الشعور بالذنب/ نجوى بركات

25 فبراير 2025
من منّا لم يعذّبه ذات يوم (وربّما ما زال) ذلك الصوت الشرير الصغير، القابع في أعماقنا، ليذكّرنا دوماً بأننا لم نبذل أفضل ما لدينا لأداء هذه المهمّة أو تلك، يؤنّبنا على هدرنا الوقت أو سوء توظيفه للتوفيق بين حياتينا الخاصّة والعملية، أو على أننا أهلٌ غير جديرين أو غير محبّين لأطفالنا بما يكفي؟
هذا الشعور بالذنب، الذي نعتقده ذاتياً وحميماً، ومن عادته أن يضرب في الموضع الأكثر إيلاماً، ليس خاصيّةَ بعض الأفراد فحسب، بل هو قاسمٌ مشتركٌ يصيب مجتمعاتٍ بأكملها، وقد عرفتْ عمليةً طويلةً من هضم (واستيعاب) الأعراف السياسية والدينية والمهنية والأسرية والجنسانية، بحسب ما تشير إليه الباحثة السويسرية الفرنسية، منى شوليه، التي اشتُهرت بدراساتها المحدثة والعميقة، وفي مقدمها كتابها “ساحرات… قدرة النساء التي لا تقهر” (2018)، الذي دفع بها إلى واجهة الاهتمام في العالم أجمع. وشوليه التي تعتمد على الدراسة والبحث والتقصّي العلمي الدقيق، بقدر اعتمادها على التجربة الذاتية الحياتية، تُخبرنا، في إصدارها الصادر أخيراً “مقاومة الشعور بالذنب” (2024)، إن الصوت الذي يُشعرنا بالذنب تجاه أي شيء، وكلّ شيء، من دون كلل، يعود إلى فجر التاريخ، وهو قد أصبح صوت المجتمع الذي تكيّف بفضل الإقناع والتدخّل في الأذهان، بما يتلاءم واحتياجات أصحاب الهيمنة والسلطة والمصلحة، لكي يجعلنا نقتنع بفشلنا ودونيّتنا. ويطاول الأمر أجسادنا وفِكَرِنا وبيوتنا وأبوّتنا وجنسانيتنا وطريقة عملنا وأساليب عيشنا وحديثنا، لا بل جودنا كلّه، وهو ما يجعل إلغاءه (الصوت)، تفاديه، أو الهروب منه، صعباً جدّاً، وقد ترسّخ “عدوّاً داخلياً” لدرجةٍ تجعلنا بالكاد نلحظ وجوده.
هذا وتركّز الباحثة السويسرية على ما يُغذّي هذا الخطاب القاسي حيال الذات مثل ثقل الدين المسيحي، الذي يفيد بأن المعاناة نابعة ولا بدّ من خطيئة ما، وعلى أن الشعور بالذنب أمر يطاول الفئاتِ المهمّشةَ والخاضعةَ للهيمنة، مثل الأقلّيات الجنسية أو العرقية، وتحديداً النساء، اللواتي يعلو الصوت الشرّير في أعماقهن أكثر من الرجال. لماذا؟ لأن مجتمعاتنا قائمةٌ على النظام الأبوي، الذي يفرض قوانينه في المستويات كافّة. ويكفي أن نتذكّر الأوامر والإملاءات والواجبات، التي ينبغي للنساء الامتثال لها، لكي نجدهن يشعُرن بالذنب تجاه كلّ شيء، فالرجال هم الذين يقرّرون للمرأة ما يجب أن تكون عليه، حتى طريقتها في أن تكون امرأةً، إرضاءً لاحتياجاتهم الخاصّة. وإن لم يمتثلن، فإن إشعارهن بالذنب واستخدام العنف على أنواعه، هما الورقتان الرابحتان لإجبارهن وإخضاعهن. والأكثر دراماتيكية في هذا الشأن، هو الشعور بالذنب، الذي يعتري ضحايا الاغتصاب، على الرغم من أنهن المُعتدى عليهن، والذرائع الكثيرة التي تبرّر للمعتدي جريمته. النساء يسمعن هذا الصوت الداخلي الصغير المؤنّب والمقيِّد، لأنهن، برأي شوليه، يقفن عند تقاطع عديدٍ من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحميمة، وهو ما يصحّ كذلك في وضع الأقلّيات جميعها، إذ يُصبح الإشعار بالذنب وسيلةً فعّالةً يستخدمها المُهيمِن للحفاظ على هيمنته. هذا الذنب المعمّم على نصف البشرية لا يرجع إلى التقاليد الدينية (حواء وإغراء التفاحة) فقط، بل ينبع أيضاً من “جدل النساء” حول دونيَّتهن المفترضة، الذي أبقى المرأةَ بعيدةً من مقاعد الدراسة في الجامعات، حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
أخيراً، تقول منى شوليه: “لا، أنت لستَ عديم الفائدة، كسولاً، أنانياً أو عاجزاً. أنت تعيش فقط داخل نظام عنيف جدّاً يدفعك إلى إعطاء المزيد والمزيد، ولا يمنحك، في المقابل، سوى الصداع النصفي وغيره من المعوقات التي تشلّ قدرتك على إيجاد السعادة”.
العربي الجديد