سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعنقد ومقالات

أخمصُ البندقية الذي وَجّه كاميرا نبيل المالح: في الذكرى التاسعة لرحيل السينمائي المؤسِّس/ نبيل محمد

24-02-2025

        غابت عن شاشات التلفزة، التي تنقّلت كاميراتها بين ساحات المدن السورية خلال الأسابيع الماضية ناقلةً أفراح سكّانها بسقوط نظام الأسد، عشرات القرى والمدن الصغيرة التي أحالها الطيران الحربي السوري والروسي خلال السنوات الماضية إلى قفار. قرى كانت قبل ذلك أصلاً تنزف سكّانها لصالح المدن، جراء سياسات البعث العبثية والفاسدة التي جففت الريف وأحالته عدماً. تلك القرى الخاوية أو شبه، كلّما نُشِرِت صور وفيديوهات منها على صفحات من بقي من سكانها، يتردد في الذهن صوت المخرج السينمائي الراحل نبيل المالح في واحد من آخر أعماله التسجيليّة، والذي حمل اسم عالشام عالشّام بالاشتراك مع الفوز طنجور: «كان يا ما كان، كان في قرية فيها ألف بيت، وهلأ صارو خمسة، صارو أربعة، صارو تلاتة، صارو تنين».

        نادرة هي الوثائق البصريّة التي نقلت حال السوريين في الأرياف والمدن البعيدة عن المركز خلال سنوات طويلة، ونادرة هي المواد الفيلميّة التي كانت تتعامل مع الشارع ببساطة ودون قيود، ومما لا شك فيه أن تلك البساطة التي فكّر فيها نبيل المالح لإنجاز عالشام عالشام كانت استثنائية، وهي أن يحمل كاميرا ويتنقّل فيها في الجغرافيا الريفية السورية في الاتجاهات الأربعة، ويضعها أمام سكان القرى تاركاً لهم أن يقولوا ما أرادوا، مدركاً تمام الإدراك أن الفيلم لن يعرض في سوريا، كالعشرات غيره من أعمال المالح أو حتى غيره من السينمائيين الذين سوّلت لهم أنفسهم مقاربة الحقيقة في زمن البعث البائد. انتظر الفيلم ست سنوات ليُعرض، حيث حمله مخرجُه معه عند مغادرته الأخيرة إلى دبي، وعرضه بعد أن كانت الكثير من تلك القرى قد مُحِيت عن الخارطة كلياً أو جزئياً، فقد اقتلعت القذائف بيوتها وسكانها.

        أسس نبيل المالح، الذي تصادف ذكرى وفاته التاسعة في الرابع والعشرين من الشهر الحالي، مجمل أعماله السينمائية انطلاقاً من ردّة فعله على الواقع، وبما يتماشى مع السائد من الأفكار التقدميّة التحررية في مختلف المراحل التي عاشها، بمعنى أن كاميرته لم تتحرك يوماً إلا برغبته وبإخلاص تام لقيَمه، وبشكل خاص لقيمة الرفض الثوريّة التي انعكست في كثير من أعماله بشفافية وصدق. وكأنها كانت جميعها بشكل من الأشكال سلوكاً يردُّ فيها على صفعة أخمص البندقيّة التي وجهها له جندي سوري على خدّه، والتي «حولت الوطن إلى منفى» كما كرر في أكثر من لقاء. تلك الحادثة حفرت عميقاً في شخصية وسلوك المالح كسينمائي ومواطن، حتى فقدت تفاصيلها الواقعيّة، وأصبحت رمزاً يحرّك المخرج في كل ما ينجز، مع العلم أنها أصلاً وقبل أن تحدث كانت أداته في إيجاد سبب مباشر لثورة أبو علي شاهين على الإقطاع في باكورة أعماله وأكثرها تأثيراً، الفهد 1972، والذي ثار إزاء صفعة أخمص بندقيّة. ثم كانت صفعة ضابط الأمن أيضاً انكسارية الكرامة وخلاصة البؤس في الكومبارس 1993. بدا كل ما فعله نبيل المالح في حياته رداً على هذه صفعة ما، لكنّه ردّ على طريقة المحترف النشيط المبدع الذي كلما تلقّى صفعة التفت إلى زاوية أخرى باحثاً عن زاوية يردُّ منها. صفعهُ القطاع العام مرات شتّى فالتفت إلى الإنتاج بسبل وطرق مختلفة، من القطاع الخاص إلى المشاريع التشاركيّة إلى الإنتاج على حسابه الخاص. صفعته الرقابة فجعلته يتجه بأفلامه نحو العرض في الخارج.

        عند عودة نبيل المالح من الدراسة في الاتحاد السوفييتي إلى دمشق مع بداية تأسّس المؤسسة العام للسينما، كان محمّلاً بأفكار وإيديولوجيّة ميّالة إلى التعلّق بالقطاع العام باعتباره منجاة للفن من التجارة، خاصة في بلد لم تولد فيه السينما بعد بشكلها الحقيقي، تمسّك بهذا القطاع محاولاً من خلاله تقديم ما يمكن أن يكون فريداً وجديداً، وهو بالفعل ما حققه من خلال الفهد، على الرغم من كل الصعوبات التي واجهته من قبل هذا القطاع نفسه، والذي سيراهُ فيما بعد نقمة أكثر من كونه نعمة، في ظل المحسوبيات وسلطة المخابرات والعلاقات وسواها على الوسط الإنتاجي في القطاع العام. انقلب نبيل المالح على القطاع العام على طريقته، لم يَسمح له أن يكون سبيله الوحيد لتقديم أفلامه من جهة، كما أن هذا الانقلاب أيضاً تضمّن فيما تضمّنه تطوراً نوعيّاً في اللغة السينمائية.

        يمكن اعتبار فيلم الفهد بيان انطلاق للسينما السوريّة المتكاملة، وليس المنطلق في هذا التقييم هو موضوع الفيلم فحسب، بل لربّما كانت القصّة كلاسيكيّة، منتميّة لمرحلتها وغير ثوريّة على صعيد السرد، لكنّ ما بوّأ الفيلم هذه المكانة، هو جرأة نبيل المالح في وضع معايير وأسس سينما جديدة متكاملة، منطلقها الأساسي هو التجريب بكل مكونات الصناعة السينمائية؛ من حركة الكاميرا التي كانت بلا شك كانت ثوريّة في عالم التصوير السينمائي أو التلفزيوني في سورية حينها، إذ أطلق المخرج العنان لكاميرته، وخاصة على صعيد الحركة الأفقيّة، والكلوزات غير الثابتة؛ إلى الجرأة في صناعة النجم بدلاً من الاعتماد على نجوم السوق، فلجأ إلى أديب قدّورة ابن مخيم حندرات في حلب، والذي كان ممثلاً مسرحياً مغموراً فقيراً، إضافة إلى الضربة الرابحة المتمثّلة باستغلال إمكانيات وقابليّة إغراء في تأدية المشاهد الحميمية، فكان الفيلم بلا شك أفضل ما قدّمه نجمه ونجتمه خلال حياتهما الفنيّة، وهنا تكمن قيمة التجريب والجرأة لدى مخرج مغامر. لعلّ أفضل جملة يمكن استخدامه للتعبير عن فيلم الفهد هو ما قاله عنه نبيل المالح نفسه بأنه «كوّن البنية الجمالية للسينما السوريّة».

        أدرك نبيل المالح مبكّراً قيمة التجريب، وهو القادم من أكاديميات وأوساطٍ إنتاجية ملتزمة بقواعد ومحددات رسمتها الاشتراكيّة السوفييتية. التجريب وفق تجربته لا حدود له، لا بالمكان ولا الموضوع والأسلوب ولا الأداة. يختلف بشكل شبه كامل أسلوبه بين فيلم وآخر، يكتب السيناريو للتلفزيون هنا، ويقف خلف الكاميرا هناك، ينتج أفلام بطول دقائق قليلة وأخرى تزيد عن ساعتين. يتجه للسينما التسجيليّة هنا، ويلتزم الروائية هناك. يذهب إلى تصوير هذا الفيلم بنص متماسك، ويخوض في فيلم آخر دون أي نص تاركاً للكاميرا أن تكتشف ما تشاء. لا يبالي بفيلم ينال قيمة كبرى وآخر يمر عابراً دون أثر. يحمل كأول مخرج سينمائي سوري كاميرا الديجيتال بعد تجربة عمرها عشرات السنوات بالكاميرات التقليدية، ليكون أول من صنع فيلماً روائياً بالكاميرا الرقميّة وإن بسويّة ضعيفة. لا مشكلة فباب التجريب مفتوح دائمأً.

        ينبع اختلاف سينما نبيل المالح عن أبناء جيله أو من جاؤوا بعده من صناع السينما في سورية من رؤيته للسينما بشكل عام. بمعنى أنها ليست صناعة أفلام ضمن خارطة إنتاجية محددة يتوفر لها نص ومصوّر ومخرج ومواقع تصوير وهيئة داعمة، بل هي أكثر من ذلك بكثير، هي كاميرا يمكن أن تلتقط كل يوم ما يمكن تسميته سينما. لم يجلس منتظراً دعم القطاع العام، بل انقلب ضد هذا القطاع الذي كان متمسّكاً به في مطلع تجربته، حوالي 150 فيلماً تتراوح بين مختلف الأنواع والأشكال والأساليب، بلغت ذروة أهميتها على مختلف الصعد في فيلم كومبارس 1993، التحفة الفنيّة التي وظّف فيها المالح عبقريّته على أكثر من صعيد، أهمها نزعته للتجريب بأن وحدّ المكان والزمان والموضوع، وقدّم نقداً عميقاً ولاذعاً لنظام البعث، مختصراً إياه بممارستين أساسيتين: الإفقار والقمع، كل ذلك قُدِّم من خلال علاقة عاطفيّة أخاذة بجمالها وبساطتها لَعِب بطولتها بسام كوسا وسمر سامي. لا بد أن ناقداً سورياً أو مطّلعاً على تاريخ التجربة السورية سيضع هذا الفيلم ضمن قائمة أفضل ثلاثة أفلام في تاريخ سوريا حتى الآن. ولن يكون مبالِغاً من يضعه في المرتبة رقم واحد.

        لم يصنع نبيل المالح السينما ليعرض الأفلام فقط، وعلّ جزءاً كبيراً من أعماله لم يعرض في سوريا، وجزء منها مرّ عابراً في الصالات أو المهرجانات التي عرض فيها. لكنه كان يصنع السينما باعتبارها أسلوب حياته بكل ما يعنيه هذا المصطلح. كان يصنع السينما ليصنع السينما، وعليه تنال تجربته الفرادة التي تستحقّها، أما وقد انتقد الرقابة والممارسات السياسية للنظام السوري فقد دفع ثمن ذلك بهجرته خارج البلاد مرات عديدة، وبمنع أفلامه من العرض، وحرمانه من الدعم الإنتاجي، ثم موته خارج بلاده دون أي مواربة أو التفاف أو ضبابية، كل ما قاله وفعله ومارسه كان واضحاً وحقيقياً وشفافاً كأفلامه تماماً، ولم تناقض قيمه في الفن يوماً قيمهُ في الواقع، التناقض الذي كان خياراً أو فرضاً على حشود كبيرة من صناع الفن السوري خلال عقود من الحكم الديكتاتوري.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى