مراجعات الكتب

فتح سقراط: الحياة الوحيدة التي تستحق أن تعاش/ أحمد شافعي

كتاب جديد يمد القارئ بمقدمة سهلة مفادها أن “عيش حياة فلسفية حقيقية يمكن أن يجعل الناس أكثر حرية ورومانسية وشجاعة”

الاثنين 24 فبراير 2025

لقد كان الأديب الروسي تولستوي وهو في الـ 50 من العمر، في ذروة نجاحه الملموس، فهو متحقق في الكتابة وثري ومنعّم بالصحة والأسرة، لكن عذاباً وجودياً حل عليه فإذا به يسأل سؤالاً أفضى به إلى حافة الانتحار: فيم كانت حياتي كلها؟

ربما مضى عليك الآن قرابة شهرين منذ أن وضعت خطتك للعام الجديد وفشلت غالباً في تنفيذها، فلا أقلعت عن التدخين ولا انتظمت في الرياضة، ولا أصبحت الإنسان الجديد المذكور في أشهر برامج تطوير الذات في زماننا.

وقد لا ينبغي أن يحزنك هذا الفشل كثيراً، فمن الأخبار السعيدة التي يحملها لك كتاب “فتح سقراط.. انتصاراً للحياة الفلسفية” للكاتبة الأميركية أغنيس كالارد الصادر حديثاً في 400 صفحة عن “دار “نورتن”، أن تطوير الذات، بحسب فهمنا المعهود للمصطلح، لا يتعلق بقوة الإرادة بقدر ما يتعلق بالأفكار.

تكتب جينيفر زالاي في استعراضها للكتاب [“نيويورك تايمز” – 15 يناير (كانون الثاني) 2025] أن الأمر لا يتعلق بكوننا “كائنات ضعيفة الإرادة تعرف الخير لكنها تعجز عن اتباعه، ولكن الأمر أننا لم ننل من الوقت ما يكفي لنفكر في المقام الأول في ماهية الخير”، وتكتب أن “مشقة كفاح المرء من أجل أن يكون خيّراً أو فاضلاً أو أخلاقياً هي في المقام الأول عمل فكري”.

لعل هدف “فتح سقراط” الأساس هو أن يغير، ولا أقول يضبط، المنظومة القيمية لنا كي نخرج منه ونحن نعلي الأفكار على ما سواها، ونذهب من أجل تقوية عضلاتنا إلى المكتبة لا إلى الجيمنازيوم.

عجز تولستوي

تعلم كالارد، وهي أستاذة الفلسفة في جامعة شيكاغو، أن زيادة النزعة الفكرية ليست بالسلعة الرائجة أو يسيرة الترويج، ولذلك تتريث حتى الصفحة الـ29 بعد المئة قبل أن تصف أسلوبها المختار بـ “النزعة الفكرية المتشددة”، ولكن حماستها الشديدة لموضوعها ترغم حتى القارئ المتشكك على الشعور بفورة الحماسة وهي تشق الطريق انتصاراً للحياة القائمة على العقل، فهي تريد لكتابها أن يؤدي مهمتين معاً، ترويج أخلاقيات سقراطية جديدة يمكن أن يجيزها زملاؤها من المتخصصين في الفلسفة، وإمداد القارئ العام بمقدمة سهلة مفادها أن “عيش حياة فلسفية حقيقية يمكن أن يجعل الناس أكثر حرية ومساواة وأكثر رومانسية وشجاعة”.

لقد كان الأديب الروسي تولستوي وهو في الـ 50 من العمر، في ذروة نجاحه الملموس، فهو متحقق في الكتابة وثري ومنعّم بالصحة والأسرة، لكن عذاباً وجودياً حل عليه فإذا به يسأل سؤالاً أفضى به إلى حافة الانتحار: فيم كانت حياتي كلها؟

يكتب تيم كلير في استعراضه للكتاب [“ذي غارديان” – 16 يناير 2025] أن أغنيس كالارد تسمي هذا السؤال “مشكلة تولستوي التي تنتمي إلى فئة الأسئلة غير مناسبة التوقيت، أي القضايا بالغة الضخامة التي يمكن أن نقضي أعمارنا برمتها في اجتنابها، وهي ليست فقط أسئلة صعبة الإجابة ولكنها أيضا صعبة الطرح، وقد تكون مثلما يتبين في حال تولستوي أسئلة خطرة وبخاصة إذا لم يكتمل العمل عليها، فيصبح الأمر شبيهاً بالتوقف عن مد الأسلاك في منزلك بحيث تبقى عارية على الأرض. وتذهب كالارد إلى أن خطأ تولستوي لم يتمثل في إثارته هذه الأسئلة المخيفة وإنما في تسرعه في الإجابة، فثمة تزامن بين السؤال والجواب، إذ يخلص على الفور إلى أن مشكلته تستعصي على البحث المجدي.

ويقول تيم كلير إن “جوهر كتاب كالارد يتمثل في أن شخصية سقراط تمنحنا المخرج الذي عجز تولستوي عن العثور عليه”، فيما تكتب جينيفر زالاي أن الكتاب فاتن وذكي ولكنه مثير للضيق بين حين وآخر، فسقراط الذي تصفه كالارد بـ “منغّص اللذات” كان معروفاً بتحدي الناس حد إغضابهم، دافعاً إياهم إلى إمعان التفكير في احتمال ألا يكون ما نطقوا به هو ما قصدوه حقاً، وقد كتب سقراط أنه “كان من دواعي حزني وفزعي أن أدركت أنني أفقد محبة الناس”، فقد أثار حفيظة عدد من الساسة ذوي القول النافذ في أثينا، وقد افتتنت كالارد بالفلسفة السقراطية منذ أن كانت طالبة جامعية لدرجة أنها أرادت أن تكون سقراط فشرعت تطارد الغرباء في متحف فني بأسئلة كبيرة عن معنى الحياة، وتكتب عن ذلك فتقول إنهم “كانوا يشعرون كمن وقعوا في فخ ولم أشعر من جانبي أنني سقراط بأية حال”.

وعلى رغم وفرة ما كُتب عن سقراط وفكره ترى كالارد أنه كثيراً ما كان يُعدّ “بمقام ‘الصلصة’ بدلاً من أن يكون الحدث الرئيس” أو الطبق الرئيس بالأحرى، “كان سقراط يصف نفسه بالمزعج الذي يفند أفكار محاوريه الزائفة ويصف نفسه بالقابلة إذ يعينهم على توليد أفكار حقيقية بدلاً من أفكارهم، وترابط فيه التدمير والبناء، بل لعلهما توحدا وتماثلا، فالتفنيد لم يكن قط مقصوداً لذاته وإنما للمساعدة في إزالة الغشاوة عن عيون الناس ليروا العالم بصورة جديدة”.

ترى كالارد أننا في غالب أفعالنا نستجيب لإملاءات وحشية “فنفعل ما يمليه علينا جسدنا في التو والحين (فننشد اللذة أو نجتنب الألم) أو تمليه الروابط الاجتماعية (فننشد العزة أو نجتنب العار)”، ولذلك نضطرب ونقع في تناقضات ونحصل على إجابات فاسدة لأهم أسئلة حياتنا، أي سؤال المعنى والغرض الذي طرحه على نفسه تولستوي.

وتكتب زالاي أن “(فتح سقراط) يثير قضية الزمن مراراً، أي مسألة الوقت المحدود المتاح لنا على الأرض، وتتفق كالارد مع سقراط في أن الفلسفة هي الاستعداد للموت، وأن مزيداً من التعمق في التفكير في ما نعرفه وما لا نعرفه يدفعنا إلى ما وراء عادتنا المعهودة (وغير المدروسة)، أي يبعدنا عن اتباع إملاءات أجسادنا وحاجاتنا الاجتماعية فلا نصبح من كائنات (الـ 15 دقيقة التالية)، بحسب تعبير كالارد.

تكتب جينيفر زالاي أن كالارد تقول إننا قد نُحبس في أفكارنا ولكن شخصاً آخر قد يكشف لنا ما نعمى عنه ويدفعنا إلى أن نرى ما كنا عنه غافلين، والبحث السقراطي بتركيزه على الحوار يكشف أن التفكير عملية جماعية فـ “في حضور الآخرين يتسنى للمرء ما لم يكن ليتسنى له في وحدته”، وتمضي كالارد حد القول أن “أعمق أمنياتنا هي أن تجري معاملتنا معاملة أشياء فكرية”، ولو أنها تعترف أن التفكير في الحياة لا يضمن توليد المعرفة التي ينشدها المرء، فقد قال سقراط إنه لم يعرف قط شيئاً عدا حقيقة أنه جاهل، وإذاً فكتاب كالارد دعوة إلى الاعتراف بقلة ما نعرفه والشروع في التفكير”.

هذه الخيارات الوحيدة

وتختلف أستاذة الفلسفة في جامعة “جورج تاون” كويل كوكا مع الكتاب جملة وتفصيلاً وهذا طبيعي، فالكتاب يكاد يقصر قيمة الحياة على الفلاسفة ومن يحذو حذوهم ولا يكاد يقيم وزناً لحياة أمثالنا من عوام الناس.

وفي استعراضها للكتاب [“واشنطن بوست”، 1 فبراير (شباط) 2025]، تكتب كوكا أن كالارد تستمتع عموماً بالتناقضات، فقد دافعت من قبل عن تفكيك الزواج والخيانة الزوجية وقدحت في متعة السفر، “فلا شك في أن محبي تحطيمها للأصنام سيحبون كتابها الجديد بدفاعه المستميت عن قول سقراط إن حياة لا تخضع للتساؤل لا تستحق أن تعاش”.

وتذهب كالارد إلى أن السعي الفكري الدائم إلى المعرفة والمعنى هو خير ما يمكن أن يفعله المرء بحياته، فكلنا كما يقول سقراط يجب أن نتأهب للموت بأن نكرس أنفسنا للتفلسف في الغرض من حياتنا، وتقدّر كالارد بلا أي لبس أن حياة الفلاسفة أمثال سقراط وأمثالها هي ممن لا يبالون بالموازنة بين الحياة والعمل، بل إنها تذهب إلى أنه في حين توصف كل الوفيات الباكرة بأنها وفيات سابقة لأوانها فإن هذا الوصف ينبغي أن يقتصر على وفيات من كرسوا أنفسهم للتساؤل الفكري عن الغرض من وجودهم، من أمثال صديق فيلسوف لها رحل شاباً، وتعلق كويل كوكا قائلة “إن قدراً كبيراً من الشجاعة يلزم المرء لتأليف كتاب كامل كي يقول إن خياراته للطريقة التي يعيش بها هي وحدها الخيارات ذات الشأن، وهذا عين ما تفعله كالارد”.

وتكتب كوكا “لا أعرف لماذا نتقبل أن تكون هذه هي الخيارات الوحيدة، فمن الممكن أن نولي اهتماماً عميقاً للأسئلة المفاهيمية والوجودية والمشاريع الممتدة من دون الشعور بالحاجة إلى تحديد الغرض الوحيد الكلي لحياة المرء، ولست مقتنعة أيضاً بضرورة أن يكون للحياة غرض موحد نسعى إليه، فبعض مذاهب الفكر البوذي على سبيل المثال تذهب إلى إمكان عيش اللحظة الآنية فقط، والفيلسوف إل آيه بول يذهب إلى أن هوياتنا وقيمنا الأساس عرضة دائماً للتحول ولا يمكن التنبؤ بها في المدى البعيد، وسيكون مثيراً للاهتمام أن نسمع تعليق كالارد على هذه الصور البديلة”.

وتقيم كالارد حجة مفادها أن سقراط لم يكن محض شخص مزعج يلح على الناس بالأسئلة وإنما كان شخصاً يعيش وفق منظومة قيمية محددة ومنحنا أدوات للعثور على إجابات لأسئلة أخلاقية أساس، وتؤكد أهمية مساءلة الافتراضات المسبقة حول الكيفية التي ينبغي أن تعاش بها الحياة، لكنها تشير إلى مفارقة تتمثل في طرح هذه الأسئلة في ثنايا العمل عن إجابتها، فيكون عليك أن تؤمن بالشيء وخطئه في الوقت نفسه، فما لأحد أن يقطع الغصن الذي يجثم عليه.

وتصر كالارد على أنه في حين أن هذه وغيرها من المفارقات تعتري الفكر الفردي فإن بوسعنا حلها بالحوار، إذ يكون بوسع من نحاورهم أن يمنحونا منظوراً خارجياً للتهافت المحتمل في افتراضاتنا والتزاماتنا، فالتفكير في أفضل أشكاله، كما ترى كالارد، فعل اجتماعي تعاوني، وهي تطرح هذا كأنه كشف مفاجئ على رغم أنه قد يعارض افتراضاتها وليس افتراضات غالبية قرائها، فهي تقول إن “كل واحد منا يتصور التفكير نشاطاً فردياً خاصاً لكنني أتصور أن هذا الفهم في الغالب ينجم من غرور الفلاسفة، فدأب العلماء أنهم يعملون في فرق ضخمة والناس من أصحاب الوظائف البعيدة عن الأكاديمية يستعملون في العادة تقنيات التفكير التعاوني”.

ولكن من عادة كالارد أنها تعمم دقائقها السيكولوجية وتطلق المزاعم الضخام عن الظرف البشري وهي بادية التجذر في منظور محدد، فتعلن أن أعمق أمنياتنا هي أن تجري معاملتنا معاملة الشيء الفكري لا الشيء المادي أو الاجتماعي، وأننا نشعر بأقصى الاحترام حينما يتسنى لنا مساعدة الآخرين على اكتناه كيفية الحياة عبر أفكارنا، فهل هي واثقة فعلاً أن هذه أعمق أمنيات عارضات الأزياء والرياضيين الأولمبيين؟ وتنطوي هذه النزعة التعميمية على مفارقة نظراً إلى إلحاح كالارد على ضرورة خروج المرء من إحساسه بالواضح وما لا يقبل التشكيك.

عن الحب والموت والسياسة

تطرح كالارد بالنيابة عن سقراط إجابات فكرية لأسئلة عن الحب والموت والسياسة، فتذهب إلى أن الدوافع الجسدية والضغوط الاجتماعية تلهينا عن تكريس أنفسنا للسعي الخالص إلى المعرفة والأفكار، والأكثر صدمة أنها تذهب إلى أننا لا نقاتل الظلم أبداً قتالاً فعلياً بالتنظيم والاحتجاج التافهين، فالظلم في زعمها فكرة ولا يمكن من ثم إيضاحها إلا عبر الجدال الفكري بدلاً من معاركتها بالفعل العملي، وهنا يبدو أن كالارد تخلط خلطاً مغلوطاً بين مفهوم الظلم والظلم نفسه، فمفهوم الظلم فكرة أما الظلم فمسألة عملية، والقتال للقضاء على مفهوم أمر عديم المعنى، لكنني لا أجد منطقاً في عدم محاربة الظلم بالعمل.

وفي نظر كالارد فإن “الفلاسفة وحدهم ممن يقضون أعمارهم في حوار فكري هم الذين لهم حياة تستحق أن تعاش، أما من يقيمون البنية الطبية الأساس في مجتمعات فقيرة ويبدعون فنوناً وبحوثاً بديعة لتقليل التغير المناخي من دون أن يكرسوا حياتهم لتوسيع التحليل المفاهيمي والحجج الوجودية، فلا يعيشون حياة ذات قيمة، وأظل غير مقتنعة بأن حياة مليئة بالعمل تحقق كثيراً من الخير، حتى لو أن هذا الخير يعتريه نقص أحياناً ويفتقر إلى التنظير، أقل قيمة من حياة ينفقها المرء مهووساً بما يجب أن يفعله”. كما أن فوقية كالارد الفلسفية هذه تخاطر بالنخبوية والتمييز، فكثير من الناس لديهم نقائص تعجزهم عن التحليل المجرد الذي توصي به كالارد، وكثير من كبار السن يعجزون عن تتبع الحوارات والحجج المطولة، وكثير من الناس ليس لديهم ببساطة من الوقت أو الموارد ما يجعلهم يكرسون حياتهم للفكر والحوار، وأرى حياة كثير من هؤلاء ذات قيمة وجدارة بأن تعاش، وأضع معياراً عالياً أعلى كثيراً مما يمكن أن يحققه “فتح سقراط” لأية حجة يمكن أن تقنعني بالعكس.

وعلى رغم أن المرء يميل إلى تفنيد كوكا لكنه يشعر أن العالم بحاجة إلى قدر ما من تطرف كالارد في الانحياز للتفكير والتفلسف يوازن تطرف العالم في الانحياز للضحالة والاستهلاك، فلقد كانت الكلمة التي اختارها أحد قواميس اللغة الإنجليزية الراسخة باعتبارها (كلمة العام) في ديسمبر الماضي هي (brain rot) أي (العفن العقلي)، وتعني بحسب ما أفهم الأثر العقلي الناجم عن استهلاك مقاطع الفيديو غير المترابطة كما نفعل جميعاً كل يوم لساعات يعلمها الله، ولعلنا بحاجة إلى كالارد توبخنا وتتفّه من قيمة حياة “الـ15 دقيقة التالية” التي نعيشها، عسى أن ننحرف قليلاً فنفتح كتاباً نعرف منه أن سقراط الذي قضى حياته رافضاً تدوين أفكاره وناظراً إلى الشعراء بازدراء معتبراً أنهم “خطيرو الجهل”، قد قضى أيامه الأخيرة في زنزانته قبيل إعدامه يكتب الشعر.

ولا أعرف بدقة ما الذي يمكن أن نخرج به من هذه الحكاية، لكنني أعرف أن كتابة الشعر فعل من أفعال قليلة للغاية يتجسد فيها حب الحياة وتأملها وعيشها والتفكير فيها معاً، دونما إفراط ولا تفريط.

العنوان: Open Socrates: The Case for a Philosophical Life

تأليف: Agnes Callard

الناشر: W.W. Norton

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى