقابات التي حلّت بأمر من السلطة التنفيذية، وجاءت “نقابة المحامين الأحرار” التي كانت تعمل في إدلب قبل سقوط النظام، وتسلمت مركزيتها، ثم عمدت النقابة المركزية إلى حل النقابات الفرعية بكل المحافظات وتشكيل بديل عنها.
المحامي الدكتور عبد الرحمن علاف أوضح من جانبه أن النقابة المركزية يحق لها حلّ النقابات الفرعية، في حال حصول أي مخالفة للقانون من خلال انتخابات الهيئة العامة، أو أي إجراءات أخرى.
ووفق علاف، عملت النقابة المركزية على حل النقابات الفرعية باعتبارها كانت منتخبة بشكل غير قانوني وغير أصولي وبعمليات تزوير من خلال النظام السابق وما يتعلق بـ”الاستئناس” الحزبي وشراء الأصوات.
وعندما سقط النظام السابق، وضعت النقابة المركزية الجديدة يدها على النقابات، وأصدرت قرارًا بحل النقابات الفرعية، وفق علاف.
“شرعية ثورية”.. إشراف لضمان انتخابات حقيقية
المحامي الشعال، يرى أنه رغم عدم قانونية حل معظم النقابات الذي من المفترض أن يصدر من رئاسة مجلس الوزراء، فإنه يأتي من شرعية “فعلية/ ثورية”، لهذه الحكومة وفق اصطلاح الفقه القانوني السوري.
وقال الشعال، إنه بسقوط النظام يسقط الدستور، وبالتالي تسقط القوانين التي لا تتلاءم مع نظام الحكم الجديد الذي جاءت به الثورة.
ولفت القانوني الشعال إلى أن المجالس السائدة في نقابة المحامين كانت “سيئة ومنتفعة” بالمجمل، وكانت أذرعًا أمنية بيد حزب “البعث”.
وأضاف أن المجالس النقابية التي شكّلت في عهد النظام السابق أيضًا لم تكن قانونية، إذ جاءت بتعيين من “البعث”، وخالفت القانون باستخدامها أوراقًا مزورة خلال الانتخابات.
الأكاديمي السوري الدكتور أحمد الحسين، قال لعنب بلدي، إن النقابات والاتحادات في زمان الرئيس المخلوع بشار الأسد ووالده حافظ، لم تكن تمثل أصوات الناس المنتمين إليها، بقدر ما تعبر عن قرار السلطة ومنافع محددة لشرائح من أعضاء تلك النقابات.
وأضاف الحسين أن النقابيين والاتحاديين كانوا في الغالب يشعرون أن هناك فرقًا شاسعًا بين ما يريدون وبين ما تقرره قيادات هذه النقابات.
ويعتقد أن حلها أو تجميد عملها كمرحلة أولى سيكون خطوة سليمة، كي تتخلص هذه النقابات مما أسماها “الإرث البائس”، ولأنها غير قابلة للإصلاح.
ومن الحلول التي يراها الحسين للواقع الحالي في سوريا، تعيين قيادات مؤقتة من قبل الحكومة، تشرف عليها بطريقة تضمن وجود انتخابات حقيقية، تفرز قيادات ملائمة لتلك النقابات وتعبر عن صوت المنتمين لها.
“نقابات الشمال”.. حجر أساس
في عهد الثورة السورية، نشأت عدة نقابات وهيئات خارج مناطق سيطرة نظام الأسد، وحاولت ممارسة أدوارها في انتزاع حقوق الفئات التي تمثلها، واصطدمت بعدة عقبات، في ظل وجود سلطات أمر واقع وانتشار السلاح، لكنها شكلت نماذج ونواة للعمل النقابي.
القيادة العامة في سوريا، اعتمدت عقب سقوط نظام الأسد على وزراء حكومة “الإنقاذ” التي كانت عاملة في إدلب، بإدارة الحقائب الوزارية المركزية، وكلّفت محمد البشير رئيسًا لحكومة دمشق المؤقتة.
السيناريو نفسه يعاد تقريبًا بما يخص النقابات، بحسب ما رصدته عنب بلدي، لكن لم تحسم بعد الأسماء التي ستدير النقابات المركزية، وكيفية إعادة النظر في إدارتها، علمًا أنها يجب أن تكون منتخبة، ولا تتدخل الحكومة في عملها.
مناطق سيطرة المعارضة شمال غربي سوريا سابقًا، انقسمت فيها النقابات بين منطقتي السيطرة بعد تشكيل “الإنقاذ” عام 2017 وإدارتها لإدلب وأجزاء أخرى من شمال غربي سوريا، وأصبحت هناك مثلًا نقابة للمحامين بمناطق نفوذ “الحكومة السورية المؤقتة” بأرياف حلب، وأخرى بمناطق نفوذ “الإنقاذ” بإدلب.
تواصلت عنب بلدي مع خمس نقابات عاملة سابقًا في شمال غربي سوريا، وجميعها أكدت عدم وجود وضوح حول مستقبلها بدقة، لكنها أكدت أنها تعمل بالتنسيق مع الحكومة والنقابات المركزية للوصول إلى هيكلية جديدة.
رئيس فرع إدلب لنقابة المعلمين، العاملة في مناطق نفوذ “الإنقاذ” سابقًا، رافع الرحمون، قال لعنب بلدي، إنه كان لدى النقابة مكتب تنفيذي وشعبي وفروع مقسمة حسب التوزيعات الإدارية.
وبعد سقوط النظام، ذهبت الهيئة التأسيسية للنقابة إلى دمشق، والتقت مع وزير التربية في حكومة دمشق المؤقتة، وكلفت الهيئة التأسيسية بالإشراف على عمل النقابة المركزية.
وفق الرحمون، قسمت الهيئة التأسيسية إلى لجان ووزعت على محافظات، لدراسة الواقع في الفروع لتقديم تقاريرها، مشيرًا إلى وجود فساد وعمل غير منضبط في فروع النقابات والنقابة المركزية العاملة بمناطق سيطرة نظام الأسد سابقًا.
وأجرت نقابة إدلب اجتماعًا مع ممثلي الشعب النقابية، وأجريت انتخابات لترميم فرع إدلب، إذ كان هناك نقص في بعض الأعضاء وتم انتخابهم، والآن الفرع في طور الانطلاق، وفق الرحمون.
عضو نقابة الاقتصاديين في ريف حلب، يوسف فيصل كبصو، قال لعنب بلدي، إن النقابة قائمة ويتم التشاور مع بقية النقابات لهيكلية جديدة تضم الجميع.
المحامي أحمد مزنوق، عضو مجلس “نقابة المحامين الأحرار” بحلب سابقًا، ذكر أن محامي النقابة الذين يبلغ عددهم 800 محامٍ، أبدوا استعدادهم لإدارة فرع حلب، ومتابعة العمل النقابي، ومساندة ما يصب في خدمة المصلحة العامة وتحقيق العدالة، مشيرًا إلى امتلاكهم مقرًا متكاملًا ومنظمًا في مدينة اعزاز شمالي حلب.
الخطوط الأساسية لبناء النقابات، وفق المحامي مزنوق، تعتمد على المحامين العاملين على الأرض وزملائهم في المهجر، الذين يحملون على عاتقهم تحقيق العدالة وسيادة القانون، وتحسين واقع معيشة المحامين، وتأهيل وتدريب محامين من الشبان يتابعون عمل أساتذتهم.
الحالة مشابهة لما يحصل في نقابة المعلمين بريف حلب، إذ أوضح نقيب المعلمين، محمد صباح حميدي، أن النقابة تتابع أنشطتها عبر اجتماعاتها الداخلية، والاجتماع مع مديرية تربية حلب، وممثلين عن الإدارة المؤقتة، إضافة إلى تنفيذ بعض التدريبات والورشات الخاصة بالمعلمين.
وقال حميدي لعنب بلدي، إن هناك تواصلًا مع نقابة معلمي حلب السابقة ونقابة إدلب، لكن لم يحصل اجتماع فيزيائي مع النقابات الأخرى، لرسم خطوط إعادة بناء النقابة، بسبب تجميد عمل النقابة المركزية في دمشق.
بعد سقوط النظام، أوقفت إدارات نقابات مركزية عملها، وانسحب أعضاؤها من المشهد، وهو ما دفع الحكومة إلى تكليف أشخاص من قبلها لإدارة هذه النقابات مؤقتًا، كما هو الحال مع نقابة المعلمين، وهو ما قوبل بانتقادات حول شرعية ذلك.
رئيس الهيئة التأسيسية لنقابة المعلمين، خالد الخالد، قال لعنب بلدي، إن النقابة ما زالت في طور إعادة النظر فيها.
وطرحت عنب بلدي أسئلة على الخالد تتعلق بآلية تسيير النقابة وإعادة هيكليتها عبر الانتخابات، وطريقة تكليفه بتسيير أمور النقابة المركزية، وما زالت بانتظار رده.
المحامي أحمد مزنوق، قال لعنب بلدي، إن نقابة “محامي حلب الأحرار” تواصلت مع النقابة المركزية المكلفة مؤقتًا بتسيير أمور المحامين، فالمرحلة الحالية تقتضي أن يكون هناك مجلس مؤقت، إذ لا مجال للانتخابات التي تتميز بها نقابة المحامين.
علاقة متوترة مع السلطة
خلال السنوات السابقة، لم تكن العلاقة بين النقابات وحكومة “الإنقاذ” على أفضل حال، إذ حاولت الحكومة الدفع إلى تشكيل النقابات لكنها تدخلت في عملها.
ومنعت “الإنقاذ”، في حزيران 2020، تأسيس اتحاد عام للنقابات والاتحادات العامة في الشمال السوري، بعد دعوة 12 نقابة في إدلب وحلب إلى اجتماع من أجل تشكيل اتحاد يضم النقابات كافة في المنطقة.
ونتيجة ضغوط “الإنقاذ” المتزايدة، استقال مجلس نقابة المهندسين بإدلب في تشرين الأول 2020.
سياسة الضغط على النقابات تبعتها سياسة دفع نحو تشكيلها من قبل “الإنقاذ”.
وبحسب تحليل نشره مركز “جسور للدراسات” عام 2022، فإن الكفاءات في مناطق سيطرة “الإنقاذ” دفعتها عدة عوامل للتكتل في إطار نقابات وهيئات مستقلة على غرار نقابة “المحامين الأحرار”.
بالمقابل، سارعت “الإنقاذ” لإصدار قرارات رسمية لتشكيل نقابات وهيئات مدنية، وفرضت على النقابات المستقلة تغييرات مناسبة لها كفرض أشخاص محدّدين.
ويعود اهتمام “الإنقاذ” بالنقابات، وفق تحليل “جسور”، إلى أنها فرصة لاستكمال وتعزيز سيطرتها على المنطقة من الجانب المدني ما يعطيها شرعية أكبر، ولتكون قادرة على الاستفادة من أي منح أو مشاريع تقوم تلك النقابات أو الهيئات بتنفيذها.
وواجهت “الإنقاذ” صعوبة في التعامل مع حالات اعتراض فردية وجماعية على قراراتها، لذا سعت لدمج هؤلاء في مؤسسات مدنية مقيّدة بنظم داخلية من صياغتها وفي قيادتها شخصيات تابعة لها، الأمر الذي يعرقل مساعي الحراك المدني المعارض لها ويجعل إدارة المنطقة أكثر سهولة، وفق “جسور”.
أعضاء النقابات واجهوا تدخل “الإنقاذ” باحتجاجات متكررة قدموا خلالها مطالبهم.
في حزيران 2023، نظم مهندسون احتجاجًا أمام مبنى نقابة “المهندسين السوريين الأحرار” بإدلب، احتجاجًا على قرار “الإنقاذ”، يقضي بسحب بعض المهام من النقابة وتنفيذها من قبل مديرية أنشئت حديثًا.
مؤسس فرع نقابة المهندسين في إدلب، المهندس علي غبشة، قال لعنب بلدي حينها، إن القرار 307 يخالف بشكل واضح قانون النقابات المهنية الصادر عن مجلس “الشورى”، والذي يلزم النقابات بتسوية أوضاعها القانونية خلال مدة معينة ويمنع أي جهة ممارسة أعمال النقابات.
“تجارب قابلة للاستفادة لكن لا تكفي”
ترى الباحثة نسرين جلبي أن الاستفادة من التجارب النقابية لا تقتصر على ما بعد الثورة فقط، بل يجب النظر إلى التجربة النقابية في سوريا على مر تاريخها، وتحليل التجاوزات التي ارتكبتها السلطة، وأدت إلى إفراغ العمل النقابي من مضمونه ومنع مشاركته الفعلية في الشأن العام.
وقالت الباحثة لعنب بلدي، إن التجربة النقابية بعد الثورة لم تكن سهلة من حيث القوننة ومحددات العمل، والمسؤوليات التي تقع على عاتق النقابات تجاه أعضائها والمجتمع بشكل عام. ذلك أن التحديات التي فرضها الواقع في “المناطق المحررة” كانت كبيرة، مثل عدم وجود قوانين ناظمة للعمل النقابي في تلك المناطق، فضلًا عن التذبذب بين الحكومات وسلطات الأمر الواقع المختلفة.
وعلى سبيل المثال، فإن النقابات التي تشكلت في المناطق الخاضعة لسيطرة “الجيش الوطني” التابع لـ”الحكومة السورية المؤقتة” كانت من المفترض أن تكون خاضعة لقانون التنظيم النقابي المنصوص عليه في ميثاق الثورة السورية، الصادر عن “الائتلاف الوطني”، أما المناطق الخاضعة لحكومة “الإنقاذ”، فكان من المفترض أن تكون النقابات فيها خاضعة لقانون تنظيم نقابي مختلف.
ورغم ذلك، يمكن الاستفادة من هذه التجارب النقابية التي تشكلت في ظل النزاع، والتي عملت على إعادة ترميم نفسها، ما أكسبها خبرة ومرونة عالية، وفق الباحثة.
وترى جلبي أن هذه النقابات ستلعب بلا شك دورًا مهمًا في التشكيلات النقابية المستقبلية على مستوى سوريا، نظرًا إلى أن هذه النقابات كانت تتمتع باستقلالية في عملها، ومثلت تجربة ديمقراطية في هيكليتها الداخلية.
واعتبرت أن هذه التجربة تعد قابلة للاستفادة منها على الصعيدين المؤسساتي والتأسيسي، رغم أن التشكيلات النقابية التي تخضع لقوانين ثابتة قد تؤثر على مستوى الدولة.
ما المأمول وما الحاجة؟
الأكاديمي السوري الدكتور أحمد الحسين يأمل من النقابات في الفترة الحالية أن تكون نقابات “مطلبية” تعبر عن مطالب المنتمين إليها، وتسهم في إعادة إعمار البلاد وتطويرها، والمشاركة في الندوات والحوارات، وأن تعطي مثالًا للعمل الديمقراطي في سوريا، لا أداة بيد السلطة، وفق تعبيره.
كما يأمل أن تسهم في العمل التطوعي مثل تقديم الاستشارات المجانية.
الباحثة نسرين جلبي ترى أن سوريا في الوقت الراهن تحتاج إلى ترميم مؤسساتها على جميع الصعد، بما في ذلك النقابات، وتواجه تحديات كبيرة في مسألة العمل النقابي، حيث لا يمكن إعادة تفعيل النقابات التي كانت تعمل في ظل النظام السابق، فهي تجربة مريضة على كافة الأصعدة.
وذكرت أنه لا يمكن الاعتماد على تطبيق التجربة النقابية في “المناطق المحررة” على عموم سوريا. لذلك، يعد وجود هيئات مؤقتة أمرًا بالغ الأهمية لإعادة ترميم النقابات مؤسساتيًا وقانونيًا ومدنيًا.
ومن أجل ضمان عمل نقابي شفاف ومؤثر في المستقبل، يجب على هذه الهيئات المؤقتة دراسة التحديات القائمة، وتحليل الواقع النقابي بطريقة منهجية، مع الاستفادة من القوانين السابقة والبيانات الرسمية، كما ينبغي تحديد الفرص المتاحة لتطوير هذه العملية، وفق الباحثة.
وتعتقد جلبي أن الأساس لوجود مؤسسات نقابية حقيقية هو التركيز على معايير أساسية، أهمها:
ضمان انضمام الأعضاء.
تحقيق حالة ديمقراطية داخل كل نقابة وفي الاتحاد.
تأطير العلاقة بين النقابات والسلطة والمؤسسات الحكومية.
ضمان استقلالية النقابات من خلال قوانين دستورية تحميها من تدخل السلطة السياسية في العمل النقابي.
عنب بلدي
——————-
استقبال الشرع الحاشد.. تقديس للقائد أم احتفاء بمخلّص/ علي درويش
تحديث 23 شباط 2025
أكف مرفوعة تلوح لاستقبال الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، وأخرى تحمل هواتف تحاول التقاط صور له، وأصوات تعلو من حناجر متفرقة مرحبة بزيارته لمحافظتي اللاذقية وطرطوس، وسط محاولات مرافقيه تأمين مرور الموكب بسلاسة بين الأهالي المحتشدين.
المشهد لم يختلف كثيرًا خلال زيارة الشرع لإدلب مع فارق انعكس في رؤية سكان إدلب ومخيماتها له، باستمرارهم إطلاق الألقاب التي اعتادوها خلال سنوات نفوذه السابقة، مثل “شيخ” و”أبو محمد”، كما يعكس اعتياد ظهوره في عدة مناسبات بين السكان.
حشود استقبال الشرع طالتها انتقادات، بعد خلاص سوريا من مرحلة تقديس القائد الأوحد خلال فترتي حكم حافظ وابنه بشار الأسد منذ سبعينيات القرن الماضي، لكن هل تأتي الحشود من باب تقديس القائد، أم أنها لشخصية مشهورة، أم لرمز وطني؟
استقبال “طبيعي”
الباحث الاجتماعي الدكتور طلال المصطفى، يرى أن استقبال الشرع في طرطوس واللاذقية وباقي المناطق كان “طبيعيًا وغير مصطنع وصادقًا”، لأنه بالنسبة لمعظم السوريين كان القائد المخلّص لهم من عقود استبداد الأسد من تدمير وتهجير وتجويع، وأنهى هذا الحكم الذي كان معظم السوريين غير متفائلين بسقوطه، ووصلوا إلى مرحلة من اليأس، وفجأة أطيح به.
وأوضح الدكتور طلال المصطفى لعنب بلدي، أن الإطاحة بنظام الأسد حتى لو كانت بموافقة ودعم إقليمي، فهي سبب رئيس للاحتشاد واستقبال الشرع.
السبب الثاني هو أن بعضهم خرجوا في اللاذقية وطرطوس كشكل من أشكال الفضول وليس الحب والتأييد، ليتعرفوا إلى الرئيس الجديد، بعد عقود من صور الأسد الأب والابن.
منذ 2015، بدأت كفة نظام الأسد بدعم روسي وإيراني بالرجحان مقابل تراجع مناطق سيطرة المعارضة، وما تخللها من مجازر بحق المدنيين وتهجير قسري، حتى انحصرت سيطرة المعارضة منذ آذار 2020 في أجزاء من شمال غربي سوريا.
لكن أطاحت “إدارة العمليات العسكرية” خلال 11 يومًا من المعارك المتواصلة بنظام الأسد، بعد ما يقارب 14 عامًا من انطلاق الثورة السورية.
قبل وبعد إطلاق “إدارة العمليات العسكرية” معركة “ردع العدوان” في 27 من تشرين الثاني 2024، كان هناك تخوف من مصير يشابه ما حصل في قطاع غزة عقب “طوفان الأقصى”، في حال فشل “إدارة العمليات العسكرية” في صد هجمات نظام الأسد، لكن ما حصل أنها خالفت التوقعات وأطاحت به.
ورغم أن حجر الأساس في “ردع العدوان” كان “هيئة تحرير الشام” صاحبة النفوذ سابقًا في إدلب، فإن مختلف الفصائل العسكرية للمعارضة السورية شاركت فيها.
وأشار الدكتور طلال المصطفى إلى أن الشرع إذا استطاع المضي قدمًا ببناء دولة عصرية ديمقراطية، فمن حق السوريين أن يسجلوه كأحد الزعماء الوطنيين على غرار شارل ديغول في فرنسا (وهو ما يعزز من نظرة جزء من المحتشدين للشرع)، وإن كان العكس سيكون زعيمًا مرحليًا والأمر سيظهر في الفترة المقبلة.
الأمر يتوقف على مساره السياسي المستقبلي، إما أن يتعزز كشخصية وطنية مثل بقية الشخصيات الاستقلالية الوطنية في بقية دول العالم، وإما أن يكون عكس ذلك.
دوافع الغوغاء
يوافق الدكتور في علم الاجتماع صفوان قسام رأي الدكتور طلال المصطفى حول أن حشود استقبال الشرع في اللاذقية وطرطوس أمر طبيعي، مشيرًا إلى أن الشرع شخصية مشهورة وهو زعيم وطني لفئة من الناس لكنه ليس كذلك لفئات أخرى، إلى جانب أنه أرفع مسؤول في سوريا.
واستقباله في اللاذقية وطرطوس، اللتين كانتا أبرز حواضن نظام الأسد، كان من مختلف الطوائف، لأن المدينتين تحويان سكانًا من مختلف التوجهات والطوائف الدينية.
وتحدث قسام عن مصطلح الغوغاء في تعامل المجتمع مع القوى المسيطرة، وهو أحد أسباب حشود استقبال الشرع.
الغوغاء مصطلح سياسي اجتماعي، له شروط وقوانين، فعند وجود قوة مركزية تجذب الأطراف لها (الجمهور)، وكلما تراخت قوتها ابتعدت عنها الأطراف، وهو أمر طبيعي ولا غرابة فيه، وتحول موقف الغوغاء من طبيعة الشعوب.
ويرى قسام أن معظم الشعب من الناس البسطاء أو الطبقات المتوسطة، ونخبة المجتمع لا تتجاوز 10%، ونخبة النخبة لا تتجاوز 5%،
ودوافع الغوغاء نابعة من خصائص المجتمع بشكل عام، وهي ليست فريدة بل شائعة بكل المجتمعات العالمية.
وما حصل في المجتمع السوري أن الشرع صدّر نفسه بأنه شخص قوي عسكريًا، وبذلك حتى من كان يقف ضده أصبح معه، وهي حالة مشابهة لما حصل مع نابليون بونابرت.
عندما هزم نابليون أول مرة ونفي إلى جزيرة، كان الشعب الفرنسي ضده، وعندما عاد، تراجع الشعب عن موقفه وأصبح في صف نابليون، وعندما خسر حربه التي شنها ضد عدة دول منها بريطانيا والنمسا ونفي مرة أخرى انقلب الشعب ضده.
القدرة على التأثير
تقديس رئيس البلاد لا يعتبر إرثًا لما سبق، بحسب الدكتور صفوان قسام، لكن ذلك يعود إلى وجود طريقة معينة للتأثير وكسب المجتمع، والنجاح في ذلك يعتمد على معرفة مفاتيح المجتمع بشكل عام وكيف يمكن التأثير فيه.
معظم المجتمع السوري حاليًا متقبل للرئيس الحالي، بغض النظر عن طريقة وصوله إلى سدة الحكم، سواء كانت شرعية أم غير شرعية، وفق قسام، فمعظم من حكموا سوريا منذ الاستقلال لم يصلوا إلى الرئاسة بطريقة شرعية ديمقراطية، خاصة بعد سيطرة حزب “البعث” على الحكم.
وأضاف قسام أن تقديس الرئيس يرتبط بثقافة البلد السياسية، ولو أن المجتمع واعٍ بشرعية وصول الشرع للسلطة، فقد يكون موقفه مخالفًا لموقفه الحالي، و”لأن المجتمع لديه خلفية طائفية تلعب دورًا كبيرًا بالنسبة لانتقاء الشخصيات المسؤولة، لذلك فهو يتقبل وصول شخص بطريقة غير شرعية للحكم أفضل من أن يصل شخص من طائفة أخرى بطريقة شرعية”، بحسب قوله.
عمليًا ومن وجهة نظر قسام، يعتقد الكثير من الناس أن الشرع هو الشخص المتفق عليه نوعًا ما بالمجتمع السوري، وهو الضامن لعدم الانجرار إلى حرب أهلية، بسبب خطابه المتوازن.
خلاص من التقديس
ركزت انتقادات استقبال الشرع على مسألة تقديس القائد، التي عانى منها السوريون على مدار عقود.
وعزز ذلك نظام الأسد وفق سياسة اعتمدت على التقديس الشخصي لحافظ وبشار الأسد، من خلال المناهج التعليمية والإعلام وغيرها من القطاعات.
وبلغت مرحلة التقديس إطلاق أوصاف معينة على الأسد، بل واقتران اسم سوريا باسمه كشعار “سوريا الأسد”، و”الأسد أو نحرق البلد” التي أطلقها مؤيدوه بعد المظاهرات المطالبة بسقوطه مع اندلاع الثورة السورية في آذار 2011.
استمرت حالة تقديس القائد بعد وصول الشرع لرئاسة البلاد عبر منصات التواصل الاجتماعي، لكن هذه الثقافة خلال سنوات سيتم التخلص منها، ولا يمكن أن ينجح النظام الجديد بتعزيز هذه الثقافة أو الاستمرار بها، وفق طلال المصطفى.
وأضاف أن الخلاص من التقديس يتم عبر الانتقال إلى دولة القانون والمواطنة والمساءلة ودولة الكفاءات وليس الولاءات الشخصية، و”هذا ليس بالأمر السهل، وقد نحتاج إلى سنوات من العمل، وخاصة في مجال الإعلام والقطاع التعليمي”.
عنب بلدي
—————————-
ماذا تكشف الأرقام عن تعلّق السوريين بمنافيهم الأوروبية؟/ أصيل سارية
الأحد 23 فبراير 2025
هل وقع السوريون في غرام منافيهم الأوروبية؟ سؤال يفرض نفسه عند الاطلاع على إحصائية نشرتها صحيفة “بيلد” الألمانية، وكشفت أنّ أربعة سوريين فقط قبلوا العودة طوعاً إلى بلادهم، برغم عرض مالي قدّمته بلدية دريسدن، عاصمة ولاية ساكسونيا، ضمن برنامج أُطلق في كانون الثاني/ يناير 2025. هذا البرنامج يمنح مكافأةً ماليةً تصل إلى 1،000 يورو للفرد، و4،000 يورو للأسرة، إلى جانب تغطية تكاليف السفر إلى المطار شاملةً تذاكر الطيران، ومبلغ 200 يورو كمصروفات إضافية.
وبرغم هذه الحوافز، لم يتجاوز عدد المتقدمين للاستفادة من العرض، أربعة أشخاص فقط، من أصل 7،433 سورياً يعيشون في المدينة. ووفقاً للمتحدث باسم البلدية ألكسندر بوخمان، فقد تم تقديم أربعة طلبات جديدة، بين 10 و29 كانون الثاني/ يناير 2025، لكنها لم تسفر حتى الآن عن أي عودة فعلية.
البرنامج الذي جاء وفق إعلان البلدية، دعماً للراغبين في العودة بعد “سقوط الدكتاتور الأسد”، لم يحقق النجاح المتوقّع، إذ لم تتجاوز نسبة المهتمّين به 0.5% فقط.
وفي سياق محاولات ترحيل اللاجئين السوريين طوعاً، خصصت الحكومة النمساوية -التي يقودها المحافظون- مبلغاً قدره 1،050 دولاراً، لتشجيع اللاجئين السوريين على العودة إلى وطنهم تحت ما أسمته “مكافأة عودة”، لكن هذه الخطوة لم تغرِ السوريين بمغادرة مهجرهم.
في ظلّ هذا الإقبال شبه المعدوم، تًطرح تساؤلات جوهرية عدة: هل أصبحت أوروبا الوطن الجديد للسوريين؟ وهل تكفي الحوافز المالية لإقناعهم بالعودة إلى بلادهم أو أنّ المنفى بات أكثر أماناً واستقراراً من الوطن؟
نُحب المنفى
يحاول وسيم الأحمد، اللاجئ السوري المقيم في فرنسا، شرح كيف أربك سقوط الأسد حساباتهم بين ليلة وضحاها. يقول لرصيف22: “أنا، كغيري من السوريين، لم يكن سيناريو العودة مطروحاً لدينا قبل الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024”. ويوضح: “تخيُّل العودة تحت ظلّ نظام الأسد، كان أشبه بتخيُّل الذهاب إلى الموت، خاصةً بالنسبة للشباب الذكور المطلوبين للخدمة العسكرية”.
ويستذكر الأحمد، كيف أنّ الأشهر القليلة التي سبقت سقوط الأسد، تسببت بالفعل في خسارته صديقاً جرفه الحنين إلى زيارة سوريا، فوقع في قبضة النظام، واتُّهم بالخيانة لأنه تهرّب من خدمة العلم.
ولا يخفي الأحمد، أنه كغيره من السوريين، يختبر مشاعر مختلطةً، إذ كشف سقوط الأسد حبَّهم لوطنهم المضيف، حيث باتوا يشعرون بالانتماء إلى وطنَين مختلفَين في آنٍ واحد. وهذا ما يطرح تساؤلات حول كيفية التوفيق بين الهويتين، وما إذا كانت العودة إلى سوريا، المدفوعة بالحنين، ستحسم القرار بطريقة عاطفية أو عقلانية؟
كما يلفت الأحمد، إلى أنّ الهوية السورية باقية بالنسبة له، ولن يقوى أحد على تبديلها، لكن الأمر يختلف بالنسبة للأطفال السوريين الذين وُلدوا في المنفى، إذ يجدون صعوبةً في نطق الكلمات العربية، وفهم مفرداتها، كما أنّ الهوية الأوروبية شكّلت شخصياتهم وعاطفتهم بشكل عميق، برغم التزام الأهالي بالحفاظ قدر الإمكان على هويتهم وعاداتهم وتقاليدهم.
الميّزة الأوروبية
من جهته، يشارك الصحفي السوري المقيم في بريطانيا غيّاث الجنيد ارتباكه العاطفي بعد سقوط الأسد، إذ يقول لـ رصيف22: “العودة إلى سوريا بعد سنوات طويلة من العيش في بريطانيا تمثل تحدياً كبيراً على الصعيد الشخصي، وتتطلب تفكيراُ عميقاً ومتأنياً”.
ويضع الجنيد شروطاً للعودة إلى مسقط رأسه، حيث يقول: “العودة تتطلب إعادة إرساء العلاقة مع الوطن من جديد. فسوريا التي أحب أن أعود إليها يجب أن تكون ذات نظام ديمقراطي يرسي دعائم العدالة الاجتماعية والقضائية”. ويضيف: “بعد سنوات الحرب الأهلية المريرة، أصبح من الضروري وجود عدالة انتقالية واضحة، وبناء قضاء عادل ومستقل يضمن الحريات”.
تتعدد دوافع العودة إلى سوريا؛ فبعض السوريين يشعرون برغبة ملحّة في استعادة هويتهم والانتماء إلى وطنهم الذي غادروه. بالنسبة لهؤلاء، تمثل العودة فرصة لإحياء الذكريات الجميلة المرتبطة بالطفولة، وإعادة بناء الروابط الأسرية التي تأثرت بفعل الفراق. فيما يرى آخرون في العودة فرصة لبناء حياة جديدة، بعيداً عن المخاطر والتهديدات التي عاشوها في المهجر. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل المخاوف العديدة، لا سيما تلك المتعلقة بالهوية الأصلية والهوية الجديدة التي تشكّلت في المهجر.
في هذا السياق، يرى فراس عزام، المقيم في ألمانيا منذ عام 2022، أن غياب الحياة الاجتماعية في أوروبا قد يكون سبباً كافياً للعودة إلى سوريا، حيث إن ذلك “يساهم في بناء هوية حقيقية للأجيال القادمة، لا سيما مع وجود حياة اجتماعية متكاملة هناك، بين الأهل والأصدقاء، إذ يلعب المجتمع دوراً مهماً في الصحة النفسية والدعم الاجتماعي الذي قد يحتاجه أي شخص في مختلف مراحل حياته”.
ويضيف عزام أن العنصرية المتزايدة في أوروبا تجاههم وتجاه أولادهم، حتى بعد حصولهم على الجنسية الأوروبية، تساهم في خلق هوية مهزوزة لا يمكن أن تستقيم إلا بالعودة إلى الوطن، رغم المخاوف التي لا تزال قائمة، بحسب رأيه.
وتبقى مسألة العدالة الاجتماعية والقضائية واحدة من القضايا الحساسة التي تشغل بال الكثيرين، حيث تبرز إشكاليات الفساد والمحسوبية كعوامل تعيق تحقيق العدالة، وتؤثر سلباً على حياة الناس العاديين. فكيف يمكن للمرء أن يتخيل العودة إلى وطن يسوده عدم الثقة في المؤسسات؟ هذه التساؤلات تثير قلق الكثيرين، حيث يصبح التعامل مع هذه القضايا عند العودة تحدياً كبيراً.
كلمة السّر: الحُرِّيَّة
ويؤكد الجنيد على أهمية الحرِّيات الشخصية كضمانة للعودة، مشيراً إلى أن الوضع الحالي في سوريا يشهد صراعاً بين مؤيدين للقيادة الجديدة ذات التوجه الإسلامي، وبين المدافعين عن الحريات، حيث يقول: “هناك نوع من التباطؤ بين من يريد فرض الحجاب على النساء ومن يسعى لضمان حرياتهن، فحرية اختيار الحجاب، وحرية الملبس، وحريات أخرى، أمور مهمة جداً.”
كما يعبّر الجنيد عن معاناته الشخصية بعد سنوات من الاغتراب، حيث يشعر أحياناً بصعوبة في التعبير عن نفسه باللغة العربية. ويختتم بالقول: “من المهم أن نعيد التفكير في الهوية واللغة، خاصة بعد فترة طويلة من الغربة”.
يجسد تلخيص غيّاث الجنيد التحديات المعقدة التي تواجه السوريين المغتربين عند التفكير في العودة إلى وطنهم، كما يسلط الضوء على الحاجة إلى العدالة والديمقراطية والحريات الأساسية.
في المقابل، يرى وليد النوفل، الصحفي السوري المقيم في فرنسا، أن غالبية السوريين الذين عادوا إلى الوطن هم من الحاصلين على جنسيات الدول الأوروبية التي لجؤوا إليها، مدللًا على قوله بـ: “أن قوانين اللجوء تمنع اللاجئين من العودة إلى وطنهم الأم، وبالتالي لا يمكن لغالبية اللاجئين السوريين في أوروبا زيارة سوريا ثم العودة إلى أوروبا، إلا إذا كانوا بالفعل مواطنين أوروبيين”.
ويعتقد وليد أن تجرؤ السوريين على العودة إلى وطنهم جاء بسبب حصولهم على جنسيات أوروبية سهّلت لهم السفر والتنقل عبر المطارات، حيث إن الشعور بأنهم محميون بالجنسية الأوروبية جعل العودة إلى سوريا أكثر سهولة بالنسبة لهم.
“الشرع” يخاف الله
تظل فكرة العودة إلى سوريا بالنسبة للسوريين موضوعًا معقداً وغارقاً في التحديات والفرص، فالعودة ليست مجرد انتقال جغرافي، بل هي رحلة نفسية وثقافية تعكس الهوية والانتماء، وتعيد بناء الروابط العائلية والاجتماعية التي فقدت على مر السنين.
تستذكر شهلا الحاج، السورية المقيمة في ألمانيا، كيف دخلت ألمانيا مع والدتها المريضة لتجد ما افتقده الملايين من السوريين: “بعدما أمضينا حياتنا في السعودية، كانت البداية صعبة، أشبه بالانطلاق من تحت الصفر، لكننا وجدنا في ألمانيا ما كنا نفتقده: الإنسانية بكل معانيها—الاحترام، الأمان، المستقبل، الدعم، وحتى الطمأنينة. صحيح أن الطريق كان شاقاً، لكنه منحنا القدرة على التأقلم مع الحياة الجديدة”.
إلا أن شهلا تقول إن الشوق إلى الوطن يظل أمراً لا يمكن تجاوزه: “لم أعش فيه كثيراً، لكن سوريا بالنسبة لي تظل أجمل مكان في العالم، فالوطن يبقى وطناً مهما ابتعدنا عنه”. لكنها تستدرك قائلة: “وفي المقابل، من الصعب أن أهدم كل ما بنيته هنا، وأعود إلى بلد لم يتعافَ بعد، بلد لا يزال بحاجة إلى الكثير ليُعاد ترميمه بعد أن أصبح حطامًا بفعل الحرب”.
ورغم خوف شهلا من العودة إلى بلدها، ورغم طول الطريق أمامه، فإنها لا تزال متفائلة، حيث تقول: “لدي إيمان بأن سوريا يمكن أن تنهض من جديد، وبأن الحكومة الجديدة قد تحمل تغييرات إيجابية. من يخشى الله لا يُخشى منه، وهذا يمنحني بعض الطمأنينة”.
وتوضح الحاج أن عيش السوريين لسنوات طويلة في الغرب جعلهم يحبون الحياة المدنية، ويتمنون ترجمة هذه الثقافة في بلدهم الأم: “صحيح أن سوريا بلد متعدد الطوائف، لكن ما يميز السوريين هو ترابطهم، وهذا ما يجعلني واثقة بأن الحرية واحترام حقوق الإنسان سيجدان طريقهما مع الوقت. لقد عشنا لعقود في ظل نظام لم يحترمنا، لكنني أؤمن بالشعب السوري—شعب مثقف، واعٍ، ومتعلم، وقادر على بناء سوريا جميلة بسرعة. لا سيما أن أغلب العائدين، إضافة إلى إيمانهم، قد عاشوا تجربة المدنية في أوروبا، ولا بد أن يستفيدوا منها في بناء بلدهم”.
رصيف 22
—————————-
=====================