إعادة تفعيل القطّاع الصحي في السويداء: إرث من الفساد ومحاولات هشّة لإصلاحه/ عدي العربيد، أنجيلا السهوي

24-02-2025
وسط تصاعُدِ الأزمات الاقتصادية في سوريا وتدهور سعر صرف الليرة أمام الدولار، تزداد حاجة المواطنين-ات إلى المرافق الصحية العامة التي تعاني من إرثٍ ثقيل من الفساد وسوء الإدارة وبنية تحتية شبه مدمَّرة. في محافظة السويداء (جنوب شرقي دمشق)، يعتمد قرابة 750 ألف مواطن على أربعة مستشفيات حكومية فقط هي: الوطني (زيد الشريطي) في مركز المدينة، وصلخد في الريف الجنوبي، وسالي في الريف الشرقي، وشهبا في الريف الشمالي؛ تُوصف خدماتها جميعاً بـ«المتدنية»، وذلك وفقاً للسكان الذين يلجؤون إلى المستشفيات العامة لعدم قدرتهم على تحمُّل تكاليف الخدمات الخاصة.
يُعتبر مستشفى شهبا الوطني ثاني أكبر مستشفى في المحافظة، ويعدّ حديث العهد، إذ تم تدشينه عام 2019 بستة أقسام وبقدرة استيعابية متدينة نسبةً لتوقعات المواطنين؛ حيث يتّسع 60 سريراً ويخدّم حوالي 125 ألف نسمة في مدينة شهبا والريف المحيط بها.
«يزور قسم الإسعاف حوالي 150-200 حالة يومياً بوجود طبيب مناوب واحد يغطّي مختلف الحالات التي لا تتوافق مع اختصاصه في أغلب الأوقات. لا يختلف الحال في المستشفيين الأخيرين (صلخد وسالي) سوى بأن الإمدادات التي تصل إلى مستشفى شهبا أكثر بكثير من تلك التي تصل إلى المستشفيات الفرعية الأخرى، التي تعتمد على قدرات الكادر التمريضي في تخديم الاحتياج، ويلجأ الكادر في الحالات الصعبة إلى تحويل الحالة إلى المستشفى الوطني (زيد الشريطي) في سيارة خاصة، سيارة المريض أو أحد فاعلي الخير»، هذا بحسب طبيب مقيم في مستشفى شهبا فضّل عدم ذكر اسمه.
لم تكن خدمات المستشفيات السورية مجانية كما ادّعت الحكومة في السنوات الأخيرة، حيث اضطرَّ المراجعون لشراء الأدوية والمستلزمات (مثل السيرومات، المحاقن، قناع وجه) من الخارج، ما دفع الكثيرين إلى اللجوء للجمعيات الخيرية وطلب الدعم والحوالات المالية من الأهل والمعارف في الخارج.
بازدياد الاحتياج والفقر، تَنظَّمَ دور المجتمع الأهلي بشكل واضح في السويداء، في محاولة من المغتربين وميسوري الحال من سكان المحافظة تقديمَ الدعم وتعويض دور المؤسسات التي فشلت على مدى السنوات الماضية في تلبية الحد الأدنى من الاحتياج الصحي المتعاظم. تواصلنا مع الدكتور عدنان مقلد، مدير جمعية أصدقاء مرضى السرطان، فأكد لنا أن عدد مرضى السرطان في المحافظة يشكل أعلى نسبة إصابات في سوريا، تليها طرطوس: «بحسب إحصائيات وزارة الصحة فإن بين كل 100 ألف شخص في السويداء هناك من 170 إلى 175 شخصاً مصاباً بالسرطان، أي أنه هناك ما يقارب 7500 حتى 8000 مريض في المحافظة السويداء».
تفتقر المحافظة إلى الدواء والجرعات الخاصة لعلاج السرطان مما يُرتّب أعباء إضافية على المواطنين، علماً أن تكلفة الجرعات باهظة وتحتاج إلى مراكز مجهزة لإعطائها، ما دفع المجتمع الأهلي والمغتربين لتأسيس الجمعيات كجمعية أصدقاء مرضى السرطان (2007)، وذلك لتوحيد جهود فاعلي الخير الراغبين بالمساعدة. ساهمت الجمعية في تأمين ثمن الجرعات وتكاليف وأجور النقل لكثير من الحالات لتلقي العلاج في مستشفى البيروني/حرستا، حيث توجد أقرب وحدة مجهّزة يمكن لمرضى السرطان من سكان السويداء الوصول إليها.
سعت جمعية أصدقاء مرضى السرطان منذ العام 2020 إلى بناء مستشفى خيري متخصص في علاج الأورام في منطقة «ظهر الجبل» قرب مركز المدينة، واستطاعت خلال عامين إنجاز 25 بالمئة من البناء بواسطة التبرعات. ولكن تعثر استكمال المشروع بسبب الأوضاع الاقتصادية، بالإضافة إلى الحاجة الملحة لمعالجة المرضى الحاليين الذين لا يزالون يفتقرون لبديل مؤسساتي داعم لرحلة علاجهم.
كذلك، يعاني مرضى القصور الكلوي في المحافظة من تعطُّل أجهزة غسيل الكلى المتكرر، فبحسب موقع السويداء 24، نفّذ عدد من مرضى القصور الكلوي اعتصاماً أمام مبنى محافظة السويداء منذ ثلاثة سنوات (تحديداً عام 2021)، ولم ينل إلا الوعود التي فقد ثلاثة مرضى حياتهم في انتظار تحققها. بعد سقوط النظام السابق، ووفقاً لآخر تصريحات مديرية الصحة في السويداء الشهر الفائت، فإن قسم غسيل الكلية بات يعمل على توفير كافة الخدمات ولجميع المرضى بالإضافة لفحوصات طبية شاملة، وبات يعمل عبر كادر مؤهل بمعدل 30 جلسة يومياً (بحسب نفس المصدر)، بهدف تحسين جودة الخدمات المقدمة والحفاظ على استمراريتها.
تحدّثنا إلى السيدة نهاد (ربة منزل من قرية شقّا في الريف الشرقي لمحافظة السويداء) عن الوضع في المستشفى الوطني، وشاركتنا رحلة علاج والدتها من مشاكل صحية إثر التقدم بالسن، أدت إلى إصابتها بنزيف داخلي في المعدة في شهر تشرين الثاني (نوفمبر)الماضي: «نقلنا الوالدة إلى المستشفى الوطني بحالة إسعافية حرجة، بعد أن شَكَت من آلام مبرحة». تصف نهاد كيف اضطرّت إلى شراء جميع الأدوية من خارج المستشفى، ومساعدة الممرضة في رعاية والدتها التي توفيت لاحقاً على سرير متهالك: «اضطررتُ أن أساعد الممرضة في كثير من الأحيان على رعاية والدتي وإطعامها ومراقبة حالتها على مدار الساعة». عادت نهاد لزيارة المستشفى بعد سقوط النظام لإجراء فحص ضروري وتقول: «لم يتغير الوضع كثيراً، لا يزال المستشفى في حالة رثّة، ويبدو أن هنالك محاولات لتأهيله، أتمنى أن يحصل ذلك بالفعل، لأنني لا أستطيع تحمل السفر الى دمشق في كل مرة أحتاج فيها أنا وعائلتي لفحصٍ أو إجراء طبي معين». سألناها عن فَرق التكلفة بين تلقي العلاج في دمشق والسويداء فقالت: «العلاج في مستشفى السويداء أفضل بالنسبة لنا من ناحية القُرب لتوفير الوقت، ولكن تكلفة المواصلات ليست أقل بكثير، فالتاكسي إلى مدينة السويداء تكلّف أكثر من 50 ألف ليرة سورية، ولا يوجد خيار الميكروباص العمومي»، مضيفة: «السفر إلى دمشق مرهق، والتنقل ضمن دمشق صعب بالنسبة لي، أذهب لإجراء فحص دوري يستغرق ساعة فينتهي الأمر بي مضطرة للمبيت في دمشق عند أختي مثلاً…».
جزء كبير من أسباب سوء الخدمات في مستشفى السويداء الوطني الذي تأسس في ستينيات القرن الماضي، يعود إلى البنية التحتية المتهالكة؛ فالمصاعد المعطلة وأنظمة التدفئة البالية ومولدات الطاقة الكهربائية العاجزة عن تحمّل الضغط، تُضاعف معاناة المرضى والعاملين. حتى غرف العمليات، المُفترض أن تكون مُعقَّمة، تعاني من أنظمة تكييف متدهورة، بينما تُحمّل البنية التحتية عبئاً يفوق طاقتها. وبحسب ما أخبرنا به مدير الصحة في محافظة السويداء عبر اتصالٍ هاتفي، فإن نسبة إشغال المستشفى الوطني 100 بالمئة وتتعدى إلى 137 بالمئة في كثير من الأوقات.
لا تقل أزمة الكوادر الطبية حدّةً عن البنية التحتية. فبعد هجرة آلاف الأطباء خلال حكم النظام السابق، جرّاء الضغط المفرط وانخفاض الرواتب الحاد، تعتمد المستشفيات على طلاب الاختصاص (المقيمين)، وخصوصاً صغار السنّ منهم، مما يؤدي إلى تراجع الخدمة الصحية بسبب النقص في كوادر الأطباء المختصين، الذين يؤثرون العمل في عياداتهم المستقلة بأجر جيد. تحدثنا إلى الدكتور عامر (اسم مستعار)، وهو طبيب مقيم في مستشفى زيد الشريطي، الذي صرّح بأن «الناس يتجهون إلى قسم الإسعاف المجاني حتى في الحالات الباردة، ما يسبب ضغطاً على المقيمين في القسم، الذين هم طلّاب في الغالب، ويفتقرون إلى خبرة الاختصاص ويحتاجون إلى إشراف مستمر…». يعزي د.عامر المشكلة إلى افتقار المستشفى للتنظيم الإداري وعدم تمييز المراجعين بين الحالات الإسعافية والحالات التي تستدعي زيارة عيادة مختصّة في كثير من الأحيان. ويضيف: «يعاد حالياً تفعيل العيادات التخصصية في المستشفى الوطني لتغطية الاحتياج، ولكن العملية لا تزال تسير بخطوات صغيرة، وما زلنا نعاني من تأخّر وصول رواتبنا التي لا تزال منخفضة جدّاً مع أن الضغط في تزايد…».
من جهته، يؤكد المدير الطبي للمستشفى الدكتور طارق مقلد في حديث عبر الهاتف أن الإدارة تبذل جهوداً لتجاوز إرث الفساد، وذلك عبر خطط نُوقشت مع وزير الصحة للحكومة الانتقالية د.ماهر الشرع في زيارته الأخيرة مع وفد من مديرية الصحة، منها تفعيل العيادات الخارجية وتحسين رواتب الكوادر والخدمات. كما يشير إلى حصول المستشفى على منحة مالية من مديرية صحة السويداء ساهمت في تحسين بعض الخدمات، حيث يقول: «الناس بدأت تلاحظ الفرق، لكن الدعم يجب أن يستمر».
إن التحدي الأكبر يكمن في الإرث الإداري الفاسد. فقبل سقوط النظام السابق، كانت عمليات شراء المستلزمات تُدار عبر مناقصات مُغلَبة لصالح مُقرَّبين، بأسعار مُبالَغ فيها ورشاوى للجان الشراء. وحتى المستشفيات ذات الهيئات المستقلة، مثل مشفى شهبا وصلخد، التي كانت تتجنب جزءاً من هذه الآفة عبر إدارات لامركزية، أُخضِعت بعد سقوط النظام لإدارة مركزية، والتقارير الداخلية تُشير إلى تحسُّن في شفافية توريد الإمدادات مؤخراً وتحسّن جودة الخدمات، علماً أنها لا تزال تعاني من نقص الكوادر وخصوصاً نقص الأطباء الأخصائيين للإشراف على الطلاب المقيمين، بالإضافة لغياب عنصر الحماية من اعتداءات بعض مرافقي المرضى على الكوادر، إذ تكررت حالات اعتداء على أفراد الكادر الطبي بسبب انفلات الوضع الأمني في المحافظة، ما تسبب أيضاً بإحجام الكثيرين عن التخصص في مشافي السويداء.
بتاريخ الخامس من شباط (فبراير) الجاري، وأثناء إنجاز هذا التقرير، صدر تعميم بمنع الإعلاميين من دخول المشافي الحكومية ومؤسسات مديرية الصحة في السويداء دون الرجوع إلى المكتب الإعلامي في مديرية الصحة، وذلك بحسب ما نشره موقع الراصد على فيسبوك. هذا التعميم أثار حفيظة كثيرين ممن يراقبون المرحلة الحالية في سوريا، خصوصاً فيما يتعلّق بدور الإعلام في تسليط الضوء على القطّاع الخدمي والعام وإتاحة مساحة للصحافة لممارسة دورها الرقابي على المؤسسات.
علّقت الأمم المتحدة على الوضع الصحي السوري في مطلع العام الجاري. فبحسب ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم المنظمة الدولية: «أكثر من 15 مليون سوري يحتاجون لرعاية صحية عاجلة، بينما تعاني المستشفيات من نقص حاد في المستلزمات الأساسية، من القفازات إلى أدوية الأمراض المزمنة».
اليوم، تَعِدُ الحكومة الانتقالية بإصلاحات غامضة، وتكتفي بتصريحات دون إفصاح عن خطط منهجية، بينما يدور القطاع الصحي في حلقة مفرغة: مستشفيات عامة بالكاد تقاوم الانهيار، وخدمات خاصة باهظة التكلفة، ومواطنون يُحاولون الوصول إلى أبسط حقوقهم؛ حق الحصول على رعاية صحية جيدة وتأمين صحي.
موقع الجمهورية