مقالات سينمائية

“سمفونية مدينة”.. دخول مدينة دمشق من باب الحنين/ د. أحمد القاسمي

د. أحمد القاسمي

24 شباط 2025

يقدم لنا وثائقي “سيمفونية مدينة” -الذي أخرجه الفوز طنجور وأنتجته الجزيرة الوثائقية- صورة عن مدينة دمشق، بصفتها كبسولة أحلام تستقطب الوافدين من كل أرض الشام الحالمين بحياة أفضل. فيجول في أزقتها، ويسائل قطّانها ليعرض لنا شكل حياتهم فيها، ويتسلل إلى بواطنهم ليكشف لنا أحلامهم وإحباطهم وترددهم.

دخول دمشق من الباب الثامن

كيف ينتج المرء فيلما وثائقيا عن دمشق، أقدم عواصم العالم، ذات التاريخ الممتد 11 ألف عام تقريبا؟ تلك المدينة التي قال فيها ياقوت الحموي: “ما وُصفت الجنة بشيء، إلا وفي دمشق مثله”.

فهل يستند إلى التاريخ فيعرض الحضارات التي مرت بها، من أرامية وأنتيكية وخلافة راشدة وأموية وعباسية وإمارة طولونية وإخشيدية، وغير ذلك كثير؟

قد تكون الغزوات التي واجهتها زاوية مهمة لمعرفتها في زمن الأزمات، كما حدث في الحملات الصليبية وغزوات المغول المتلاحقة. وقد تكون التجارة وما ينجم عنها من التلاقح الحضاري مدخلا طريفا، فتصور القوافل التجارية التي تقصدها، لتشكل أبرز محطات طريق الحرير وموكب الحج الشامي.

وللمعالم التاريخية أن تكون زاوية مميزة، كمعبد “جوبيتير” والجامع الأموي وقبة الخزنة منه، وقصر التكية السليمانية التي أنشأت بأمر السلطان سليمان القانوني في القرن السادس عشر، وقصر العظم ذو النافورة البديعة، وسوق الحميدية.

أو شأن أبوابها التاريخية السبعة وما لها من رمزية خاصة، وهي باب الفراديس، وباب الجابية، وباب الجنيق، وباب الصغير، وباب توما، وباب شرقي، وباب كيسان.

تمثل هذه المداخل فرضيات ممكنة، لكن المخرج السوري الفوز طنجور اختار أن يدخلها من باب ثامن، هو راهن أهلها وحنينهم إلى وجه ألفوه منها، ثم أضاعته في زمنها الحاضر حتى بدت غريبة عنهم.

“من الفرشة عالورشة ومن الورشة عالفرشة”.. حياة القاع

تعرض الكاميرا في مشاهدها الأولى حافلة تقل سكان القرى لحظة وصولها إلى المدينة، فتتسلل بينهم ثم تغادرها معهم، لتجوب المدينة في حركة نقلية، تحاكي إدراكا بشريا، يتأمل شوارعها بذهول ورغبة في الاكتشاف.

وتتعاقب في الفيلم الصور الثابتة بعدئذ على نحو سريع، فتشكل المرئي الذي تقع عليه هذه الكاميرا – الإنسان، وتتضمن مشاهد لمشردين منهكين، ينامون في العراء بالحدائق أو بين أكياس القمامة، ومشاهد ركام للأحذية المهترئة المعروضة للبيع في الساحات العامة، وأوساخ متراكمة في الشوارع، وجداول مياه قذرة تنساب بين الشوارع، لعدم وجود قنوات للصرف الصحي، وحارات قديمة أبنيتها متداعية.

فقراء ينامون في الشوارع

نفهم عندئذ أن المخرج يرافقنا في رحلتنا إلى قاع المجتمع السوري، وأنه يدعونا لنكتشف بأنفسنا وجها مخفيا من المدينة، يقع وراء المعالم التراثية الشهيرة، ووراء الأحياء الراقية الحديثة، فندركه عيانا لا خبرا.

فضلا عن ذلك، اتخذ المخرج شهادات قاطنيها دليلنا، حتى نتخطى صورة المدينة التي تعرف بمدينة الياسمين أو الفيحاء، وتستقبل الوافدين بأذرع مفتوحة، فتجمع الأعراق الكثيرة ذات الأصول البلقانية والعربية، لتتعايش ولتنسجم في نسيج واحد، إلى صورة المدينة المنكوبة التي تقتات من مآسي سكانها العالقين في الفوضى والتلوث والازدحام المروري.

فجعل حديث علي خير بيك خير وصف لها، فقد كان خيري بيك وصل إليها قادما من القنيطرة بأحلام كثيرة، ليعيش فيها حياة بائسة تقوده “من الفرشة عالورشة، ومن الورشة للفرشة”، وتجبره على الاشتغال بعمل هامشي بعد تقاعده، ومع ذلك لا يوفق في توفير حاجات أبنائه.

“هنا دمشق”.. وجوه متعبة وأصوات مبحوحة

تعرض شخصيات الفيلم تجاربها في المدينة، فيسرد المصور بديع زهرة سيرته منذ وصوله إلى المدينة بداية ستينيات القرن الماضي، ليشتغل في مهنة الخياطة مع أخيه، ويذكر أن شغفه بفن التصوير الفوتوغرافي حول مساره إلى وجهة جديدة.

ومع أن تجربته المهنية ثرية، فإن ما يشدنا هو صورة دمشق بين الأمس واليوم، فقد مثلت عدسة بديع زهرة سبيلنا لننفذ إلى ذاكرة المدينة، لما كانت

ثم تأخذنا عربة فؤاد حربا سائق الأجرة، لنجول في أرجاء المدينة، ويأخذنا صوته للمقارنة بين ماضيها زمن الدعة والهدوء، وحاضرها زمن الصخب والتوتر وزحمة المرور والهواء الملوث.

هكذا تتابع شهادات الوجوه المتعبة، التي تجد في الفيلم فرصة لتنشر أوجاعها بأصواتها المبحوحة، أو لترثي أحلامها المهدورة.

وتتلاحق المشاهد التي ترصد حال مدينة منكوبة، لم يبق فيها من البهاء غير ما هو عالق بذاكرة قطانها، فيوجه المخرج مشاعرنا بسبابة وهمية نحو الأسى، لما أصابها من انتكاسة.

وليست هذه السبابة غير اللغة البصرية، فبعد أن يعرض صور الحاضر، وتتواتر مشاهد المشردين الذين ينامون بين القذارة والجدران التي أنهكتها الرطوبة، يصل إلينا صوت المذيع إسماعيل ياغي مرحبا: “هنا دمشق..” فيتزامن الصوت مع كتابة عنوان الفيلم في الشارة “سيمفونية مدينة”.

وفي التزامن بين الصور والعبارة وعنوان الفيلم في الشارة تأكيد لدخول المدينة من بابها الثامن، الذي يقدم حياة الناس الآن هنا، ويعرض معاناتهم في زمننا الراهن.

تتضافر الشهادات الكثيرة مغرقة في الحنين إلى الماضي، بقدر ما تهجو الحاضر وتتبرم منه، ولكن القاص إبراهيم صموئيل يرتقي بهذه الأصوات إلى مستوى أعلى من التجريد، فيقول إن المدينة تتغير بشدة، ولا مشكلة في التغير في حد ذاته، فالحياة تحولٌ مستمر.

ولكن المؤسف أن دمشق تفقد هويتها، وهي تتحول شيئا فشيئا، وأن إيقاعها يعزف بلا مايسترو يضبط نوتته. عندها ندرك دلالة العنوان. فـ”سيمفونية المدينة” تغرق في النشاز، وتغيب عنها الأصالة لتتحول إلى أصوات متنافرة هجينة.

شراهة التدخين في مدينة الأرواح المحترقة

تتذكر شخصيات الفيلم ماضي المدينة بكثير من الحنين، ولكنها تطيل الحديث عن معاناتها في زمنها الراهن، ولا تنتقد الأطراف المسؤولة عن تدبير الشأن العام، ولا تشير إلى المنظومة السياسية من قريب أو بعيد، فلا شك أنها تدرك تبعات نقدها للنظام البعثي، لذلك نابت عنها عدسة المخرج، فجعلت الخطاب البصري نصا موازيا يعبر عن مكنون صدرها.

يعرض الفيلم شخصياته باعتماد لقطات جاذبة، بحيث تكون الكاميرا على مستوى الكتف، لتعرض ما تراه الشخصية أثناء حديثها. ومثل هذه اللقطات تحاول عادة أن تتسلل إلى باطن الشخصية، لتنقل لنا العالم من منطلق إدراكها.

القاص والكاتب إبراهيم صموئيل

ويجسد شعورها بالاختناق، عبر تقنية التأطير داخل الإطار وهو يعرض الشرفات أو النوافذ أو الأنفاق الطويلة المظلمة، أو عبر تصويرها خلف القضبان الحديدية، ليرسخ في أذهاننا أن إقامتها بالمدينة أشبه بالحياة في السجون، أو بالعيش في السراديب، وسيجد هذه الفكرة عيانا عبر عرض صورة العصفور في القفص.

وكثيرا ما يتعمد المخرج تثبيت شخصياته أسفل درجات السلالم، حينما تأخذ في عرض أوجاعها وشعورها بالعجز عن مواجهة تكاليف الحياة، وعجزها عن توفير الحد الأدنى الذي يحتاجه الأبناء.

وكأن موقعها على السلم يشير إلى مرتبتها في المجتمع، وإلى شعورها بالدونية، في ظل نظام يتبنى الاشتراكية والسياسات الاجتماعية في خطابه المعلن، لكنه يعمق الفوارق على مستوى الممارسة.

تختلف شخصيات المستجوبين وتجاربهم في الحياة، وعلى اختلافهم تجمع بينهم خاصية واحدة؛ ألا وهي التدخين بشراهة، فتحترق السجائر كما تحترق أرواح أصحابها، وتتحول إلى صورة منها أو مؤشر يحيل عليها وفق روابط منطقية، كما يحيل الدخان على النار.

التدخين هو القاسم المشترك بين جميع أبطال الفيلم

ثم تلتقط الكاميرا مثلا يد المصور بديع زهرة المرتعشة وهي تمسك بالعكاز، والثانية تمسك بالسيجارة، ثم تدرج آلة التصوير القديمة المرقعة، ثم تتأمل نظراته التائهة الفراغ، فليس في الأفق غير العَلم المعتمد منذ عام 1980 يرفرف في السماء، وقد بات يرمز لحكم عائلة الأسد أكثر مما يرمز إلى سوريا، فتُحمل النظام ضمنا كامل المسؤولية عما يعيشه بديع من بؤس وشقاء ومرض.

ولِلحرِيةِ الحمراءِ بابٌ .. بِكلِ يد مضرجة يدق

لم يكن الفيلم عدميا صرفا، مع ما يغلب على شخصياته من طابع الكآبة، فقد كان يشير دائما إلى أن ضوءا ما سيظهر في نهاية الأفق، وظل يعبر عن هذه الفكرة بطرق شتى.

فيجعل الطفل ابن العامل المنهك يصعد السلم، حتى يصل إلى قمته، عبر لقطة غطس مضاد، معبرا عن الأمل في الرقي الاجتماعي، والخروج من الهوة الراهنة، كما يدرج مشاهد للحمام الذي يُربى في السطوح، وهو يحلق بحرية في سماء المدينة، وأحيانا يجعل البالون الأحمر يطير في السماء، ويجسد بذلك التوق إلى الحرية.

الثورة السورية.. طريق التحرير

يستدعي الفيلم ضمنا قصيدة أحمد شوقي التي ألقاها في حفل أقيم في القاهرة تضامنا مع سوريا، لإغاثة منكوبي القصف الفرنسي لدمشق بالقنابل سنة 1926، ومطلعها:

سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ

وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ

وَمَعذِرَةُ اليَراعَةِ وَالقَوافي

جَلالُ الرُّزْءِ عَن وَصفٍ يَدِقُّ

وفيها يقول بيته الشهير:

ولِلحرِيةِ الحمراءِ بابٌ

بِكلِ يد مضرجة يدق

فهل كان المخرج الفوز طنجور يدرك هذا المعنى الكامن في طيات مشاهده، أم أن الآثار أكثر فطنة من مبدعيها كما يقال؟

روح عمر أميرلاي التي تسري في الفيلم

لا تعبّر الشخصيات عن تدهور الوضع الاقتصادي والبيئي في دمشق الراهن بطريقة مباشرة إلا نادرا، ولكن المخرج يتيح لها أن تسترسل في حنينها إلى الماضي، فتتحدث عن نظافة المدينة، وعن جمال نهر بردى، وعن الحارة القديمة ومعالمها التاريخية.

وفي الأثناء تعرض الكاميرا صورا من الراهن مناقضة تماما للمعاني المذكورة في الشهادات، فتدرج مشاهد للنهر وقد أصبح مصبا للنفايات، وأخرى للفوضى العارمة، وثالثة للمباني القديمة وقد تآكلت جدرانها بسبب الإهمال والرطوبة.

وكان الفوز طنجور بذلك يغافل الرقيب، ليعلن ضمن الدلالات فشل منظومة الحكم، ويدين الاستبداد وغياب العدالة الاجتماعية، فينجح إلى حد بعيد، حتى إن مؤسسات الدولة -التي تمثل ذراعا للنظام- قد مدت للمخرج يد العون، وفق ما تشير إليه شارة النهاية، لا سيما محافظة دمشق، ولجنة صناعة السينما والتلفزيون، وإذاعة دمشق.

ولا بد للمتفرج العارف بسينما عمر أميرلاي أن يجد في الفيلم كثيرا من أسلوبه، فقد عوّل على ذلك الأسلوب ليتجاوز سلطة الرقيب. فأنطق أهالي قرية صدد في فيلم “الدجاج” بكل ثناء على سياسة الإصلاح الزراعي وحركة حافظ الأسد “التصحيحية”.

ملصق فيلم “الدجاج”

ثم نزع عن أقوالهم كل مصداقية عبر الخطاب البصري، كأن يقول أحدهم عن إجراءات الحكومة في معالجة أزمة مربّي الدجاج “يشعر الشريك دائما بآمال شريكه وآلامه”، وحالما ينتهي من كلامه تتعالى قوقأة الدجاج، ثم تختلط بالهتافات الجماعية: “سوريا سوريا سوريا!”، ليشير إلى أن الشعب قد دجن وأضحى مستلبا، غير قادر على الوعي بأزمته، ولا على تحليل أبعادها.

أما في فيلم “طوفان في بلاد البعث”، فكان يثبت ممثلي النظام من قرية الماشي في الثلث الأول من الشاشة، لتعرض إنجازات حزب البعث العربي السوري، وتعد مآثر “الأخ الرفيق القائد”، ويشكل عبر الباقي منها احتمالات معنى أخرى، مخالفة تماما للمنطوق، داسا إياها في مسارب الصورة وتضاعيفها.

https://doc.aljazeera.net/videos/2018/7/25/%D8%AF%D9%85%D8%B4%D9%82-%D8%B3%D9%8A%D9%85%D9%81%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%AF%D9%8A%D9%86%D8%A9

الجزيرة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى