«سوريا تحررت ومنزلي ما زال محتلاً»/ روان جومي

غصب الممتلكات في عفرين وتداعياته قبل وبعد سقوط الأسد
25-02-2025
1.الحكومة السورية المؤقتة: هيئة سياسية تتبع للائتلاف الوطني السوري المعارض، تشكلت في آذار (مارس) 2013، ورغم الاعتراف الدولي بالائتلاف كممثل للمعارضة السورية، لم تحظ الحكومة المنبثقة عنه بالاعتراف الدولي كحكومة سورية شرعية.
2.أي حزب الاتحاد الديمقراطي، ويتم استخدام مصطلح الحزب في أوساط الفصائل المسلحة للإشارة إلى الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية.
أُنتِجَ هذا الريبورتاج ضمن الدورة الثانية من «برنامج مِنَح الجمهورية للصحفيّات السوريات»، الذي يَدعمُ إنتاج مشاريع صحفية مُعمَّقة تتعلّقُ بشؤون السوريين والسوريات ومعاشهم داخل البلد وخارجه، وكانت المُحرِّرة المشرفة على هذا الريبورتاج هي الصحافية وصانعة البودكاست الزميلة تالا العيسى.
* * * * *
«ما تزال مخاوفي قائمة، ولا يمكنني التكهُّن بما قد يحدث لأمي وأخي وعائلته طالما الفصائل نفسها ما تزال موجودة في عفرين بعد سقوط الأسد».
تَردَّدَ بوزان (اسم مستعار) كثيراً قبل الموافقة على الحديث عن خسارتهم لأملاكهم، في إحدى قرى منطقة عفرين بريف حلب الشمالي الغربي، إثر إطلاق تركيا والفصائل المسلحة التابعة لها، المنضوية ضمن تشكيل «الجيش الوطني»، عملية «غصن الزيتون» في 18 آذار (مارس) 2018، الأمر الذي أدى إلى احتلال عفرين أو «جيايي كورمينج» بحسب سكانها الكُرد الأصليين.
أسفرت عملية «غصن الزيتون» عن تهجير أعداد كبيرة من سكان المنطقة الكرد المسلمين والإيزيديين، من ضمنهم عائلة بوزان، إلى منطقة الشهباء في ريف حلب الشمالي، حيث توزعوا في خمسة مخيمات وعشرات القرى المتهالكة. ومنذ ذلك الحين أدارت منطقةَ عفرين رسمياً مجالسُ محلية مرتبطة شكلياً بالحكومة السورية المؤقتة1، وأدارتْها بشكل غير رسمي الفصائل المسلحة التي تتبع جميعها لسلطة قوات الاحتلال التركي.
خسر بوزان وعائلته ثلاثة بيوت إضافة إلى محاضر عقارية وأرض تتجاوز عشرة هكتارات مزروعة بألف شجرة زيتون. ولكنه رغم ذلك بقي يأمل بالعودة التي لم تحصل.
«للأسف بدأت صحة والدي تتدهور مع الأيام، بعد أن وردتنا أخبار أن فصيل جيش النخبة وضع يده على جميع أملاكنا، فقررنا العودة وتواصلنا مع القلة الباقية من أهالي القرية لمساعدتنا في إيجاد طريقة للتوسط لدى الفصيل، بحيث نضمن عدم التعرض للمضايقات والتهديدات، لكن دون جدوى. اتفقنا بعدها بأشهر أن تنتقل أختي المقيمة في مدينة عفرين إلى هناك، وتدير هي وصهرنا أملاكنا، إلا أنها عندما ذهبت قالوا لها بالحرف الواحد: إذا اقتربتِ من حدود الناحية ثانية سنقتلك، وإياك أن تسألي عن هذه الأملاك مرة أخرى، متحججين أنها ’أملاك الحزب2، وبهذا، وبعد أن باءت جميع محاولاتنا بالفشل، مات أبي قهراً».
لم يعلم بوزان وإخوته ما مصير أراضيهم ومنازلهم لسنوات، فقد هُجِّرَ مَن بَقيَ من الأهالي بسبب انتهاكات عناصر الفصائل بحقهم، فكل أعمامه وعماته مع أولادهم وأحفادهم أصبحوا خارج عفرين، ووضعت الفصائل أيديها على جميع أملاكهم وممتلكاتهم، ولم يبقَ في القرية سوى نحو 10 بالمئة من سكانها.
كان على عائلة بوزان أن تنتظر ست سنوات وثمانية أشهر حتى تتمكن من العودة إلى عفرين بجرارهم الزراعي، بعد أن أطلقت الفصائل المسلحة التابعة لتركيا عملية «فجر الحرية» في 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024 (بعد أيام من انطلاق عملية ردع العدوان التي انتهت بإسقاط نظام الأسد في دمشق)، وشنت هجوماً على مناطق ريف حلب الشمالي التي آوت مهجّري عفرين، وتسبّبت بموجة نزوح كبيرة بحق أكثر من 120 ألف شخص، إلا أن بعضهم لم يتمكن من الخروج فوراً بحسب ما قاله شهود تحدثنا إليهم، إذ تعرَّضَ بعضهم لانتهاكات متنوعة شملت الضرب والإهانات والاعتقال، والقتل في بعض الحالات، ومن ثم سُمِحَ لهم بالتوجه نحو عفرين.
رغم فتح الطرقات بين مناطق سيطرة النظام السوري السابق ومناطق الاحتلال التركي في ريف حلب، لم يتمكن الجميع من العودة إلى عفرين، إذ اعتقلت الفصائل المسلحة وهياكل الشرطة العسكرية والمدنية مئات المهجّرين الذين قدموا من منطقة الشهباء، وذلك بذريعة التعامل مع الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، أو مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وهو ما تحدَّثَ عنه المرصد السوري لحقوق الإنسان وأكده شهودٌ تحدثنا إليهم.
وفي حال إثبات عدم علاقة الشخص بالإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، كان يُترَك بعد أن يُفرَض عليه مبلغ ما بين 100 و500 دولار بحسب الشهادات التي حصلنا عليها، وذلك مقابل منحه ورقة أمنية تحت مسمى «عدم التعرض»، ومن بعدها يتوجه الشخص إلى مسقط رأسه، وهناك معاملة أخرى تختلف باختلاف الفصيل المسيطر على قريته.
لم تتمكن عائلة بوزان من متابعة الطريق نحو قريتهم، إذ وردتهم أخبار عن سوء معاملة الفصيل لبعض العائدين بغرض إجبارهم على ترك القرية، فتوجهوا إلى مدينة عفرين، ومن هناك حاولوا التواصل مع المختار لإيجاد طريق العودة: «نصحهم المختار بالتريث والانتظار على الأقل في المرحلة الحالية» قال بوزان، «وأكد لأخي بأنه حتماً سيتعرض للضرب والسجن لأنه عاد».
وصلت أخبار عودة عائلة بوزان إلى قائد الفصيل المستولي على منزلهم وأملاكهم، فجاهر بأنه ما لم يتلقَ أوامر من سلطة الاحتلال التركي بنقله أو عودته وترك كل ما يستولي عليه، فلن يُسلّم شيئاً لأصحابه، وهدد بقتل أخ بوزان إذا عاد وطالب بالمنزل.
بات لدى بوزان مخاوف كبيرة في ذلك الوقت، وهي تشبه مخاوف الجميع، إذ أفاد من تحدّثنا إليهم أن مخاوف سكان عفرين الكرد الأصليين من احتمال تصاعد سطوة الفصائل المسلحة قد تزايدت خلال الفترة الأولى من وصول هيئة تحرير الشام إلى السلطة في دمشق بعد إسقاط حكم بشار الأسد.
الاستيلاء على العقارات والأراضي
نَهبُ أملاك عائلة بوزان مثالٌ عن كل ما جرى في جيايي كورمينج منذ نحو سبع سنوات. في بادئ الأمر، عام 2018، كانت عمليات الاستيلاء والنهب في منطقة عفرين عشوائية، وتحت أنظار قوات الاحتلال التركي التي تغاضت ولم تتدخل لوقفها ومحاسبة مرتكبيها، ثم قَسَّمت الفصائلُ المنطقةَ إلى قطاعات، وسيطرَ كل واحد منها على قطاع، وتشاركت السيطرة على مركز مدينة عفرين، التي قُسِّمت بحاراتها وشوارعها إلى قطاعات نفوذ. ولكل واحد من الفصائل مكتبٌ اقتصادي ومقرات عسكرية.
تعددت أنماط الاستيلاء على ممتلكات الأهالي وفق ما ذكر تقرير لرابطة تآزر الصادر في كانون الثاني (يناير) 2023، من ضمنها كتابة اسم الفصيل أو قادته على جدران المنازل كدلالة على مُصادرتها، أو وضع علامات الحجز عليها، في إشارة واضحة لمنع العودة، بعد ذلك انتقلت عائلات عناصر من فصائل «الجيش الوطني» للسكن فيها، أو تمَّ استخدامها كمقرات عسكرية ومؤسّسات إدارية تابعة للمجالس المحلية. كل ذلك دون إخطار أصحابها أو عرض تعويضات عليهم.
لا تتوفر إحصائيات دقيقة عن نسبة استيلاء فصائل «الجيش الوطني» على الممتلكات العقارية والأراضي الزراعية، بسبب حالة الفوضى وغياب هيكل إداري رسمي يقوم بتوثيق المعلومات، وعدم دخول منظمات محلية أو دولية إلى عفرين لتقوم بإحصاء شامل. ولكن أوجز إبراهيم شيخو، مدير منظمة حقوق الإنسان – عفرين أن «كل عقار هُجّرَ ماله الأصلي، سواء كان منزلاً أو محلاً، يستولي عليه أحد الفصائل، وبالرغم أن بعض الأهالي عادوا خلال سنوات الاحتلال التركي إلّا أن القلة منهم استطاع أن يسترجع أملاكه»، مضيفاً أن المنظمة وثقت استيلاء الفصائل العسكرية على 10 آلاف منزل و7 آلاف محل في مدينة عفرين وحدها.
وتُقدَّر مساحات الأراضي الزراعية التي استولت عليها الفصائل في منطقة عفرين بآلاف الهكتارات، والتي تحوي مئات الآلاف من الأشجار المثمرة. وبحسب تقديرات مصادر مطّلعة تواصلنا معها، فإن فصيل أحرار الشرقية هو صاحب النفوذ الأكبر والغلبة في السيطرة على ناحية راجو مثلاً، وهي أكبر نواحي منطقة عفرين، إذ يستولي، بحسب المصادر نفسها، على نحو 1200 منزلاً و400 محل في بلدة راجو وحدها، وعلى نحو 55 ألف شجرة زيتون من أملاك السكان المهجرين قسراً، إضافة إلى مساحات كبيرة من أراضي ناحيَتي معبطلي وجنديرس كسهلي كتغ وعمارا.
كذلك الأمر في ناحية شيخ الحديد، حيث المعقل الرئيسي لفصيل سليمان شاه المعروف بـ«العمشات». استولى الفصيل على نحو نصف العقارات من المنازل والمحال، وعانى أهالي الناحية الأمرّين بسبب جبروت قائده محمد الجاسم المعروف بـ«أبو عمشة»، إذ لا يجرؤ أحد على الاعتراض أو تقديم شكوى ضده: «أصلاً ما في جهة تروح لعندها لتقدم شكوى ضد أي حدا من الفصيل، وإذا رحت ع مركزهم العسكري بيضربوك وبيهينوك»، بحسب ما وصف أحد سكان المنطقة للجمهورية.نت.
وقد تعرضت الأرملة المسنة حليمة حمرش، من أهالي قرية كاخرة، للمضايقات من قبل عناصر فصيل العمشات بعد وفاة زوجها وبقائها وحدها، فتركت قريتها في صيف 2024، وتوجهت إلى مدينة حلب تاركة منزلها وجميع ممتلكاتها، التي وضع الفصيل يده عليها ما أن خرجت منها، وفي حلب بقيت تبكي لأيام قائلة: «كيف بدي أرجع ولسه هنن محتلين بيتي؟».
لم تقتصر عمليات الاستيلاء على العقارات فحسب، بل تعدّتها إلى الاستيلاء على قرى بأكملها ومنع عودة أهاليها الكُرد الأصليين. فمثلاً، قام فصيل الجبهة الشامية بتهجير جميع سكان قرية بافلون الكردية الإيزيدية (نحو 100 عائلة) في عام 2018، واستولى على جميع ممتلكاتهم من المنازل والأراضي، وأقامت فيها عوائل محسوبة عليه، ولم تستطع سوى عائلتان العودة في خريف 2024، إلا أنهم تعرضوا لمضايقات مستمرة وتهديدات.
المتاجرة بالعقارات المغصوبة
إلى جانب تحويل البيوت والأملاك إلى قواعد عسكرية ومساكن لعوائل الفصائل، قام المستولون بالمتاجرة بالأملاك كيفما شاؤوا، بيعاً وتأجيراً للنازحين المهجرين من المناطق السورية الأخرى، ما أدرَّ أموالاً طائلة عليهم.
بحسب ما جاء بتقرير لمنظمة سوريا على طول الصادر عام 2023، انتشرت ظاهرة بيع المنازل المُستولى عليها في عفرين بأسعار بخسة، إذ تراوحت الأسعار بين 400 ــ3000$، وهي لا تعادل قيمة العقار الحقيقيّة، وتم بيعها تحت اسم «بيت تكلفة» أو «فروغ»، أو «بيوت حزبيّة» بمعنى أن ملكيتها تعود لأعضاء في حزب الاتحاد الديمقراطي. وتعتبر مجموعات الواتساب والفيسبوك إحدى الطرق التي يتم ترويج هذه الممتلكات من خلالها.
«تصرَّفَ الشاري بالمنزل كالمالك الحقيقي»، يوضح شيخو، «إذ أضاف بعضهم غرفاً جديدة أو وسّعَوا المنازل وأجروا تعديلات فيها، وإذا ما عاد صاحب العقار وطالب به، حدثَ في حالات كثيرة أن المقيم كان يطالب بمبلغ تحت مسمى التصليح والترميم. أما بالنسبة لعقود الإيجار فهي كانت تُنظَّم بين الطرفين وتُصدّق في المجلس المحلي».
عانى كذلك المستأجر النازح أو المُهجَّر قسراً من مناطق سورية أخرى إلى عفرين من سطوة الفصائل، إذ وجدَ نفسه مُجبَراً على استئجار المنازل منهم وتحت رحمتهم، وقد قام عنصر الفصيل المُستولي على العقار ببيعه عدة مرات دون الاكتراث بمصير المستأجرين.
هُجِّرَ مسعود (اسم مستعار)، وهو ناشط إعلامي، عام 2017 من منزله في حي الميدان في دمشق، ووصل إلى مخيم المحمدية في قرية دير بلوط بريف عفرين ضمن قافلة المهجرين من الغوطة الشرقية، التي سيطر عليها النظام السوري السابق عقب صفقة مع تركيا مقابل سيطرة الأخيرة على عفرين عام 2018.
«أقمتُ فترة في المخيم، ثم تنقّلت بين منازل لملّاكٍ غير موجودين» يقول مسعود، «وفي إحدى المرات استأجرتُ منزلاً من شخص كان ابنه مسلّحاً وتابعاً للفصيل المُسيطر على الحي. كنتُ أعرف أن المالك الحقيقي غير موجود، لكني كنت مُجبَراً على القبول للتخلّص من الإقامة في خيمة، إلا أنه بعد عدة أشهر أخرجني من المنزل بسبب منشور نشرته على صفحتي الخاصة».
وبينما كانت الفصائل تتصرف بالممتلكات بيعاً وشراء كما يحلو لها، عجز الأهالي الكُرد، سواء الذين تمكّنوا من البقاء في عفرين أو الذين هُجِّروا منها، عن بيع ممتلكاتهم أو التصرف فيها. فعندما حاول البعض منهم بيع ممتلكاتهم غير المسلوبة كحل للتخلص من الانتهاكات التي طالتهم، واجهتهم صعوبة في تنظيم عقد بيع نظامي بسبب عدم وجود سجلّ عقاري في عفرين.
فرض الإتاوات
لم تكتفِ الفصائل بعمليات الاستيلاء المباشرة على الممتلكات والمتاجرة بها، بل تعدتها إلى فرض الإتاوات الموسمية والسنوية وحتى الشهرية على العقارات والمواسم الزراعية. وينطبق ذلك على السكان الذين لا زالوا يعيشون في عفرين، وأيضاً على أولئك الذين هُجِّروا ولكنهم يحاولون الحفاظ على أملاكهم عن بُعد من خلال بعض الأقارب، استناداً إلى نظام الوكالة. وترتفع نسبة إتاوة الوكالة دائماً بذريعة تعامل المهجّر (الغائب) مع «الحزب»، حتى لو كان مُغترِباً منذ 2011 أو قبله.
تختلف قيمة الإتاوة وفق أهواء وقرارات كل فصيل، فخلال موسم الزيتون يُمنَح الأهالي وصلاً يسمح بقطاف الزيتون بعد إجبارهم على دفع الإتاوة، إذ أصبحت الإتاوات، إلى جانب تحطيب الأشجار المثمرة والحراجية، تجارةً ومصدراً دائماً لجمع الأموال.
من ناحيته، «يتفنن» فصيل العمشات في طرق جمع الأموال، كما وصف أحد سكان المنطقة للجمهورية: «في إحدى المرات قام الفصيل بإحصاء الأراضي والمنازل بحجة حمايتها ومنع الفوضى في المنطقة، ووضع أرقاماً بألوان مختلفة على جدار كل منزل للتمييز بين المنزل الذي يقيم فيه مالكه الأصلي والمنزل الذي يقيم فيه نازح، ومن بعدها فرضَ إتاوة شهرية 100 دولار عن كل منزل و200 دولار عن كل محلّ. يتصرف قادة العمشات كما يحلو لهم، فإذا رغب أو احتاج أحدهم لأموال، يفرض وحده إتاوة على قطاعه، كأن يقول لمسلحيه اجمعوا لي 100 ألف دولار خلال هذا الأسبوع… طبعاً كل هذا يصدر شفوياً، وبدوره يُبلِّغ المختارُ الأهالي المستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة».
ما عدا ناحية شيخ الحديد، لفصيل العمشات مقرّاتٌ في نواحي معبطلي وشران وبلبل ومدينة عفرين، ولا يستولي على عقارات المهجرين فحسب، بل أيضاً على تلك التي لا يزال أصحابها موجودين، ففي أول سنتين من السيطرة قام بإخراج العائلات الصغيرة من منازلها بالغصب لإسكان عوائل تابعة له ومُقرَّبة منه، بذريعة عدم دفعهم الإتاوة الشهرية.
في موسم زيتون 2024، فرض العمشات إتاوة دولار ونصف على كل شجرة لأرضٍ مالكُها موجود، وما بين 20 و25 دولار على أراضي الوكالات، أي تلك التي مالكها ليس موجوداً ويقوم أحد الموكلين من الأقارب بإدارتها. مُنع الأهالي من أخذ صفائح الزيت من المعاصر واحتُجزت جرّاراتهم الزراعية حتى يدفعوا الإتاوة المفروضة، والتي وصلت إلى 38 ألف دولار في إحدى الحالات التي تَحدَّثنا مع ضحيتها. كل هذا بعد أن يكون قد اعتنى المالكُ أو الوكيلُ بالأرض طيلة العام وبذل فيها الجهد والمال.
ومن القصص التي حصلت عليها الجمهورية.نت قصة المسن الكردي محمد حسن حسين، من أهالي قرية كاخرة، الذي تعرض لمضايقات مستمرة من قبل فصيل العمشات. قبل أكثر من عام قام الفصيل باعتقال حسين لمدة قصيرة بحجة أنه جنى موسم السمّاق من أرضه دون أن يحصل على الموافقة منهم، ومن ثم استولى على أرضٍ له فيها ألف شجرة زيتون، وعندما جنى محمد ثمار الزيتون من بقية الحقل، الذي أنتج 17 صفيحة زيت، فرضوا عليه إتاوة صفيحتين. وقبل وفاته بيوم استولى مسلحون على اسطوانتي غاز من منزله، بحجة أنه لا يحتاجها لأنه يقيم وحده. كل هذا وهو عاجز عن فعل شيء ولا يجرؤ على منعهم أو الوقوف في وجههم، إلى أن أصيب بجلطة قلبية أدت إلى وفاته بتاريخ 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024. حاول أولاده المهجرون تسليم المنزل لأحد أقربائهم، إلا أن أحد مسلحي الفصيل استولى عليه متذرّعاً بأنه سيتزوج فيه، فلم يجرؤ أحد على الاقتراب من المنزل.
تذرّعت الفصائل بتهمة الانتماء إلى حزب الاتحاد الديمقراطي، أو العمل مع الإدارة الذاتية أو الانضمام لقسد، للتضييق على الأهالي وابتزازهم، ففي أواسط 2023 وفي قرية حج قاسما بناحية معبطلي، استولى فصيل سمرقند على أملاك أخوة مختار القرية لقمان حميد حسن وأملاك عمه، بحجة أنهم يتعاملون مع الإدارة الذاتية.
وكان مسلحو فصيل لواء محمد الفاتح قد اختطفوا المختار لقمان في تشرين الثاني (نوفمبر) 2021، حيث تعرّضَ للتعذيب بحجة إدارته لحقول مهجرين تابعين للحزب بشكل سري كي لا يدفع إتاوات الوكالة لهم، مع أنه كان يدير حقول أخوته المهجرين قسراً فقط. كاد لقمان أن يفقد حياته تحت التعذيب لولا تدخل بعض الوجهاء والتعهد بدفع إتاوة 100 صفيحة زيت الزيتون، ثم اتفقوا على 50 صفيحة دفعها أحد أقارب لقمان حتى تم الإفراج عنه، وأقالوه من منصب المختار وطردوه من القرية، علماً أن تعيين المخاتير وإقالتهم هي من صلاحيات المجلس المحلي للناحية وليس الفصائل.
كانت أغلب الوكالات تُنظَّم شفهياً لدى المكاتب الاقتصادية للفصائل المسلحة عبر تسجيل صوتي أو اتصال هاتفي مع المالك المُهجَّر، يذكُر فيه اسم الوكيل حتى يُسمَح للوكيل بإدارة الأملاك. ولكن بعد عامين من الاحتلال، تم إصدار قرارات ألغت الوكالات في كثير من الحالات، لتصبح الأراضي تابعة لمكتب الفصيل الاقتصادي، حيث قام بجني محاصيلها أو تأجير أشخاص للعمل فيها.
عندما سيطر فصيل جيش النخبة على قرية في ناحية شران عام 2018، سمح لأحد أهاليها عابد (اسم مستعار) بإدارة أرضه وأرض أخيه المُهجَّر بموجب توكيل نظمه المكتب الاقتصادي، إلا أنه وبعد أن قام بكافة الأعمال الزراعية ودفع المصاريف المترتبة عليها، استولى الفصيل على موسم إنتاج أرض أخيه، وتحجّجوا بالقول إن على أخيه أن يأتي بنفسه ليستلم محصوله من إنتاج الزيت.
«كل ما يُقال عن نظام الوكالة هو أمر شكلي وكلام فارغ»، يقول عابد، «تختفي الفصائل خلفه وتتحايل به أمام الإعلام، زاعمة أنها تسمح للأهالي بإدارة أملاكهم، وهي في الحقيقة لا تعترف بالوكالة ولا تسمح لأحد بإدارة أملاك غيره بشكل جدي حتى لو كان من أفراد عائلته».
جريمة غصب العقار
خلال السنوات السبعة الماضية، تقدَّمَ بعض من تجرّأ من الأهالي بشكاوى لاسترجاع منازلهم لكن دون جدوى، حيث ذكرت رابطة تآزر في تقريرها، 2024، أن محكمة عفرين التابعة للحكومة السورية المؤقتة بتّت في أكثر من 150 دعوى في قضايا «الغصب العقاري»، وأصدرت أوامر بإخلاء تلك المنازل التي تعود ملكيتها للسكان الكُرد، لكن اعترضت تحديات كثيرة تنفيذ قرارات المحكمة، نتيجة تَدخُّل الفصائل المسلحة ورفضها إعادة الحقوق لأصحابها.
وبالرغم من أن موضوع الممتلكات العقارية والأراضي ملف معقد، جميعها محمية بحكم القانون، وما قام به مسلحو وقادة الفصائل من عمليات المتاجرة بالأملاك المستولى عليها هي عمليات غير معترف فيها، وتأتي تحت مسمى جريمة غصب العقار.
يقول المحامي مصطفى (اسم مستعار) «إن القانون السوري اشترط لتحقُّق جرم اغتصاب العقار أو الاستيلاء عليه أن لا يكون الفاعل حاملاً لأي نوع من السندات الملكية أو التصرف يبرر من خلاله تصرفه بالاستيلاء»، مضيفاً أن القانون السوري لم يضع شرطاً أن يكون مالك العقار موجوداً لحظة الاستيلاء.
من جهتها ترى لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسوريا، في تقريرها الصادر في تشرين الأول (أكتوبر) 2024، وجود أسباب معقولة تدعو إلى الاعتقاد بأن الفصائل العسكرية قد مارست أعمال نهب، «قد ترقى إلى مستوى جرائم حرب». كما أصدرت منظمة هيومن رايتس ووتش عدة تقارير عن استيلاء الفصائل على المنازل وتدمير الممتلكات المدنية ونهبها، وحمّلت تركيا وفصائل الجيش الوطني مسؤولية ذلك وطالبت بضرورة تعويض المتضررين.
القرى السكانية وترسيخ التغيير الديمغرافي
على خط موازٍ للاستيلاء المباشر على أملاك السكان والمتاجرة بها وفرض الإتاوات عليها، تم بناء قرى سكانية عبر منظمات عربية وأجنبية لإيواء من نزحوا أو هُجّروا من المناطق السورية المختلفة إلى عفرين، وذلك على أراض خاصة وأخرى عامة، كما أزيلت الغابات على نطاق واسع وأُقيمت فيها تجمعات سكانية أخذت صفة سكنٍ دائم للعائلات الخاصة بعناصر الفصائل المسلحة، إلى جانب عشرات المخيمات العشوائية والمنظمة التي أقامت فيها العائلات النازحة غير المحسوبة على الفصائل. تولى مجلس عفرين المحلي مهمةَ تسهيل الخطوات الإجرائية والإدارية، ابتداءً من منح وثيقة تخصيص لتكونَ وثائق إثبات ملكيّة للمساكن وليس الأرض.
هناك 45 قرية سكنية، وكانت قابلة للزيادة قبل 8 (كانون الأول) ديسمبر، لأن بعضها كان في حالة توسيع وأخرى في حالة تجديد مستمر، وذلك وفق ما صرَّحَ به إبراهيم شيخو. ففي كتلة جبل الأحلام وناحية شيراوا وحدها يوجد 15 تجمع سكني، وفي ناحية جنديرس، ما عدا مركز الناحية، يوجد ثمانية تجمعات، وثلاثة في ناحية شيخ الحديد، والبقية موزعة في النواحي الأخرى، هذا عدا عن التجمعات المبنية على أطراف مدينة عفرين.
يقول أمين، من أهالي قرية شيتكا المهجّرين، للجمهورية.نت: «تقع أرضنا ما بين قريتي رفعتية وحمولكيه في ناحية جنديرس، وهي أرض نظامية مسجلة على اسم والدي في سجلّ حلب العقاري، لكنها مُلك أبي وعمي. صُدِمتُ عندما أتاني اتصالٌ يخبرني أنهم بنوا تجمعاً سكنياً على أرضنا، بعد أن استولوا عليها بحجة أنها أملاك الحزب. كان لي علمٌ بأنها تحتوي على مخيمات عشوائية لنازحين من ريف دمشق، لكنهم أزالوا الخيم وبنوا فيها التجمع الكبير. عاد ابن عمي من لبنان إلى عفرين وحاول السؤال عن الأرض، فردَّ عليه أحد المحامين الذين يعملون معهم أنهم مستعدون لشراء الأرض مقابل 100 ألف دولار. رفضنا ولا يمكن أن نقبل حتى لو دفعوا لنا ضعف المبلغ. يريدون أن يشتروها كي نمنحهم الشرعية في استيلائهم عليها».
لطالما اعتُبِرَ مهجّرو الحرب موضعَ ترحيب في منطقة عفرين حتى قبل 2018، وفق ما أورده الباحث جوان إينالو، عضو مجلس إدارة المركز الكردي للدراسات والاستشارات القانونية (ياسا)، لكن بناء القرى السكانية بعد وقوع المنطقة تحت الاحتلال التركي عام 2018 أشار إلى مخطط سياسي مُمنهج يهدف إلى تغيير ديموغرافي واسع النطاق يهدّد مستقبل وجود الكرد في المنطقة: «هذه القرى تخدم عملية التغيير الديمغرافي، وقد يمكن اعتبارها جزءاً من عملية تطهير عرقي».
تتباين التقديرات بشأن أعداد النازحين والمُهجّرين إلى عفرين من مناطق سورية أخرى، إذ تتحدث تقديرات موقع عفرين بوست، نقلاً عن مصادر خاصة به، عن أن عدد النازحين إلى عفرين بلغ مطلع العام 2024 نحو 647 ألفاً، أي بنسبة 77 بالمئة من سكان المنطقة، إذ قدّرَ التقرير أعداد الكُرد الباقين فيها بنحو 193 ألفاً. يتفق هذا تقريباً مع كلام ابراهيم شيخو، مدير منظمة حقوق الإنسان – عفرين، عندما قال لنا إن «نسبة الكُرد في عفرين بقيت حتى لحظة سقوط النظام السوري منخفضة، في حدود 25 بالمئة فقط، وذلك بعد أن كانت نسبتهم أكثر من 95 بالمئة قبل العام 2011». الوصول إلى أرقام ونسب دقيقة تماماً مستحيل في الظروف الراهنة، لكن هذه التقديرات تتفق مع ملاحظات وتقديرات المصادر المتنوعة التي تواصلنا معها.
حدث هذا الاختلال الهائل بشكل أساسي بعد التهجير القسري الذي نفذّه نظام الأسد البائد من ريف دمشق باتجاه عفرين، عقب هزيمة فصائل المعارضة في الغوطة الشرقية في ربيع 2018، بعد استيلاء تركيا والفصائل التابعة لها على عفرين. بعدها توالى نزوح الأهالي من مناطق خفض التصعيد بريفي إدلب وحماة، إضافة إلى وصول اللاجئين السوريين الذين تتم إعادتهم قسراً من تركيا إلى الشمال السوري تحت مسمى «العودة الطوعية».
وقد سعت تركيا إلى ترسيخ التغيير الديمغرافي بعد تهجير السكان الكُرد خلال عملية غصن الزيتون، عبر إجبار المهجّرين من المناطق السورية الأخرى على استخراج هويات من المجلس المحلي بما أوحى بوجود مَسعىً يهدف إلى توطينهم بشكل دائم في عفرين، وذلك بعد أن تم حل هيئات المهجّرين في 17 (أيار) مايو 2019، التي كانت تعطي أوراقاً ثبوتيةً وسندات إقامة للمهجّرين. وذكرت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقريرها الصادر عام 2024: «لم تتجاهل تركيا الانتهاكات التي مارستها الفصائل فحسب، بل تواطأت فيها بشكل مباشر. في عفرين سنة 2018 أشرفت على إعادة توطين مئات العائلات العربية السنية النازحة من الغوطة الشرقية في منازل النازحين الأكراد».
ويضيف إينالو: «من الواضح أنّ تركيا تحاول التنصُّل من الواجبات المفروضة عليها كدولة احتلال، من خلال إدّعائها أنها ساعدت على تحرير جزء من الأراضي السورية. لكن حسب الوثائق المتوفرة، يمكن تصنيف ما حدث في عفرين تحت بند التطهير العرقي، الذي يُعرَّف بأنه الإزالة الممنهجة القسرية لمجموعات إثنية أو عِرقية من منطقة معينة».
وحول السؤال عن مصير القرى السكانية بعد سقوط نظام الأسد وعودة المهجّرين إلى مناطقهم، يعتقد إينالو أنه يمكن «استخدام هذه القرى كسكن مؤقت للمتضررين من الحرب حتى يتم إعادة إعمار منازلهم، ثم يتم التصرف بها من قبل هيئات تمثّل السكان في عفرين».
سقط الأسد والانتهاكات لم تتوقف
لم تتوقف الفصائل المسلحة عن ممارسة انتهاكاتها بحق السكان الكرد بعد 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024، بل شهدت منطقة عفرين عمليات مداهمة واعتقال وخطف لأسباب تتعلق في أغلبها بعدم قدرة السكان على دفع الإتاوات المفروضة على موسم الزيتون، والتي قد تبلغ آلاف الدولارات، وأخرى بذريعة التحقيق حول علاقتهم بالإدارة الذاتية الكردية وابتزازهم مالياً. فقد شهدت قرى أنقله وسنارة وهيكجة، الخاضعة لسيطرة فصيل العمشات بناحية شيخ الحديد، هروب نحو 50 عائلة بتاريخ 18 كانون الأول (ديسمبر) 2024، بعد أن شنّ مسلحو أبو عمشة مداهمات على القرى المذكورة وأهانوا أهاليها وهددوهم؛ «اللي ما بيدفع مناخد مرتو»، وذلك وفق ما ذكره أحد سكان المنطقة للجمهورية.نت نقلاً عن لسانهم، وضربوهم واعتقلوا العشرات منهم، واحتجزوا آلياتهم لعدم دفعهم الإتاوات.
ورغم ما شهدته البلاد من حالة انفراج وحركة عودة كبيرة للمهجّرين بعد سقوط الأسد إلى كافة المناطق السورية، بما فيها منطقة عفرين، لم يردع ذلك الفصائل العسكرية التابعة لتركيا عن ممارسة انتهاكاتها بحق العائدين أيضاً، ناهيك عن عدم إنهاء سلطة الاحتلال التركي والفصائل التابعة له بشكل فعلي حتى الآن، واستمرار التوتر الأمني، ما صعَّبَ العودة.
وفقاً لتقدير منظمة هوري لحقوق الإنسان، تجاوز عدد العائدين حتى 30 كانون الأول (ديسمبر) 2024 الـ4 آلاف عائلة، وقد تعرّضَ عدد كبير منهم وخاصةً الشبان للاعتقال بتهمة التعامل مع الإدارة الذاتية والخدمة بالقوات المسلحة، حيث تجاوز عدد المعتقلين 2000 شخص بينهم نساء، ولا يتم إطلاق سراحهم إلا مقابل غرامات مالية متفاوتة.
فيما ذكرت منظمة سوريا على طول في تقريرها الصادر في كانون الأول (ديسمبر) 2024، أن حوالي 70 ألف نازح عادوا إلى عفرين وريفها، بحسب أرقام حصلت عليها من المجلس المحلي في مدينة عفرين.
عوائق عودة الأهالي
أفاد أشخاصٌ تواصلت معهم الجمهورية.نت بأن كثيرين ممّن عادوا إلى عفرين، آملين باسترداد أملاكهم، قرَّروا النزوح للمرة الثانية والعودة إلى حلب، لما واجهوه من مخاطر أمنية وعدم القدرة على استرجاع الأملاك.
في حديثٍ معه أكَّدَ وليد بكر، المدير التنفيذي لمنظمة هوري لحقوق الإنسان، والناشط في مجال توثيق الانتهاكات في عفرين، أن «معظم العائلات من العائدين لم يستلموا منازلهم وأملاكهم بعد، بسبب وجود عوائل النازحين فيها، إضافةً إلى الضرائب المفروضة عليهم من قِبل الفصائل المسلحة، والتي لا قدرة لهم على دفعها، فما زال الكثيرون منهم يقيمون في منازل أقاربهم بانتظار استلام منازلهم وممتلكاتهم».
أحد المتحدثين للجمهورية.نت كان قد نزح من منطقة الشهباء إلى مدينة الرقة خلال هجوم الفصائل في عملية «فجر الحرية»، ومن هناك رجع إلى مدينة حلب، وفي حلب قرََّر المتابعة باتجاه مدينة عفرين، حيث مكان إقامته الرئيسية. عند حاجز قرية الغزاوية المعروف بحاجز الأتراك، تم التحقيق معه ثم دفع دخولية 100 دولار. من هناك تابع باتجاه قريته في ناحية شران ليجد مسلحاً، كان عنصراً سابقاً في أحد الفصائل، يستولي على منزله، فذهب إليه وطلب منه تسليم المنزل، ليرُدَّ الآخر أن عليه أن ينتظر حتى ينقضي فصل الشتاء، لكنه عَدَلَ عن رأيه فيما بعد وهدده بتلفيق تهمة «العمل مع الحزب» له إذا طالب بمنزله ثانية. على إثر ذلك قرر الخروج والعودة إلى مدينة حلب مُستسلماً للأمر الواقع.
وفق مصادر الجمهورية.نت، تفرض الفصائل العسكرية إتاوة مالية تبدأ من 200 دولار حتى 5 آلاف دولار مقابل السماح للعائلات العائدة باستلام منازلها، ويعتبر فصيل العمشات الفصيل الذي الأكثر فرضاً لمبالغ مالية مضاعفة على عودة الأهالي من جهة، وعلى مطالبتهم بأملاكهم من جهة أخرى.
بعض الشهادات التي حصلنا عليها قالت إنه في بادئ الأمر فرض العمشات مبلغ 6 آلاف دولار على كل عائلة عائدة، بعد إلزامها بمراجعة مقرهم الأمني وتسجيل أسماء أفرادها لديهم، ثم جعل الإتاوة على كل شخص من أفراد العائلة، واختلفت ما بين 2 و5 آلاف، وإذا طالبت العائلة بمنزلها عليها أن تدفع مبلغ يتراوح ما بين 10 و15 ألف دولار، وإذا طالبت بأرضها عليها أن تدفع عن كل شجرة 70 دولاراً، في صورة تشبه قيام المالك بشراء منزله وأرضه من الفصيل المُغتصب.
عاد خالد (اسم مستعار) إلى مركز ناحية شيخ الحديد بعد سبع سنوات من التهجير في ريف حلب الشمالي، إلا أنه لم يستطع استرداد منزله لعدم قدرته على دفع 15 ألف دولار فُرضت عليه من قبل العمشات، كما لا يملك القدرة على دفع 70 دولاراً عن كل شجرة موجودة في أرضه مقابل استرجاعها. خاصة وأنه قبل أشهر دفع خلال موسم الزيتون مبلغ 17 ألف دولار، وهو حاصلُ جمع إتاوة الوكالة التي فرضها الفصيل: 25 دولار عن كل شجرة زيتون له سواء كانت مثمرة أو غير مثمرة، كي يُسمَح لأخيه الذي يهتم بأرضه بموجب وكالة شفهية بجني محصوله.
كما عادت نحو 50 عائلة إلى قرية ميدانكي في ناحية شران، لكن كثيرين لم يسترجعوا منازلهم بعد، رغم أن أغلب منازلهم فارغة بعد أن غادرتها العوائل النازحة والمُهجّرة بعد سقوط الأسد: «عادت العائلة الحمصية، التي كانت تقطن في منزلنا ببلدة شران، إلى ديارها في 20 ديسمبر» تقول حياة، «وسلموا المفتاح لأحد أقربائنا في البلدة، إلا أن أمي خائفة ونحن نخاف عليها أن تعود الآن، فالظروف غير مواتية، وما زالت المنطقة في حالة فوضى وعدم استقرار، والفصائل ما تزال موجودة داخل عفرين».
فيما سلَّمَ بعض النازحين القاطنين في عفرين مفاتيح البيوت، قبل أن يغادروها، لمقرات الفصائل العسكرية، بحكم أنهم استأجروها منهم. تمتنع الفصائل عن تسليمها لأصحابها الكُرد، أو تفرض إتاوة مقابل تسليمها، كما هو الحال في بلدة راجو، حيث فرض فصيل أحرار الشرقية المسيطر على البلدة إتاوة تبدأ من 500 دولار مقابل التسليم.
في السياق نفسه، وقبل أن تستلم قوات الأمن العام التابعة للإدارة الجديدة مدينة عفرين ومداخلها، استطاعت بعض العوائل استعادة منازلها، لكن ما أن مرّت أيام حتى داهمت الشرطة العسكرية بعض المنازل واعتقلت سكّانها. وذكرت وكالة نورث برس أن فصيل «المعتصم بالله» المُسيطر على قرية زعرة بناحية بلبل رفض إدخال العوائل العائدة من منطقة الشهباء، بحجة عدم وجود موافقة أمنية.
نتيجة ذلك أجّلَ كثيرون من سكّان عفرين الكُرد المُهجَّرين عودتهم إلى حين حل الفصائل العسكرية بشكل فعلي، بعدما أعلن الرئيس الانتقالي أحمد الشرع عن حلّها في 29 كانون الثاني (يناير) 2025، وزار مدينة عفرين مساء 15 شباط (فبراير) مُقدِّماً وعوداً بمنع الاعتداءات وإعادة الممتلكات لأصحابها.
خروج العوائل النازحة
أما النازحون إلى عفرين والمُهجَّرون إليها من مناطق سورية أخرى، فبعضهم عائلات لعناصر الفصائل، وكثيرون من هؤلاء لا يفكرون بالعودة إلى مناطقهم الآن بسبب ارتباطهم بالفصائل المسلحة، أو لأنهم ينتظرون عودة رجالهم المسلحين من جبهات القتال ضد قسد في منبج، خاصة أن سلطة الاحتلال التركي تحتاج هذه الفصائل في معركتها مع قسد. وبالرغم من ذلك عاد العشرات من مقاتلي الفصائل إلى مناطقهم في محافظات حمص وحماة وريف دمشق، فيما ينتظر آخرون استلام الرواتب أو ترتيبات مع قيادة فصائلهم حتى يلتحقوا بذويهم.
إلى جانب ذلك، توجد أسباب أخرى تمنع النازحين والمهجرين من العودة إلى المناطق التي نزحوا أو هُجّروا منها، وهي غالباً مناطق سيطرة النظام السابق. من ضمنها أن منازلهم مدمرة بالكامل والوضع الاقتصادي للعديد منهم متدهور.
عن تجربته يقول الناشط مسعود: «رغم أني أقيم في كرافانات قرب بلدة جنديرس، إلا أني لا أستطيع العودة الآن لأن منزلي قربَ حي الميدان في دمشق مهدّم بالكامل»، وأوضح أن إزالة الأنقاض وإعادة الإعمار تحتاج إلى وقت طويل. أما آخرون ممن لم تُصَب منازلهم خلال القصف، فهؤلاء غير قادرين على تحمّل نفقات النقل من عفرين إلى دمشق، والتي تبلغ 400 دولار، عدا عن مصاريف تأهيل المنزل وحياتهم اليومية، فالذي عاد هم من ميسوري الحال أو بيوتهم سليمة.
وأجّلَ البعض الآخر عودتهم إلى فصل الربيع، منتظرين انقضاء الشتاء وتحسُّن الطقس، عدا أن المناطق المدمرة تفتقر لأدنى الخدمات الأساسية بحيث تسمح بعودة الناس إليها، وذلك وفق مصدر خاص من إحدى المنظمات الإغاثية العاملة بعفرين، للجمهورية.نت.
وحول السؤال عن دور المجالس المحلية أو المنظمات في مساعدة العوائل على تأمين عودتهم يقول المصدر: «للأسف ليس هناك إمكانيات لتأمين مصاريف عودة الوافدين، فعددهم بالآلاف، وهذا الأمر يحتاج إلى خطة حكومية، لذا فالعودة ذاتية لكل من يملك القدرة على تَحمُّل تكاليف استئجار سيارة تقلهم لمناطقهم. مع ذلك هناك جهود خجولة لبعض الجمعيات بتقديم المساعدة في تأمين عودة العائلات ذات الدخل المحدود»، مشيراً إلى أنه لا توجد آليات لتسليم المنازل لأصحابها ولم يصدر أي تعميم أو قرار يتعلق بالموضوع.
رغم كل ذلك، عاد عدد لا بأس به من العوائل النازحة التي كانت تقطن في نواحي راجو وبلبل وشران وجنديرس، بالإضافة إلى عدد قليل جداً من ناحية شيخ الحديد، إلى ديارهم، تاركين المنازل التي كانوا يقطنوها بصفة مستأجر أو مُشترٍ، أو حتى بالاستيلاء دون أي صفة. حصل ذلك في حالات كثيرة دون أي ترتيبات لتسليم الأملاك لمالكها الأصلي وفق شهادات حصلنا عليها. كما ذكر أحد المتحدثين من سكان ناحية جنديرس أن هناك حالات تم فيها انتزاع الأبواب والنوافذ وتحميلها في آليات العائدين، كما طلبَ آخرون من المالك الأصلي تكاليف الإصلاحات التي أجروها ومصاريف عودتهم.
إلى لحظة كتابة التقرير، أصبحت بعض المخيمات شبه فارغة، مثل مخيم آفراز وغزاوية وكرسان ومخيم مدخل جنديرس ومخيم جبل قازقلي، أما مخيما المحمدية ودير بلوط، وهما أكبر تَجمُّع للنازحين أغلب قاطنيه من دمشق وإدلب، فقد عاد عدد قليل من النازحين والمُهجَّرين فيهما.
وقد بلغ عدد العائدين من القرى والمخيمات والبلدات في الشمال السوري إلى مناطقهم الأصلية أكثر من 89 ألف مدني، وفق آخر تحديث لإحصاء منسقو استجابة سوريا 31 كانون الأول (ديسمبر) 2024.
رد الحقوق ومحاسبة الجناة
بعد سقوط النظام السوري وبدء مرحلة جديدة في المسار السياسي، وعودة النازحين والمهجرين من وإلى عفرين تدريجياً، ظهرت جملة من الأسئلة حول آليات ردِّ الحقوق المسلوبة لأصحابها وضمان عودة آمنة للمهجرين، في ظل سطوة الفصائل المسلحة واستمرار الاحتلال التركي لعفرين ومناطق أخرى من الشمال السوري. في هذا الشأن يوضح المحامي عماد الدين شيخ حسن، مدير مركز ليكولين للدراسات والأبحاث القانونية في ألمانيا، أن «الحاجة ملحة لإيجاد حل شامل لهذه الانتهاكات وردِّ الحقوق إلى أصحابها الأصليين، نظراً لما يحمله هذا الموضوع من أهمية في مسار الحل السياسي والعدالة الانتقالية وعودة اللاجئين. إذ سيكون من الصعب الحديث عن عودة اللاجئين والمهجرين إلى ديارهم، وخلق بيئة آمنة وإعادة الإعمار وإعادة السلم والأمن الاجتماعي، دون استعادة هؤلاء لممتلكاتهم التي فقدوها تعسفاً أو التعويض عنها في حال تعذُّر استعادتها، إذ أن ردَّ الممتلكات أو التعويض عنها يمثل أساساً لأي اتفاق بعد النزاع، وسيؤثر إلى حد كبير في نجاح العملية السياسية برمتها ويضمن الاستقرار في المستقبل».
ويبيّنَ المحامي أنه يمكن الاستفادة من التجارب السابقة لبلدان عاشت ظروفاً مشابهة للوضع السوري في رد الممتلكات لأصحابها. ولعل أبرزها تجربة البوسنة والهرسك، والتي يعتبرها البعض الحالة النموذجية، حيث انتهى النزاع فيها بموجب (اتفاق دايتون) الذي أصبح فيما بعد دستوراً للبلاد، وتم كتابة ملحق خاص اعتُبر جزءاً من الدستور، عالجوا فيه بشكل مفصل مشكلة الممتلكات التي فقدها أصحابها خلال الأعمال العدائية.
ومن التجارب التي يمكن الاستفادة منها أيضاً تجربة كولومبيا، إذ أصدرت عام 2011 قانون تعويض الضحايا وإعادة الأراضي رقم (1448)، والذي يُمكِّنُ الذين جُرِّدوا من ممتلكاتهم في سياق النزاع المسلح، سواء بمصادرتها أو بإجبارهم على التخلي عنها، من المطالبة باستعادة ممتلكاتهم، وهناك تجارب لدول أخرى كجنوب أفريقيا والعراق وتونس والسودان ورواندا يمكن الاستفادة منها وأخذ ما يناسب الوضع السوري منها.
وفي هذا الصدد ذكرت منظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة في الورقة القانونية التي أعدتها هذا العام: «يجب إلغاء قرارات المصادرة غير القانونية، وينبغي إحالة القضايا المتعلقة بالعقارات والمنظورة أمام اللجان الاستثنائية المحدثة بموجب القانون رقم 10 لعام 2018 وتعديلاته إلى القضاء المدني المختص، لضمان عدالة القرارات وحماية حقوق الملكية،… وينبغي تطوير آليات تعويض عادلة وشفافة تتولى تعويض الأفراد الذين فقدوا ممتلكاتهم نتيجة المصادرة أو التدمير، مع توفير مسارات قانونية واضحة للطعن في القرارات الإدارية ذات الصلة».
من جهته، يرى إينالو، عضو إدارة ياسا، أن إيقاف الانتهاكات، ومن ضمنها رد الممتلكات في عفرين وتأمين عودة المهجرين قسراً، يتطلب العمل على مستويين؛ الأول على مستوى المنطقة، وذلك بحلّ المنظومة المسلّحة (الفصائل العسكرية وجهاز الشرطة) وإخراجهم من المنطقة؛ والثاني على مستوى سوريا ككل، من خلال إيجاد حل شامل لكل السوريين وإنهاء النزاعات العسكرية.
وإذا كان بالإمكان محاسبة الجناة والمساهمين في ارتكاب الانتهاكات وملاحقة قوات الاحتلال التركي، يقول إنه يمكن تحميل تركيا مسؤولية الانتهاكات المرتكبة حتى من قِبل الفصائل العسكرية، وذلك استناداً إلى المادة الثامنة من «قانون مسؤولية الدول عن الأفعال غير المشروعة المُرتكبة من قِبل أفراد أو مجموعات». بموجب ذلك يجب البدء بالخطوات القانونية على المستوى الوطني، ويمكن نقلها إلى المستوى الدولي بعد استنزاف كل الوسائل المتاحة محلياً. وختم إينالو بقوله: «الدعاوى القضائية على الميليشيات المسلّحة ممكنة، وتم رفع دعوى للمدّعي العام في ألمانيا من قبل منظمة ECCHR مثلاً، لكن تطبيق أحكام في هكذا دعاوى يبقى محصوراً بأراضي الدولة. رغم ذلك تتيح هذه المسارات الأرضية القانونية المناسبة لنقل القضية مستقبلاً إلى مستويات دولية. بناءً على ما سبق، يمكن القول إن محاسبة الجناة قد تتطلب أحكاماً قضائية من المحاكم الدولية أو من مجلس الأمن».
كل هذا مرتبط بالتطورات المتسارعة التي تشهدها الساحة السورية بعد سقوط الأسد في 8 ديسمبر 2024، وتنصيب أحمد الشرع رئيساً انتقالياً لسوريا في 29 يناير 2025، إذ يختلط المشهد على أهالي عفرين بين الترقب والخوف والأمل مع جولات التفاوض والحوار بين قسد والسلطة الجديدة في دمشق، ومن ضمنها ملف المُهجَّرين وردّ الحقوق بالتأكيد، وكذلك مع الحديث عن حلِّ الفصائل المسلحة ووضع نفسها تحت سلطة الإدارة الجديدة بحيث يصبح قرار الملف عائداً لدمشق.
إلى ذلك الحين يبقى الأهالي قيدَ الأمل بوقف الانتهاكات وضمان عودتهم لديارهم، بعد التطمينات التي منحها الرئيس الانتقالي أحمد الشرع واستلام قوات الأمن العام زمام الأمور الأمنية في منطقة عفرين.
موقع الجمهورية