الناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

ماذا تكشف الأرقام عن تعلّق السوريين بمنافيهم الأوروبية؟/ أصيل سارية

الأحد 23 فبراير 2025

هل وقع السوريون في غرام منافيهم الأوروبية؟ سؤال يفرض نفسه عند الاطلاع على إحصائية نشرتها صحيفة “بيلد” الألمانية، وكشفت أنّ أربعة سوريين فقط قبلوا العودة طوعاً إلى بلادهم، برغم عرض مالي قدّمته بلدية دريسدن، عاصمة ولاية ساكسونيا، ضمن برنامج أُطلق في كانون الثاني/ يناير 2025. هذا البرنامج يمنح مكافأةً ماليةً تصل إلى 1،000 يورو للفرد، و4،000 يورو للأسرة، إلى جانب تغطية تكاليف السفر إلى المطار شاملةً تذاكر الطيران، ومبلغ 200 يورو كمصروفات إضافية.

وبرغم هذه الحوافز، لم يتجاوز عدد المتقدمين للاستفادة من العرض، أربعة أشخاص فقط، من أصل 7،433 سورياً يعيشون في المدينة. ووفقاً للمتحدث باسم البلدية ألكسندر بوخمان، فقد تم تقديم أربعة طلبات جديدة، بين 10 و29 كانون الثاني/ يناير 2025، لكنها لم تسفر حتى الآن عن أي عودة فعلية.

البرنامج الذي جاء وفق إعلان البلدية، دعماً للراغبين في العودة بعد “سقوط الدكتاتور الأسد”، لم يحقق النجاح المتوقّع، إذ لم تتجاوز نسبة المهتمّين به 0.5% فقط.

وفي سياق محاولات ترحيل اللاجئين السوريين طوعاً، خصصت الحكومة النمساوية -التي يقودها المحافظون- مبلغاً قدره 1،050 دولاراً، لتشجيع اللاجئين السوريين على العودة إلى وطنهم تحت ما أسمته “مكافأة عودة”، لكن هذه الخطوة لم تغرِ السوريين بمغادرة مهجرهم.

في ظلّ هذا الإقبال شبه المعدوم، تًطرح تساؤلات جوهرية عدة: هل أصبحت أوروبا الوطن الجديد للسوريين؟ وهل تكفي الحوافز المالية لإقناعهم بالعودة إلى بلادهم أو أنّ المنفى بات أكثر أماناً واستقراراً من الوطن؟

نُحب المنفى

يحاول وسيم الأحمد، اللاجئ السوري المقيم في فرنسا، شرح كيف أربك سقوط الأسد حساباتهم بين ليلة وضحاها. يقول لرصيف22: “أنا، كغيري من السوريين، لم يكن سيناريو العودة مطروحاً لدينا قبل الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024”. ويوضح: “تخيُّل العودة تحت ظلّ نظام الأسد، كان أشبه بتخيُّل الذهاب إلى الموت، خاصةً بالنسبة للشباب الذكور المطلوبين للخدمة العسكرية”.

ويستذكر الأحمد، كيف أنّ الأشهر القليلة التي سبقت سقوط الأسد، تسببت بالفعل في خسارته صديقاً جرفه الحنين إلى زيارة سوريا، فوقع في قبضة النظام، واتُّهم بالخيانة لأنه تهرّب من خدمة العلم.

ولا يخفي الأحمد، أنه كغيره من السوريين، يختبر مشاعر مختلطةً، إذ كشف سقوط الأسد حبَّهم لوطنهم المضيف، حيث باتوا يشعرون بالانتماء إلى وطنَين مختلفَين في آنٍ واحد. وهذا ما يطرح تساؤلات حول كيفية التوفيق بين الهويتين، وما إذا كانت العودة إلى سوريا، المدفوعة بالحنين، ستحسم القرار بطريقة عاطفية أو عقلانية؟

كما يلفت الأحمد، إلى أنّ الهوية السورية باقية بالنسبة له، ولن يقوى أحد على تبديلها، لكن الأمر يختلف بالنسبة للأطفال السوريين الذين وُلدوا في المنفى، إذ يجدون صعوبةً في نطق الكلمات العربية، وفهم مفرداتها، كما أنّ الهوية الأوروبية شكّلت شخصياتهم وعاطفتهم بشكل عميق، برغم التزام الأهالي بالحفاظ قدر الإمكان على هويتهم وعاداتهم وتقاليدهم.

الميّزة الأوروبية

من جهته، يشارك الصحفي السوري المقيم في بريطانيا غيّاث الجنيد ارتباكه العاطفي بعد سقوط الأسد، إذ يقول لـ رصيف22: “العودة إلى سوريا بعد سنوات طويلة من العيش في بريطانيا تمثل تحدياً كبيراً على الصعيد الشخصي، وتتطلب تفكيراُ عميقاً ومتأنياً”.

ويضع الجنيد شروطاً للعودة إلى مسقط رأسه، حيث يقول: “العودة تتطلب إعادة إرساء العلاقة مع الوطن من جديد. فسوريا التي أحب أن أعود إليها يجب أن تكون ذات نظام ديمقراطي يرسي دعائم العدالة الاجتماعية والقضائية”. ويضيف: “بعد سنوات الحرب الأهلية المريرة، أصبح من الضروري وجود عدالة انتقالية واضحة، وبناء قضاء عادل ومستقل يضمن الحريات”.

تتعدد دوافع العودة إلى سوريا؛ فبعض السوريين يشعرون برغبة ملحّة في استعادة هويتهم والانتماء إلى وطنهم الذي غادروه. بالنسبة لهؤلاء، تمثل العودة فرصة لإحياء الذكريات الجميلة المرتبطة بالطفولة، وإعادة بناء الروابط الأسرية التي تأثرت بفعل الفراق. فيما يرى آخرون في العودة فرصة لبناء حياة جديدة، بعيداً عن المخاطر والتهديدات التي عاشوها في المهجر. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل المخاوف العديدة، لا سيما تلك المتعلقة بالهوية الأصلية والهوية الجديدة التي تشكّلت في المهجر.

في هذا السياق، يرى فراس عزام، المقيم في ألمانيا منذ عام 2022، أن غياب الحياة الاجتماعية في أوروبا قد يكون سبباً كافياً للعودة إلى سوريا، حيث إن ذلك “يساهم في بناء هوية حقيقية للأجيال القادمة، لا سيما مع وجود حياة اجتماعية متكاملة هناك، بين الأهل والأصدقاء، إذ يلعب المجتمع دوراً مهماً في الصحة النفسية والدعم الاجتماعي الذي قد يحتاجه أي شخص في مختلف مراحل حياته”.

ويضيف عزام أن العنصرية المتزايدة في أوروبا تجاههم وتجاه أولادهم، حتى بعد حصولهم على الجنسية الأوروبية، تساهم في خلق هوية مهزوزة لا يمكن أن تستقيم إلا بالعودة إلى الوطن، رغم المخاوف التي لا تزال قائمة، بحسب رأيه.

وتبقى مسألة العدالة الاجتماعية والقضائية واحدة من القضايا الحساسة التي تشغل بال الكثيرين، حيث تبرز إشكاليات الفساد والمحسوبية كعوامل تعيق تحقيق العدالة، وتؤثر سلباً على حياة الناس العاديين. فكيف يمكن للمرء أن يتخيل العودة إلى وطن يسوده عدم الثقة في المؤسسات؟ هذه التساؤلات تثير قلق الكثيرين، حيث يصبح التعامل مع هذه القضايا عند العودة تحدياً كبيراً.

كلمة السّر: الحُرِّيَّة

ويؤكد الجنيد على أهمية الحرِّيات الشخصية كضمانة للعودة، مشيراً إلى أن الوضع الحالي في سوريا يشهد صراعاً بين مؤيدين للقيادة الجديدة ذات التوجه الإسلامي، وبين المدافعين عن الحريات، حيث يقول: “هناك نوع من التباطؤ بين من يريد فرض الحجاب على النساء ومن يسعى لضمان حرياتهن، فحرية اختيار الحجاب، وحرية الملبس، وحريات أخرى، أمور مهمة جداً.”

كما يعبّر الجنيد عن معاناته الشخصية بعد سنوات من الاغتراب، حيث يشعر أحياناً بصعوبة في التعبير عن نفسه باللغة العربية. ويختتم بالقول: “من المهم أن نعيد التفكير في الهوية واللغة، خاصة بعد فترة طويلة من الغربة”.

يجسد تلخيص غيّاث الجنيد التحديات المعقدة التي تواجه السوريين المغتربين عند التفكير في العودة إلى وطنهم، كما يسلط الضوء على الحاجة إلى العدالة والديمقراطية والحريات الأساسية.

في المقابل، يرى وليد النوفل، الصحفي السوري المقيم في فرنسا، أن غالبية السوريين الذين عادوا إلى الوطن هم من الحاصلين على جنسيات الدول الأوروبية التي لجؤوا إليها، مدللًا على قوله بـ: “أن قوانين اللجوء تمنع اللاجئين من العودة إلى وطنهم الأم، وبالتالي لا يمكن لغالبية اللاجئين السوريين في أوروبا زيارة سوريا ثم العودة إلى أوروبا، إلا إذا كانوا بالفعل مواطنين أوروبيين”.

ويعتقد وليد أن تجرؤ السوريين على العودة إلى وطنهم جاء بسبب حصولهم على جنسيات أوروبية سهّلت لهم السفر والتنقل عبر المطارات، حيث إن الشعور بأنهم محميون بالجنسية الأوروبية جعل العودة إلى سوريا أكثر سهولة بالنسبة لهم.

“الشرع” يخاف الله

تظل فكرة العودة إلى سوريا بالنسبة للسوريين موضوعًا معقداً وغارقاً في التحديات والفرص، فالعودة ليست مجرد انتقال جغرافي، بل هي رحلة نفسية وثقافية تعكس الهوية والانتماء، وتعيد بناء الروابط العائلية والاجتماعية التي فقدت على مر السنين.

تستذكر شهلا الحاج، السورية المقيمة في ألمانيا، كيف دخلت ألمانيا مع والدتها المريضة لتجد ما افتقده الملايين من السوريين: “بعدما أمضينا حياتنا في السعودية، كانت البداية صعبة، أشبه بالانطلاق من تحت الصفر، لكننا وجدنا في ألمانيا ما كنا نفتقده: الإنسانية بكل معانيها—الاحترام، الأمان، المستقبل، الدعم، وحتى الطمأنينة. صحيح أن الطريق كان شاقاً، لكنه منحنا القدرة على التأقلم مع الحياة الجديدة”.

إلا أن شهلا تقول إن الشوق إلى الوطن يظل أمراً لا يمكن تجاوزه: “لم أعش فيه كثيراً، لكن سوريا بالنسبة لي تظل أجمل مكان في العالم، فالوطن يبقى وطناً مهما ابتعدنا عنه”. لكنها تستدرك قائلة: “وفي المقابل، من الصعب أن أهدم كل ما بنيته هنا، وأعود إلى بلد لم يتعافَ بعد، بلد لا يزال بحاجة إلى الكثير ليُعاد ترميمه بعد أن أصبح حطامًا بفعل الحرب”.

ورغم خوف شهلا من العودة إلى بلدها، ورغم طول الطريق أمامه، فإنها لا تزال متفائلة، حيث تقول: “لدي إيمان بأن سوريا يمكن أن تنهض من جديد، وبأن الحكومة الجديدة قد تحمل تغييرات إيجابية. من يخشى الله لا يُخشى منه، وهذا يمنحني بعض الطمأنينة”.

وتوضح الحاج أن عيش السوريين لسنوات طويلة في الغرب جعلهم يحبون الحياة المدنية، ويتمنون ترجمة هذه الثقافة في بلدهم الأم: “صحيح أن سوريا بلد متعدد الطوائف، لكن ما يميز السوريين هو ترابطهم، وهذا ما يجعلني واثقة بأن الحرية واحترام حقوق الإنسان سيجدان طريقهما مع الوقت. لقد عشنا لعقود في ظل نظام لم يحترمنا، لكنني أؤمن بالشعب السوري—شعب مثقف، واعٍ، ومتعلم، وقادر على بناء سوريا جميلة بسرعة. لا سيما أن أغلب العائدين، إضافة إلى إيمانهم، قد عاشوا تجربة المدنية في أوروبا، ولا بد أن يستفيدوا منها في بناء بلدهم”.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى