رسالة مفتوحة إلى صنّاع الدراما السوريّة/ إيناس حقي

25.02.2025
أفكر اليوم بتعاطي صناعتنا مع جمهورها، وأخشى أن خللاً تسلل الى العلاقة بين المسلسلات ومتابعيها، فالجمهور ليس أدنى منا معرفة وفهماً، فلنتعامل إذاً مع الشعب السوري بما يليق بكرامته وذكائه، لا نترفع بعد اليوم عن ناسنا، لا ننفصل عنهم، نروي قصصهم، نتناول عالمهم بصدق وشفافية، ونكون منهم كي يعودوا الى المشاهدة بكل حب.
مرحباً يا زميلات، مرحباً يا زملاء
مر وقت طويل لم نتبادل فيه الكلام، وقد طالت القطيعة. لم تكن القطيعة خياركم ولا خياري، وإنما فرضتها الظروف التي جعلت آلاف الكيلومترات تفصل بيني وبينكم، ولعل اعتقادي بأن الوطن لن يجمعنا مجدداً جعلني أحاول إغلاق باب الذكريات، وإنهاء الصلات التي تعيدني إلى الحنين، لكنني اليوم أشعر بحاجتنا الى الحوار، وقد عاد إليّ شعور مفاجئ بأن ما يحصل في عالم الدراما يعنيني ويخصّني كما كان منذ أكثر من عقد، عندما كنت بينكم ومنكم.
أعلم أنكم اليوم مشغولون بالتحضير للموسم الرمضاني، وأن سقوط النظام قلب حياتكم كما قلب حيواتنا جميعاً، وأن الأعمال التي كنتم تصوّرونها كانت نصوصها منتقاة قبل السقوط، ولا أعلم إن كان الوقت سمح لكم بتعديلها بحيث تتناسب مع السياق الذي ستُعرض فيه، لكنني أوجه رسالتي إليكم اليوم كي أحدثكم عن مقبل الأيام في صناعة الدراما السورية وعن المواسم الرمضانية المقبلة.
وللمناسبة، لا يحبّذ صديقي زياد عدوان تسمية الدراما السورية، ويفضّل تعبير”المسلسلات التلفزيونية السورية”، ويجب أن نسمع ملاحظته، فهو الأكاديمي الذي حلّل المشهد الثقافي والفني السوري.
تحمل الأيام المقبلة تحديات جمة لا بد لصناع المسلسلات التلفزيونية من أخذها بالاعتبار. دعونا ننطلق يا زملائي من الدور الذي حملتموه. ففي ظل غياب الإقبال على قراءة الكتب، وقلة المفكرين والأدباء السوريين، وقضاء النظام الأسدي شبه الكامل على المسرح والسينما، لم يبق غيركم لتقدم الصفوف وحمل الفن السوري ورسالته. حمّلكم الجمهور السوري السوري الذي أحب مسلسلاتكم دوراً خلال سنوات الثورة كي تكونوا صوته وتقفوا إلى جانبه، بعضكم قام بالمسؤولية على أكمل وجه، وكان صوت المقهورين، وبعضكم فضّل الصمت، فيما اختارت قلة أن تكون صوت القاتل، وأقترح مبدئياً على تلك القلة أن تعتذر من الشعب السوري، وأن تتراجع عن اتهاماتها كي نبدأ بلمّ الجراح.
أكتب إليكم اليوم، بصفتي حريصة على تاريخكم وعلى نتاجكم الفني، كي أحذركم من المسؤولية التي ترافق العمل على مسلسلات تلفزيونية مقبلة بعد الحرية، إذ يجب على المسلسلات السورية أن تكون أمينة على سردية الثورة السورية. يكفي ما تعرضت له حكاية الثورة خلال الأربعة عشر عاماً الماضية من تشويه وقلب للحقائق! لذا أتمنى عليكم من اليوم فصاعداً أن تتحققوا من كل تفصيلة تذكرونها في أعمالكم، أن تتأكدوا من الأسماء والمعلومات والأحداث، لا تخلطوا بين أحداث بداية الثورة ووسطها ونهايتها، وإن كنتم لا تعلمون، فاستفيدوا من أعمال التوثيق الهائلة التي حصلت على مر السنوات الماضية.
أطلب منكم أيضاً، إن كنتم لم تفعلوا على مر السنوات الماضية، أن تشاهدوا ما صوّره الناشطون الإعلاميون، أن تنظروا الى الحكاية من عيون من عايشها، أن تنظروا في عيون الضحايا قبل أن تتحدثوا عنهم. ويا لها من مسؤولية ألا يساهم الفن في تأجيج الغضب، ونكء الجراح التي لم تلتئم بعد.
أطلب منكم عند تناول حكايا الضحايا، إن قررتم فعل ذلك، أن تضعوا أنفسكم مكان أهلهم، وأن تراعوا مشاعرهم، وأن تكونوا رحيمين بهم وبآلامهم، وألا تتناولوا السجون والمعتقلات إلا بكل الحرص على مشاعر أهالي المعتقلين ومن نجا من مسلخ الاعتقال الأسدي، وأن تتذكروا أن الحقيقة كاملة لم تُكشف بعد، وأن مصائر عشرات الآلاف من أهلنا ما زالت مجهولة.
لعل أكبر خطر يحدق بالحرية التي حصّلناها في مجال إنتاج المسلسلات، أن سوق الإنتاج الذي سمح لنا بأن نخرج قليلاً عن سلطة نظام الأسد هو نفسه الذي قد لا يرغب في أن نحكي قصتنا بكل حرية ومن دون قيود، أو ربما قد لا يهتم كفاية. قد يكمن جزء من الحل بالمطالبة بسوق محليّ للإنتاج السوري، ولن يكون ذلك ممكناً من دون فتح الباب على مصراعيه للقنوات التلفزيونية السورية الخاصة التي بإمكان تنافسها مع القطاع العام أن ينتج سوقاً يسمح لنا بإنتاج أعمال سورية بغض النظر عن رغبة رأس المال العربي المنتج. ويتضمن الحل أيضاً مطالبة رؤوس الأموال الوطنية بالاستثمار في مسلسلات تلفزيونية تليق بزمن الحرية. ولكن الجزء الأكبر والعبء الأضخم في الحل يقع على عاتق الدولة، فالأعمال التي توثق حكاياتنا وترويها قد لا تكون رابحة تجارياً، لذا يجب على الدولة أن تدعم وتموّل لإنتاج الأعمال التي تروي حكايا السوريات والسوريين من وجهة نظرهم، وأن تخصص ميزانيات كاملة للإنتاج الثقافي والفني الذي قد لا يعني أي دولة أخرى.
أفكر اليوم بتعاطي صناعتنا مع جمهورها، وأخشى أن خللاً تسلل الى العلاقة بين المسلسلات ومتابعيها، فالجمهور ليس أدنى منا معرفة وفهماً، فلنتعامل إذاً مع الشعب السوري بما يليق بكرامته وذكائه، لا نترفع بعد اليوم عن ناسنا، لا ننفصل عنهم، نروي قصصهم، نتناول عالمهم بصدق وشفافية، ونكون منهم كي يعودوا الى المشاهدة بكل حب.
نهاية يا زملاء، أعلم تماماً أن الفن ليس رفاهية، وأنه حاجة أساسية من حاجات المجتمع، وأنه أداة حقيقية للتغيير المجتمعي، لكن هذا يتطلب أن يكون كل صناع المسلسلات على قدر المسؤولية، أن يكونوا لسان حال شعبنا المكلوم وبلدنا الجريح، لذا أحلم بيوم تتيح لنا فيه ظروف الإنتاج أن ننتقي النصوص التي تشبه الناس وتعكس حكاياهم وواقعهم، وتبتعد عن شيطنتهم والحديث عن فساد نفوسهم، وأن تنفّذ تلك النصوص، كما كنا نفعل سابقاً، بالتصوير بين الناس وفي بيوتهم الحقيقية أو ما تبقى منها، وألا تكون مسلسلات سوريا تعكس فقط حكايات طبقة الأغنياء، وألا تتناول الفقراء بازدراء، وأن تحب شعب سوريا وتقدّره وتقدّر تضحياته حق قدرها، وأن تكون كما كانت يوماً تسمح لكل فرد من الشعب السوري بالتماهي مع شخصيات المسلسلات وبالشعور بأن ما يشاهده على الشاشة يشبه حياته وواقعه.
أتمنى لكم التوفيق والنجاح، وأتمنى أن تعود صناعة المسلسلات السورية للازدهار، وأن تعيد الى شعبنا بلباقة مكانته التي يستحقّها.
دمتم بخير وحرية.
درج