سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 25 شباط 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
————————————-
الجوع القهري والمدنية السورية/ جمال الشوفي
2025.02.25
“الجوع” الفكري والنفسي للتعبير عن الذات يبدو أنه أبرز سمات المرحلة الحالية من سوريا الجديدة، سوريا بلا قتامة الخوف الجاثم على النفوس من إرهاب الاعتقال أو الاختفاء في سراديب الموت والاعتقال. أجل إنه جوع النفوس للقول والمجاهرة العلنية بماذا تريد، بماذا تحلم أن تكون.. والخروج من سرداب القهر العام والفردي الذي مارسه نظام الاستبداد في أشد مجازر التاريخ على أمة ومجتمع. واستخدام مصطلح “الجوع” بدلالته الفيزيولوجية تعبير مجازي يحاكي الجموح النفسي لتحقيق الذات وإثبات حضورها على مسرح اليوم.
إلحاح الحاجة للتعبير عن الذات مرفقاً بنزعة شعورية طافحة نتيجة موضوعية لمعادلات القهر النفسي التي عاناها السوريون طوال عقود، ودلالة ثقافية أوضح عن حجم مجزرة استبداد النظام، وتكاد تعادل مشاهد مجازره في القتل الجماعي والفردي التي مارسها خلال حكمه. فبينما تثبت الثانية مادياً بالأحداث والوقائع، تكون دلالة الأولى ذات حدين: الأول رفض القمع بكل أشكاله مرة أخرى، والثاني تمرد على كل القوانين والأحكام وزيادة احتدامها فردياً. من هنا يمكن للأبحاث المجتمعية السيكولوجية أن تعيد قراءة المشهد السوري بطريقة مغايرة عن الاكتفاء بقراءته السياسية والفكرية الساعية لترتيب مقتضيات المرحلة الحالية من الانتقال السياسي وإعادة بناء الدولة في سوريا.
تجتاح وسائل التواصل الاجتماعي والحوارات السورية بعامها أو التمهيدية لمؤتمر الحوار العام المزمع إقامته قريباً، ظاهرة الجوع للتعبير وإثبات الوجود الفردي بشكل واضح، فذات المطالب والأحلام من قبيل: الحريات والحقوق، المدنية وتحقيق القانون، حق الفرد والمرأة، الدستور وما يمكن أن يتضمنه.. يتم تكراراها مراراً وتكراراً حتى لو قيلت على لسان من سبقهم. وكأنها لم تُقل من قبل، وليس فقط تزداد معها حدة الانفعال الشعوري، والتي مبدئياً تشير إلى:
التأكيد على المطالب المدنية الواجبة في سوريا المستقبل وعدم تكرار تجربة الاستبداد السياسي السابق.
التأكيد على حضور الذات الفردية بصفتها الشخصية وعدم الاكتفاء بالفكرة.
رفض قبول المختلف رأياً فكيف وإن كان من ينتمي لمؤسسات النظام السابق.
تأجيج المشاعر وحماسها يحجم دور الفكر المدني ذاته، فإن كان ثمة اختلاف مجتمعي حول بعض القضايا الدستورية العامة واحتدم الجدل حولها فهذه نتيجة طبيعية للتنوع السوري أهلياً وثقافياً، لكن أن تبرز هذه الدلالات في ذات البيئة المتفقة على ذات العناوين فثمة إشكال في الصيرورة وآليات الحوار، وسياق دال على ردة فعل مغايرة لما نتصوره عن المجتمع المدني نظرياً! وهذه بطبيعتها تحيل للشرعية الثورية ذات المبعث النفسي الدالة على الفوضى وعدم الرضا. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة: ماذا لو لم تتحقق هذه المطالب بجماعها أو بتفاصيلها الجزئية في المستقبل القريب؟ خاصة وأن المجتمع السوري بتنوعه وتعدد بيئاته الثقافية، وكل فرد أو جماعة فيه لها حلمها وأمانيها الذاتية، سيواجه قريباً مشكلة التباين في القضايا العامة!
المدنية والفكر المدني مطلب سوري عام مهما اختلفت حوله أطر وبرامج العمل السياسية المتنوعة. لكن الفرق والخلاف البارز اليوم هو طرق تحققها، فهي حكماً ليست منتجا حاضر التناول دفعة واحدة على مبدأ الإسقاط الفكري المباشر بالواقع “كن فيكون”. والمدنية بذاتها صيرورة موضوعية تتجاذبها عوامل عدة أهمها متطلبات الواقع الموضوعي بحاجاته الأساسية من استقرار ومأكل ومشرب وأمان، وهذه أولوية شعبية عامة تتفق مع قاعدة هرم ماسلو للاحتياجات. بينما يأتي تحقق الذات في أعلى مراتبه! فهل ثمة تعارض بين هذه وتلك؟
من المؤكد لا يوجد تعارض بين تحقيق الاستقرار المادي والحياتي العام وبين تحقيق الذات من حيث الحريات والحقوق المدنية والسياسية، ولا يعني أولوية الاحتياجات المادية بأنه إقرار وخضوع لاملاءات الحكومة المؤقتة والسلطة القائمة الجديدة والمترجم بمقولة من يحرر يقرر! ولا يعني أبداً التوقف عن المطالبة بتحقيق المدنية بأوسع صورها دستورياً وقانونياً. لكن المفارقة المطروحة هي أدوات الوصول لها، وسؤال المدنية والشرعية الثورية محورها.
الشرعية الثورية وتحقيق الإرادة الفردية بعينها فعل يتعارض مع المدنية بالجذر، فالمدنية شرطها الأساس التنوع والاختلاف وهذه تتعارض مع الشرعية الثورية المفردة؛ والشرعية الحقوقية سياسياً نسبية، عددية، تفرزها صناديق الاقتراع، وإن كانت صناديق الاقتراع غير منصفة مدنياً وحقوقياً أمام الكثرة العددية الدينية مثلاً، فهذه لا يجب ألا تتعارض مع المدنية الموصوفة بالديموقراطية. حتى وإن أحلنا الديموقراطية للوعي المعرفي العام والعمل على تحققها والمطالبة بها، لكنها بالضرورة أبداً لا يمكن تحقق مبادئها المدنية والتوافقية بفرض الشرعية المطلقة! فالأسس العامة للمدنية تقوم على:
التوافق والحوار وأساسه الاعتراف بالآخر المختلف كماً ونوعاً.
الشفافية وعلنية التعبير كحق مكفول للجميع.
الفاعلية التدريجية، والتي تحيل إلى النسبية العامة والفكر المدني العصري.
الإنجاز المرحلي والاستهداف المستقبلي. من هنا يبدأ الفكر المدني بتحقيق ذاته الجمعية كمجتمع يكتنف الجميع، معرفاً نفسه بأنه الأسرة الأكثر اتساعاً وشمولاً وتنوعاً من الأسرة الأهلية التقليدية.
المعايير المطروحة هنا ليست نهائية أو قطعية، لكنها تحيل لضرورة الانتظام والتعامل مع الواقع بمعطياته وأولياته لا الاكتفاء بالتعبير الشعوري وإثبات الحضور وحسب. فحيث كانت الثورة حقا مشروعا لإسقاط النظام بلونه الوحيد وشرعيته وإرادته المطلقة الفردية، فلا يجب تكرارها بذات المنطق، فلم نزل نتغنى نظرياً بفكرنا المدني وتطلعاته الحضارية بقبول الآخر والروح الإنسانية الجمعية والشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
فرض الشرعية الإراداوية تختلف كلياً عن معركة الفكر المدني وحوامله الكامنة. وكسب معركة الحقوق المدنية والقانونية وبالنتيجة السياسية مع الزمن تأتي بالحوار وليس باستبدال سطوة ببديل عنها. ومن ثم عليها أن تكون وسيطاً معرفياً وحقوقياً بين مطالب ومعيقات المجتمعي الأهلي والديني، وبين السلطة ومؤسساتها، فالمدنية ليست ضد التدين، ولا ضد الثقافات المختلفة، بقدر ما هي الفضاء الأوسع الذي يسعى لتحقيق الحقوق العامة لكل فرد فيه. فيما تكون معركة الكل المجتمعي مدنياً وأهلياً وسياسياً مع السلطات حين تغتصب الحقوق والحريات، وهذا مسار يمكن تفنيده في كل حقبة ومرحلة زمنية في حينها.
اليوم يقع على عاتق الفاعلين في المجتمع المدني، مفكرين ونخب وشباب ومنظمات ناشئة، جملة من التحديات المرحلية تتكثف خلاصتها بـ:
فتح الحوار الشاق والطويل مع البنى المجتمعية الأهلية والدينية والسياسية أيضاً.
التمسك بالحقوق المدنية والسياسية والتضامن التوافقي حولها في فعل مجتمعي عام.
الابتعاد عن ممارسة الشرعيات وفرض شروطها المولدة للفوضى والتشتت.
الابتعاد عن مغريات المكاسب الآنية سياسياً ومادياً على حساب الأهداف العامة المتمثلة بتحقق المجتمع المدني في ظل دولة الحق والقانون.
كان لإدموند بيرك، المفكر الإيرلندي، سَبْقُ التحذير من ولع الثوريين الفرنسيين بالتعصب لنظرتهم المثالية وفرض شرعيتهم الثورية المثيرة للفتنة والاضطراب والتي قادت لعودة الحكم العسكري البونبارتي، والتي عبّر عنها في كتابه الأشهر “تأمّلات حول الثورة في فرنسا” عام 1790، وهو ما يشبه مجريات مصر 2013. والسؤال الذي تطرحه التجربة السورية اليوم هل تنازع الشرعيات المفرطة بالمثالية حق مدني يمكن اعتماده لتأسيس دولة العدالة والمواطنة؟ أم ضرورة الانتقال التدريجي للحوار البناء وفق مراحل زمنية وخطط مستقبلية على قاعدة التشاركية لا التنافسية السلبية الهدامة؟ فإن كان لسقوط النظام فرحة ونشوة قصوى، لكن مرحلة البناء تحتاج لأسس مختلفة قد يكون إحداها كيفية الإجابة على سؤال: القهر وتجلياته النفسية برد الفعل الثوري والسياق السياسي المقنن بأطر قانونية للبناء؟ وحذرنا واجب وتليين حوافنا الحادة الشعورية ضرورة وحاجة مدنية راهنة ومستقبلية.
تلفزيون سوريا
————————
الشرع وحكاية الفريق المنسجم/ رغيد عقلة
25 فبراير 2025
في أكثر من مناسبة، عَبَّرَ الرئيس السوري أحمد الشرع عن ميله إلى الاعتماد على فريق عمل وَصَفَهُ بـ”المنسجم”، وفي وقتٍ لا تُنكر عليه فيه براعته في اختيار الألفاظ الأكثر “انسجاماً” مع الشعور الجمعي لِطَيف سوري وازن في هذه المرحلة، فالقضية تستحق وقفة متأنية. ورغم أن البدعة في السياسة ليست بالضرورة ضلالةً، إلا أنَّ الحقيقة أن الشرع لم (ولن) يكن مبتدعاً في هذا المَيل إلى الاعتماد على فريقٍ وَصَفَهُ بالـ”المنسجم”، علماً أنه ترك توصيف الانسجام فلم يحدّد إن كان متعلّقاً بعلاقات أعضاء الفريق به وبرؤاه في الحكم؟ أم أن الحديث هنا يتناول علاقات أعضاء فريقه في ما بينهم؟ أو أن يكون الانسجام مع مصالح السوريين، طبعاً كما يراها هو وفريقه؟
مهما يكن الأمر، فإنه يبقى في حدود المألوف سياسياً، فحتى في الديمقراطيات الغربية كالولايات المتحدة مثلاً، اعتاد الرؤساء الأميركيون على إحضار فريقهم الخاص معهم، وغالباً ما يكون مؤلفاً ممّن عملوا في حملتهم الانتخابية، أو ممّن هم معروفون بتبنّي مواقف توافق رؤاهم السياسية أو الاقتصادية أو المالية أو الاجتماعية، لا بل أحياناً من يتبنّون مثلهم رؤىً تستند إلى أساس عقيدي أو ديني، كقضايا الإجهاض والمثلية والاستنساخ الجيني وكثير غيرها. هذا على مستوى الرؤساء، أمّا على مستوى الناخبين، فإن علمانية الغرب الصارمة في فصل الدين عن الدولة، لم (ولن) تستطع أن تنفي دور الدين والمذهب، بل حتى المناطقية في خيارات الناخبين، فليس من المصادفة أن الرؤساء الأميركيين كلّهم، قبل جون كينيدي، كانوا بروتستانت، وأن كينيدي وبايدن كانا الرئيسَين الكاثوليكيَّين الوحيدَين في تاريخ الولايات المتحدة، أمّا المناطقية فقد خدمت الرئيس كارتر الديمقراطي في حصد أصوات مزارعي الجنوب البيض المحافظين عموماً، الذين يميلون فطرياً إلى الحزب الجمهوري، إلا أنهم دعموه لأنه جنوبيٌّ منهم. في المقابل، ضمن مبدأ فصل السلطات رقابة حقيقية للسلطة التشريعية ممثلة بالكونغرس بمجلسيه (نواب وشيوخ) تشمل حقّ اعتماد أو رفض مرشحي الرؤساء الأميركيين لأغلب أعضاء فريقهم التنفيذي، حتى منصب السفير مثلاً يحتاج لإقراره من مجلس الشيوخ، الذي يستطيع بكل بساطة رفض مرشّح الرئيس لهذا المنصب.
كان عادياً، في الحالة السورية، أن تسيطر هيئة تحرير الشام، والفصائل المتحالفة معها تحت مسمّى “إدارة العمليات العسكرية”، على مفاصل السلطة العسكرية والأمنية بعد خروج الوريث الساقط، والإجراءات التي اتخذها إبّان خروجه، وبشكل مقصود ولافت، لتعطيل دور الجيش وأجهزة الأمن. أمّا منظومة الحكم المدنية ممثلةً بالحكومة فقد كانت الطرف المُغيَّب تماماً عما يدور، إلى أن تداعت إلى الاجتماع بمبادرة ذاتية، ووضعت نفسها تحت تصرّف إدارة العمليات العسكرية، عارضةً عليها تسيير أمور البلد اليومية، كما جاءت تصريحات محمد غازي الجيلالي، آخر رئيس وزراء للنظام. لم يستمرّ دور حكومة الجيلالي، بل ربّما لم يبدأ، فقد عيّنت إدارة العمليات العسكرية حكومةً مؤقتةً كان واضحاً أنها من لون سياسي واجتماعي، وربّما فكري، واحد، الأمر الذي برّره الشرع بأن هذا الفريق الصغير يملك خبرةً جيّدةً في العمل فريقاً متجانساً ومنسجماً، من خلال إدارته مرحلة إدلب، في الوقت نفسه الذي أكّد فيه تفهّمه أن سورية ليست إدلب، وإدارتها لن تكون كإدارة إدلب، وأن حكومةً موسّعةً تشمل الأطياف السورية كلّها سيتم تشكيلها، الأمر الذي أعلنه الشرع مع إعلان تولّيه مسؤولية رئاسة المرحلة الحالية، التي ربّما لن يستقيم وصفها بعد اليوم بالمؤقّتة، إذ إنها قد تمتد حسب تصريحاته لأربع سنوات، في المقابل أعلن الإعداد لمؤتمر حوار وطني شامل، أُعلِنت لجنته التحضيرية، وكان واضحاً في اختيار أعضائها مراعاة تمثيلهم أطيافاً معيّنةً، ولو بشكل خجول ومحدود.
سيكون يسيراً على الشرع أن يؤسّس مجالس وهيئات ولجاناً مُعيَّنة عديدة، وحتى المنتخبة، بتمثيل يوحي بأنه يغطّي عدة أطياف سورية، ولكن هذا لن يعني بالضرورة أن هذه الأطياف التي يُفتَرَض تمثيلها تشارك فعلاً في عملية الانتقال السياسي، التي صار واضحاً أنها تتمحور حول طيف سوري معيّن يشكّل سُنّة الأرياف نواته الصلبة. وهنا لا بدّ من الاعتراف ببراغماتية (وواقعية) الشرع، الذي أدرك خلال زمن قصير قاعدته الشعبية الأقرب إلى مناخاته، التي لو استمرّ بالاستثمار فيها بالوتيرة نفسها، في فترة المرحلة الانتقالية التي تنبأ لها بأربع سنوات، وقرّر أن يترشّح لأول انتخابات رئاسية في الجمهورية الجديدة، فإنه سيربحها بفارق مريح لصالحه. الأكثر أهميةً أنه في طريق الانتخابات لرئاسة الجمهورية الجديدة، فإن هذه النواة الشعبية الأقرب لفكر الرئيس الشرع ونهجه، والمستندة أساساً إلى سُنّة الأرياف، ستكون الأقدر في رسم ملامح الدستور السوري الجديد، والأكثر تمكيناً في غالب المجالس المنتخبة، كالنقابات والبلديات، وبنى الإدارة المحلّية كافّة. باختصار شديد، سيكون شكل سورية الجديدة أقرب إلى هذا الطيف السوري، في وقت ستشعر فيه أطياف أخرى بما فيها سُنَّة المدن بالتهميش واضمحلال دورها، بما ستكون له آثار سلبية جَمَّة، قد تبدأ بالتنمية ولا تنتهي بالسلم الأهلي، ولعلّ ما حدث في نقابة محامي دمشق واتحاد الصحافيين السوريين، من رفض قاطع لفرض مجلسي نقابة واتحاد لا يحظيان بتمثيل حقيقي خير دليل على ذلك، الأمر الذي استدعى تدخّلاً من الاتحاد الدولي للصحافيين، الذي وجه رسالة إلى الرئيس الشرع، ورئيس وزرائه محمد البشير، اعترض فيها على حلّ الاتحاد وتعيين مكتب مؤقت من خارج ممثّليه.
هنا، لا بدّ من الإشارة إلى أمر مهم، أن علاقة منطقة حوران بالمركز، التي لا تزال ملتبسةً في أحسن الأحوال (إن تحاشينا القول إنها غير موجودة بالمطلق)، ويردّها مراقبون إلى الحالة الفصائلية التي يشكّلها أحمد العودة، التي رفضت الانضواء تحت سلطة الإدارة الجديدة لما وصفته “بعدم وجود ضمانات كافية”، بينما تأخذ هذه الحالة أهميتها الشديدة من حقيقة لا يجري الحديث عنها، أن حوران تشكّل الاستثناء السوري الأبرز، إذا لم يكن الوحيد، في نواة الشرع الصلبة القائمة على سُنَّة الأرياف، التي ستكون رافعته في سورية الجديدة. لا شكّ في نيات الشرع، وسعيه جاهداً إلى برء الجسد السوري المثخن بالجراح والعقبات والصعاب، ولكن ليس مؤكداً ما إذا كان الفريق “المنسجم”، الذي يسعى من أجله قميناً بأن يحقّق ذلك. ما يمكن قوله بثقة إن المبالغة في حكاية الفريق “المنسجم” قد تقود إمّا إلى سورية غير منسجمة، أو منسجمة جدّاً بلون واحد محدّد، لا يغطّي جميع أطيافها السياسية والاجتماعية والفكرية، ولا الإثنية والطائفية، ما يذكّرنا بمقولة “سورية المفيدة”، الأمر الذي قد لا يحمل عواقب حميدة لهذا البلد، الذي بلغت آلامه حدّاً فاق التصورات كلّها.
رغم أن الواقعية السياسية تفرض ألا نهاجم الغرب في وقتٍ نعوّل فيه على مساعداته الاقتصادية، أو على الأقلّ رفع عقوباته عن سورية، إلا أن كاتب السطور لا يتمنّى، ولو لحظة، أن يكون انفتاح الرئيس الشرع على السوريين كلّهم، بمن فيهم الذين لا يشبهونه فكراً ونهجاً، مجرّد استجابة لرغبات الغرب والمجتمع الدولي، أو إذعاناً لشروطهم، فالكلّ يعلم أن مؤتمراتهم وفعّالياتهم، خصوصاً تلك المعنية نظرياً بمساعدة سورية، ليست جمعيات خيرية، بل هي واجهات لمصالحهم، ومن هنا يتمنّى طيف واسع من السوريين أن يكون انحياز الرئيس الشرع الوحيد إلى مصالح السوريين كلّهم، ومن الأطياف كافّة. ومن التاريخ القريب، نستذكر أن الرئيس المصري الراحل محمد مرسي اتبع سياسة “التمكين” الإخوانية في مصر، فعجّلت بسقوطه. التمكين الحقيقي يكون من خلال السوريين كلّهم، فالركون إلى المعادلات الدولية التي ساعدت في الوصول إلى دمشق غير مضمون البقاء فيها، خصوصاً أن هذه المعادلات هي التي أسقطت الأسد، فهي متغيّرة بسرعات كبيرة، وسورية والسوريون جميعاً، حكّاماً ومحكومين، هم الحلقة الأضعف فيها، والأقلّ تأثيراً.
العربي الجديد
—————————-
المعارضون الجدد والاستثمار في أخطاء الحكومة/ عبد القادر المنلا
2025.02.25
في بداية الثورة السورية، بدأت الأجهزة الأمنية التابعة للنظام البائد بابتداع مجموعة من الطرق التي تلاحق من خلالها السوريين بهدف ترهيبهم ومنعهم من الاستمرار في المظاهرات التي اعتبرها النظام العدو الأول والوحيد له، فقد هزت تلك المظاهرات ثقته بأبدية حكمه، فكرّس كل أدوات القمع وإرهاب الدولة لوأد الثورة في مهدها، وكان من ضمن تلك “الابتداعات” حينها اعتقال كثيرين ممن لم يشاركوا في المظاهرات وتوجيه تهمة “نية التظاهر” لهم، ومحاسبتهم على تلك النوايا على أنها “جريمة” لا تختلف عن “جريمة” التظاهر..
قتل المتظاهرين واعتقالهم لم يكن أمراً مفاجئاً بالطبع بالنسبة للسوريين لأنها ردة الفعل المتوقعة من نظام لا يعرف سوى البطش والعنف طريقاً للتعامل مع أي صوت لا يؤيده، أما أن يُعتقل كثيرون بتهمة نية التظاهر، فهي سابقة توثق باسم النظام البائد كماركة مسجلة وتضاف إلى سجله الإجرامي الذي لم تعرف البشرية مثيلاً له..
جوهر فكرة الاعتقال على نية التظاهر تتكرر اليوم من خلال كثيرين من معارضي الإدارة الجديدة الذين يلصقون تهماً مبكرة يفترضون أنها ستحصل ويحاسبون الإدارة عليها بشكل استباقي.
هؤلاء المعارضون الجدد يبدون في عجلة من أمرهم، متلهفين لرؤية أي خطأ أو تجاوز، فرحين بوقوعه لأنهم يعتبرونه فرصة استثمارية لمشروعهم الخاص متناسين أن الإدارة الجديدة لم تكمل شهرها الثالث بعد.
بداية لا يمكن إنكار الأخطاء والتجاوزات التي يرتكبها أفراد في الإدارة أو حتى الإدارة ذاتها، وذلك أمر طبيعي ويمكن التعامل معه على أنه نوع من الهزات الارتدادية لزلزال سقوط الأسد، وتجدر الإشارة هنا إلى ضرورة وجود المعارضين الذين يتوجب عليهم نقد الممارسات والإشارة إلى كل تجاوز، وهذا النقد هو واجب وطني مفروض على كل مواطن لديه الحد الأدنى من الحرص على وطنه ومستقبل هذا الوطن، والمأمول من الإدارة الجديدة أن تأخذ تلك الانتقادات والمراجعات التي يقوم بها المواطنون على محمل الجد والمسؤولية، وأن تتعامل معها على أنها مرآة المرحلة، وأن تتعامل مع الناقد على أنه مستشار متطوع وليس بالضرورة خصماً سياسياً يجب إقصاؤه أو إسكاته، وأن رأيه لا يمكن إهماله أو التقليل من شأنه مهما كان حجم مساهمته في تصويب المسار، فالمعارضة بمعناها العميق وكما يتم التعامل معها في الدول الديمقراطية والمتطورة هي جزء من الحكومة حينما تكون رسمية ومنظمة، وجزء من الأصوات الهامة في الدولة حينما تكون معارضة أفراد..
غير أن موجة المعارضين الجدد المنتشرين حالياً وبشكل خاص على وسائل التواصل الاجتماعي يحددون معنى المعارضة بضرورة القطيعة المباشرة مع الإدارة الجديدة وإشهار العداء لها إلى الحد الأقصى وحرق المراكب مبكراً، معتمدين على تلك التجاوزات التي يتم تضخيمها أحياناً واختلاقها أحياناً أخرى والتحذير من كوارث يتوقعون حدوثها مستخدمين لغة اليقين في محاولة استباقية لوضع العصي في العجلات وعرقلة مسار سوريا الجديدة متوارين خلف حرصهم على الوطن من دون إدراك مدى ما يثيرونه من عداء وكراهية وإعادة التفرقة بين السوريين بعد أن وحدهم سقوط النظام البائد..
إن ما يفعله كثير من المعارضين الجدد يشابه تماماً ما فعله النظام حينما كان يعتقل السوريين بذريعة “نية التظاهر”، فهم يحاكمون الإدارة الجديدة بذرائع متعددة مثل نيتها في أسلمة الدولة واضطهاد الأقليات والانتقام من الطائفة العلوية والتدخل في عقائد الأفراد وممارساتهم الشخصية وفرض الحجاب على المرأة، وكل تلك التهم لم تحدث بعد على الأرض إلا من خلال بعض الحوادث الفردية التي لم يدعمها الخطاب الرسمي بل لا يزال يؤكد على عدم نيته في تطبيقها.
كما يعتمد المعارضون الجدد أيضاً على حوادث تاريخية سابقة تؤكد توقعاتهم كما حدث في إيران مثلاً بعد ثورة الخميني وما حدث في العراق وفي مناطق أخرى من العالم، أي أنهم مصرون على قياس الحالة السورية بمسطرة مستعارة لتأكيد وجهة المسار السوري وتأكيد سوداوية القادم رغم أن كل المؤشرات تقول عكس ذلك على الأقل حتى هذا التاريخ..
وإذا ما تعمقنا قليلاً في خطاب المعارضين الجدد -رغم أن منهم معارضين قدامى للنظام السابق أيضاً- سنجد أن معظمهم ينتمي إلى فئة المصدومين من سقوط نظام الأسد، فبعضهم امتهن المعارضة، وتعوّد على معارضة النظام البائد إلى الأقصى وحدد وجوده كمعارض محترف، أو كشخص امتهن المعارضة ولم يعد لديه حرفة أخرى، فلا بد أن يستمر في مهنته بذات الطريقة العنيفة من دون أن يعطي للإدارة الجديدة الفرصة الكافية لامتحان حقيقة توجهها حرصاً على ألا يخسر موقعه كمعارض..
بعض معارضي الأسد ممن طلبوا اللجوء في أوروبا ولم تستكمل إجراءاتهم بعد، وجدوا في سقوط النظام كارثة خلخلت حساباتهم في الحصول على الإقامة في دول الاتحاد الأوروبي، ولم يعد أمامهم إلا استكمال مشوار معارضتهم بإضافة رصيد جديد في معارضة الإدارة الجديدة، وما حالة العنف والعداء التي يبدونها في شكل معارضتهم إلا لإثبات أنهم سيكونون في خطر إذا تمت إعادتهم إلى سوريا حيث يمكن أن يتعرضوا للاعتقال أو التصفية من قبل “الجماعات الجهادية”، وهم يركزون بشكل كبير على أن الإدارة الجديدة هي تلك الجماعات الجهادية ذاتها التي تصنفها أوروبا كجماعات إرهابية، وبهذا وحده يضمنون استكمال إجراءات اللجوء والعيش في أوروبا.
ثمة من وجدها فرصة أيضاً لتحقيق شعبية كبيرة من خلال الاستثمار في مخاوف الأقليات، ولا سيما مخاوف العلويين، وكثير من هؤلاء كانوا مغمورين لفترة طويلة، وتعاملوا مع مهنة المعارضة على أنها فرصة للظهور والشهرة، وفرصة لتصدير أنفسهم على أنهم المخلّصون والزعامات الشعبية التي يمكن الاعتماد عليها في المنعطف التاريخي الذي تمر به البلاد، مدعين أنهم حريصون على السوريين أكثر من إدارتهم الجديدة..
هناك فئة أخرى ممن يعتمدون على وسائل التواصل الاجتماعي كمجال حيوي للتكسب، ووجدوا في مهنة المعارضة فرصة لزيادة أعداد المتابعين وتحقيق انتشار أعلى لقنواتهم على تكتوك أو يوتيوب أو فيس بوك، وذلك سيبدو واضحاً من خلال متابعة بعض الأسماء التي قفزت نسبة متابعيها بشكل ملفت بعد عملهم كمعارضين للإدارة الجديدة من خلال تتبعهم للشائعات والمشاركة في نشرها وتثبيتها على أنها الحقائق الوحيدة في سوريا..
الدليل على أن هؤلاء ليسوا حريصين على الوطن بقدر حرصهم على ظهورهم هو أنهم لا يرون إيجابية واحدة في المسار السوري الجديد ويصرون على تكريس صورة سوداوية، بل الصورة الأشد سوداوية حتى من ذلك الواقع الذي كان يعيشه السوريون في ظل حكم عصابة الأسد، وهم يرفضون أي حوار سياسي ويدعون للإطاحة بالرئيس أحمد الشرع على اعتبار أنه يؤسس لحكم استبدادي طويل، وهنا تتشابه مواقف هؤلاء مع ابتداعات الأجهزة الأمنية التي كانت تعتقل الناس على النوايا..
إن سوريا الجديدة تمشي وسط حقل ألغام شديد الخطورة والتعقيد ومن واجب كل سوري أن يحاول انتزاع مخلفات الحرب التي شنها النظام البائد وأجهزته الأمنية على الشعب السوري وتنظيف الألغام أو بقاياها قدر ما يستطيع لا أن يقوم بزراعة ألغام جديدة، ومهما كثرت الأخطاء في هذه المرحلة الحرجة فلا يجب أن تكون شرارة لإشعال حرائق جديدة تسبب تدهوراً لا تحتمله سوريا بعد كل ما أصابها من دمار وتنكيل، لم تعد سوريا تحتمل دماء جديدة أيضاً بعد أنهار الدم التي سالت في قراها ومدنها، وربما هي الفرصة الأخيرة للسوريين للعمل معاً لإنتاج مرحلة البناء المطلوبة، والتي لا تتم إلا من خلال نبذ الافتراضات السوداوية اليقينية ورفض التحريض بكل أشكاله حتى وإن كان تحت غطاء الحرص على سوريا والخوف على مستقبلها، فثمة مخاض سياسي لا بد من عبوره لولادة سوريا الجديدة، ثمة صراع سياسي أيضاً وهو صراع إيجابي يمكن استثماره في الصالح العالم، ولكن محاولات تحويل هذا الصراع إلى انقسام وعسكرة ودعوات إلى حمل السلاح مرة أخرى والتمترس في الزوايا الضيقة والبحث عن المصالح الشخصية أو الانطلاق من المخاوف الخاصة، فكل ذلك سيعيد سوريا أعواماً للوراء وقد يطفئ بريق التعافي الذي يلوح الآن في الأفق رغم كل الأخطاء التي يمكن تجاوزها من خلال الحوار قبل أن نهدر الفرصة التاريخية التي كانت حلماً بعيد المنال، والتي لم تكن واردة حتى في خيالاتنا لولا معجزة التحرير ومعجزة لجم رغبات الانتقام الجماعي التي كانت تهدد مناصري النظام السابق حتى لو تم إسقاط ذلك النظام على يد أية قوة أخرى غير تلك التي أسقطته..
ذلك كله لا يعني غض البصر عن أخطاء المرحلة، فمن البديهي أن مديح الإدارة الجديدة وتمجيدها والتطبيل لها لا يقل ضرراً عن التحريض عليها واستعدائها، والحل الوحيد هو أن يأخذ المواطن السوري زمام المبادرة ليكون لاعباً وفاعلاً في الحدث ضمن المساحة السياسية المتاحة له والدور الوطني المعول عليه القيام به، والإشارة إلى الأخطاء ونقدها وعدم السكوت عليها هو واحد من أهم ما يتطلبه ذلك الدور شريطة الحذر من الوقوع في فخ التحريض والسلبية وإعادة حالة عدم الثقة بين السوريين وتفكيك ترابطهم مرة أخرى، والأهم من ذلك كله هو تجنب افتراض الكارثة والتعامل مع حدوثها كأنه الواقع الوحيد الذي ينتظر السوريين، لكي لا نعيد اعتقال سوريا على “النوايا” مرة أخرى..
من المفترض أن تكون الأخطاء التي ترتكبها حكومة أية دولة سبباً لوجع وألم عميقين للمواطنين والمعارضين على حد سواء، ولكن أن يتم استثمارها من قبل بعضهم للترويج لذواتهم والبحث عن أدوار يلعبونها على حساب مصلحة الوطن فهو في العمق فعل بعيد عن الهاجس الوطني مهما حاول هؤلاء المستثمرون الترويج له على أنه ليس كذلك..
تلفزيون سوريا
————————-
طرد الموظفين الحكوميين في سوريا وإعادة النظر بدور الدولة؟/ أحمد جاسم الحسين
2025.02.25
ما يحدث في سوريا اليوم على مستوى طرد الموظفين الحكوميين، ليس أمراً عابراً أو تغييراً مألوفاً، هو أقرب إلى زلزال في وعي المواطن السوري ومفاهيمه، بعيداً عن هل يستحق قسم منهم الطرد أم لا، وهل كان موظفاً وله مهام أم موظف “تخمة” إدارية؟
لأن هذا الطرد الذي تم تنفيذه، أو المزمع تنفيذه، يكسر بديهيات قارة في “العقل السوري” حول دور الدولة وواجباتها الاجتماعية ومفهوم الوظيفة الحكومية.
وأذكر فيما أذكر، أن أحد المعارف ممن استلم مناصب حكومية عدة، كان يعدّد حسنات ما قام به، حين أقيل من منصبه: وظفت من كل عائلة من عوائل أقاربي شخصاً، فصار لهم صوت ولديهم مورد رزق، وباتت تقضى حوائجنا في كل الدوائر الحكومية على مستوى المحافظة!
في أكبر عملية طرد للموظفين الحكوميين تشهدها سوريا (حوالي نصف مليون كما يقال) لدينا عدد من الأطراف، كل منها ينظر إلى الموضوع بعين مختلفة: الحكومة الطاردة ترى أنهم تخمة وهذه العملية إصلاح إداري ضروري لتخفيف العبء عن الدولة ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب وضرورة التخلص من مفاهيم النظام السابق وفساده، والموظف ذاته وأهله يرون أنها قطع رزق وتخل من الدولة عن أحد أدوارها الرئيسية، وزملاء الموظف المطرود يحمدون ربهم أنهم لم يطردوا ويتذمرون من تحويل مهام وظيفية جديدة لهم وزيادة العبء، والمعارضون فرصة للاستثمار والحديث عن السلبيات، والموالون يتحدثون عنها بصفتها أحد أنواع الفساد التي قام بها النظام السابق التي وجب تصحيحها.
أول وصولنا إلى هولندا، كنا نقدّم أقصى ما لدينا من إثباتات حول ما قمنا به في حياتنا وما حصلنا عليه من شهادات، على أمل الحصول على وظيفة حكومية! ولم نصدق أو نستوعب بعد مرور، عقد ونيف، أن الدولة ليس لديها وظائف، دولة دون وظائف للمواطنين ليست دولة! كنا نعتقد أن في “جيب الدولة” وظائف يجب أن توزعها على الشعب كجزء من دورها الاجتماعي.
لاحقاً اكتشفنا أن الدولة الهولندية مهمتها الرئيسية تأمين جباية الضرائب والإشراف على تقديم الخدمات الأساسية للمواطن من ماء وكهرباء ومشاف وطرق وتعليم وبيوت، وأن دورها الرئيس هو في رعاية الطبقة الفقيرة، أي التي تكسب بما يكفيها قوت يومها والحوكمة والمراقبة لضمان سير الحياة بطريقة سليمة. وأن مفهوم التوظيف مختلف كلياًُ عن سوريا حيث يكاد لا يوجد وظيفة دائمة بل وظيفة بحسب الحاجة، وأن الدولة تكاد تكون بلا موظفين!
أذكر أنه مرّ في حياتي الوظيفية في سوريا، مواقف يأتيك فيها مواطن، ويقول لك: أنتم الدولة، حلّوها، أو إذا الدولة لم تحلها فمن سيحلها! وقد يكون ذلك الطلب مخالفاً لكل النواظم الإدارية، من هنا فإن معظم المسؤولين في سوريا يتفنون في اختيار المدير القانوني والإداري في الدائرة أو المحافظة أو المديرية أو الوزارة لأن مهمته الرئيسية إيجاد مخارج للمسؤول أو البحث عن حلول ومخارج للقرارات الإدارية، خاصة إن كان صاحب الواسطة مخابراتياً لا يرد له طلب.
كثيرون يظنون أن الدولة يجب أن يكون لديها كل الحلول، فهي التي تعتقلنا وتضعنا في السجون والمعتقلات، أو ترفعنا لنصبح وزراء حتى لو كنا كبار الفاسدين أو كان أحد منا صف ضابط في المخابرات، أو لدينا سيرة ذاتية غير ملائمة.
لكنها الدولة التي أحضرت لنا الماء والكهرباء والطرق والمدارس، وهي تلك المطية الاشتراكية التي تؤمن لنا “بونات” الشاي والسكر والمحارم والزبدة، ومتى ما تعرضنا لضائقة مالية نلجأ إليها لتنقذنا.
التماهي بين المواطنين والدولة جعل شعور المواطن السوري شعوراً متناقضاً: حين يريد أن يسرق منها فيقول: هذه أموال دولة! بمعنى لا راع لها، أو هي ملك الجميع “وحلال ع الشاطر” وهناك مرتشون كبار كان يشاد بأخلاقهم أنهم” لا يرتشون من المواطن بل من من مناقصات الدولة أو أموال الدولة”.
نتذكر أن المستوصفات الحكومية والمشافي كان اسمها “أبو بلاش” وصار أبو بلاش رمزاً لكل ما هو حكومي وهو متاح للجميع، كنوع من إعادة اقتسام رأس المال الذي تديره الدولة!
جعل النظام المخلوع وما سبقه الدولة في سوريا متماهية مع كل السلطات ومع الولاء له، وحزب البعث كذلك، لذلك كان من لا ينتمي للحزب، هو لا يعبر عن موقف سياسي- وفقاً للأدبيات السائدة- بل هو ضد الدولة، من هنا فإن من اختار خيار المعارضة في سوريا أثناء ثورة 2011 غالباً ما جاءته رسالة قيل له فيها: يا ناكر الجميل! الدولة علمتك ودرستك والقائد حماك وحمى البلد وعلمك ووظفك… والآن تصطف مع الكارهين ضد الدولة؟
المواطن السوري اليوم بحاجة إلى إعادة تعريف موقعه في الدولة، وموقع الدولة في رأسه هل هو رعية أم مواطن؟ وقبل أن تطلب من الدولة أن تعتبرك مواطناً، عليك أن تزيل مفهوم الرعية من رأسك، الكرة ليست دائماً في ملعب الدولة بل قد تكون في ملعبك هذه المرة، الدولة الناجحة تحتاج مواطنين لا رعايا…والشخص المنتج والمؤثر والمساهم والفاعل يحتاج دولة وليس حكماً استبدادياً، لكن مهلاً المواطن عليه واجبات كثيرة، ولا يمكنك أن تكون مواطناً في الحقوق ورعية في الواجبات!
قد يكون لدى الأجيال اللاحقة فرصة للتخلص من شعور أن الحكومة أو الدولة قاما بكل شيء، وأنجزا الكثير مما يحلم به المواطن السوري، في حالتنا هنا يتماهيان مفاهيمياً وفي الاستعمال، ينتجان حالة من الإضافة إلى مفاهيم العلوم السياسية حيث تتقاطع الدولة مع الحكومة واقعاً واستعمالاً، على الأقل في أذهان الناس.
واليوم في مؤتمر الحوار الوطني السوري، ينتشر لوم كبير بين من حضر ومن لم يحضر، أو بين من دعي ومن لم يدع، مشاحنات ووجهات نظر حول الأولويات، ويأخذ فريق على فريق انشغاله بالخدمات اليومية على حساب الاستراتيجيات التي يرى كثيرون أنها مهمة الدولة وليس من حق المواطنين مناقشتها.
في كل قرية ومدينة حكايات عن قدرة الدولة العجيبة على الفعل، وها هنا لامجال للتفريق بين الحكومة والسلطة والدولة، لأن المواطن السوري لديه مصطلحات خاصة عن الدولة والحكومة؛ فالدولة هي الحكومة والحكومة هي الدولة، ولعلنا نتذكر مقولة: “نحن الدولة ولاك!” أي أن هذا التماهي هو تماه مألوف، فتاريخ الدولة لم يفصل بين السلطة والحكومة أو القائد الذي تعود إليه كل السلطات!
ربما الأجيال القادمة التي ستعيش ضمن أطر قانونية ويجدون أن الدولة موجودة من قبل ولم تبدأ بالخدمات الأساسية في حياتهم سيفهمون أن الدولة لها حدود، وقدراتها ليست مفتوحة بل مرتبطة بقوانين وخطط ومسارات.
ثمة قناعة لدى السوريين أنك حين تكون في وظيفة ستحتاجك الناس مهما كان موقعك الإداري حتى لو كنت مستخدماً دون شهادت ولا تجيد القراءة والكتابة لأنك ستكون فناناً في تمريق المعاملات، وكذلك أنت باق والمدير مهما بقي مديراً ذاهب، إضافة إلى أن المستخدم مخبر لكل فروع المخابرات. وعين المدير على الموظفين والعكس، وهو في صف الأقوى، وهو الوحيد الذي يحتاج الجميع إلى خدماته، وهناك ولع سوري لدى أشخاص كثيرين بالصداقة مع المؤسسات الحكومية بخاصة من خلال مهنة معقبي المعاملات.
هذه المقال هو عين أخرى لمادة مهمة كتبها الصديق ماهر الوكاع مدير الموقع قبل أيام عنوانها: هل فصل موظفي الحكومة في سوريا سياسة خاطئة؟ تضمنت أفكاراً حول: لماذا يحرص السوريون على الوظيفة وفصل الموظفين في ظل الإدارة الجديدة، وأسباب الفصل والتضخم الوظيفي في ظل النظام السابق حيث توقف عند السؤال الرئيسي: هل الحكومة السورية بحاجة إلى هذا الكم الفائض؟ وقارن مع دول أخرى ورؤى اقتصادية بحثية وموقفها من تضخم عدد الموظفين مؤكداً فكرة ملفتة كلما تغولت الدولة بالعدد الوظيفي تمكنت من السيطرة على الفضاء العام أكثر وأكثر! ثم يقر بأن الخصخصة وفتح المجال العام الحر إن لم ترافقه حوكمة فإن سيولد حالات جديدة من العبودية الوظيفية. ويدعو في النهاية إلى المحافظة على الكفاءات وعدم التخلي عن الأكثر فقراً.
العيش في الدولة بعيداً عن الوظيفة الحكومية تجربة مفيدة من المهم أن يعيشها السوريون، لعلها تفتح لهم الباب كي يفكروا في مشاريع جديدة، فالوظيفة أمان لكنها عبودية مُقنَّعة كذلك!
يحدثني قريب لي: اعتقل ابنه قبل ثورة 2011 لأنه يحمل مسدساً غير مرخص، ما الحل؟ الحل عند الدولة؟
ذهبوا إلى قاضي محكمة البداية، فقال لهم: الحل أن تنسِّبوه إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، وترفِّعونه إلى عضو عامل في الحزب، ثم تسلِّمونه مسدساً حزبياً بذات رقم المسدس الذي وجدوه معه، ويسجل المسدّس كمسدس حزبي، استلمه ليدافع عن الدولة، ونختم القضية، وكل ذلك بتواريخ سابقة!
تلفزيون سوريا
———————————
أميركا أمام فرصة تاريخية في الشرق الأوسط/ فيليب غوردون
ترمب يتمتع بنفوذ كبير ولكن عليه أن يستخدمه بحكمة
الثلاثاء 25 فبراير 2025
شهدت السياسة الأميركية في الشرق الأوسط إخفاقات متتالية على مدى العقود الثلاثة الماضية، لكن المشهد الإستراتيجي الحالي يتيح فرصاً جديدة قد يستغلها ترمب لصياغة اتفاقيات دبلوماسية تاريخية أو إشعال مزيد من الأزمات.
على مدى عقود عدة كان الشرق الأوسط مقبرة للطموحات الدبلوماسية، ففي الأقل منذ مغادرة الرئيس الأميركي جورج بوش الأب منصبه في أعقاب حرب الخليج، انتهى الأمر بالرؤساء الأميركيين إلى ترك المنطقة في حال أكثر خطورة مما كانت عليه عند توليهم السلطة، على رغم فترات وجيزة من التفاؤل في كثير من الأحيان.
كانت لدى بيل كلينتون آمال كبيرة في التوصل إلى اتفاق سلام تاريخي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وقد تمكن من تقريب الطرفين خلال “قمة كامب ديفيد” عام 2000، بيد أن رئاسته انتهت بانهيار المحادثات وبداية الانتفاضة الثانية الدموية، وبعد هجمات الـ 11 من سبتمبر (أيلول) على الولايات المتحدة نجح جورج دبليو بوش في الإطاحة بنظام صدام حسين في العراق تحت شعار تحويل المنطقة، لكنه سرعان ما وجد أن هذا المشروع تحول إلى مستنقع أودى بحياة آلاف الأميركيين وعزز نفوذ إيران، وقد سعى باراك أوباما إلى اغتنام فرصة الربيع العربي عام 2011، وعلى رغم أنه تفاوض على اتفاق نووي مع إيران لكن تطلعاته إلى إرساء الديمقراطية والتعاون الإقليمي تبددت بسبب انقلاب دموي في مصر وصعود تنظيم “داعش” في العراق واندلاع حرب أهلية مدمرة في سوريا.
أما دونالد ترمب فقد اعتقد خلال ولايته الأولى أن انسحابه من الاتفاق النووي الذي أبرمه أوباما وقتل قاسم سليماني سيقللان من التهديد الإيراني، ولكن عند مغادرته منصبه عام 2021 كانت طهران توسع برنامجها النووي وتستخدم وكلاءها لمهاجمة القوات الأميركية وجيران إيران، وأخيراً حرص جو بايدن الذي تعلم من الإخفاقات السابقة على تجنب الطموحات الكبرى، فركز على تحقيق الاستقرار في المنطقة لكنه وجد نفسه في عامه الأخير في الحكم منشغلاً بالكامل بتداعيات هجمات “حماس” على إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وما أعقبها من أهوال الحرب في غزة.
مع تاريخ كهذا قد يبدو من السذاجة تخيل أن يكون للشرق الأوسط اليوم أي دور سوى إثارة المتاعب للرئيس الأميركي الجديد، وإذا كان هناك شيء قد أثبتته الأعوام الـ 30 الماضية فهو أن الشرق الأوسط لا يمكن تجاهله على الإطلاق وهو لا يكف عن مفاجأة الجميع، ومهما بدا الوضع سيئاً فإنه قد يزداد سوءاً دائماً. ولكن على رغم المشكلات والأخطار الحقيقية التي تواجه المنطقة، فإن ترمب في الواقع يرث مجموعة من الفرص، وفي بعض النواحي قد يكون في وضع جيد للاستفادة منها، وهو أمر أقر به حتى بصفتي أحد أشد منتقدي ترمب ومستشاراً سابقاً للأمن القومي لنائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس، فإضافة إلى المشهد الإستراتيجي الجديد الذي ورثه فقد تمنحه تصرفاته غير المتوقعة نفوذاً في التعامل مع إيران وإسرائيل ودول الخليج وغيرها، وقد يتمكن من تمرير سياسات في الكونغرس مثل التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، وهو ما لم يستطع أي رئيس ديمقراطي فعله.
لكن ترمب قادر أيضاً، بلا شك، على زيادة مشكلات الشرق الأوسط بصورة فريدة، وقد بدأ في ذلك بالفعل من خلال قراره قطع المساعدات الأميركية الحيوية عن المنطقة ودعوته إلى ترحيل سكان غزة والاستيلاء عليها، وسيعتمد مصير الشرق الأوسط خلال الأعوام الأربعة المقبلة إلى حد كبير على ما إذا كان ترمب سيتمكن من استغلال هذه الفرص الإستراتيجية أو إضاعتها باندفاعاته ونزواته المتهورة.
صفقة جديدة
أول فرصة ورثها ترمب تتعلق بإيران التي كانت لعقود في صميم مشكلات الشرق الأوسط، واليوم تبدو طهران أضعف وأكثر عرضة للضغوط مما كانت عليه منذ الثورة الإيرانية عام 1979، فاثنان من أبرز وكلائها، وهما “حزب الله” في لبنان وحركة “حماس” في غزة، قد دُمرا عسكرياً، كما أن ترسانتها من الصواريخ الباليستية التي كانت لفترة طويلة بمثابة خط دفاع ثان إلى جانب أولئك الوكلاء أثبتت عدم فعاليتها ضد الدفاعات الجوية الإسرائيلية التي تدعمها الولايات المتحدة وغيرها من القوى الإقليمية، وأما سوريا، الشريك الإقليمي الرئيس لإيران، فلم يعد يحكمها حليفها بشار الأسد، بل تحالف مناهض لإيران حرم طهران من جسرها البري إلى لبنان، وعلاوة على ذلك أثبتت الدفاعات الجوية الإيرانية عدم كفاءتها في مواجهة الضربات الجوية الإسرائيلية خريف عام 2024 لدرجة أن إيران شعرت بضعف شديد للغاية دفعها إلى الامتناع حتى من محاولة الرد.
وفي الوقت نفسه فإن الاقتصاد الإيراني الذي دمرته أعوام من سوء الإدارة والعقوبات الأميركية والدولية وفترة من انخفاض أسعار النفط يعاني ضغوطاً هائلة، وهو وضع لا يمكن أن يشكل أساساً لمعالجة الثغرات الجديدة في قدراتها الدفاعية والردعية.
وفي ظل هذه الظروف الجديدة فليس من المستغرب أن القادة الإيرانيين قد بدأوا في الإشارة إلى انفتاحهم على اتفاق نووي جديد، لأن البدائل عن هذا الاتفاق باتت بالنسبة إلى إيران أسوأ من أي وقت مضى، وفي الواقع اُنتخب الرئيس مسعود بزشكيان عام 2024 على أساس برنامج يهدف إلى تحسين الوضع الاقتصادي، والطريقة الوحيدة الممكنة لتحقيق هذا الهدف هي إبرام اتفاق دبلوماسي مع الولايات المتحدة والحصول على تخفيف للعقوبات، وعلى رغم أن المرشد الأعلى علي خامنئي، المتشدد والمتشكك في المحادثات منذ فترة طويلة، يظل صاحب القرار النهائي، لكنه يدرك أن قدرة إيران على ردع الضربات العسكرية ضد برنامجها النووي أو بنيتها التحتية في قطاع الطاقة التي تعتمد على الوكلاء والضربات الصاروخية الباليستية ضد إسرائيل والدفاع الجوي المحلي، قد تضاءلت بصورة كبيرة، وكذلك يدرك القادة الإيرانيون أن استعداد الولايات المتحدة وإسرائيل لتنفيذ ضربات هجومية قد ازداد، بخاصة مع تصاعد جرأة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وترمب الذي لا يمكن التنبؤ بتصرفاته.
وقد أبدى ترمب اهتمامه بإبرام اتفاق جديد، وقد يدفع المشهد الإستراتيجي المستجد إيران إلى تقديم تنازلات أكبر بكثير مما كان متصوراً في السابق، ومن بين التنازلات التي لم تكن ممكنة في الماضي لكنها قد تصبح كذلك اليوم، فرض قيود صارمة على مستويات تخصيب اليورانيوم ووضع شروط غير محدودة الصلاحية وقيود على الصواريخ الباليستية، بل وحتى قيود على التدخل الإيراني في المنطقة (بخاصة أن وكلاء إيران قد تعرضوا لانتكاسات كبيرة بالفعل).
وقد يشمل الاتفاق الجديد أيضاً منع إيران من تخصيب اليورانيوم محلياً في مقابل السماح لها بالوصول إلى بنك وقود دولي، وهو حل يمكن أن يمنح طهران فرصة القول بإنها احتفظت بحقها في استخدام الطاقة النووية للأغراض المدنية، في حين يتيح لترمب والحكومة الإسرائيلية الزعم بأنهما منعا إيران من التحكم في عملية التخصيب.
وعلى رغم هذه الظروف الإستراتيجية الجديدة فستبقى هناك حدود للتنازلات التي قد تقدمها إيران، وقد يبالغ ترمب في مطالبه أو يسعى حتى إلى تغيير النظام في طهران، لكن ينبغي أن يكون من الواضح أن أي اتفاق يمنع إيران بصورة موثوقة من تطوير سلاح نووي ويحد من نفوذها الإقليمي سيكون جذاباً، والواقع أن الجمع بين ضعف إيران وتزايد صدقية التهديد الأميركي باستخدام القوة يجعل هذا الاتفاق أكثر واقعية من أي وقت مضى، وإذا تمكن ترمب من التفاوض على مثل هذا الاتفاق فسيكون قادراً على التفاخر بأنه حصل على “صفقة أفضل” من تلك التي توصل إليها أوباما، ثم سيقنع الكونغرس بها.
الحرب والسلم
إن الفرصة الثانية التي تلوح أمام ترمب في المنطقة هي إنهاء الحرب في غزة، التي تشكل أكبر انتكاسة للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط منذ حرب العراق، ثم الشروع في العملية الطويلة المتمثلة في تحقيق الاستقرار في “اليوم التالي”، فمنذ الهجوم المروع الذي شنته “حماس” على إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023 وما تبعه من رد إسرائيلي، كان الوضع في غزة مأساة لا تحتمل، لكن اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى الذي توصلت إليه “حماس” وإسرائيل في الـ 15 من يناير (كانون الثاني) الماضي، بعد أشهر عدة من الجهود الفاشلة وبمساعدة من فريق ترمب القادم، يوفر مساراً محتملاً لإنهاء الحرب أخيراً، فبعد 15 شهراً من الدمار والمعاناة غير المسبوقين أوقفت إسرائيل العمليات العسكرية الكبرى وبدأت “حماس” في إطلاق الرهائن، فيما شرع سكان غزة في العودة لأحيائهم.
لكن المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار محدودة في الوقت والنطاق ومن غير المضمون أن تستمر، وسيتطلب الانتقال إلى المرحلة الثانية اتخاذ قرارات أكثر صعوبة في شأن إطلاق سراح (بمن في ذلك الجنود الإسرائيليون)، وتحرير سجناء اعتقلتهم إسرائيل (بمن في ذلك مزيد من المسلحين)، وفي نهاية المطاف حسم مصير “حماس”، وفي الوقت نفسه كانت صور الرهائن الإسرائيليين الهزيلين الذين أُطلقوا في الثامن من فبراير (شباط) الجاري بمثابة تذكير صارخ لإسرائيل بضرورة التوصل إلى اتفاق في شأن المرحلة الثانية قبل أن يلقى مزيد من الرهائن حتفهم.
وعلى نحو مماثل يجب على “حماس” أن تدرك أيضاً أن إنهاء الاتفاق لن يكون لمصلحتها، فلقد توعد ترمب الحركة بـ “الجحيم” إذا رفضت الصفقة، وهي تعرف أن “الفرسان” الذين كانت تعتمد عليهم، ولا سيما “حزب الله” وإيران، لن يأتوا لإنقاذها، وهو أحد الأسباب الرئيسة وراء موافقتها على وقف إطلاق النار وتبادل الرهائن في المقام الأول.
إذا تمكن ترمب من المساعدة في تمديد الاتفاق بين “حماس” وإسرائيل، أو حتى منع تجدد القتال، فستكون لديه فرصة لبدء وضع اللبنات الأساس للاستقرار في غزة والضفة الغربية، وعلى المدى الطويل لاتفاق سلام لطالما سعى إلى إبرامه بين إسرائيل والسعودية، ليكون امتداداً لـ “اتفاقات أبراهام” التي تفاوض عليها خلال ولايته الأولى.
وهذه الرؤية التاريخية لا تتطلب إنهاء الحرب في غزة وحسب، بل أيضاً التزاماً إسرائيلياً بمسار يقود إلى إقامة دولة فلسطينية، ومن المؤكد أن تقديم مثل هذا الالتزام أمر يصعب تصوره في ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية، لكنه لن يكون مستحيلاً ربما تحت ضغط ترمب الذي سيكون في موقع فريد للتأثير في إسرائيل، بخاصة إذا رأى في ذلك طريقاً لنيل “جائزة نوبل للسلام”.
وهناك أيضاً أهداف أكثر واقعية ومحدودية يمكن لترمب أن يعمل على تحقيقها إذا كان راغباً في ذلك، على غرار المطالبة بإصلاح حقيقي للسلطة الفلسطينية مع اقتراب خروج الرئيس محمود عباس البالغ من العمر 89 سنة من المشهد؛ وإقناع إسرائيل بقبول دور للسلطة الفلسطينية في إدارة غزة بعد الحرب، وهو ما قد تراه العناصر الباقية من “حماس” خياراً أقل ضرراً من استمرار التدمير، وإقناع دول الخليج العربي التي تحرص على الحفاظ على علاقات جيدة مع الإدارة الأميركية، بتقديم الدعم السياسي وأموال إعادة الإعمار، وربما قوات أمنية لدعم اتفاق السلام.
لكن المشكلات والتحديات ستظل هائلة حتى مع حدوث هذا التقدم، بيد أنها ستبدو ضئيلة وتافهة مقارنة بالدمار والانقسامات والمعاناة التي سبقت اتفاق وقف إطلاق النار، وسيحصل ترمب عن حق على الفضل في ذلك.
توجه الأنظار نحو لبنان
لقد ورث ترمب أيضاً فرصاً في لبنان الذي بدت آفاقه قاتمة حتى قبل الحرب بين إسرائيل و”حماس”، لكنها ساءت بصورة واضحة عندما وجهت إسرائيل قواتها نحو “حزب الله” مما أدى إلى سقوط آلاف الضحايا وتهجير عشرات آلاف المدنيين، فلقد عانى لبنان لعقود من الزمان هيمنة “حزب الله”، ومنذ عام 2011 استقبل أكثر من مليون لاجئ سوري بسبب الحرب في بلادهم، ولكن مع تراجع قوة الحزب أتيحت للبلاد أخيراً فرصة التحرر من قبضة إيران وإقامة دولة أكثر فاعلية وسيادة.
في الواقع تنبع هذه الفرصة من الخسائر الهائلة التي تكبدها “حزب الله” منذ أن ارتكب خطأ خوض الحرب مع إسرائيل في أعقاب هجمات السابع من أكتوبر 2023، وعلى رغم أن بعض الأصوات في إسرائيل دعت منذ البداية إلى إطلاق عملية عسكرية كبرى ضد “حزب الله” لكن نتنياهو امتنع في البداية، ويرجع ذلك جزئياً إلى الضغوط من إدارة بايدن لتجنب التصعيد الإقليمي، ولكن مع استمرار هجمات “حزب الله ” على شمال إسرائيل ومنعه عشرات آلاف النازحين الإسرائيليين من العودة لمنازلهم، نفد صبر إسرائيل.
في الأشهر الأخيرة من عام 2024 صعدت تل أبيب ضرباتها العسكرية ضد “حزب الله”، بما في ذلك هجمات أجهزة البيجر التي أسفرت عن تعرض آلاف المقاتلين لإصابات جسدية، واغتيال مسؤولي “حزب الله” بمن في ذلك أمينه العام حسن نصرالله، والغارات الجوية المتواصلة على بنيته التحتية العسكرية مما أدى إلى تدمير المنظمة سياسياً وعسكرياً بصورة تدرجية، وبحلول نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، خوفاً من تكبده مزيداً من الخسائر وبعد أن أدرك أن إيران ليست في وضع يسمح لها بالدفاع عنه، وافق “حزب الله” على اتفاق لوقف إطلاق النار مع إسرائيل، وهو اتفاق لم يشمل شرط الحزب المسبق بإنهاء الحرب في غزة، وفرضَ عليه سحب قواته إلى شمال نهر الليطاني، وسمح بانتشار آلاف من عناصر الجيش اللبناني في منطقة عازلة في الجنوب.
وإضافة إلى ذلك مهد هذا الاتفاق الطريق لتحقيق إنجاز في السياسة اللبنانية وهو اختيار رئيس جديد، قائد الجيش السابق جوزاف عون، ورئيس وزراء جديد القاضي المحترم نواف سلام، وكلاهما ملتزم بتحسين الحكم وضمان استقلال الدولة اللبنانية.
لا شك في أن “حزب الله” سيظل يمارس تأثيراً كبيراً في السياسة اللبنانية، بيد أن نفوذه قد تراجع بصورة ملحوظة، فالشعب اللبناني سئم من نتائج قيادته، وبطريقة موازية تضررت قدرة إيران على إعادة إمداد الحزب بالسلاح بسبب خسارة نفوذها في سوريا، وفي المقابل من الممكن أن تفوز الحكومة اللبنانية الجديدة بالدعم السياسي والاقتصادي والعسكري الدولي الذي تحتاج إليه لتحقيق النجاح، بما في ذلك من الولايات المتحدة، وإذا تمكن ترمب من التغلب على نزعاته المعارضة للمساعدات الخارجية فستتاح له الفرصة لمساعدة الحكومة والجيش اللبنانيين على امتلاك الوسائل والثقة اللازمة لتهميش “حزب الله” أكثر والحد من نفوذ إيران.
سوريا جديدة
أخيراً، وبشكل مذهل، ظهرت فرصة في سوريا التي كانت ربما المنطقة الأكثر اضطراباً وزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط على مدى الأعوام الـ 15 الماضية، فبحلول عام 2020 وبعد أعوام من محاولات عزل الدكتاتور السوري بشار الأسد، بل وحتى الإطاحة به، كانت الولايات المتحدة وعدد من حلفائها العرب والأوروبيين قد قبلوا في الغالب بالواقع المرير المتمثل في استمرار حكم الأسد، ولكن مع التركيز العالمي بشكل مبرر على الوضع في غزة وتدهور نفوذ إيران بسبب صراعها مع إسرائيل وتراجع قوة روسيا نتيجة حربها مع أوكرانيا، تمكنت المعارضة السورية بقيادة جماعة “هيئة تحرير الشام” من اغتنام الفرصة للتحرك، ولم يكن من قبيل المصادفة أن تشن “هيئة تحرير الشام” وحلفاؤها هجومهم العسكري مباشرة بعد اتفاق وقف إطلاق النار بين “حزب الله” وإسرائيل، مما ضمن عدم تدخل الحزب لإنقاذ الأسد مثلما فعل عام 2011 عندما كان على وشك السقوط.
وقد يكون من المفاجئ بالدرجة نفسها أيضاً أن “هيئة تحرير الشام” التي لا تزال الولايات المتحدة تصنفها كمنظمة إرهابية، أعلنت التزامها بضمان حقوق الإنسان واحترام الأقليات والنأي بنفسها عن ماضيها الإرهابي، لا بل بدأت حتى في اتخاذ خطوات نحو تنفيذ هذا الالتزام. وفجأة رحل النظام السوري الذي كان الحليف الرئيس لإيران في الشرق الأوسط وقناة لنقل الأسلحة إلى “حزب الله” ومضيفاً للقوات العسكرية والقواعد البحرية الروسية، ومصدراً رئيساً للمخدرات وداعماً للإرهاب، وحلت محله فرصة لتشكيل سوريا جديدة، ولا يزال يتعين على الرئيس الجديد أحمد الشرع أن يثبت التزامه ببناء سوريا أفضل، ولكن قبل ثلاثة أشهر وحسب، كانت فكرة أن يحظى ترمب بفرصة لدعم سوريا من هذا النوع مجرد حلم بعيد المنال.
لن تكون السياسة الأميركية هي العامل الحاسم والأهم الذي يحدد النجاح أو الفشل في سوريا، بيد أن واشنطن يمكن أن تُحدث فرقاً، فقد يلغي ترمب، على سبيل المثال، إدراج “هيئة تحرير الشام” على القائمة الأميركية للإرهاب في مقابل الحكم الرشيد والتعاون في تحقيق أهداف مكافحة الإرهاب، بما في ذلك التفاوض على وجود عسكري أميركي في الشمال الشرقي للمساعدة في منع عودة ظهور تنظيم الدولة الإسلامية، وقد يرفع ترمب أيضاً العقوبات الأوسع نطاقاً ويقدم معونات اقتصادية إذا وافقت سوريا على منع وصول روسيا إلى القواعد البحرية، وقد يساعد البلاد في إيجاد مصادر بديلة للحبوب والنفط تعوض فقدان المصادر الروسية والإيرانية، وإضافة إلى ذلك قد يستخدم ترمب نفوذ الولايات المتحدة لدى تركيا وشركاء واشنطن السوريين الأكراد للتوسط في نهاية المطاف في اتفاق سياسي بينهم وبين النظام الجديد في دمشق، وهذه فرص لم تتح للولايات المتحدة منذ عقود ويتعين على ترمب أن يغتنمها.
انتهاز الفرصة
ينبغي ألا يقلل أحد من شأن التحديات والأخطار التي لا تزال تلوح في الأفق في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، فالحكومات الضعيفة وغير الفعالة، والتنافسات الدينية والعرقية والدولية العميقة، وتعدد الجهات الفاعلة السيئة، إضافة إلى عواقب الحرب الرهيبة في غزة التي ربما لم تنته بعد، ستستمر في عرقلة التقدم نحو السلام والاستقرار، وفي الوقت نفسه سيكون من الخطأ الفادح تجاهل الفرص التاريخية التي يقدمها المشهد الإستراتيجي الجديد، وهي فرص كانت تبدو بعيدة المنال قبل عام أو حتى قبل بضعة أشهر فقط.
لا شك في أن أكبر طموح لترمب هو تحقيق ما عجز عنه كثيرون من أسلافه، وعلى كل شخص يهتم لأمر المنطقة أن يأمل في أن ينجح الرئيس الأميركي في ذلك.
مترجم عن “فورين أفيرز” 19 فبراير (شباط) 2025
فيليب غوردون كان مستشار الأمن القومي لنائبة الرئيس كامالا هاريس بين عامي 2022 و 2025، ومنسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط خلال إدارة أوباما، وهو مؤلف كتاب “خسارة اللعبة الطويلة: الوعد الكاذب بتغيير الأنظمة في الشرق الأوسط”.
——————————
الجنوب السوري… صدمة إملاءات نتنياهوم ضياء الصحناوي
25 فبراير 2025
أثارت تصريحات رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، التي دعا فيها لجعل الجنوب السوري منطقة منزوعة السلاح ومحظورة على الجيش السوري، صدمة في الجنوب السوري الذي انتفضت عدد من بلداته رفضاً لذلك، فيما لم تكن دمشق قد أصدرت تحت عصر أمس الاثنين رداً رسمياً عليه، رغم مطالبات عدة لها باتخاذ موقف واضح لقطع الطريق على محاولات نتنياهو استغلال الفراغ لفرض إملاءاته. وفي حين صدرت مواقف شعبية منددة بالتدخل في الشأن السوري من إسرائيل التي استغلت سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي للانقلاب على اتفاقية فض الاشتباك، واحتلال مساحات جديدة في المنطقة العازلة بمرتفعات الجولان وجبل الشيخ، وعملت على إنشاء قواعد عسكرية للبقاء فترة طويلة في تلك المنطقة، بعد تدميرها مقدرات الجيش السوري عبر أكبر عملية جوية في تاريخها، فإن المخاوف تكبر من سعي نتنياهو لإثارة الفتنة بين مكونات الشعب السوري، ووقف عجلة الاندماج بين مناطق الجنوب ودخول فصائلها في الجيش السوري الجديد الذي يجري العمل على إنشائه.
وكان نتنياهو قد طالب في كلمة له، مساء الأحد الماضي، بجعل منطقة جنوب سورية “منزوعة السلاح”، مضيفاً “لن نسمح لقوات تنظيم هيئة تحرير الشام أو للجيش السوري الجديد بدخول المنطقة جنوب دمشق، ولن نقبل بأي تهديد لأبناء الطائفة الدرزية في جنوب سورية”. وأعلن أن “قواتنا ستبقى في قمة جبل الشيخ وفي المنطقة العازلة (السورية) إلى أجل غير مسمى”. وجاءت تصريحاته بعد أيام من إشارته إلى أن سقوط نظام الأسد في ديسمبر الماضي “غيّر خريطة الشرق الأوسط”، معتبراً أن إسرائيل “أوقفت محاولات إيران لدعم النظام”.
هذا الموقف قوبل برفض كبير من أبناء المنطقة، إذ خرجت أمس الاثنين تظاهرات في عدة بلدات في الجنوب السوري رفضاً لتصريحات نتنياهو، منها في بلدة خان أرنبة ومدينة القنيطرة، ومدينتي نوى وبصرى الشام في درعا. كما أقام العشرات من أهالي مدينة السويداء وقفة احتجاجية في ساحة الكرامة وسط المدينة، رفضاً لتصريحات نتنياهو، فيما تستمر الدعوات لتظاهرة أكبر اليوم الثلاثاء.
اعتراضات في الجنوب السوري على نتنياهو
ورداً على كلام نتنياهو، أكد الشيخ سليمان عبد الباقي، قائد تجمع أحرار جبل العرب في السويداء، رفضه أي تدخّل خارجي في الشأن السوري، قائلاً لـ”العربي الجديد”: “نرفض تدخّل أي جهة خارجية بالشأن الداخلي السوري… نحن سوريون وهويتنا سورية ونريد بناء الوطن والعيش بسلام”. وأضاف أن “النظام وإيران وحزب الله تسببوا بالحروب والفتن، والآن حان وقت الإعمار والسلام”.
من جهته، حذر الناشط الإعلامي هاني عزام، في حديث لـ”العربي الجديد”، من أن تصريحات نتنياهو تستهدف “إثارة الفتنة بين مكونات الشعب السوري، ومن شأنها أن توقف عجلة الاندماج بين مناطق الجنوب، خصوصاً الفصائل المسلحة بالدولة والجيش والقوى الأمنية السورية، عبر التركيز على خطاب حماية الأقليات، مثل الدروز في الجنوب والأكراد في الشرق والعلويين في الغرب، بما يخدم أجندات انفصالية وتطلعات تلامس مشاعر بعض بقايا النظام البائد، لتلتقي مع أهداف إسرائيل في تقسيم سورية إلى كيانات طائفية متنازعة”. وأعرب عزام عن أسفه من مسارعة بعض السوريين إلى “كيل التهم لأهالي الجنوب عموماً وللدروز في السويداء على وجه التحديد، متناسياً تاريخهم النضالي ضد نظام الأسد، وتحقيق الوحدة الوطنية على كامل الأرض السورية، وبالتالي يساهم بزيادة الفجوة بين مكونات المجتمع السوري”. كما أشار إلى أن “الصمت الذي تتبعه القيادة السورية الحالية تجاه التدخلات الإسرائيلية، يغذي الشكوك حول تواطئها مع المخططات الإسرائيلية”.
من جهة أخرى، وحول عدم الرد الواضح من القيادة السورية على التدخلات الإسرائيلية في الجولان والقنيطرة، والتصريحات المتكررة لقادة إسرائيل، قال أحد أبناء القنيطرة، طلباً عدم الكشف عن اسمه، لـ”العربي الجديد”، إن أهالي محافظة القنيطرة عانوا من التهميش التاريخي الذي مارسه نظام الأسد ضدهم، مردفاً: “لم نشعر يوماً أننا سوريون نمتلك حقوقاً كباقي المحافظات. فقد عمد نظام الأسد سابقاً إلى حصارنا وتهميشنا حتى بات البعض ينشد الأمان تحت أي سلطة”. وأضاف أن رد الحكومة السورية يجب أن يكون عبر “تسريع اندماج مناطق الجنوب، وإعلان موقف واضح ضد التصريحات الإسرائيلية”.
وتعليقاً على المشهد، قال الناشط المدني عدنان أبو العز، لـ”العربي الجديد”، إن السويداء ذات الغالبية الدرزية تدرك جيداً مخاطر الانجرار وراء الخطاب الإسرائيلي الذي يتلاعب بورقة الحماية الطائفية، خصوصاً مع التاريخ النضالي للمحافظة ضد الاحتلال الإسرائيلي في الجولان، كما أن الذاكرة الجماعية لأهالي الجنوب تحمل أمثلة عديدة على محاولات النظام السابق استخدام الانقسامات الطائفية لإضعاف تماسك المجتمع”. وأضاف: “تبقى محافظة السويداء نموذجاً للتعقيدات التي تواجهها سورية في مرحلة ما بعد نظام الأسد، إذ تتصارع الأجندات المحلية والإقليمية والدولية، لكن الإجماع الواضح لشريحة واسعة من أهالي المحافظة من فصائل مسلحة ومرجعيات دينية وناشطين على رفض الانفصال ورفض التصريحات الإسرائيلية، يؤكد أن الهوية السورية لا تزال حاضرة بقوة، على الرغم من محاولات تفكيكها”. وتابع: “في الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل توسيع نفوذها في القنيطرة، وتوغل قواتها في مناطق حدودية جنوب سورية، تبدو السويداء ودرعا والقنيطرة أمام اختبار حقيقي لتحويل خطاب الوحدة إلى واقع ملموس، عبر تعزيز الاندماج الوطني ومواجهة المخططات الخارجية بخطاب جامع يعيد إحياء مفهوم سورية للجميع”.
مجلس عسكري للسويداء
وفي ظل الموقف الشعبي والرسمي في الجنوب السوري الرافض أي محاولات تهدف إلى تقسيم سورية أو تقويض وحدة أراضيها، مع إجماع الفصائل المسلحة ومرجعيات دينية وقيادات محلية على رفض تصريحات نتنياهو، برز الإعلان عن مجلس عسكري للسويداء، قوبل برفض من فعاليات في المنطقة اعتبرت أنه “انفصالي”. وأعلن عدد من المسلحين عن تشكيل المجلس العسكري للسويداء، والذي يسعى “إلى تنسيق الجهود بين الفصائل العسكرية المحلية لمواجهة أي تهديدات أمنية محتملة، وتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة”، وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان. كما أشار المجلس إلى أنه يهدف إلى حماية المدنيين والممتلكات العامة من أعمال العنف والتخريب. وأعلنت مجموعة محلية من بلدة الغارية جنوبي محافظة السويداء انضمامها إليه الأحد عبر مقطع مصور، بثته صفحة المجلس على “فيسبوك”. وظهر في التسجيل أشخاص يرتدون الزي العسكري أمام المركز الخدمي في البلدة، حيث تلا أحدهم بياناً موجزاً أكد فيه استعداد المجموعة “لتنفيذ أي مهمة لحماية الأرض والعرض”.
لكن هذا التشكيل واجه رفضاً قوياً من قبل الفصائل الكبرى في السويداء، مثل “غرفة عمليات الحسم” و”غرفة العمليات المشتركة”، التي وصفته بأنه “غير شرعي”، مؤكدة أن بيانه “لا يمثل إلا أصحابه”. كما انضم إلى هذا الرفض مرجعيات دينية بارزة، أبرزها الشيخ حكمت الهجري، الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز، الذي صرح لوسائل إعلام محلية بأن “المجلس العسكري الانفصالي لا يمثل أهالي المحافظة ولا الفصائل العسكرية التابعة لها”.
ورداً على هذه الانتقادات، أصدر “المجلس العسكري في الغارية” بياناً وصف فيه نفسه بأنه “المفوض الوحيد من دول التحالف (دون تحديد أي تحالف) لإعادة الأمن والاستقرار”، معتبراً أن منتقديه يسعون للفوضى والانقسام. وأشارت مصادر لـ”العربي الجديد” إلى أن المجلس العسكري للسويداء، الذي يقوده الضابط المنشق طارق الشوفي، ينشط في ريف السويداء الجنوبي وليس له امتداد واسع في المحافظة، كما أنه يتحدث عن بناء “دولة ديمقراطية علمانية لا مركزية”، من دون تحديد موقف واضح من الحكومة الانتقالية في دمشق.
تشكيل آخر “لحفظ الأمن”
مقابل ذلك، اجتمع عدد من الضباط وممثلي الفصائل في مطار بلدة الكفر أمس الاثنين رافعين شعار “نحن أبناء السويداء… نحن لسورية فداء”، رداً على إنشاء المجلس العسكري في السويداء، مشيرين إلى أن ذلك أقوى رد على تهم الانفصال. وكان عدد من الضباط من المتقاعدين قبل الثورة، ومن المنشقين عن نظام الأسد في السويداء، دعوا إلى هذا الاجتماع مساء الأحد، لإعلان مجلس عسكري يضم نخبة من الضباط الذين عارضوا نظام الأسد المخلوع وفصائل من السويداء.
وحول أهداف الاجتماع، أكد الضابط المتقاعد والمعارض السابق لنظام الأسد، زياد العبدالله، في تصريح لـ”العربي الجديد”، أن هذا الجسم العسكري (الذي صدر عن اجتماع الكفر) ليست غايته أبداً الانفصال عن دمشق، بل على العكس تماماً فإنه على تنسيق مباشر مع وزارة الدفاع، وبعلم الشيخ الهجري. وأشار إلى أن الغاية من هذا التشكيل حفظ الأمن، نافياً أي غاية انفصالية منه. وأوضح أن الهدف تشكيل نواة لقوة عسكرية مرتبطة بالحكومة المركزية في كامل الجنوب السوري، وليس بمعزل عن دمشق، مدللاً على ذلك بأن علم الجمهورية السورية يؤكد انتماء هذا المجلس. وأعرب العبدالله عن تخوفات مجتمعية دفعت هذا الجسم للتشكل، معتبراً أن تعيين قادة أجانب في الجيش السوري واستحواذ فصائل جهادية على مفاصله يخيف فئات سورية كثيرة، مبرراً تشكيل جسم يضمن استقرار هذه المجتمعات التي تبحث عن دولة بقانون مدني.
وعن موقف التشكيل العسكري الجديد في الكفر من تصريحات نتنياهو، قال أحد ضباط التشكيل الجديد، فضّل عدم الكشف عن اسمه في حديث لـ”العربي الجديد”: “إننا نرفض إبداء أي موقف قبل أن نسمع تصريحات رئيس الدولة السورية ووزارة الدفاع السورية، ليس من قبيل قبولنا بهكذا تصريحات، بل لأننا لسنا أصحاب سلطة أو قرار مباشر، ولكن ننتظر أن تخرج تصريحات مضادة بشكل رسمي من القيادة السورية. مردفاً: “بأي صفة رسمية سنرد؟ نحن من الشعب والتصريحات الرسمية يلزمها ردود رسمية”.
في هذه الأثناء، أفادت مصادر خاصة لـ”العربي الجديد”، بأن ممثلي الفصائل المسلحة في محافظة السويداء توجهوا إلى دمشق أول من أمس الأحد للاجتماع مع وزير الدفاع السوري، مرهف أبو قصرة، وذلك استكمالاً لسلسلة اجتماعات سابقة تهدف إلى تنظيم انضمام هذه الفصائل إلى الجيش السوري الجديد. وجاءت هذه الخطوة في إطار مساعٍ حثيثة لتأسيس فرقة عسكرية في السويداء، تكون مكونة من أبناء المحافظة والمنطقة الجنوبية، وفق المصادر. وخلال الأسابيع الماضية، عُقدت لقاءات عدة بين ممثلي الفصائل ومسؤولين في وزارة الدفاع، بينهم العقيد بنيان الحريري من محافظة درعا، الذي عيّنته الوزارة مسؤولاً عسكرياً لملف انضمام فصائل الجنوب للجيش السوري. وركزت المناقشات على تفاصيل الانضمام المحتمل، مثل طبيعة المهام العسكرية، وسلم الرواتب، والعقيدة العسكرية للجيش، إلى جانب أمور تنظيمية أخرى. وأكدت الفصائل خلال الاجتماعات ضرورة أن يكون الجيش “وطنياً لجميع السوريين”، وفق تعبير المصدر.
وأمس، اجتمع الرئيس السوري، أحمد الشرع، بوفد من الطائفة الدرزية في دمشق. وقالت وكالة الأنباء الرسمية “سانا” إن الشرع اجتمع مع وجهاء وأعيان من الطائفة الدرزية كما نشرت صوراً للقاء، فيما لم يظهر الزعيم الروحي للطائفة الدرزية في السويداء، الشيخ حكمت الهجري، في صور اللقاء.
وعرف من المجتمعين من الوفد الدرزي قائد “تجمع أحرار جبل العرب”، سليمان عبد الباقي، وقائد “حركة رجال الكرامة” ليث البلعوس، أبرز الفصائل العسكرية في السويداء.
وقال الناشط المدني جهاد حرب، وهو من أبناء السويداء، إنه “من المنظور العسكري ـ السياسي، تُعتبر جهود الفصائل المسلحة في السويداء للاندماج في الجيش السوري الجديد خطوة استراتيجية لتعزيز وحدة سورية، خصوصاً في ظل التحديات الأمنية التي تواجهها المناطق الجنوبية”. وأضاف لـ”العربي الجديد” أن “التفاوض مع وزارة الدفاع السورية حول تفاصيل مثل سلم الرواتب والعقيدة العسكرية يُظهر رغبة حقيقية من هذه الفصائل في الانتقال من مرحلة المليشيات المحلية إلى مؤسسة عسكرية مهنية تخضع لسلطة الدولة، لكن هذا المسار يجب أن يرافقه ضمانات بعدم تكرار أخطاء النظام السابق، مثل التهميش الطائفي أو الاستقطاب السياسي”. وتابع: “في المقابل، فإن رفض الفصائل الكبرى للمجلس العسكري في السويداء يؤكد رفضها أي كيانات موازية تهدد الوحدة الوطنية، خصوصاً مع تورط بعض قيادات المجلس في أجندات خارجية، مثل التنسيق مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تُوصف بأنها ذراع أميركية. هنا، يصبح دعم دمشق لهذه الفصائل المندمجة ضرورة لقطع الطريق على المشاريع الانفصالية، وتعزيز الثقة بين المركز والأطراف”.
العربي الجديد
——————————–
والد الرئيس السوري إذ يخالف ابنه الرأي/ عمر قدور
الثلاثاء 2025/02/25
عاود السيد حسين الشرع، والد الرئيس السوري الحالي، مخالفة توجهات السلطة التي يقودها ابنه، هذه المرة بانتقاده اتفاقها مع قسد على شراء كميات من النفط والغاز. وجهة نظر السيد الشرع تتلخص بأن آبار النفط والغاز، الواقعة تحت سيطرة قسد، هي مُلك الدولة السورية التي لا يجوز أن تتصرف كأنها زبون يشتري ما تملكه قسد. وفق المنطق نفسه، يحتج على دعوة مظلوم عبدي الرئيس الشرع لزيارة المناطق التي تسيطر عليها قسد، إذ يقول إن رئيس الجمهورية هو من يقرر الزيارة، وهذا جزء من السيادة الوطنية.
والد الرئيس مقيم في تركيا حتى الآن حسبما يوضّح في أحد تعليقاته، وكان قد أثار الانتباه بعد اكتشاف منشور له على حسابه في فيسبوك، ينتقد فيه توجُّه السلطة إلى خصخصة القطاع العام، حيث ورد التالي ضمن منشوره: “أود أن أقول بملء الفم: هذا غلط كبير. ذلك أن هذا القطاع العام أقيم خلال عشرات السنين، وهو ثروة قومية، وهو ملك الشعب. واذا كان هناك ترهل وفساد وخسائر فهذا لا يعود للبنى الأساسية تلك، وليس للشركات والمعامل ولكن للإدارات الجهولة التي أدارتها بلا خبرة ولا اهتمام…”.
تأخرَ اكتشاف المنشور المذكور، ثم انتشر بكثافة على خلفية الدهشة من إعلان الأب مخالفته ابنه الرئيس بالرأي، وهذه سابقة في تاريخ سوريا ما بعد الاستقلال، الذي لم يُعرف فيه أبٌ لرئيس يُبدي رأياً في الشأن العام. قلّة من المهتمين ناقشت فحوى المنشور الذي يدافع عن القطاع العام، وقلّة منها انحازت إلى رأي السيد الوالد تعاطفاً منها مع مصير المسرَّحين من وظائفهم العامة، بينما انحازت الغالبية إلى توجه الابن، سواء من باب الانحياز إلى الاقتصاد الحر، أو محبةً بشخصه.
ذلك الاهتمام بما كتبه الأب سرعان ما طواه انشغال السوشيال ميديا بظهور الابن وهو يمارس رياضة الفروسية، وهكذا تقادمت بسرعة شديدة جاذبيةُ الانشغال بالخلاف بين الأب والابن، وتبددت سريعاً فرصة أن يكون الاهتمام بهذا الخلاف مدخلاً لمناقشة شأن أساسي ومفصلي في الانتقال السوري من حقبة الأسد. ولا يُتوقع أن يكون حال الملفّ الاقتصادي بأفضل مع مؤتمر الحوار المنعقد لمدة ساعات عملياً، فما رشح من أخبار يفيد بتقسيم المشاركين والموضوعات إلى ست مجموعات، بحيث ينال كل موضوع مشاركة لساعات قليلة جداً من قبل مئة مشارك تقريباً!
أُفرِغ المؤتمر العتيد مما وُصف به أولاً كمؤتمر وطني تأسيسي، ينصرف اهتمام المشاركين فيه إلى بنية الحكم في المرحلة الانتقالية والمرحلة اللاحقة عليها، ليصبح مؤتمر حوار، بتوصيات غير ملزمة، ولتتوسّع دائرة الموضوعات المطروحة على حساب التعمّق في كل موضوع. لكن يُخشى من أن يشكّل المؤتمر غطاء لتوجهات السلطة في الحقول المطروحة، ومنها الاقتصاد، والخشية لا تأتي على سبيل الطعن في هذه السلطة تحديداً، وإنما تأتي من التسرّع وغياب التشاركية الحقيقية التي تتطلب نوعاً مختلفاً من الحوار، وتتطلب من السلطة توفير ما في حوزتها من معلومات ضرورية لإثراء النقاش العام، كي يكون الحوار على بيّنة حقيقية، وكي يكون هناك تكافؤ على صعيد المعلومات بين السلطة والمشاركين من خارجها.
في الأصل، لا يبدو المؤتمر بصيغته الأخيرة من شؤون السلطة، وهو (بصيغته الحوارية غير الملزمة) أقرب ليكون مؤتمراً موسعاً من تلك التي تنظمها نقابات أو منظمات مجتمع مدني تصدر توصياتها، وعادة تأخذ وقتاً في الإعداد والانعقاد أطول مما أخذته لجنة مؤتمر الحوار الوطني. لكن إذا كان من فائدة للمؤتمر، غير تلك التي تقررها السلطة، فهي إعادة الكرة إلى ملعب السوريين المعنيين حقاً بالحوار من أجل البلد، بوصفهم فاعلين لا ينبغي لهم التكاسل وانتظار مبادرات السلطة، مهما كانت الأخيرة وبصرف النظر عن الذين يشغلون المناصب فيها.
نفترض هنا أن السوريين قاموا بالثورة لا لكي يسقطوا الأسد ثم يتركوا لخَلَفه أن يمسك بالبلد كما كان يسيطر عليها، وأن جزءاً من امتلاكهم بلادهم هو أن ينخرطوا في مناقشة كل ما يتعلق بالفضاء العام المشترك، وألا ينتظروا أية سلطة أن تمنحهم ما هو حقّ لهم، أو أن تكون لها أفضلية المبادرة فيُنظر إلى مبادرتها كمَكْرمة لعموم السوريين أو للمشاركين. فقط في أنظمة الاستبداد ينظر المحكومون إلى السلطة طوال الوقت، أما خارجها فالناس يتبادلون النظر كنايةً عن امتلاكهم الحق في الوجود وفي إبداء وجهات النظر.
بالعودة إلى الجانب الاقتصادي الذي تطرق إليه والد الرئيس، فمن المستغرب أن نسبة كبيرة من الكلام السوري المعلن لم تتوقف عنده بالقدر الذي توقفت فيه عن الانتقال السياسي. وإذا أجرينا قياساً منطقياً بسيطاً، فالحديث عن فترة انتقالية سياسياً تمتد حوالى خمس سنوات لقي تفهماً عاماً، في حين لم يحظَ بما يستحقه من جدية الكلامُ عن تحول جذري دراماتيكي في النمط الاقتصادي للدولة، وخلال مدة لا تتجاوز عشر سنوات. بل تم اتخاذ إجراءات عملية تتعلق بموظّفي القطاع العام فوراً، أثار البعض منها احتجاجات متفرقة، من دون أن تواكب الاحتجاجات نقاشات مستحقة؛ الحديث هنا حرفياً عن لقمة الخبز لملايين السوريين.
رغم الارتباط الوثيق بين الاقتصاد والسياسة، فالثانية منهما أكثر مرونة ورشاقة إزاء التغيرات. الانتقال الاقتصادي بطبيعته يتطلب زمناً يُقاس بالأجيال، وفي بلد مثل سوريا سيكون من الصعب إحداث النقلة الاقتصادية خلال أقل من جيلين، أي أقل من عقدين. وحتى في أعتى الرأسماليات لا يُلقى الناس في الشارع بلا لقمة خبز وبلا دواء؛ الدولة لا تفعل هذا بأبنائها. حتى التضخم الهائل للكادر الوظيفي لا يتحمل مسؤوليته الموظفون الذين هم أصلاً ضحايا هذا النمط، وليسوا مستفيدين منه رغم ما كل ما يُروّج عن أعداد منهم تقبض الرواتب من دون عمل أو دوام، فما يقبضه هؤلاء لا يقارب تعويضاً للبطالة في أية دولة رأسمالية، وفي معظم البلدان الرأسمالية تعمد الدولة إلى إعادة تأهيل هؤلاء لسوق العمل، وترعاهم لغاية الحصول عليه.
ثم إن التحول الاقتصادي لا يلغي الدور الاجتماعي للدولة، ومسؤولياتها إزاء الفئات الاجتماعية الأضعف. لدينا مثال قريب هو سلوك الدول الرأسمالية (بما فيها أميركا- ترامب) أيام جائحة كورونا، قبل اكتشاف اللقاح، حيث غلّبت كافة الدول الاعتبار الصحي لمواطنيها على ميزان الربح والخسارة. في سوريا، هناك حالياً ظرف استثنائي، يجتمع فيه الخروج من حرب مدمِّرة مع الانتقال من نمط اقتصادي عمره ستة عقود. ولا يكفي للحوار في ذلك كله الانطلاق من انحيازات مسبقة لنمط اقتصادي، وكأن البلد أو السلطة يملكان خيارات بسيطة وسهلة المنال.
ثمة الكثير من التفاصيل المهمة التي يُنتظر من حوار اقتصادي أن يضيء عليها، بما فيها القطاعات الاقتصادية التي ستُضطر الدولة للاحتفاظ بها، أو سيكون من الأفضل بقاؤها مُلْكاً عاماً، حتى مع التحول الاقتصادي عن نمط إنتاج متقادم ومهترئ. هذه فقط رؤوس أقلام سريعة لحوار لم يُنجز منه شيء على الصعيد العام بين السوريين، ولن يُنجز منه أو من غيره شيء طالما اقتصر إسقاط الأسد على الانتقال من استقالة إجبارية من الشأن العام إلى استقالة طوعية منه.
المدن
———————
هل يتراجع نفوذ الفصائل في عفرين مع دخول “الأمن العام”؟/ شفان ابراهيم
25.02.2025
“الانتهاكات والمشاكل والتجاوزات من فرض الإتاوات إلى الاعتقالات وحالات الخطف وطلب الفدية، وقطع الأشجار وتجريف الآثار وغيرها من الممارسات، جعلتنا نتطلع إلى أي طرف يحكمنا على أمل الخلاص”.
وصلت أرتال من “قوى الأمن العام” إلى مدينة عفرين بتاريخ 6 شباط/ فبراير 2025، وأجرت جولة في شوارع المدينة، وسط استقبال مهيب واحتفالات، وعلى وقع الأغاني الكردية والثورية ورفع علمي كردستان والثورة السورية، وذلك تمهيداً لانتقال الملف الأمني لكل من أعزاز وجرابلس ومنبج وعفرين إلى حكومة دمشق. تلت ذلك في 15 شباط زيارة رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع إلى عفرين.
حساسية الوضع في عفرين تعود إلى عام 2018 مع سيطرة بعض فصائل المعارضة السورية، والتي كثرت شكاوي الأهالي واعتراضهم على طريقة إدارتها المدينة. شيركو أحمد (اسم مستعار) عضو في المجلس المحلي في عفرين، يشرح لـ”درج”: “الانتهاكات والمشاكل والتجاوزات من فرض الإتاوات إلى الاعتقالات وحالات الخطف وطلب الفدية، وقطع الأشجار وتجريف الآثار وغيرها من الممارسات، جعلتنا نتطلع إلى أي طرف يحكمنا على أمل الخلاص”.
في حديثه مع “درج”، قال أحمد الحسن، رئيس المجلس الوطني الكردي في عفرين، إنهم يتطلعون إلى “سوريا جديدة حرّة ديمقراطية تعددية برلمانية فيدرالية، ينعم فيها الجميع بالحرية والكرامة، ويكون هناك توزيع عادل للثروة والسلطة، لذا يتوجب على الحكومة الجديدة في دمشق بسط سلطتها ونفوذها وسيطرتها على كامل التراب السوري وتعزيز أركان الدولة السورية في المجتمع السوري بالعدل والمساواة، والتخلص من حالة الفوضى والفصائلية”.
يربط الحسن بين إدارة الدولة السورية وسيطرة قوات الأمن العام على جميع الأراضي السورية قائلاً: “دخلت نحو 60 سيارة من الأمن العام التابع للحكومة الجديدة إلى مدينة عفرين، محمّلةً بحدود 150 عنصراً قادماً من حلب برئاسة مدير الأمن العام في حلب محمد عبدالغني، وكان في استقبالهم لفيف من أهالي منطقة عفرين، حاملين الأعلام الكردستانية وأعلام الثورة مهللين بالحكومة الجديدة أملاً بتخلصهم من الحالة الفصائلية والانتقال إلى حالة الانضباط والعمل بالقانون والدستور، ثم تجولوا في نواحي منطقة عفرين (راجو – معبطلي – شيخ الحديد- جنديرس…) قبل أن يعودوا إلى حلب”.
يكشف رئيس المجلس الكردي في عفرين عن فحوى الوعود، والحديث الذي دار بين الأمن العام والأهالي قائلاً: “وعدوا أهالي المنطقة بعودتهم إلى عفرين وفتح مقراتهم ومكاتبهم واستلام الملف الأمني في منطقة عفرين، وحلّ جميع الفصائل”.
وفقاً لحسن، فإن الدخول لم يقتصر على مرة واحدة فقط بل “عادوا في اليوم التالي وجالوا في نواحي المنطقة أيضاً واستمعوا إلى شكاوى الناس ومعاناتهم”، مختتماً حديثه بأن “الوضع على الأرض لم يتغير، فالفصائل لا تزال موجودة، ومنازل الناس وأراضيهم لم تسلم إلى أصحابها، وفرض الإتاوات والضرائب لا تزال مستمرة في بعض المناطق. وفي هذا السياق، نأمل من الحكومة السورية الجديدة بأن تبسط سلطتها على المنطقة وإحقاق الحق لجميع المواطنين، والتخلص من المظالم والانتهاكات كافة، التي كانت تحصل في المنطقة والأراضي السورية كافة كي تكون سوريا جديدة ينعم فيها الجميع بالحرية والكرامة والاستقرار والسلام”.
عضو اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكردستاني هورو عثمان قال لـ”درج”: “قدوم الأمن العام، سبقه نشر الخبر على وسائط التواصل الاجتماعي، ما دفع الناس المدنيين الى استقبالهم، وكان الاستقبال شعبياً لا رسمياً لأنهم كحزب وكمجلس كردي لم يتم تبليغهم رسمياً. وتقديراً للأهالي ترجل عناصر الأمن العام من سياراتهم سيراً على الأقدام بين الأهالي، وتجولوا في الكثير من المناطق والقرى الكردية، قسم كبير من الناس سعداء ويأملون بسوريا جديدة بعد الأسد أسوة بغيرها من المناطق، ويتطلعون الى الخلاص من الأطراف التي تفرض الضرائب والغرامات وفرض شروط مالية لاستلام الناس أملاكهم المصادرة”.
ينتقد هورو استمرار احتجاز الأهالي واعتقالهم بشكل تعسفي، موضحاً مطالب الأهالي من الأمن العام بقوله: “لا يزال قسم من الناس في معتقلات في الراعي وعفرين ولم يتم إطلاق سراحهم، ويأمل المجتمع المحلي بتبييض السجون لديهم أسوة بسجون سوريا، وإخراج القطاعات العسكرية من القرى والبلدات وإبعاد حواجزها، وعلى رغم خروجها من بعض المناطق، لكنها لا تزال موجودة في مناطق أخرى، حيث يتم فرض الضرائب والغرامات”.
وحول الصعوبات التي تواجه الأهالي بعد سقوط النظام، يلفت هورو: “الصعوبات موجودة، لكن الواقع تغير ولم يعد كما السابق، قسم من النازحين عادوا إلى منازلهم ومدنهم، وتوجد مناطق خرج الأهالي منها بالكامل مقابل عودة سكانها الكرد الأصليين أيضاً بالكامل، ومنهم بنسب أخرى، وغالباً سيعود الباقي بعد نهاية فصل الشتاء”.
وفقاً لهورو، فإن مطالب الحزب الديموقراطي الكردستاني تتلخص بــ”خروج الفصائل من عفرين، عودة الحياة الطبيعة من حركة التجارة والاقتصاد والتعليم الى سابق عهدها، وعودة الأهالي الى بيوتهم، وأن تأخذ المجالس المحلية أدوارها الطبيعية، وضرورة تفعيل القضاء والمحكمة والعدالة”.
يستغرب هورو أيضاً قيام المسؤول الأمني في “فصيل العمشات”، باعتقال 22 شاباً بسبب استقبالهم الأمن العام، وتعرضهم للمضايقات، وقد تم فرض مبالغ مالية عليهم مقابل إطلاق سراحهم، وفي اليوم الثاني عاد الأمن العام وأبلغ المسؤول بخروجهم بعد 24 ساعة من ناحية معباطا”.
يختتم القيادي الكردي هورو عثمان حديثه قائلاً: “هذا الأمر مريح لكن المخاوف لا تزال موجودة والمطلوب إعادة أملاك الناس إليهم. حالياً تم تعيين مسؤول أمني جديد لناحيتي عفرين وجندريس، والمطلوب إعادة أملاك الناس إليهم من دون تأخير ومن دون مقابل مادي”.
وحول ما حصل بعد عملية الاعتقال التي حصلت بسبب الاستقبال، يقول المدرس المتقاعد حنّان شيخو ، لـ “درج”: “الأمن العام عاد بوفد ضخم مدجج بالسلاح والعتاد إلى ناحية ماباتا، وأذاعوا في الجامع عن اجتماع في ساحة القرية للبحث و الاستفسار عن انتهاكات فصيل سلطان سليمان شاه، وأكدوا محاسبة المسؤولين عن اعتقالهم، ووعدوا الأكراد باسترجاع بيوتهم المستولى عليها ومحاسبة أي شخص ينتهك حقوقهم”، مـتأسفاً حول عدم حصول التغيير المطلوب، ومضيفاً: “ليس هناك تغيير جذري في عفرين، بخاصة لناحية معبطلي وقراها وشية ( شيخ الحديد) وقراها، لأن فصيل سلطان سليمان شاه ما زال مسيطراً على الناحيتين، وما زال يمارس انتهاكات بحق الكرد، وتمارس حواجزه الابتزاز وفرض الضرائب وشراكة في أرزاق الناس”.
العودة إلى المنزل
يربط الناشطون في الشأن العام الوضع الميداني والعام في عفرين بالحالة السياسية والأمنية العامة لعموم سوريا، ويعتبرون أن الحل في عفرين هو جزء من الحل السوري بكليته، بغية الوصول الى الاستقرار المستدام وليس المؤقت.
تقول رهف علاء الدين، نازحة من مدينة حماه إلى عفرين: “نرغب في العودة إلى بيتنا ومحافظتنا، شكراً لأهالي عفرين، ولكن بيوتنا مدمرة ولا نملك مصادر للرزق والاستقرار والعمل في حماه، سيطرة الأمن العام ستكون أفضل لنا جميعاً”.
تضيف رهف: “موقف المجتمع المحلي في عفرين متباين، فما حصل معهم لم يكن بالأمر السهل والهين، إذ مارست بعض الفصائل المسلحة ضدهم كل أشكال الانتهاكات، التي أكدتها العشرات من التقارير الدولية للمنظمات الحقوقية، والمطلوب من الأمن العام ألا تكون موجودة في مراكز القطاعات العسكرية ضمن المدن والبلدات، ومشاركة أنباء المجتمع المحلي في إدارة البلاد وحمايتها”.
رسائل متبادلة بين الشرع والكرد في عفرين
سلّم أحمد الحسن رسالة باسم المجلس الكردي إلى أحمد الشرع موضحاً فيها أبرز المطالب من “معاناة ومظالم أهالي المدينة وريفها، والانتهاكات المستمرة بحقهم على رغم سقوط النظام، والقطع الجائر للأشجار وتدمير الغابات، وعدم تبييض السجون حتى الآن، واستمرار حالات الاعتقال والابتزاز المالي التي يتعرض لها أهالي عفرين الراغبين في العودة إلى قراهم ومناطقهم قادمين من حلب أو دمشق أو لبنان أو تركيا، وإيداع المئات منهم السجون في الراعي ومارع وأعزاز وحوار كلس، واستمرار ممارسات بعض الفصائل بفرض الضرائب والإتاوات على الشعب واعتقالهم وإهانتهم، لا سيما في مناطق وجود فصائل الحمزات والعمشات وغيرها”.
واختتم الحسن الرسالة بالحديث حول “وجود مئات العوائل العائدة إلى قراها من دون استلام بيوتها من الفصائل، بسبب عدم قدرتها على دفع مبالغ طائلة بآلاف الدولارات لقاء حصولها على إذن بدخولها”.
– صحافي سوري كردي
درج
———————————–
رسالة مفتوحة إلى صنّاع الدراما السوريّة/ إيناس حقي
25.02.2025
أفكر اليوم بتعاطي صناعتنا مع جمهورها، وأخشى أن خللاً تسلل الى العلاقة بين المسلسلات ومتابعيها، فالجمهور ليس أدنى منا معرفة وفهماً، فلنتعامل إذاً مع الشعب السوري بما يليق بكرامته وذكائه، لا نترفع بعد اليوم عن ناسنا، لا ننفصل عنهم، نروي قصصهم، نتناول عالمهم بصدق وشفافية، ونكون منهم كي يعودوا الى المشاهدة بكل حب.
مرحباً يا زميلات، مرحباً يا زملاء
مر وقت طويل لم نتبادل فيه الكلام، وقد طالت القطيعة. لم تكن القطيعة خياركم ولا خياري، وإنما فرضتها الظروف التي جعلت آلاف الكيلومترات تفصل بيني وبينكم، ولعل اعتقادي بأن الوطن لن يجمعنا مجدداً جعلني أحاول إغلاق باب الذكريات، وإنهاء الصلات التي تعيدني إلى الحنين، لكنني اليوم أشعر بحاجتنا الى الحوار، وقد عاد إليّ شعور مفاجئ بأن ما يحصل في عالم الدراما يعنيني ويخصّني كما كان منذ أكثر من عقد، عندما كنت بينكم ومنكم.
أعلم أنكم اليوم مشغولون بالتحضير للموسم الرمضاني، وأن سقوط النظام قلب حياتكم كما قلب حيواتنا جميعاً، وأن الأعمال التي كنتم تصوّرونها كانت نصوصها منتقاة قبل السقوط، ولا أعلم إن كان الوقت سمح لكم بتعديلها بحيث تتناسب مع السياق الذي ستُعرض فيه، لكنني أوجه رسالتي إليكم اليوم كي أحدثكم عن مقبل الأيام في صناعة الدراما السورية وعن المواسم الرمضانية المقبلة.
وللمناسبة، لا يحبّذ صديقي زياد عدوان تسمية الدراما السورية، ويفضّل تعبير”المسلسلات التلفزيونية السورية”، ويجب أن نسمع ملاحظته، فهو الأكاديمي الذي حلّل المشهد الثقافي والفني السوري.
تحمل الأيام المقبلة تحديات جمة لا بد لصناع المسلسلات التلفزيونية من أخذها بالاعتبار. دعونا ننطلق يا زملائي من الدور الذي حملتموه. ففي ظل غياب الإقبال على قراءة الكتب، وقلة المفكرين والأدباء السوريين، وقضاء النظام الأسدي شبه الكامل على المسرح والسينما، لم يبق غيركم لتقدم الصفوف وحمل الفن السوري ورسالته. حمّلكم الجمهور السوري السوري الذي أحب مسلسلاتكم دوراً خلال سنوات الثورة كي تكونوا صوته وتقفوا إلى جانبه، بعضكم قام بالمسؤولية على أكمل وجه، وكان صوت المقهورين، وبعضكم فضّل الصمت، فيما اختارت قلة أن تكون صوت القاتل، وأقترح مبدئياً على تلك القلة أن تعتذر من الشعب السوري، وأن تتراجع عن اتهاماتها كي نبدأ بلمّ الجراح.
أكتب إليكم اليوم، بصفتي حريصة على تاريخكم وعلى نتاجكم الفني، كي أحذركم من المسؤولية التي ترافق العمل على مسلسلات تلفزيونية مقبلة بعد الحرية، إذ يجب على المسلسلات السورية أن تكون أمينة على سردية الثورة السورية. يكفي ما تعرضت له حكاية الثورة خلال الأربعة عشر عاماً الماضية من تشويه وقلب للحقائق! لذا أتمنى عليكم من اليوم فصاعداً أن تتحققوا من كل تفصيلة تذكرونها في أعمالكم، أن تتأكدوا من الأسماء والمعلومات والأحداث، لا تخلطوا بين أحداث بداية الثورة ووسطها ونهايتها، وإن كنتم لا تعلمون، فاستفيدوا من أعمال التوثيق الهائلة التي حصلت على مر السنوات الماضية.
أطلب منكم أيضاً، إن كنتم لم تفعلوا على مر السنوات الماضية، أن تشاهدوا ما صوّره الناشطون الإعلاميون، أن تنظروا الى الحكاية من عيون من عايشها، أن تنظروا في عيون الضحايا قبل أن تتحدثوا عنهم. ويا لها من مسؤولية ألا يساهم الفن في تأجيج الغضب، ونكء الجراح التي لم تلتئم بعد.
أطلب منكم عند تناول حكايا الضحايا، إن قررتم فعل ذلك، أن تضعوا أنفسكم مكان أهلهم، وأن تراعوا مشاعرهم، وأن تكونوا رحيمين بهم وبآلامهم، وألا تتناولوا السجون والمعتقلات إلا بكل الحرص على مشاعر أهالي المعتقلين ومن نجا من مسلخ الاعتقال الأسدي، وأن تتذكروا أن الحقيقة كاملة لم تُكشف بعد، وأن مصائر عشرات الآلاف من أهلنا ما زالت مجهولة.
لعل أكبر خطر يحدق بالحرية التي حصّلناها في مجال إنتاج المسلسلات، أن سوق الإنتاج الذي سمح لنا بأن نخرج قليلاً عن سلطة نظام الأسد هو نفسه الذي قد لا يرغب في أن نحكي قصتنا بكل حرية ومن دون قيود، أو ربما قد لا يهتم كفاية. قد يكمن جزء من الحل بالمطالبة بسوق محليّ للإنتاج السوري، ولن يكون ذلك ممكناً من دون فتح الباب على مصراعيه للقنوات التلفزيونية السورية الخاصة التي بإمكان تنافسها مع القطاع العام أن ينتج سوقاً يسمح لنا بإنتاج أعمال سورية بغض النظر عن رغبة رأس المال العربي المنتج. ويتضمن الحل أيضاً مطالبة رؤوس الأموال الوطنية بالاستثمار في مسلسلات تلفزيونية تليق بزمن الحرية. ولكن الجزء الأكبر والعبء الأضخم في الحل يقع على عاتق الدولة، فالأعمال التي توثق حكاياتنا وترويها قد لا تكون رابحة تجارياً، لذا يجب على الدولة أن تدعم وتموّل لإنتاج الأعمال التي تروي حكايا السوريات والسوريين من وجهة نظرهم، وأن تخصص ميزانيات كاملة للإنتاج الثقافي والفني الذي قد لا يعني أي دولة أخرى.
أفكر اليوم بتعاطي صناعتنا مع جمهورها، وأخشى أن خللاً تسلل الى العلاقة بين المسلسلات ومتابعيها، فالجمهور ليس أدنى منا معرفة وفهماً، فلنتعامل إذاً مع الشعب السوري بما يليق بكرامته وذكائه، لا نترفع بعد اليوم عن ناسنا، لا ننفصل عنهم، نروي قصصهم، نتناول عالمهم بصدق وشفافية، ونكون منهم كي يعودوا الى المشاهدة بكل حب.
نهاية يا زملاء، أعلم تماماً أن الفن ليس رفاهية، وأنه حاجة أساسية من حاجات المجتمع، وأنه أداة حقيقية للتغيير المجتمعي، لكن هذا يتطلب أن يكون كل صناع المسلسلات على قدر المسؤولية، أن يكونوا لسان حال شعبنا المكلوم وبلدنا الجريح، لذا أحلم بيوم تتيح لنا فيه ظروف الإنتاج أن ننتقي النصوص التي تشبه الناس وتعكس حكاياهم وواقعهم، وتبتعد عن شيطنتهم والحديث عن فساد نفوسهم، وأن تنفّذ تلك النصوص، كما كنا نفعل سابقاً، بالتصوير بين الناس وفي بيوتهم الحقيقية أو ما تبقى منها، وألا تكون مسلسلات سوريا تعكس فقط حكايات طبقة الأغنياء، وألا تتناول الفقراء بازدراء، وأن تحب شعب سوريا وتقدّره وتقدّر تضحياته حق قدرها، وأن تكون كما كانت يوماً تسمح لكل فرد من الشعب السوري بالتماهي مع شخصيات المسلسلات وبالشعور بأن ما يشاهده على الشاشة يشبه حياته وواقعه.
أتمنى لكم التوفيق والنجاح، وأتمنى أن تعود صناعة المسلسلات السورية للازدهار، وأن تعيد الى شعبنا بلباقة مكانته التي يستحقّها.
دمتم بخير وحرية.
درج
———————-
هل تنجح مساعي تركيا لتشكيل تحالف رباعي إقليمي يشمل سوريا؟/ فراس فحام
الدول الأربعة سوريا العراق تركيا الأردن
24/2/2025
أدت عملية التغيير التي حصلت في سوريا إلى تداعيات مهمة ليس فقط على الداخل السوري، وإنما على المستوى الإقليمي أيضا، حيث تبع سقوط نظام بشار الأسد اتصالات بين الدول الإقليمية تركيا والأردن والعراق مع السلطة الجديدة في سوريا بدافع ضمان أمن الحدود، والتفاهم حول المصالح المشتركة.
في بداية يناير/كانون الثاني الماضي وقع الأردن مع سوريا اتفاقية تنص على تأسيس لجنة مشتركة لضمان أمن الحدود، وذلك خلال زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني لعمان، التي بحث فيها مع نظيره الأردني أيمن الصفدي قضايا تهريب السلاح والمخدرات واللاجئين السوريين والتعاون الاقتصادي.
وقبلها أوفد العراق رئيس الاستخبارات حميد الشطري إلى دمشق، ووفقا لما أكدته وسائل إعلام سورية وعراقية، فإن اللقاء ناقش ضرورة العمل المشترك لضمان عدم عودة ظهور تنظيم الدولة.
تحالف رباعي يشمل سوريا
يبدو أن الدول الإقليمية تتجه إلى خطوات أوسع مع دمشق فيما يتعلق بمعالجة المشاكل الأمنية، حيث نقلت وسائل إعلامية عربية عن مصادر دبلوماسية تركية وجود اتفاق بين الأردن والعراق وسوريا وتركيا لتشكيل آلية للتحرك المشترك ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وسيتم خلال فبراير/ شباط الجاري عقد أول اجتماع في عمان لوزراء الخارجية والدفاع ورؤساء أجهزة الاستخبارات للدول المذكورة.
وبحسب المصدر، فإن هدف الاقتراح هو رغبة تركيا بسحب الذريعة الأميركية لوقف دعم قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، لأن التحالف الرباعي هو من سيتولى الإشراف على السجون التي يقيم فيها الآلاف من عناصر تنظيم الدولة وعوائلهم.
وتخضع هذه السجون حالياً لإشراف قسد والقوات الأميركية، وهذا المقترح تزامن مع تأكيدات مسؤولين أميركيين بأن حل قسد أو إضعافها سيؤثر على القتال ضد تنظيم الدولة، ويؤدي إلى انتشار الأخير في سوريا مرة أخرى.
وأكدت وسائل إعلام تركية شبه رسمية أن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أجرى خلال منتدى ميونخ الأمني منتصف فبراير/ شباط الجاري لقاءات مع وزيري خارجية سوريا والأردن ومسؤولين عراقيين، وأجرى معهم نقاشات حول فكرة العمل المشترك ضد تنظيم الدولة، بالإضافة إلى الأوضاع في شمال شرق سوريا.
مشروع تركي
مارست تركيا سياسة نشطة في العراق وسوريا منذ بدايات عام 2024 عندما وقعت مذكرة تفاهم مع العراق تضم أيضاً الإمارات وقطر، وتنص على تنفيذ مشروع طريق التنمية الذي يربط دول الخليج عبر العراق وتركيا مع دول أوروبا، بقيمة استثمارية تبلغ 17 مليار دولار.
وتبع ذلك توقيع مذكرة أمنية مع بغداد في أغسطس/ آب من العام ذاته خلال زيارة أجراها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للعراق، وأتاحت هذه المذكرة لأنقرة توسيع العمليات العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني شمالي العراق.
بالتوازي مع ذلك، عاد الرئيس التركي إلى طرح فكرة التطبيع مع بشار الأسد قبل سقوطه بعدة أشهر، وفسر معهد واشنطن للدراسات هذه الخطوات بأن أنقرة تعمل على “إعادة المركزية الناعمة” لكل من بغداد ودمشق، والربط بين سوريا والعراق معاً لتحقيق عدة أهداف، منها وقف عدم الاستقرار على حدود تركيا، وحرمان حزب العمال الكردستاني من الاتصال الجغرافي بين العراق وسوريا، والتضييق على عملياته.
ومع سقوط بشار الأسد وجدت تركيا نفسها أمام فرصة لاستكمال مسارها المتعثر في سوريا نتيجة تصلب النظام السابق واشتراطه مقابل التطبيع انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية، حيث تعتبر تركيا حالياً من أبرز الدول التي تمتلك علاقات متميزة مع الإدارة الجديدة في ظل العلاقة السابقة بين أنقرة وفصائل المعارضة السورية المسلحة التي تمكنت في نهاية المطاف من إزاحة الأسد عبر عملية عسكرية، ولذا طالبت أنقرة مراراً على لسان مسؤولين في الدولة بأن تتولى الإدارة السورية الجديدة مهمة مكافحة تنظيم الدولة والسيطرة على كامل الأراضي السورية.
معوقات التحالف
من الواضح أن تطبيق فكرة التحالف الرباعي على الأرض تواجه معوقات، وأبرزها العلاقة بين العراق والإدارة السورية الجديدة التي تولت الحكم بعد فرار الأسد إلى موسكو.
وأكدت وسائل إعلام مقربة من الحكومة العراقية في 21 فبراير/ شباط الجاري أن وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني أجل للمرة الثالثة زيارته المرتقبة إلى بغداد، والتي من المفترض أن تتم بعد دعوة من وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين.
وبحسب ما أكدته مصادر دبلوماسية سورية لموقع الجزيرة نت، فإن دمشق طلبت من بغداد تحديد جدول عمل واضح سيتم طرحه خلال الزيارة، بالإضافة إلى ضمانات أمنية، لأن المعطيات لدى دمشق تفيد بأن بعض الفصائل العراقية رافضة لإقامة علاقات طبيعية مع سوريا.
تأجيل الزيارة أتى رغم التغير في مزاج القيادات العراقية المتحالفة مع إيران والتي كانت سابقاً ترفض الانفتاح على سوريا في مرحلة ما بعد الأسد، حيث اعتبر قائد عصائب أهل الحق قيس الخزعلي في كلمة مصورة له قبل أيام من الإعلان عن تأجيل زيارة الشيباني، أن ما حصل في سوريا من الإطاحة بالنظام السابق هو مشروع سياسي تم تطبيقه بأدوات عسكرية، ويختلف عن تحرك من وصفها “التنظيمات الإرهابية” عام 2013 التي استهدفت المقدسات.
وتحدثت وسائل إعلام عراقية عن وجود معارضة إيرانية لتطبيع علاقات بغداد مع دمشق، وربطت بين زيارة رئيس مجلس النواب العراقي محمود المشهداني إلى طهران مطلع شهر فبراير/شباط الجاري وبين تراجع العراق عن المسار الإيجابي الذي كانت تسعى لاتخاذه حيال الإدارة السورية الجديدة.
كما أشارت المصادر إلى وجود علاقة بين الموقف الإيراني وتصعيد نوري المالكي رئيس ائتلاف دولة القانون المدعوم إيرانياً تجاه دمشق.
وفي حال لم تتجاوز بغداد ودمشق الخلافات التي بينهما سيكون من الصعب المضي قدماً في مشروع التحالف الرباعي، نظراً للحدود المشتركة بين تركيا والعراق وسوريا، ولأن نشاط حزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة يتم بين العراق وسوريا بشكل أساسي.
عوامل مساعدة
رغم التأجيل لزيارة وزير الخارجية السوري لبغداد، فإن مصادر في دمشق تؤكد أن مشروع الزيارة لا يزال قائما، وستتم بعد تجاوز بعض العقبات.
إلى جانب الوساطة التي ترعاها تركيا من أجل تشكيل تحالف رباعي، وبالتالي تصحيح العلاقات بين دمشق وبغداد، فإنه من الواضح أن الجانب العراقي يرغب في تطوير العلاقات مع دمشق إلى المستوى الدبلوماسي، ولذا يرسل المسؤولون في بغداد رسائل إيجابية كان آخرها تصريحات رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض في 21 فبراير/شباط الجاري، التي أكد فيها أن بغداد تدعم التغيير الذي اختاره الشعب السوري.
كما أن رئيس الحكومة العراقي محمد شياع السوداني عبر عن احترام العراق لرغبة الشعب السوري ودعمه للعملية السياسية، واستعداد بغداد للمشاركة في عملية إعادة الإعمار.
هذا الحرص العراقي على تطبيع العلاقات مع سوريا مرده على الأغلب للمخاوف الأمنية، وهذا ما أكدته وسائل إعلام أميركية منذ يناير/ كانون الثاني الماضي، حيث أفادت تقارير بأن الفصائل العراقية أعادت النظر في مساعيها الهادفة لإخراج القوات الأميركية من سوريا، لأن هذه الفصائل تشعر بالضعف بعد سقوط الأسد وتراجع نفوذ طهران، ولديها خشية من عودة تنظيم الدولة وانهيار الوضع الأمني في العراق والتأثير سلبا على نظام الحكم السياسي الذي تسيطر عليه قوى الإطار التنسيقي.
دمشق، أيضا، لها مصلحة في تطوير العلاقات مع بغداد لاعتبارات أمنية، إذ لا يزال يوجد في العراق المئات من عناصر وضباط النظام السابق، وفقاً لتأكيدات مسؤولين أمنيين عراقيين في محافظة الأنبار.
وسبق أن استعادت دمشق دفعة سابقة من الضباط والعناصر المقيمين في العراق بلغت قرابة 1900 عسكري، حيث تستفيد من المعلومات التي يدلي بها الضباط العائدون إلى سوريا حول مواقع تخزين الأسلحة والخلايا النائمة.
ومن العوامل التي قد تدفع باتجاه تشكيل التحالف تطور العلاقات التدريجي بين سوريا والأردن، فقد أفادت وسائل إعلام سورية إلى أن الزيارة المرتقبة للرئيس السوري أحمد الشرع إلى الأردن آواخر فبراير/شباط الجاري ستناقش التطورات في الجنوب السوري بعد تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلي بينامين نتياهو التي طالب فيها قوات الحكومة السورية بمغادرة منطقة الجنوب، في ظل حالة تنسيق أمني تتم على الحدود.
المصدر : الجزيرة
————————-
3 مشاهد تعكس حالة “عدم يقين” في السويداء السورية/ ضياء عودة
25 فبراير 2025
تعكس المشاهد والمواقف التي خرجت من السويداء جنوبي سوريا، خلال الأيام الماضية، حالة من “عدم اليقين”، وتشي أيضا بأنه “لا يوجد قرار موحد” في المحافظة ذات الغالبية الدرزية، على صعيد طبيعة العلاقة التي ستجمعها مع الإدارة الجديدة في دمشق.
تأخذ هذه العلاقة عدة مسارات، منها ما يتعلق بشق العسكرة وخطوات الاندماج المراد تنفيذها على مستوى “الجيش السوري الجديد”، وتذهب أخرى باتجاه شكل الحوكمة والدولة الجديدة ككل، ما بعد سقوط نظام بشار الأسد.
وفي وقت كانت الأنظار فيه مسلطة على تشكيل عسكري جديد أعلن عنه تحت اسم “المجلس العسكري”، توجه قادة تشكيلات محلية مسلحة أخرى إلى دمشق، الإثنين، حيث التقوا برئيس المرحلة الانتقالية في البلاد، أحمد الشرع.
وجاء ما سبق، بالتوازي مع تصريحات أطلقها شيخ عقل الطائفة الدرزية، حكمت الهجري، عبّر فيها لرويترز عن “استيائه” من التحضيرات المتعلقة بمؤتمر الحوار الوطني، ومطالبا بـ”تدخل دولي لضمان دولة مدنية وفصل للسلطات” في سوريا.
وتضم السويداء عشرات التيارات والفصائل، و”تُعرف منذ سنوات بالحرية الكاملة فيها، التي تتيح لأي شخص أو جهة إصدار بيان والتعبير عن موقف”، كما يقول الباحث السوري نورس عزيز.
ويضيف لموقع “الحرة”: “هناك حالة من الفوضى.. وهو أمر طبيعي بسبب عدم وجود نظام شامل من شأن المحافظة أن تندرج تحته”.
ولا يعتبر الباحث السوري حالة المحافظة الواقعة في جنوب سوريا “استثناء”، ويوضح أنها “جزء من حالة عامة” تعيشها سوريا بعد سقوط الأسد.
“3 مواقف وتيارات”
تُعرف السويداء بخصوصيتها منذ سنوات. وكانت هذه الحالة قد انسحبت على 3 محطات مرت بها المحافظة على مدى السنوات الـ13 الماضية.
المحطة الأولى بعد عام 2011، والثانية بعدما اندلعت فيها المظاهرات السلمية ضد نظام الأسد قبل سقوطه، وصولا إلى يوم الثامن من ديسمبر وما بعده (تاريخ الإعلان عن سقوط نظام الأسد)”.
وبعد سقوط الأسد، صدرت الكثير من المواقف التي حددت بشكل أولي طبيعة وشكل العلاقة التي ستكون مع إدارة الشرع.
وبينما بقيت في إطار الأخذ والرد، وصلت قبل أيام إلى حد التضارب الواضح.
انعكس هذا التضارب، حسب مراقبين، من الخطوة المتعلقة بالإعلان عن “المجلس العسكري” والترويج له بكثرة، والمواقف التي أبدتها فصائل محلية أخرى، متخذة خطوات للأمام مع دمشق، وما قاله الهجري لوكالة رويترز، الإثنين.
ويرى الباحث في شؤون جماعات ما دون الدولة، عمار فرهود، أن المواقف في السويداء السورية “يمكن إدراجها ضمن 3 أقسام وتيارات في الوقت الحالي”.
“يقود التيار الأول الشيخ الهجري، الذي يدعم الفدرالية الإدارية في المحافظة، مع التأكيد على ضرورة الارتباط بالخارجية والجيش مع إدارة دمشق المركزية”.
ويقول فرهود لموقع “الحرة”، إن توجه الهجري “تدعمه فصائل محلية بينها (لواء أحرار جبل العرب) و4 تشكيلات أخرى، يقود نجله إحداها”.
في المقابل، “يبرز تيار ثانٍ يؤكد على بناء الدولة بالتعاون مع إدارة دمشق”، وفق الباحث.
وهذا التيار “مقتنع بضرورة الاندماج مع إدارة دمشق، ويمثله الحراك الشعبي، بينما يحظى بدعم من (حركة رجال الكرامة)”، كبرى الفصائل المحلية في المحافظة.
أما القسم الثالث الذي تحدث عنه فرهود، فيريد حسب قوله “الفدرالية الكاملة”، ويمثله حزبان هما “حزب الفدرالية” و”حزب اللواء”.
“عوامل متداخلة”
والسويداء هي واحدة بين عدة محافظات سورية “استثنائية” على صعيد شكل السيطرة والتمثيل.
وبعد سقوط نظام الأسد، تحولت إلى أبرز ملف من بين اثنين (إلى جانب ملف قوات سوريا الديمقراطية ومناطق شمالي وشرقي سوريا)، يسود الترقب بشأن مصيرهما وطبيعة علاقتهما مع إدارة الشرع.
ويعتقد الباحث السوري في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”، نوار شعبان، أن الوضع القائم في السويداء حاليا هو “نتاج لتداخل عدة عوامل”.
يرتبط العامل الأول، حسب حديث الباحث لـ”الحرة”، بـ”التنافس على السلطة بين الفصائل المحلية، التي تسعى للحفاظ على استقلالية قرارها، والسلطات المركزية التي تحاول فرض سيطرتها على المحافظة”.
ويتعلق الثاني بـ”التدخلات الخارجية، خاصة من قبل إسرائيل، التي تعلن صراحة عن مصالحها الأمنية في المنطقة، مما يزيد من تعقيد المشهد”.
كما توجد عوامل أخرى تتعلق بـ”المطالب الشعبية المتمثلة في دعوات الهجري لتدخل دولي لحماية المدنيين، مما يعكس حالة القلق والخوف السائدة بين الأهالي”.
لكن ورغم مكانة الشيخ الهجري كزعيم روحي لطائفة الموحدين الدروز، فإنه “لا يمثل مواقف جميع سكان السويداء”، وفق شعبان.
ويقول: “تصريحاته تعكس وجهة نظر شريحة معينة، خاصة الفصائل المحلية التي تتوافق مع رؤيته”.
.
ماذا عن “المجلس العسكري”؟
بالنظر إلى الموقف الخاص بالسويداء، لا يمكن التركيز على جانب دون آخر.
ويعني ما سبق أن المحافظة تضم تشكيلات عسكرية وتيارات سياسية ورجال دين. وكل من هؤلاء له موقفه ورؤيته الخاصة.
وفيما يتعلق بشق العسكرة، فقد أثار تشكيل ما يعرف بـ”المجلس العسكري” الكثير من الجدل خلال الأيام الماضية، خاصة أنها جاء في توقيت حساس، وبدأ القائمون عليه بالترويج له ولأهدافه على نحو غير مسبوق.
ويوضح مدير تحرير شبكة “السويداء 24″، ريان معروف، لموقع “الحرة”، أن “المجلس العسكري” تشكل بعد سقوط نظام الأسد بثلاثة أيام.
يقوده طارق الشوفي، الذي كان ناشطا بما يعرف بتيار سوريا العلماني، بينما يقدم نفسه على أنه ضابط منشق، وفق معروف.
ويشرح أن التشكيل الجديد كان قد أعلن في الأيام الأولى لسقوط نظام الأسد، فتح باب التسوية للضباط والعسكريين، بشكل منفرد ودون أي تنسيق مع جهة أخرى، سواء داخل السويداء أو مع إدارة الشرع في دمشق.
ويوم الإثنين، نظم “المجلس العسكري” عرضا عسكريا في القرى الواقعة جنوب السويداء، ونشر عدة تسجيلات مصورة توثق انضمام مقاتلين له.
كما نشر شعارا خاصا به، برزت فيه خريطة السويداء كجزء مستقل، مع الإشارة المعتمدة للطائفة الدرزية.
ويضيف معروف أن غالبية مجموعاته من أبناء القرى الجنوبية، ويشير إلى أن القائميم عليه يدعون أنهم “ينسقون مع التحالف الدولي”.
ولا يتجاوز عدد أفراد “المجلس العسكري” 900 شخص، حسب الباحث عزيز.
ويقول الباحث إنه يرتبط بعلاقة جيدة مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وإن البعض يشير إلى ارتباطه برئيس حزب “اللواء السوري” مالك أبو الخير، الذي يريد علاقة مع القوات الكردية، مع إنشاء “إدارة ذاتية” وما إلى ذلك.
.
ماذا عن بقية الفصائل؟
يختلف تشكيل “المجلس العسكري” عن بقية الفصائل المحلية من ناحية العدد والقوّة وتاريخ الظهور والأهداف أيضا.
ومن بين تلك الفصائل “حركة رجال الكرامة”، “لواء الجبل”، “قوات شيخ الكرامة”، “تجمع أحرار جبل العرب”.
ويوضح الصحفي معروف أن هذه الفصائل “لا تجمعها أي صلة” بـ”المجلس العسكري”.
ويعتقد أن احتمالات الصدام “واردة بين الطرفين في أي وقت، في حال لم يكن هناك حوار بين هذه التشكيلات العسكرية، أو كانت هناك محاولات إقصاء”.
وبدوره، يوضح الناطق باسم “حركة رجال الكرامة” والملقب بـ”أبو تيمور”، أنهم “ينسقون بشكل دائم مع الإدارة الجديدة في دمشق ووزارة الدفاع السورية”.
وقال الناطق لموقع “الحرة”، إن عدة وفود رسمية من جانبهم التقت بوزير الدفاع، مرهف أبو قصرة، وأن العلاقة “تنشأ بشكل تدريجي”.
المتحدث أكد أيضا أنه “لا توجد أي علاقة” تربطهم مع “المجلس العسكري” المعلن عن تشكيله حديثا.
وتابع: “رأينا ورأي أغلب فصائل السويداء هو أن كل التشكيلات التي ظهرت بعد 8 ديسمبر هي طارئة وليست ثورية. كما أن لدينا تحفظات على أي فصيل نعتقد أنه موجه من الخارج أو له أجندة خارجية”.
ويعتبر الباحث عزيز أن “المجلس العسكري” هو عبارة عن تنظيم “يكبر بحسب الدعم والتمويل ويصغر بحسب تغير المصالح”.
ويقول إنه “يروج لنفسه من باب الدعاية ويستغل ظرف ما”.
وسبق وأن اعتبر الشيخ الهجري “المجلس العسكري” أنه “جهة غير شرعية”، وكذلك الأمر بالنسبة لبقية فصائل السويداء.
ويختتم عزيز حديثه بطرح تساؤل يقول: “هناك حالة عدم يقين في السويداء. المحافظة إلى أين ذاهبة؟ وهل الإدارة الجديدة ستتفق مع الأهالي؟ هل سيكون هناك تدخل دولي وتصبح منطقة الجنوب عازلة ولها قوانينها الخاصة؟”.
ضياء عودة
———————————–
كيف يُمهَّد لفشل الحوار الوطني/ حايد حايد
25 فبراير 2025
في الثاني عشر من فبراير/شباط، اتخذ الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع خطوة أولى نحو تنظيم مؤتمر الحوار الوطني المرتقب، عندما عيّن لجنة تحضيرية لوضع الأسس لهذا المسار الحاسم. تشكل هذه الخطوة اختبارا جوهريا للقائد الجديد، بعد فترة حافلة بالوعود التي بعثت الأمل في نفوس الكثيرين. غير أن تركيبة اللجنة أثارت مخاوف جدّية، إذ تتكوّن في معظمها من شخصيات ذات انتماءات أيديولوجية أو سياسية وثيقة بهيئة تحرير الشام، مما يثير تساؤلات حول النوايا الحقيقية الكامنة وراء تشكيلها.
لم يكن لدى اللجنة أجندة واضحة، وكانت آليات عملها مبهمة، واتّسم نهجها بالتسرّع والفوقية في إشراك الجمهور، ما أثار كثيرا من الشكوك المحيطة بعملها. فبدون مشاركة هادفة وحقيقية، قد يتحول الحوار الوطني إلى عملية جوفاء لا تعكس تطلعات السوريين. وإذا ما أخفقت اللجنة في عملها، فسيكون لذلك وقع ثقيل، يهدد بتحويل الحوار الوطني إلى مجرد إجراء شكلي، يفتقر إلى العمق والفاعلية، ويخفق في التعبير عن تطلعات السوريين الذين طال انتظارهم لمثل هذه الفرصة، في الوقت الذي يتوق فيه الشعب السوري إلى إصلاح حقيقي وشامل.
على الرغم من محاولات اللجنة إضفاء طابع الشمولية وإشراك الجميع، كما بدا من خلال تعيين امرأتين ضمن أعضائها، لم تفلح هذه الخطوة في تبديد المخاوف من افتقارها إلى التمثيل الحقيقي. وتكمن المشكلة الأساسية في أن ثلاثة من الأعضاء الذكور الخمسة، وهم يوسف الهجَر ومحمد مستت، ومصطفى الموسى، لهم كما تذكر التقارير ارتباطات تنظيمية بهيئة تحرير الشام، ويشترك العضوان الآخران، حسن الدغيم وماهر علوش، معهم في نفس الخلفية الأيديولوجية.
ويزداد القلق من هيمنة هيئة تحرير الشام على اللجنة في ظل الغموض الذي يحيط بلوائحها الداخلية وأنظمتها التنظيمية، مما يضعف الثقة في قدرة الأعضاء غير المرتبطين بالهيئة على التأثير الفعلي في مجريات عملها. وعلى الرغم من الظهور الإعلامي المتكرر لأعضاء اللجنة، فإنهم لم يقدّموا حتى الآن أي توضيحات بشأن جدول أعمال الحوار، أو آليات عمل اللجنة، أو الإطار الزمني للمؤتمر، الأمر الذي يعمّق الشكوك حول مدى جدّية هذه المبادرة.
هذا الإطار الزمني لا يضمن حتى لكل مشارك دقيقة واحدة لطرح سؤال واحد، ناهيك عن توفير فرصة موضوعية للمشاركة في مثل هذه المواضيع المعقدة. وعلاوة على ذلك، ثمة تقارير بأن المشاركين تلقوا الدعوات إلى هذه المشاورات في اللحظة الأخيرة، مما لا يمنحهم وقتا كافيا للاستعداد، بل حتى للحضور في بعض الحالات.
ولا تقتصر المخاوف على تركيبة اللجنة وانعدام الشفافية في أدائها، بل تمتدّ أيضا إلى نهجها في إشراك الرأي العام. فمنذ منتصف فبراير، نظّمت اللجنة جلسات حوارية عامّة، إلا أنها لم تعطِ لهذه الجلسات الوقت الكافي لإجراء نقاشات جوهرية. وقد شهدت هذه اللقاءات حضورا تجاوز 200 مشارك في كل جلسة، حيث طُرحت موضوعات معقّدة مثل العدالة الانتقالية، وإعادة بناء المؤسسات، وصياغة دستور جديد – وحُشر كلّ ذلك في مدة زمنية لا تتجاوز الساعتين.
إلى جانب ذلك، فإن البنية التنظيمية لهذه الفعاليات تعزّز الشعور بالطابع الفوقي للعملية، فبينما يجلس أعضاء اللجنة على منصة مرتفعة، يجد المشاركون أنفسهم في مستوى أدنى، ما يولّد انطباعا بأن الحوار عملية موجّهة من الأعلى إلى الأسفل، بدلا من كونه عملية تشاركية حقيقية. وذكر لي بعضٌ ممن شارك في تلك الجلسات أن العديد من أعضاء اللجنة لم يكونوا يدونون أي ملاحظات أثناء النقاشات، مما يثير تساؤلات حول ما إذا كانت وجهات نظر المشاركين تُوثَّق بشكل جاد، وكيف سيجري تضمينها في مخرجات الحوار الوطني.
والاستعجال في عقد المؤتمر يخاطر بإعطاء الأولوية للسرعة على حساب المضمون، مما قد يُضر بمصداقية العملية برمتها. وإلى جانب غياب الشفافية حول آليات العمل ومعايير اختيار المشاركين، تتزايد المخاوف من أن مخرجات المؤتمر لن تكون ملزمة. وتعزز هذه المخاوفَ التصريحاتُ المتكررة للمتحدثين باسم اللجنة التحضيرية، الذين أكدوا أن التوصيات النهائية ستُعرض فقط على الرئيس الشرع كمشورة غير ملزمة بالضرورة، مما يمنحه السلطة المطلقة في اتخاذ القرار النهائي بشأن العملية.
حتى الآن، أُجِّل مؤتمر الحوار الوطني مرات عدّة، لكيلا يتسمّ بالسرعة والسطحية، فيفتقر إلى الشرعية المحلية والدولية. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه التأجيلات المبررة، لا يبدو أن نهج السلطة المؤقتة قد شهد أي تغيير جوهري في إدارة هذه المرحلة المصيرية.
في صيغتها الحالية، تفتقر اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني إلى المصداقية، مما يجعلها عرضة لإهدار فرصة محورية بتحديد مستقبل سوريا. فمن دون تصحيح المسار، هناك خطر حقيقي من أن تتحول هذه المبادرة إلى مجرد خطوة شكلية فارغة، بدلا من أن تكون منصة حقيقية لإحداث تغيير جوهري يقوده السوريون أنفسهم.
وفي النهاية، على الرغم من الضغط المتزايد الذي يفرضه عامل الوقت، يظل ضمان حوار وطني سليم أولوية لا ينبغي التفريط فيها. وإلا، فلن تكون هذه العملية تكون سوى إضافة جديدة إلى سجل سوريا الحافل بالفرص الضائعة.
المجلة
———————–
منها تعافي الليرة وإعادة تصدير النفط ونهاية أزمة الكهرباء.. ماذا يعني رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا؟
عربي بوست
2025/02/25
أعلن الاتحاد الأوروبي، الاثنين 24 فبراير/شباط 2024، عن تعليق العقوبات المفروضة على سوريا، بما يشمل تلك المرتبطة بالطاقة والنقل والإنشاءات، وذلك بعد سقوط نظام الأسد.
يُتوقع أن يسهم هذا التخفيف في تعزيز الاستثمار، وتسهيل التحويلات المالية، ودعم جهود إعادة الإعمار، ما سينعكس إيجاباً على الحياة اليومية للمواطنين السوريين. ومع ذلك، يبقى تنفيذ هذه الإجراءات مرهوناً بالتطورات السياسية والتزام الحكومة السورية الجديدة بعملية انتقال سياسي شاملة.
وفي سنة 2011، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية على سوريا، بسبب قمع النظام السوري بقيادة الرئيس السابق بشار الأسد للاحتجاجات، بالإضافة إلى انتهاك حقوق الإنسان والحرب ضد المدنيين، التي أودت بحياة الآلاف من الضحايا المدنيين.
وقال المبعوث الألماني إلى سوريا ستيفان شنيك، عبر منصة “إكس” الاثنين: “علق الاتحاد الأوروبي اليوم العقوبات على الطاقة والتمويل والنقل”.
وتابع: “الآن تستطيع (شركة) سيمنز (الألمانية) إصلاح (محطة توليد كهرباء) دير علي (بريف دمشق)، ويستطيع الطيران الألماني السفر لسوريا، التي ستعود للمجتمع الدولي بعد سنوات الظلام التي عاشتها تحت حكم الأسد”.
شملت عقوبات الاتحاد الأوروبي حظر استيراد النفط السوري، وكانت سوريا تُنتج حوالي 380 ألف برميل يومياً من النفط، تصدره بالدرجة الأولى إلى الأسواق الأوروبية. ولكن بعد 2011، أصبحت غير قادرة على تلبية احتياجاتها الداخلية، وبدأت تستورد النفط من إيران.
كما شملت العقوبات الأوروبية على قطاع الطاقة في سوريا منع تصدير التقنيات المتعلقة بصناعة النفط والغاز، ووقف التمويل المخصص لاستكشاف النفط وتكريره وبناء محطات طاقة جديدة، ما أدى إلى عجز الحكومة السورية آنذاك عن تمويل عملياتها العسكرية.
وكانت سوريا قبل 2011 تمتلك مجموعة من حقول النفط الرئيسية، أبرزها:
حقل دير الزور، الذي يضم أكبر الحقول النفطية، مثل حقل العمر، التنك، والورد.
حقل الحسكة، الذي يشمل حقل رميلان والسويدية، وهما من أقدم الحقول في سوريا.
حقل الرقة.
بالإضافة إلى العقوبات الاقتصادية، تأثر قطاع الطاقة في سوريا بالنزاع الداخلي، إذ سيطرت جهات مختلفة، مثل تنظيم داعش وقوات سوريا الديمقراطية، على حقول النفط، خصوصاً في المنطقة الشرقية من البلاد، حيث تتركز معظم الاحتياطات النفطية.
ومع رفع العقوبات عن قطاع الطاقة في سوريا، من المتوقع أن يرتفع إنتاج النفط، وأن تعود سوريا إلى تصديره إلى دول الاتحاد الأوروبي، التي كانت تستورد 90% من النفط السوري. ولكن بسبب العقوبات، تكبدت الحكومة السورية خسائر مالية ضخمة.
كما يُتوقع أن تنخفض أسعار الوقود، ما سيسهم في تخفيف أزمة المواصلات والكهرباء والتدفئة، خاصة خلال فصل الشتاء، حيث تعتمد سوريا على الغاز الطبيعي لتشغيل محطات الكهرباء.
وقد عانت معظم المدن السورية من تقنين شديد في الكهرباء، إذ وصلت ساعات الانقطاع إلى 20 ساعة يومياً في بعض المناطق، مما أدى إلى توقف بعض المصانع والمستشفيات عن العمل بكامل طاقتها، وأثر سلباً على الإنتاج والخدمات الصحية.
ماذا عن المصارف؟
في عام 2011، حاول الاتحاد الأوروبي الضغط على الحكومة السورية لوقف العنف ضد المدنيين والدخول في عملية سياسية سلمية، فقرر تجميد أصول البنك المركزي السوري في أوروبا، وحظر التعاملات المالية مع العديد من البنوك السورية.
كما قرر الاتحاد الأوروبي، بعد قمع الحكومة السورية احتجاجات الربيع العربي، منع تقديم أي دعم مالي أو استثماري للجهات الحكومية السورية.
وبعد مرور 14 عاماً، وسقوط نظام بشار الأسد، وانتخاب محمد الشرع رئيساً للفترة الانتقالية في سوريا، قرر الاتحاد الأوروبي تعليق العقوبات المفروضة على المصارف السورية، ما سيسهم في تخفيف العبء الاقتصادي على سوريا الجديدة، بالإضافة إلى تعزيز فرص الاستثمار.
وفي أولى خطواته بعد سقوط نظام الأسد، قرر الاتحاد الأوروبي رفع التجميد عن أصول خمسة بنوك سورية، وتخفيف القيود على البنك المركزي السوري، فضلاً عن تسهيل تمويل مشاريع إعادة الإعمار.
ومع ذلك، تم الإبقاء على بعض العقوبات المتعلقة بتجارة الأسلحة، والسلع ذات الاستخدام المزدوج، وبرامج المراقبة، التي فُرضت لمنع وصول المعدات والتقنيات التي قد تُستخدم في القمع الداخلي أو لأغراض عسكرية.
وقد كانت العقوبات الأوروبية على المصارف السورية من أكثر العقوبات تأثيراً على الاقتصاد السوري بشكل عام، وعلى المواطن السوري بشكل خاص. ولكن مع رفعها، ستتمكن الحكومة من الوصول إلى احتياطاتها النقدية الخارجية.
كما أن البنوك السورية سيُسمح لها بالتعامل مع المؤسسات المالية الدولية، وإعادة التواصل مع القنوات المصرفية الرسمية في معظم دول العالم، والعودة إلى استخدام نظام “سويفت” (SWIFT) لتحويل الأموال دولياً، ما سيسهل المعاملات التجارية.
ومع رفع العقوبات عن المصارف السورية، يُتوقع أن تنتعش الليرة السورية، وأن تتوفر العملات الأجنبية، ما سيؤدي إلى انخفاض تكاليف الاستيراد، وتسهيل عمليات تحويل الأموال، وتراجع معدلات التضخم.
وسيتمكن السوريون في الخارج من إرسال الأموال إلى عائلاتهم داخل سوريا بسهولة، مما سيؤدي إلى انخفاض الاعتماد على السوق السوداء ووكالات التحويل غير الرسمية، واستقرار سعر الصرف.
ومن المتوقع أيضاً أن تعود الشركات السورية إلى التعامل مع البنوك الدولية، وأن يصبح الاستيراد والتصدير أكثر سهولة، مع احتمال عودة الاستثمارات الأجنبية، واستئناف استيراد المواد الأساسية مثل الأدوية والمواد الغذائية.
المواصلات
في عام 2011، فرض الاتحاد الأوروبي حظراً على تصدير المعدات والتقنيات المستخدمة في قطاع النقل إلى سوريا، كما جمد أصول شركات النقل السورية في الدول الأوروبية، ومنع التعامل مع شركات الشحن والنقل السورية أو تقديم الخدمات لها.
وفي يوم الاثنين 24 فبراير/شباط 2025، يُتوقع أن يتم رفع الحظر عن واردات النفط السوري، وتخفيف القيود على قطاعي النقل والطاقة، بالإضافة إلى تسهيل التحويلات المالية والمصرفية المتعلقة بهذه القطاعات.
واشارت يورونيوز إلى أن الاتحاد الأوروبي سيراقب الوضع في البلاد للتأكد من أن عمليات التعليق تظل مناسبة … وفى هذا الصدد أكدت كايا كالاس، كبيرة الدبلوماسيين في الاتحاد الأوروبي، أنه “إذا لم تسير الأمور على ما يرام، فإننا مستعدون أيضا لإعادة فرض العقوبات” مشيرة إلى أن “أي نوع من الحكومة يجب أن يكون شاملا ويأخذ في الاعتبار كل المجموعات المختلفة الموجودة في سوريا”.
——————————–
العدالة الانتقالية: الضحايا أولًا.. حقوق أصيلة وركائز أساسية/ منصور العمري
تحديث 25 شباط 2025
مفهوم العدالة الانتقالية حديث نسبيًا، وما زال يشهد تطورات من حيث التعريف والأدوات. مهما كانت نتيجة التجربة السورية في العدالة الانتقالية، إن تكللت بالنجاح أو أصابها الفشل، أو اتسمت بفعالية محدودة، ستكون إضافة كبيرة ومهمة لتطوير هذا المفهوم، وتغني الأدبيات الأكاديمية وتجارب الأمم الأخرى المستقبلية، للتعلم منها.
من المتعارف عليه أنه للعدالة الانتقالية أربعة ركائز، ولا يمكن إسقاط أحدها فتسقط حقوق أصيلة للسوريين، وتعرقل الأخريات.
ضمانات عدم التكرار: اتخاذ تدابير لمنع تكرار الانتهاكات في المستقبل، وتشمل أدوات عديدة منها القانونية والسياسية المجتمعية والإعلامية وغيرها.
الحقيقة: الكشف عن الحقائق الكاملة حول الانتهاكات التي حدثت. يتطلب ذلك إحداث لجنة تدون تاريخ سوريا بالتفاصيل منذ آذار/مارس 2011، على الأقل، ويمكن أن تمتد لتشمل مراحل أو حوادث كبرى سابقة.
العدالة: محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات. تشمل المحاسبة طيف واسع من الأدوات، بما فيها القضائية، وسن قوانين المحاسبة السياسية والمجتمعية، كالعزل السياسي الدائم أو المحدود، وفرض الاعتراف، والاعتذار، وغيرها.
التعويضات: تقديم تعويضات مناسبة للضحايا عن الأضرار التي لحقت بهم. لا يمكن ترك الضحايا بدون تعويض يتناسب وحجم الانتهاك والضرر. يشكل هذا التعويض أساسًا في بناء الاقتصاد الوطني بمساهمة شريحة كبيرة من السوريين فيه، وهم الضحايا.
قد يضاف إلى الركائز الأربعة الشائعة، ركائز أخرى، ولكن البعض يرى أن التفاعل بين الركائز الأربعة يمكن أن يؤدي إلى يحققها، أو يمكن الوصول إليها كنتائج لتطبيق هذه الركائز، ومن بينها الإصلاح المؤسساتي، والمصالحة والسلم الأهلي وإرساء سيادة القانون، وحماية الحقوق، والحريات وغيرها.
أيًا كانت تسميات ركائز العملية الانتقالية أو عددها أو مدى تطبيقها، هناك مبدأ رئيس في العدالة الانتقالية وهو أنها تركز بشكل أولوي على الضحايا، ومحورية دورهم في العملية بأكملها. أي تجاهل أو تهاون في حقوق الضحايا يشكل تقصير فادح من الدولة والمؤسسة الموكلة بتصميم عملية العدالة الانتقالية وتنفيذها، وستديم مظلومية الضحايا ومعاناتهم، وقد تهدد الاستقرار ومستقبل البلاد.
حقوق الضحايا، أفرادًا وجماعات، حقوق أصيلة لا يجوز التنازل عنها، لا من قِبل الدولة/الحكومة ولا المنظمات أو المجموعات التمثيلية.
تفسير الركائز ومدى تطبيقها، أحد محاور الركيزة الأولى: شكل الدولة كأحد الأسباب الجذرية للانتهاكات
يكمن التحدي في كيفية تفسير حجم ومدى هذه الركائز والأولويات وتنفيذها على نحو فعّال. مثلًا، بالنسبة لضمانات عدم التكرار، يجب أن يشمل ذلك تغيير شكل وآليات الحكم التي سمحت بوقوع الانتهاكات.
أحد الأسباب الرئيسة التي سمحت بارتكاب هذه الفظائع في سوريا هو شكل هيكل السلطة في الدولة، وطبيعة الحكم: دولة مخابراتية يرأسها ويديرها أفراد بسلطات مديدة وغير مقيدة، مدعومة بالعناصر التالية:
غياب دور فاعل أو حقيقي للمجتمع المدني، واستبداله باتحادات ونقابات وغيرها تمثل النظام الحاكم.
غياب الصحافة الحرة والمستقلة والمهنية والتعددية، واستبدالها بوسائل إعلام ناطقة بصوت واحد باسم النظام الحاكم.
غياب الشفافية والرقابة على أداء الحكومة، واستبدالها بتطبيع الفساد وتعميمه عموديًا وأفقيًا.
غياب الفصل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وتجمعها بيد شخص أو مجموعة من الأشخاص أو الجماعات مترابطي المصالح.
عدم استقلالية القضاء وفساده وتبعيته لأجهزة أمن النظام الحاكم.
انعدام تداول السلطة من رأس هرمها ونزولًا.
منع العمل السياسي الفاعل، وتأطيره تحت مظلة النظام الحاكم.
تصميم مناهج التعليم بمختلف مستوياتها بما يخدم النظام الحاكم، ويحرف التعليم عن غايته الرئيسة.
لذا، من أحد ضمانات عدم التكرار الأساسية تغيير شكل وهيكلية الدولة، بحيث لا يسمح شكل الدولة المستقبلة بارتكاب هذه الفظائع. هذا يعني إصلاح جميع العناصر المذكورة التي دعمت حكم الفرد والجماعة الواحدة المطلق. حتى نتمكن من منع تكرار الفظائع التي حدثت في سوريا، يجب إجراء تغييرات جذرية في هياكل السلطة لضمان عدم تكرار الانتهاكات في المستقبل.
*منصور العمري: مدافع سوري عن حقوق الإنسان، حاصل على ماجستير في العدالة الانتقالية والصراع. يعمل العمري مع منظمات حقوق الإنسان الدولية والسورية لمحاسبة مرتكبي الجرائم الدولية في سوريا. في عام 2012، اعتقلت الحكومة السورية العمري وعذبته لمدة 356 يومًا بسبب توثيقه فظائعها، في أثناء عمله مع المركز السوري للإعلام وحرية التعبير كمشرف على مكتب المعتقلين.
عنب بلدي
———————-
خطوات أولى في فهم عقلية النظام الجديد/ أحمد عسيلي
تحديث 25 شباط 2025
حملت زيارة الرئيس أحمد الشرع للساحل السوري، خاصة لمدينة طرطوس، أهمية كبيرة، فهي أول لقاء مباشر بين الرئيس الجديد والمدينة التي عُرفت بتأييدها الشديد لعائلة الأسد (وإن كانت مكرهة) لدرجة لقبت بـ”أم الشهداء”، لكثرة عدد أبنائها الذين ضحوا بحياتهم من أجل بقاء تلك العائلة في السلطة، وكعادة القيادة الجديدة، تعمدت إيصال رسائل عديدة من خلال تلك الزيارة، بعضها لقي ترحيبًا شديدًا من أبناء الثورة، وبعضها رفض بشكل تام حد الاعتراض، وإن كان بشكل خجول، وبصوت خافت جدًا، مقارنة بأصوات معارضة أخرى كانت أكثر حدة، سمعناها في مدن أخرى.
وما زالت تداعيات تلك الزيارة تلقى نقاشات وحوارات متعددة بين أبناء تلك المدينة.
رسائل كثيرة ممكن أن نستخلصها من هذا الحدث، سأذكر منها ثلاثًا فقط، لأنها حاليًا الأكثر أهمية في اعتقادي، وتساعدنا على فهم أفضل لعقلية النظام.
الرسالة الأولى: الثقة بالنفس التي تتمتع بها هذه القيادة، وبقدرتها على حماية رأس الدولة، حتى في أكثر الأماكن ازدحامًا، بلغت هذه الثقة أقصاها، بالاختلاط المباشر للرئيس مع الناس في الشارع، ثم بوقوفه على شرفة مبنى المحافظة بشكل مكشوف جدًا، ولم تكن هذه الصور مجرد استعراض مع حرس معروف مسبقًا، بل بمشاركة واقعية من أبناء الساحل، وبشكل عفوي حقيقة (هناك الكثير من أهلي وأصدقائي الذين قاموا ببث مباشر عبر التلفون)، وهي رسالة تطمينيه للداخل والخارج على قوة هذه القيادة الأمنية، ومراقبتها المحكمة للمجتمع، لكن بأسلوب حضاري وغير مباشر، فلو أن لديهم شكًا بسيطًا بهذه القدرات، لما ظهر الشرع بهذا الشكل وسط المدينة.
الرسالة الثانية: ديمقراطية هذا النظام، وقابليته للاستماع للنقد، حتى للنقد اللاذع، فقد نقلت لي مجريات هذا اللقاء، ومداخلات الكثيرين، الذين ركزوا في معظمها على المشكلات المعيشية وعلى انتهاكات النظام الجديد بحق بعض أبناء المدينة، وقد عبر بعض المشاركين عن وجهات نظر تختلف كثيرًا عن رؤية النظام الحالي في الكثير من القضايا، تحدثوا بكل حرية وصراحة، بمشهد لم نعتده سابقًا مع أي رئيس في المنطقة، سوى الرئيس المصري الراحل أنور السادات، وحتى مع السادات، كان يغضب أحيانًا ويصرخ في البعض، كما فعل ذات مرة مع الطالب (وقتها) عبد المنعم أبو الفتوح، الذي خاض معه مشادة كلامية صارت مشهورة لاحقًا، لكن الفارق هنا أن الشرع لم يغضب كما كان يفعل السادات، وإنما حافظ على هدوئه وحديثه المرن، وعبر عما يعتقده بكل احترام ومودة للحاضرين.
الرسالة الثالثة: صراحة الشرع في تعبيره عن أفكاره بكل وضوح وشفافية، لدرجة المباشرة الشديدة أحيانًا، والتزامه اللاحق بكل ما طرحه من أفكار، فمنذ البداية كان يكرر على مسامعنا بأن الثورة انتهت، وحان وقت العمل بمنطق الدولة، وهو ما اعتبره البعض مجرد كلام دعائي، لكنه طبقه لاحقًا بشكل عملي في كل تصرفاته، بما فيها زيارته لطرطوس، فلم تعطِ القيادة أي أهمية للثوار السابقين، ولا لعائلات الشهداء والمعتقلين (كتب بعضهم احتجاجًا على ذلك)، وقد راعت اللجنة المختصة في دعوة الناس وجود أشخاص “براغماتيين”، من رجال دين وأعمال وناشطين في مجال المجتمع المدني، من له تأثير اجتماعي ووجود حقيقي على الأرض، بغض النظر عن موقفهم من النظام السابق، بل إن بعضهم كان مؤيدًا له، فلا مكان للشرعية الثورية أو الأخلاقية لدى القيادة الجديدة (هكذا بكل وضوح)، حتى المعارضون الذين تمت دعوتهم، كانت لأسباب عملية فقط، من أجل عدم قطع الصلة التامة معهم بالتحييد الكامل لهم، أي التعامل بمنطق سياسي بحت. وهذه ليست المرة الأولى التي يتكلم ويتعامل بها الشرع بشكل صريح، بل وفج أحيانًا، فقد سبق وصرح في أحد لقاءاته بأنه لن تنال العقوبة جميع المجرمين (هل هناك كلام مباشر أكثر من ذلك!) لأن تحقيق هذا الأمر سيزهق الكثير من الأرواح، وأنه قبل تسوية البعض حقنًا للدماء، وهو تصرف عدّه الكثيرون تجاوزًا لصلاحياته كرئيس مؤقت، لكنه كان يهدف حسب رؤيته إلى تجنيب البلاد خربة معزة أخرى، حينما حاولوا اعتقال اللواء محمد كنجو، فخاضوا معارك شرسة مع أزلامه، كلفت البلاد أرواحًا عديدة.
عبر الشرع عن رؤيته مرات عديدة بكل شفافية، ويبدو أن هذه الصراحة جزء أصيل من شخصيته، بما يذكرنا كثيرًا بشخصية حسن نصر الله، فقد كانت له تصريحات مماثلة (هل هي ناتجة عن تشابه في الخلفيات الإسلامية؟)، فلو عدنا لوثائق المخابرات السورية وما كتبته عنه خاصة وثائق فرع “فلسطين”، نجد أن لتلك الأجهزة معرفة سابقة بأهدافه كلها، وأنه عبر عن تلك الأهداف في عدة مناسبات بلا أي مواربة، وأنه عمل فعلًا طوال سنوات على مشروعه السياسي، الذي لم يكن سريًا أبدًا، بل إنه وعد الكثيرين من أتباعه في فترة حكمه لإدلب بدخول دمشق، ووصل ذلك إلى تحديد فترة زمنية تقريبية لهذا الدخول، حسب شهادة الكثيرين، أي أنه لم يخفِ أبدًا أهدافه منذ البداية، بل بتوقيتها أحيانًا.
هذا النوع من التركيبة النفسية، يجعل للفعل السياسي معها جانبًا مخيفًا جدًا وجانبًا مطمئنًا، الجانب المخيف أننا غالبًا ما نكون أمام شخصية استثنائية بكل معنى الكلمة، ذات ذكاء حاد وقدرات عقلية ونفسية أعلى مما نتخيل، لدرجة أن “الجولاني” كان قادرًا على خداع مخابرات الأسد، بل والسخرية منها على مدى سنوات متعددة، وبالتالي فإن معارضته لن تكون بالأمر السهل أبدًا، أما الجانب المطمئن، فأنه يمكن فهم هذه الشخصية جيدًا، توقع أفكاره ومشاريعه، وهو ملتزم بكل تلك المشاريع، صادق تمامًا بكل ما يقوله (على عكس بشار الأسد، الذي يصفه جميع من حوله بالكاذب) وبالتالي يمكننا تحديد موقفنا السياسي منه، وتحديد ما نريد عمله أيضًا من مواقف تأييد أو معارضة، وهذا ما سيرفع من سوية العمل السياسي في بلدنا، لكن إذا توفرت معارضة قادرة على العمل بهذه السوية، وهو ما أشك به حاليًا.
عنب بلدي
————————–
تنفست أنقرة.. فانتعشت دمشق/ غزوان قرنفل
تحديث 25 شباط 2025
تقول الرواية في نسختها التركية، إن محادثات الحكومة التركية مع عبد الله أوجلان، زعيم حزب “العمال” القابع في سجن جزيرة إيمرالي منذ أكثر من ربع قرن، قد قطعت شوطًا بعيدًا، ووصلت ربما إلى عتبات اتفاق نهائي يتضمن إعلانًا من أوجلان بالصوت والصورة بحل حزب “العمال” وإلقاء السلاح والالتزام بوحدة الجغرافيا التركية، واتخاذ السبل السياسية وسيلة للانخراط بالشأن العام وتحقيق المطالب، مقابل الاستجابة للمطالب العادلة للكرد والعفو عن أوجلان وإطلاقه من محبسه، وهو في الواقع اختراق مهم في جدار صراع مستحكم في تركيا منذ أكثر من 40 عامًا، وهو مكسب بكل المعايير للمجتمع التركي كله، كردًا وتركًا، لأنه يطوي صفحة مليئة بالدم والضحايا والكراهية، ويؤسس لسلام نأمل أن يكون مستدامًا.
وتقول الرواية في نسختها العربية، إن قيادة السلطة السورية الجديدة قاومت ضغوطًا كي لا تدخل في صراع عسكري مع سلطات شرق الفرات، وأنها أرادت أن تفسح المجال للحلول السلمية التي من شأنها خلق حالة استجابة لبعض مطالب الكرد السوريين المحقة، مقابل انضواء قوات “قسد” تحت مظلة الجيش السوري الجديد كأفراد وليس ككتلة عسكرية واحدة، خصوصًا أن تركيا نفسها كانت قد فتحت ورشة حوار موسع مع خصومها من حزب “العمال” لطي صفحة الحرب.
وبالتالي فإن ما حصل في تركيا من وقائع وتطورات في مسار السلام مع قائد حزب “العمال”، سمع صداه في دمشق أيضًا، وأثمر اتفاقًا غاية في الأهمية بين السلطات السورية الجديدة وقيادة “قسد” انتصر فيه العقل على الجهل، والسلام على الدم. حل استجابت فيه السلطة السورية لبعض مطالب الكرد واستجاب الكرد لموجبات الحفاظ على سوريا ووحدتها الجغرافية، وتجنيبها مزيدًا من الصراعات.
وتقول روايتنا أيضًا في فصل من فصولها تحت عنوان “الحكمة”، إن دورًا بارزًا ونصائح في العمق قدمها الزعيم مسعود برزاني لقيادة “قسد” أسهمت إلى حد بعيد في تهيئة الفرصة لخلق إطار الحل الذي تبنته الأخيرة، وأعلنت عن ذلك رسميًا بعد أن هنأ مظلوم عبدي أحمد الشرع بتوليه رئاسة سوريا. وبالإضافة إلى تسليم ملف النفط لحكومة دمشق على أن تكون “قسد” جزءًا من شركاء السلطة الجديدة، خاصة في إدارة بعض الملفات في مناطقها، أعلنت عزمها إخراج المقاتلين الأجانب من صفوفها ومغادرتهم سوريا، وهو قرار إيجابي يسهم في تليين المواقف ويستجيب لهواجس تركيا المتعلقة بأمنها القومي، كما يسهل فرص نجاح مبادرة الحل على النسق التركي من الصراع.
يمكن القول إذًا، إن أنقرة تنفست ودمشق انتعشت، وإن مساحة أفق العمل على تأسيس الجمهورية الجديدة قد توسعت كثيرًا، وإن فرص خلق توافقات وطنية كبرى تتعلق بشكل الدولة ومحتوى الدستور وآلية إدارة السلطة ونطاق ممارستها صارت ممكنات وطنية، وصارت كل تلك الممكنات في ملعب السلطة السورية الجديدة التي عليها أن تدرك أنها لا يمكن أن تدير دولة كسوريا بنفس الطريقة والأفكار التي أدارت فيها مدينة من مدنها، وأن تكريس فكرة المواطنة وسيادة القانون هما ركيزتا سلامة الجمهورية الجديدة والحؤول دول تصدعها، وأن الفكر الجهادي لا مكان له في إدارة شؤون الدولة والناس، ويجب ألا تكون له فسحة في الفضاء العام أصلًا، وأن إصرار البعض عليه سيخلف وباء فكريًا وعقيديًا لا قبل للدولة السورية الجديدة بتحمل تبعاته وآثاره، وأن العبور إلى المستقبل يقتضي بالضرورة خلع عباءات الماضي الرثة والأخذ بأسباب النهوض الاقتصادي والمعرفي، وهو أكثر أهمية وجدوى من السعي لفرض ما يعتقده بعض هؤلاء “شرع الله” على الناس على عكس إرادة الله نفسه، الذي رفض الإكراه والاستحواذ على خيارات الناس وقرارهم الحر.
على السلطة الجديدة أن تتعلم درسًا من تجربة “قسد” أيضًا، وقرارها الإيجابي في الانخراط بالحياة السياسية تحت السقف السوري، وأن تجعل هذا السقف سقفًا لكل قراراتها وإجراءاتها المتعلقة في إدارة الدولة وشؤون الناس، فتأمين الخدمات الأساسية أكثر أهمية للإنسان من إصدار تعميم بعدم المجاهرة بالإفطار في رمضان.
ربما أجبرت الظروف الدولية “قسد” على التزام هذا الخيار، لكن ذلك لا يلغي صوابية قرارها وحسن قراءتها للمشهد الإقليمي والدولي، ومثل تلك السياسة أولى للسلطات السورية اتباعها، وأزعم أنها تفعل على الأقل ضمن مستواها القيادي الأول حتى الآن، وننتظر أن تتكرس نهجًا عامًا في مختلف مستويات السلطة التي يتعين أن تجعل مصالح الناس العليا نصب عينيها وهدف أعمالها، بدلًا من صرف الجهد في التبشير بدين يؤمن فيه الناس ويمارسونه منذ قرون سحيقة.
اليوم يمكننا القول إن العقل والحكمة في تفكيك صراع مفترض كان يمكن أن يستكمل دمار سوريا قد انتصرا، فانتصر السوريون جميعًا ووضعوا سوريا الجديدة على سكة الحلول التي تتيح لقطار الجمهورية الجديدة أن يقلع نحو المستقبل.
عنب بلدي
—————————
مؤتمر الحوار الوطني المقيد بتوصيات ورؤى اللجنة التحضيرية/ بسام سفر
تحديث 25 شباط 2025
بذل السوريون والسوريات سنوات طويلة من النضال ضد القمع والاستبداد، مروا خلالها بتدمير المجتمع السوري خلال عهد نظام الأسد الأب، ثم استئناف التدمير بوتيرة أقوى أيام الابن الذي استعان بالقوات والفصائل المسلحة الحليفة والطيران الروسي بهدف إنهاء الثورة الشعبية، ثم إنشاء مناطق خفض التصعيد للوصول إلى حالة الاستقرار التي مر بها النظام المخلوع ما بين العامين 2018 و2024.
إن تعنت رأس النظام السابق، وعدم الدخول الجدي في الحل السياسي، رغم نصائح حلفائه في التقدم بعملية سياسية تفاوضية، وتفعيل اللجنة الدستورية المصغرة، جعل من إمكانية استمراره في الحكم شبه معدوم، رغم كل الفرص التي قدمتها الدول العربية وجامعتها خلال العام الأخير.
وبعد فرار بشار الأسد وسقوط نظامه في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الماضي، اختارت فصائل المعارضة المسلحة أحمد الشرع رئيساً للبلاد بعد اندماجها في الجيش السوري، وجاء إطلاق اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني بعد مرور أكثر من شهرين على إسقاط النظام، وتشكل قوام اللجنة من سبع شخصيات وطنية بينهم سيدتان.
وعقدت اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني جلستها الأولى في مقر الثقافة في محافظة حمص، في الـ 16 من شباط/ فبراير الحالي، بمشاركة كبيرة لشخصيات وفعاليات مجتمعية، وتوالت الجلسات في محافظات أخرى كطرطوس وحماة والسويداء وريف دمشق والرقة والقنيطرة.
لكن الخطاب الذي قدّمه رئيس اللجنة والناطق الرسمي باسمها، حسن الدغيم، حول توجهات اللجنة يستوجب النقاش والقراءة وفق بعض السوريين الفاعلين في الشأن العام والسياسي.
ونشرت شخصيات سورية مدعوة للمؤتمر اعتذارها، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بسبب ضيق الوقت وعدم مناسبة الترتيبات الأخرى التي قامت بها اللجنة المنظمة.
لا معايير محددة للمشاركين
وأثيرت الأسئلة حول المعايير التي وضعها مشكلو اللجنة للشخصيات المشاركة، وأسباب اختيار البعض دون غيرهم من الشخصيات السياسية المعارضة للنظام المخلوع، فالمعايير غير واضحة ولم يتم الإفصاح عن محدداتها.
كما أن معايير الاختيار والتعيين غير معروفة في مبادئ قياسية، ذلك رغم كل الضجيج الذي صاحب تشكيل اللجنة، ونشر الصفات والسمات التي يتمتع بها أعضاء اللجنة من حيث الشهادة العلمية، والعمل السياسي والمهني السابق والحضور في أعمال سابقة كشخصية عامة، وكشخصية وطنية معارضة.
وصرح الدغيم أن” العدالة الانتقالية، والبناء الدستوري” سيكونان على رأس أولويات الحوار الوطني، وأنه” لا محاصصة طائفية وعرقية، والمؤتمر سيراعي التنوع الموجود في المجتمع السوري”.
وجاء إعلان رئيس اللجنة أنه لا تحديد واضح لمحاصصة ومراعاة لتركيبة طائفية وعرقية، وإنما المراعاة لتركيبة المجتمع السوري بيد اللجنة ذاتها، على اعتبار أن اللجنة هي المكلفة من قبل السلطة الجديدة في الإعداد لمؤتمر الحوار، وأنها جزء من هذه السلطة، لكن الأمر طرح تساؤلاً آخر هو هل الابتعاد عن المحاصصة الطائفية والعرقية يقوم على عدم اعتماد شكل تركيب طائفي موجود في المجتمع؟
فالتركيبة الطائفية كانت معتمدة حتى في سلطة النظام المخلوع، والآن شكلها يتجلى في تركيبة البناء الطائفي والمجتمعي في كل من المحافظات السورية، فهل يمكن خلع التركيبة الطائفية في محافظة السويداء أو اللاذقية مثلاً؟ وهل ستختفي تركيبة مجتمعات الريف السوري المسيحي سواء في السويداء أو العديد من القرى المسيحية في حمص؟
فالمكونات ستبقى موجودة في المجتمع السوري، لكن المطلوب التخلي عن السلوك الطائفي في الحياة السياسية والاجتماعية السورية، واعتماد مبدأ المواطنة السورية لجميع المواطنين السوريين بغض النظر عن المنبت الطائفي للمواطن السوري، فالمواطنة، وحقوق الإنسان هي التي يجب إظهارها وتظهيرها في الحياة العامة، والحياة السياسية السورية بعيداً عن الشحن الطائفي والتشبيح الذي كان سائداً في سوريا منذ بداية الثورة السورية في العام2011، وحتى انتهاء الديكتاتورية والاستبداد البعثي الذي جسده النظام المخلوع بشكل واضح في الفصائل الطائفية والمناطقية.
ولم ينسَ السوريون بعد الأسماء التي استخدمها النظام لمجموعات مثل كتائب البعث والدفاع الوطني والكتائب التي شكلها النظام الإيراني وحزب الله اللبناني في سوريا مثل الحرس الثوري الإيراني، وفيلق القدس، ولواء فاطميون، ولواء زينبيون، وعصابات كتائب أهل الحق، وقوات الباسيج الإيرانية، ومنظمة بدر، وجيش التحرير الفلسطيني، وسرايا طليعة الخرساني وغيرها. ذلك بالإضافة إلى الجيش النظامي، والفرقة الرابعة التي لعبت دوراً كبيراً في الحفاظ على نظام عائلة الأسد.
اللجنة كطرف
أعلنت اللجنة سابقاً أنها صاحبة مسؤولية محددة في تسيير وإعداد المسودات الخاصة بالنقاش والحوار بين السوريين، وأنها ليست “طرفاً في الحوار”، لكن الدغيم عاد وقال إن “قوات سوريا الديمقراطية ( قسد)، لن تكون موجودة في المؤتمر، إلا إذ سلمت سلاحها لوزارة الدفاع”.
وأضاف أنه يرفض مصطلح “شمال وشرق سوريا”، لأن “المنطقة تتكون من ثلاث محافظات رئيسية، هي دير الزور والحسكة والرقة، ولا يوجد كيان اسمه شمال شرق سوريا، بل توجد سلطات أمر واقع تفرض سيطرتها على المحافظات الثلاث”.
وأوضح الدغيم أن” الحوار الوطني لن يتم مع الفصائل العسكرية أو المجموعات المسلحة، وإنما مع النخب المجتمعية والسياسية الفاعلة، وأن التواصل مع التنظيمات العسكرية هو من اختصاص وزارة الدفاع والأجهزة الأمنية، وليس ضمن نطاق عمل اللجنة التحضيرية للحوار الوطني”.
وأشار إلى أن “الجناح السياسي للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا يماثل أجنحة الفصائل الأخرى، وأن مؤتمر النصر أصدر قراراً بحل الفصائل المسلحة وحصر شرعية حمل السلاح بيد الدولة، وهو ما فعلته باقي الفصائل المسلحة، بهدف إعادة بناء الجيش وقوات الأمن وفق أسس وطنية بعيداً عن الولاءات الطائفية والعرقية”.
إن ما جاء على لسان الدغيم يحمّل اللجنة مسؤولية إضافية، فتبدو كأنها صاحبة قرار في منع واستقبال جهات عسكرية وسياسية مباشرة.
معايير مزدوجة
إن رفض المصطلح الجغرافي “شمال شرق سوريا”، هو مسألة خارج صلاحيات اللجنة، في حين وجود مصطلح “شمال غرب سويا” و”الجنوب السوري” و”الساحل السوري” وغيرها من المصطلحات الجغرافية التي كانت موجودة وكرّستها طبيعة سياسات النظام السابق في كل منطقة ثم اندلاع النزاعات المختلفة وتوزع مناطق السيطرة خلال الأعوام الـ 13 الماضية.
وما من سوري لا يعرف المحافظات الثلاث، لكن الجغرافيا لا تدخل في التحديات السياسية السورية، وإنما المواطن والإنسان السوري هو الذي يحدد الموضوعات السياسية في بلده، كما أن مصطلح “سلطات الأمر الواقع” على مناطق سورية عديدة بغض النظر عن السلطات الجديدة في دمشق، وأوضح الأمثلة فصائل الأمر الواقع قائمة في السويداء، لكن الأمر لم يمنع عقد جلسة حوار في السويداء.
وبغض النظر عن الحوارات القائمة بين قوات سوريا الديمقراطية والسلطة المركزية في دمشق حول عملية الانضمام إلى الجيش السوري، فإن الفصائل التي كلفت السيد أحمد الشرع في رئاسة البلاد ليست ذات صلاحية سياسية، وإنما ذات صلاحية عسكرية، كذلك فالجناح السياسي للإدارة الذاتية يماثل في الشرعية والمشروعية ذات الفصائل التي حضرت مؤتمر النصر، وبالتالي ينبغي أن يوازي اندماج “قسد” في الجيش إعطاء صلاحيات سياسية لمجلس سوريا الديمقراطية والقوى السياسية التي تخوض حوارات المؤتمر الوطني.
ومما لا شك فيه أن الاستماع إلى آراء وحضور القوى السياسية في القامشلي وريفها جزء من حوار المؤتمر الوطني السوري، فلا يمكن تجزئة المواطنين السوريين وتقسيمهم بحسب الجغرافيا أو العرق أو الطائفة. والسوري هو مواطن سوري سواء كان في أقصى الشمال أم في الجنوب أو الداخل أو الساحل، كما لا يمكن تجزئة المواطنة والمواطنين بحسب الانتماء القومي العربي والكردي والتركماني والسرياني، لذا كان من الواجب السياسي والوطني للجنة الحوار الوطني عدم استبعاد أي مواطن سوري بسبب انتماءه القومي.
والمواطن والإنسان السوري في النهاية هو صاحب حصة في الأرض والجغرافيا والوطن السوري على أساس وحدة الوطن السوري أرضاً وشعباً.
خلاصة
إن مؤتمر الحوار الوطني هو فرصة لمستقبل العمل السياسي في البلاد بعد التصحر الذي عاشته سوريا في ظل الديكتاتورية والقمع والاعتقال السياسي، إلى جانب المجازر التي عمل النظام على مواجهة الشعب السوري بها منذ مجازر حافظ الأسد في حماة وتدمر، واتساع رقعتها في مرحلة الابن لتشمل تدمير المدن السورية واحدة تلو الأخرى.
لكن ما جاء في تصريحات رئيس اللجنة من أن أحد مهام مؤتمر الحوار الوطني هو “دعم الحكومة الانتقالية” وعدم معارضة قرارات مؤتمر النصر، هو تحديد وتأطير لمخرجات مؤتمر الحوار، ومن الضرورة الإيضاح أن هذا المؤتمر يجب أن يكون ذا صلاحيات واسعة غير مصادرة، وألا يقتصر توجيه المخرجات والتوصيات على الحكومة الانتقالية، بل ينبغي أن تشمل السلطة السياسية الجديدة لتحديد مهام الحكومة الانتقالية بعد حكومة تصريف الأعمال التي قادها البشير.
ومن جانب آخر، قال رئيس اللجنة إن قضية الاجتياحات والتوغلات الإسرائيلية في الجولان المحتل، ومدينة القنيطرة تحتاج إلى موقف سياسي واضح من الحكومة الانتقالية القادمة.
وتحتاج القضية الوطنية السورية إلى موقف سياسي عملي يقوم على رفع شكوى إلى مجلس الأمن، والأمم المتحدة، والجامعة العربية، وفضح السياسية العدوانية التي تقوم بها حكومة نتنياهو، فإحدى مهام مؤتمر الحوار الوطني السوري هو التأكيد على وحدة التراب الوطني السوري وسيادته، بما فيها الأجزاء التي تسيطر عليها الاحتلالات المتعددة.
————————
فصل جديد في العلاقات التركية-السورية/ هارون ي. زيلين, سونر چاغاپتاي
تحديث 25 شباط 2025
يتعيّنُ على أنقرة وواشنطن تقديمُ حوافزَ للقيادةِ الجديدةِ في دمشقَ لتعزيز عملية الحكم الشامل وتحقيق النجاح في سوريا.
عندما شنّت “هيئة تحرير الشام” هجومها العسكري الذي أطاح بنظام بشار الأسد في أقل من أسبوعين، فعلت ذلك بموافقة تركيا. وقد وضع هذا التطور الكارثي العلاقة بين أنقرة ودمشق في صميم عملية الاستقرار في سوريا في مرحلة ما بعد الأسد .ورغم استمرار الولايات المتحدة وتركيا في تصنيف “هيئة تحرير الشام” كمنظمة إرهابية رسمياً، يبدو أن تركيا اتخذت قراراً صعباً يتعلق بإعادة بناء الدولة في سوريا المجاورة. وتقوم بذلك عبر الحكومة الانتقالية التي تقودها “هيئة تحرير الشام”. كما أن لإدارة ترامب مصلحة كبيرة في رسم ملامح سوريا الجديدة في مرحلة ما بعد الأسد، وذلك انسجاماً مع الأهداف المعلنة للولايات المتحدة والمتمثلة في تقليص النفوذ الإيراني بالمنطقة، ومحاربة الإرهاب، والانسحاب النهائي للقوات الأمريكية من سوريا. ولتحقيق هذه الأهداف، يتعين على واشنطن فهم طبيعة العلاقة بين الحكومة السورية الجديدة وتركيا، الحليف في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والاستفادة منها بشكل أمثل.
تطور العلاقة بين تركيا وهيئة تحرير الشام
أكد الاجتماع الذي عُقد في الرابع من شباط/فبراير في أنقرة بين الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع والرئيس التركي رجب طيب أردوغان – وهي الزيارة الثانية التي يقوم بها الشرع إلى الخارج منذ توليه منصبه- على تحول ملحوظ في ديناميكيات القوة بين الطرفين في صياغة مستقبل سوريا. خلال السنوات الأخيرة، سعت تركيا الى تطبيع العلاقات مع نظام الأسد، الذي كانت ترفضه سابقاً، في حين كانت “هيئة تحرير الشام” التابعة للشرع تدير دويلة في شمال غرب سوريا، المتاخمة لتركيا، فيما يشبه حالة من الصراع المجمد. كما تشير الأحداث الأخيرة إلى أن العلاقة بين أنقرة ودمشق أصبحت الآن أكثر متانة، بعد أن قطعت شوطاً طويلاً منذ عام 2012، حين تولى الشرع قيادة “جبهة النصرة”، التي تحولت لاحقاً إلى “هيئة تحرير الشام”
مع مرور السنين، أصبح محور انتقاد الشرع للسياسة التركية بشكل عام ولأنقرة بشكل خاص أكثر وضوحاً. في البداية، كان الصراع ذا طابع أيديولوجي بحت، إلا أنه تحول فيما بعد ليأخذ طابعاً قائماً على الجغرافيا السياسية والمصالح. فعلى سبيل المثال، انتقد الشرع في أول رسالة دعائية له بصفته زعيماً لـ “جبهة النصرة” في كانون الثاني/يناير 2012 تركيا لدورها كحليف للولايات المتحدة و”ادعاءاتها الزائفة بخدمة الأمة الإسلامية بأكملها.” ويعكس هذا التصريح الأيديولوجي الجهادي التقليدي رؤية مفادها أن قادة تركيا ليسوا إسلاميين في الواقع، بل ينفذون أوامر واشنطن ولا يخدمون مصالح المسلمين في العالم.
يكشف هذا عن تناقض جلي مع تصريحات الشرع في عام 2023، عندما وجّه انتقاداته للدول التي بدأت بتطبيع علاقاتها مع نظام الأسد، مشيراً إلى أن تركيا بدّلت استراتيجيتها من “دعم الثورة حتى إسقاط النظام” إلى محاولة تحقيق هدفين أساسيين هما، “إعادة اللاجئين إلى سوريا ومنع تحول حزب العمال الكردستاني إلى دولة على الحدود التركية.” تعتبر تركيا الجماعات الكردية المسيطرة على شمال شرق سوريا امتداداً لحزب العمال الكردستاني، الخصم المحلي لأنقرة. ومن هذا المنطلق، اعتقد الشرع أنه من الضروري أن تتخذ “هيئة تحرير الشام” خطوات حاسمة لإسقاط النظام بدلاً من الاعتماد على تحركات خارجية، مع تأكيده على أن التغيير في السياسات التركية كان مرتبطاً بمصالحها الوطنية، حتى وإن اختلف معها.
تجدر الإشارة إلى أن تركيا كانت قد صنّفت “جبهة النصرة” و”هيئة تحرير الشام” ضمن قائمة المنظمات الإرهابية، وذلك وفقاً لقائمة الأمم المتحدة للتصنيفات. وأضف إلى ذلك أن المسؤولين الأتراك كانوا يمتنعون عن إقامة أي علاقة مع “هيئة تحرير الشام” أو “جبهة النصرة”، وذلك على المستويين السياسي والدبلوماسي على أقل تقدير.
غير أنه في السنوات التي تلت اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم بوساطة روسية-تركية في آذار/مارس 2020، بدا أن جهاز الاستخبارات الوطنية التركي – الذي انخرط في الحرب الأهلية السورية منذ ما يقرب من عقد – قد أظهر مؤشرات على تغيير موقفه وإقامة علاقات أوثق مع “هيئة تحرير الشام”. واستناداً إلى المحادثات التي أجراها الكاتب مع العديد من المحللين، فقد استلزم ذلك تزويد “هيئة تحرير الشام” بالأسلحة والتدريب والمعلومات الاستخباراتية التي مهدت للهجوم الذي أطاح بنظام الأسد. كما تكشف الاتصالات الخاصة مع مصادر تركية عن أنه بحلول صيف عام 2024، أدركت أنقرة أن الأسد لم يكن راغباً في قبول شروطها لإنهاء الحرب، والتي اشتملت على إعادة ما يقرب من أربعة ملايين لاجئ سوري موجودين في تركيا. وعلى إثر ذلك، شرعت أنقرة في العمل على دعم هجوم “هيئة تحرير الشام” إما لإجبار النظام على العودة إلى طاولة المفاوضات من موقف ضعف أو للإطاحة بالأسد بشكل نهائي.
انخراط أنقرة في مرحلة ما بعد الأسد
منذ سقوط النظام في الثامن من كانون الأول/ديسمبر، برزت تركيا كأكثر الدول انخراطاً مع الحكومة الانتقالية في دمشق وذلك في إطار مواجهتها لمهمة شاقة تتمثل في بناء الدولة المجاورة ، وعلى رأسها تعزيز الاستقرار. فإذا انزلقت سوريا مجدداً إلى الفوضى، ستواجه تركيا أكبر مخاوفها المتمثلة في عودة حالة الاضطراب، وموجات لجوء جديدة، وزيادة الهجمات الإرهابية.
ونتيجةً لذلك، عقدت المؤسسات الحكومية التركية والمنظمات غير الحكومية – بمختلف توجهاتها السياسية والدبلوماسية والتجارية والإنسانية – ثلاثة وتسعين اجتماعاً مع الحكومة الجديدة حتى لحظة كتابة هذه السطور. وفي المقابل، عقدت المملكة العربية السعودية، التي تأتي في المرتبة الثانية من حيث النشاط، أربعة وثلاثين اجتماعاً مماثلاً. وفي حين ركزت معظم الدول على العاصمة، كان المسؤولون الأتراك يجوبون مختلف المناطق السورية مثل حلب وداريا ودير الزور وحماة وحمص وإدلب واللاذقية – للقاء المسؤولين المحليين والوقوف على متطلبات مساعدة سوريا وإعادة إعمارها. ويبدو جلياً أن أنقرة مصممة على اتخاذ كافة التدابير اللازمة لضمان نجاح سوريا الجديدة.
ستمثل الشركات التركية ذات الخبرة الراسخة مصدر قوة لهذا الجهد، فبجانب تنوع اقتصادها وشركاتها، أثبتت تلك الشركات قدرتها على الازدهار في الدول التي تعاني من الضعف أو الفشل، مثل العراق في ذروة صراعه الطائفي الداخلي وفى جنوب السودان. وفي الوقت الحالي، تتمتع الشركات التركية بموقع متميز لتقديم السلع والخدمات إلى سوريا، وهو ما سيكون عاملاً حاسماً في نجاح الحكومة الجديدة.
توصيات سياسية
توفر العلاقة الناشئة بين دمشق تركيا نفوذاً كبيراً للحكومة الجديدة، إلا أن السؤال يكمن في كيفية تعامل قادة سوريا الجدد مع هذا النفوذ مع مرور الوقت. فرغم أن دمشق ليست خاضعة لتركيا، إلا أنها ستستمع إلى نصائح أنقرة – ولا سيما إذا كانت مصحوبة بحوافز مثل توفير الكهرباء من الشبكة التركية أو الضغط على واشنطن والاتحاد الأوروبي لإلغاء العقوبات المفروضة على دمشق.
وتدرك القيادة الجديدة أنه إذا لم تبدأ عملية إعادة الإعمار بصورة عاجلة، وإذا أخفقت في توفير الخدمات الأساسية في المستقبل القريب، فإنها ستواجه معارضة من العناصر المتشددة في الداخل، بما فيها “تنظيم القاعدة” وتنظيم “الدولة الإسلامية”. وعليه، سيتجاوب الشرع مع نصيحة أنقرة إذا ما اقترنت بدعم دولي وأموال لإعادة الإعمار.
وعلى نحو مماثل، لدى إدارة ترامب مصالح كبيرة في ضمان نجاح سوريا، بدءاً من منع تدفق المزيد من اللاجئين وصولاً إلى الحد من النفوذ الإيراني. غير أنها تفضل تجنب تخصيص موارد أمريكية كبيرة لتحقيق ذلك. ولتحقيق التوازن بين هذه الأهداف، ينبغي على واشنطن الاستفادة من العلاقة الجديدة بين تركيا وسوريا. فمن خلال العمل المشترك، يمكن لكل من أنقرة وواشنطن تقديم الحوافز اللازمة لإحداث تغيير في دمشق وتحقيق الاستقرار في سوريا ووضع حد للتهديدات المنطلقة من هناك. وستكتسب ثلاث محفزات أهمية خاصة:
إلغاء العقوبات المتعلقة بأجهزة الدولة في عهد الأسد، لا سيما في قطاعات مثل الكهرباء والمصارف، مما قد يوفر إغاثةً أوليةً للسكان.
توفير الموارد اللازمة لإعادة الإعمار، لا سيما من الدول الأوروبية التي تقلق من تدفقات اللاجئين ودول الخليج الغنية التي تخشى من احتمال عدم الاستقرار الإقليمي وفقدان النفوذ.
دعم الاعتراف الدولي بالحكومة الانتقالية التي تقودها “هيئة تحرير الشام” ، طالما أنها تُظهر علامات أكبر على الشمولية.
وفي المقابل، على الرئيس ترامب والرئيس أردوغان أن يطالبا دمشق بما يلي:
وضع نهج شامل حقيقي تجاه صياغة الدستور الجديد والحكم.
مواصلة منع الجهاديين من استخدام الأراضي السورية للتخطيط لهجمات خارجية.
مواصلة ملاحقة فلول نظام الأسد وحزب الله والشبكات الإيرانية المتورطة في تهريب الكبتاغون والأسلحة.
العمل مع منظمة حظر الأسلحة الكيميائية لتدمير ما تبقى من البنية التحتية للأسلحة الكيميائية لنظام الأسد.
الدكتور هارون ي. زيلين هو زميل أقدم في برنامج الزمالة “غلوريا وكين ليفي” في “برنامج جانيت وايلي راينهارد لمكافحة الإرهاب والاستخبارات” في معهد واشنطن، حيث يتركز بحثه على الجماعات الجهادية العربية السنية في شمال أفريقيا وسوريا، وعلى نزعة المقاتلين الأجانب والجهادية الإلكترونية عبر الإنترنت.
الدكتور سونر چاغاپتاي هو زميل أقدم في برنامج الزمالة “بايير فاميلي” ومدير “برنامج الأبحاث التركية” في معهد واشنطن.
معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى
——————————-
فصل الموظفين في السويداء .. مكافحة الفساد أم انتقام من الماضي؟/ ضياء صحناوي
“النظام السابق قتل زوجي والحكومة الحالية تقتلنا بالجوع”
25 شباط 2025
“النظام السابق استغل دم شقيقي كي يبقى، والحكومة الجديدة تعاقبني على دمه، الذي أكاد أجزم أنه سال نتيجة رصاصة من الخلف، ربما كانت لرفضه أمراً يقتضي أذيّة أحد السوريين” هذا ما تقوله المعلمة داليا بريك المفصولة من عملها كمديرة في إحدى مدارس ريف السويداء. وإذا كانت الحكومة السورية قد تجد تبريرًا ما لقرارها ضد بريك، فكيف يمكن تبرير قرار فصل زوجة معارض قُتل تحت التعذيب في سجون نظام الأسد، لأنه رفض السكوت عن نصرة دماء السوريين الذين انتفضوا ذات يوم؟
كانت خلود شيّا تحدّق في صورة تحمل أمراً إدارياً بفصل قائمة من عمال التأمين والمعاشات في سوريا، تضمنت اسمها، كأنها تبحث عن كلمةٍ مفتاحية تفسّر لها لماذا فصلوها بعد خمس سنوات من العمل الدؤوب. تقول: “أنا زوجة ضابط مفقود منذ 12 عاماً، وظفتني الحكومة السابقة لأسدّ جزءاً من متطلبات أبنائي. والآن فُصلتُ من عملي رغم أنني لم أتغيب ولو ليومٍ واحد”.
لم تكن خلود شيّا تعلم أنها ستتحول من “ضحية” للنظام السابق إلى “ضحية” للإدارة الجديدة. فنظام الأسد منحها الوظيفة كـ”تعويض” لفقدان زوجها في معاركه، أما الإدارة الحالية فتعاملها كـ”إرث فاسد” يجب إزالته، ما جعلها تقول لسوريا ما انحكت: “بشار الأسد قتل زوجي، بينما قتلت الإدارة الجديدة الأمل بأن أعيش بكرامتي الإنسانية”.
وخلود ليست الوحيدة في مدينة السويداء، ففي التاسع من كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٥، وبين لافتاتٍ كُتب عليها “الوظيفة ليست منّة”، وأخرى “الفصل انتقام”، وقف طارق (34 عاماً، اسم مستعار، عاملٌ في معمل الأحذية الذي كان ينتج أحذيةً عسكرية للجيش السوري)، حاملاً ابنته الصغيرة، يقول بألم: “النظام السابق استغلنا كأدواتٍ لتحقيق أهدافه، والحكومة الجديدة تخوننا بتشريدنا”. وبذلك تعود ساحة السويداء السورية لتشهد تصاعداً متجدّداً في وتيرة الاحتجاجات، حيث تتجمّع الحشود أسبوعيّاً، رافعة شعاراتٍ ضدّ سياسات الفصل التعسفي التي تطال عدداً من الموظفين، ممّن تراهم حكومة تصريف الأعمال لا يستحقون الوظيفة، بناء على ارتباطها السابق بسياسات التوظيف التي انتهجها نظام الأسد الهارب.
وفي سياقٍ مماثل، قالت المدرّسة تيجان شلهوب لسوريا ما انحكت عن زوجها المدرّس خالد قرموشة، الذي جاء اسمه بين المفصولين ضمن القرار الصادر عن وزارة التربية في حكومة تصريف الأعمال بتاريخ 29 كانون الأول/ ديسمبر 2024 والمصادق عليه بتاريخ 15 كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٥: “زوجي مدرّس لغة عربية، فُصل فجأةً من عمله على خلفية القرار الأخير، فقط لأنه عيّن على خلفية نجاحه في مسابقة تحمل اسم المسرّحين وذوي الشهداء عام 2018 “. مشيرةً إلى أن زوجها معارضٌ لنظام الأسد، وكانت خدمته العسكرية إجبارية وقد سرّح عام 2012 ولم يشارك بسفك دم السوريين. وقد لاحقته قوات أمن النظام خلال السنوات الأخيرة بناءً على خلفيته المعارضة لسياساته، مستطردة: “لماذا يُعاقب الآن؟ الوظيفة كانت حقاً اكتسبه باجتهاده وشهادته”.
وتضيف شلهوب؛ قصة خالد ليست استثناء، فهو واحدٌ من مئةٍ واثني عشر معلماً/ةً، فصلوا في محافظة السويداء مؤخراً، بحجة أنّ تعيينهم ارتبط بالسياسات الوظيفية للنظام السابق، لكن المفارقة أن بعضهم كزوجي دفعوا ثمن معارضتهم للنظام مرتين؛ مرةً بالتهديد بالاعتقال والحرمان من الوظيفة، ومرةً بالفصل من الوظيفة”.
والغضب هنا لا يقتصر على المفصولين فحسب، بل يمتد ليطال حتى زملاءهم/ن من الموظفين/ات الذين/اللواتي ما زالوا/ن يحتفظون بوظائفهم/ن، لكنهم/ن يعيشون في رعبٍ يومي من مصيرٍ مجهول. تقول مها (اسم مستعار لممرضة في مشفى السويداء الوطني): “كل صباح أتصفح صفحات التواصل الاجتماعي بقلق، أتوقع منشوراً عن قرار فصل قد يطالني. هذا هو ثمن بقائنا في الوظيفة: عيشٌ بلا أمان، وكابوسٌ لا ينتهي”.
يلخص المشهد القائم في السويداء تحوّلاً في مطالب الشارع السوري ككل، من هتافات الحرية التي انطلقت قبل أربعة عشر عاماً، إلى صرخاتٍ ضدّ الجوع والخوف من فقدان الوظيفة التي لا تغني من فقر ولا تسمن من جوع. فالقرارات الأخيرة لا تسبّب البطالةً وحسب، بل تكرّس الفكرة بأن الوظيفة في سوريا لم تكن يوماً حقاً أساسياً بل سلعةٌ قابلة للتصفية، تُستخدم كأداةٍ للعقاب أو المكافأة، وتجعل من الساحات مرّة أخرى مرآةً تعكس جراح السوريين، الذين يجدون أنفسهم محاصرين بين ماضٍ استُخدموا فيه كوقودٍ للحرب، وحاضرٍ يُهددهم بالفقدان الكلي لأدنى مقومات الحياة الكريمة.
“وظائف مسمومة”: كيف حوّل الأسد الوظيفة إلى أداة قمع.. وهل أصبح ذلك نهجاً حكومياً في سوريا؟
في ظلّ نظام الأسد الهارب، تحوّلت الوظائف الحكومية من وسيلةٍ لبناء الدولة إلى أداةٍ لترسيخ السلطة وقمع الأصوات المعارضة. فمنذ نشأته اعتمد النظام السابق آليات مُمنهجة لتحويل الوظيفة العامة إلى “عملة” لشراء الولاءات وتحويل المواطن إلى رهينةٍ داخل منظومة الفساد والقمع.
يقول مدرس الفيزياء عصام خداج، وهو المفصول نتيجة مواقفه السياسية في عهد النظام السابق، لسوريا ما انحكت “يحزّ في نفسي أن يتكرّر النهج السابق بحقّ أشخاص ذنبهم أنهم كانوا محسوبين على طرفٍ سياسيٍّ معاكس، لم نثر لأجل ذلك، ثرنا لأجل العدالة، ولكي تتحقّق العدالة لابُدّ من أن ننتهج نهج المسامحة والصفح”.
ويستطرد خداج “لقد فُصلت وستة عشر زميلاً لي من سلك التدريس بينهم 11 مدرّساً من السويداء و5 من باقي المحافظات على خلفية إعلانيّ دمشق ودمشق-بيروت المناهضَين للنظام السوري عام 2005، فصلنا لأننا انتقدنا ممارسات وانتهاكات الأسد وجيشه وحزبه بأقلامنا، ولا أحبّذ أن يفصل أيّ موظف بناء على موقفه كائناً من كان”.
وازدادت تلك السياسة ترسّخاً بعد انطلاق الثورة السورية منذ آذار عام 2011، وكانت أولى هذه الآليات توظيف أسر الجنود والضباط الذين قُتلوا في المعارك، بمن فيهم معارضون، تحت مسمّى “ذوو الشهداء”. لم تكن هذه الخطوة لتكريم الضحايا، بل لاحتواء غضب الأهالي وتحويلهم/ن من ناقمٍ إلى داعمٍ صامت عبر ربط مصيرهم/ن الاقتصادي به. أما الفئة الثانية، فهم المسرّحون من الجيش، من عناصر أُجبروا على القتال في حروب النظام، ثم مُنحوا وظائف حكومية كمكافأة تُخفي وراءها تهديداً ضمنياً بالعودة إلى الجبهات إن تمردوا. أما الآلية الأكثر خطورة، فهي ما يُعرف بـ”المفرّغين حزبياً”، وهم عناصر حزب البعث الذين شغلوا مناصب إدارية من دون كفاءة، بهدف ضمان ولائهم للنظام وسيطرة الحزب على مفاصل الدولة وتحويل المؤسسات إلى أدواتٍ طيّعة.
وتقول الناشطة الحقوقية لينا أبو حامد لسوريا ما انحكت إنّ “نظام الأسد لم يكتفِ بتحويل الوظيفة إلى هبة، بل جعلها سجناً لأصحابها. كانت تُمنح لشراء الصمت، أو لتحويل المواطن إلى رهينة في يد السلطة”. مضيفةً؛ إن “هذه السياسات لم تُضعف كفاءة المؤسسات فحسب، بل حوّلت الموظفين/ات إلى آلاتٍ صامتة، خوفاً من فقدان مصدر رزقهم/ن الوحيد إن انتقدوا النظام. وهكذا، تم تحويل الوظيفة من حقٍّ مدنيّ إلى أداة قمع، تُذكّر الموظف/ة دوماً بأن الولاء هو الثمن الوحيد للبقاء في الوظيفة”.
في إحدى مدارس ريف السويداء، كانت المدرّسة داليا بريك تشغل منصب مديرة المدرسة، بعد ترشيحها من الكادر التدريسي والطلاب لهذه المهمة منذ أول العام الجاري، إيماناً منهم باستحقاقها ذلك لكفاءتها ومحبّة الجميع لها. إلا أنّها باتت تنتظر مصيراً مجهولاً بعد أن شملها قرار الفصل. “تعييني كان بناءً على مسابقةٍ وزارية، لكن الحكومة الجديدة فصلتني لأنني من ذوي الشهداء. النظام السابق استغل دم شقيقي كي يبقى، والحكومة الجديدة تعاقبني على دمه الذي أكاد أجزم أنه سال نتيجة رصاصة من الخلف ربما كانت لرفضه أمراً يقتضي أذيّة أحد السوريين، فأنا أثق أن أخي لم يكن يحب أن يؤذي حتى النملة فكيف ابناء شعبه”، تقول بريك.
القرار التعسفي الذي طال المعلمة بريك شقيقة أحد الضحايا، الذي سقط أثناء خدمته الإجبارية في صفوف النظام، قد يبرّر من قبل بعض معارضي النظام، رغم أنه لا يبرّر من الناحية الإنسانية. لكن ما لا يستطيع أحدٌ تبريره هو قرار فصل زوجة معارضٍ قُتل تحت التعذيب في سجون نظام الأسد لأنه رفض السكوت عن نصرة دماء السوريين الذين انتفضوا ذات يوم. فكانت مكافأة دمه الذي سال لأجل مَن وصلوا مؤخراً إلى سدّة الحكم فصل زوجته التي كانت تعمل في معمل الأحذية التابع لوزارة الصناعة، والتي تعيل أطفالها براتبٍ لا يزيد عن عشرين دولاراً شهرياً. “النظام السابق قتل زوجي لأنهم عرفوا بمعارضته، والآن الحكومة تقتلنا نحن بالجوع”، تقول بأسى.
ثلاثمائة ألف موظف على حافة الهاوية!
تداولت مواقع ومنصاتٌ سورية أخباراً عن توسّع حملة فصل الموظفين، مُهددةً ما يقارب ثلاثمائة ألف موظف بفقدان وظائفهم، في خطوة تُفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وسط تناقضٍ صارخ بين مبررات الحكومة وواقع المؤسسات العامة.
وفي تفاصيل وثائق استطاع سوريا ما انحكت الحصول على صور نسخٍ منها كنموذج عن هذا الكم الكبير من القرارات، فقد أصدرت حكومة تصريف الأعمال قراراتٍ بالاستغناء عن خدمات سبعمائة موظف في مديرية صحة درعا، ومئة وثلاثة وثمانين موظفاً في القصر العدلي باللاذقية، وثلاثمائة موظف في وزارة الإعلام بدمشق، بينهم صحفيون عملوا لعقود. وهنا، تكمن المفارقة في الفجوة بين شعار “محاربة البطالة المقنعة” الذي ترفعه الحكومة، وحقيقة الانهيار الخدمي الذي تعانيه مؤسساتٌ حيوية. ففي السويداء مثلاً؛ تُعاني المدارس من نقصٍ حاد في الكوادر التعليمية، ورغم ذلك تمّ فصل مئة واثني عشر مدرساً/ةً. حيث يتساءل المدرس ربيع الدبس: “كيف تُبرر الإدارة الجديدة فصل عشرات المدرسين/ات في محافظةٍ تسير بعض صفوفها بمعلمٍ واحدٍ لأكثر من ستين طالباً؟” مشيراً إلى أنّ الإجراءات تفتقر إلى معايير موضوعية، وتضرب استقرار الموظفين، من دون حلّ أزمات الهيكلية.
بينما ترى المدرّسة تيجان شلهوب أنّ هذه القرارات تتجاهل حقيقة نقص الكوادر في المؤسسة التربوية على سبيل المثال لا الحصر، بينما تُسرّح أخرى في قطاعاتٍ مكتظةٍ أصلاً. وترى أنّ مثل هذه القرارات “تُكرّس سياسة العقاب الجماعي، وتحوّل الوظيفة العامة من حقٍّ إلى امتيازٍ هش، قائم على الولاء لا الكفاءة كما كان ينتهج النظام المخلوع”. وترى أنّ ذلك، لا يهدّد حياة عشرات آلاف الأسر وحسب، بل يعمّق أزمة الخدمات، والكارثة الاقتصادية.
الوجه الخفيّ للقرارات: انتقام أم إصلاح؟
في منزلٍ متواضع يجلس عمر حمزة، خريج المعهد الصناعي (٣٦ عاماً)، يتحدّث عن قرار الفصل الأخير الذي طال 44 موظفاً في شركة الكهرباء، يحاول تفسير كيف سيتحوّل من موظف إلى عاطل عن العمل، ومن أبٍ يُكافح لإطعام أبنائه الثلاثة إلى رقمٍ في ملفّ “التقليص الإداري”.
يروي عمر لـسوريا ما انحكت قصّة شقائه بالقول “خدمتُ في الجيش قسراً، لقد أُمِرتُ بمراجعة شعبة التجنيد عندما حاولت استخراج جواز سفر. أخذني النظام كرهينٍ لخدمته. وبعد تسريحي من الجيش، خضتُ مسابقةً وظيفية لأعيل أسرتي”. يضيف: “راتبي بالكاد يكفي لطعام أسبوع، فكنت أعمل بعد الدوام في أعمالٍ حرة، ومع الفصل، فقدتُ حتى هذا الراتب الهزيل، كنت على أمل أن يكون الراتب التقاعدي معيلاً لي بعد أن أشيخ وأهرم، لكن على ما يبدو فإن هذا الحلم قد تبدد”.
القصة لا تقتصر على الأرقام الجافة. فعمر، الذي أدى خدمته العسكرية في السويداء ولم يخض في جبهات القتال في المحافظات الأخرى، يؤكد: “لم أطلق رصاصة واحدة ضد أي مواطن. كنتُ حارساً في ثكنةٍ في السويداء، فلماذا أُعاقب اليوم لأن النظام السابق أجبرني على الخدمة؟”.
الحكومة تبرّر حملات الفصل بـ”إعادة هيكلة المؤسسات”، لكن عمر يرى أن الإجراءات تستهدف بسطاء الموظفين: “النظام السابق سرق شبابي بالخدمة الإجبارية، والحكومة الجديدة تسرق مستقبلي بالفصل التعسفيّ. أين العدالة؟”. ويعتبر الشاب أنه نموذجٌ لآلاف السوريين الذين تحوّلوا من ضحايا سياسات النظام إلى ضحايا قرارات “الإصلاح” التي تكرّس الإقصاء.
في خضمّ الفوضى التي خلقتها قرارات الفصل التعسفية والإجازات الإجبارية للموظفين في سوريا، تطفو على السطح أسئلةٌ تُقلق الرأي العام: هل تُخفي الإجراءات الأخيرة رغبةً حقيقية في الإصلاح، أم أنها مجرّد أدواتٍ للانتقام السياسي وتصفية الحسابات؟ وكيف يتم فصل موظفين في قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم، في وقتٍ تعاني فيه هذه القطاعات من شحّ في الكوادر، بينما تُرحّل المئات منهم/ن إلى البطالة؟
أما السؤال الأعمق، فيتعلق بـغياب دستورٍ، ولو مؤقّت، يبيّن آلية الإدارة الوظيفية وإدارة الموارد البشرية في المؤسسات الحكومية، ويحدّ من إنهاء عقود من دون وجود أسباب قانونية واضحة.
وفي هذا الصدد، يعلّق أحد الناشطين العاملين في المجال الحقوقي، وقد فضّل إخفاء اسمه: “حكومة تصريف الأعمال تخرق المعايير والقوانين الدولية لحقوق الإنسان، أولا من خلال تجميد العمل وفق دستور حتى لو كان مؤقتاً يوضح آليات قراراتها، وثانياً خرق المنطق، فلو كانت تهدف فعلياً لمكافحة الفساد، لبدأت بمحاسبة من نهبوا ملايين الدولارات وكانوا أصحاب القرار بقتل السوريين، لا بطرد موظفين بسطاء حتى لو كانوا عسكريين خدموا في جيش النظام أو من ذوي قتلى النظام”. ويضيف: “تحويل الموظفين البسطاء إلى خراف أضاحي، يؤكد أن الإصلاح شعارٌ أجوف ولا يحمل في طياته إلا مبدأ الانتقام ممن لاحول لهم ولا قوة”.
ويشدد على أنه “تتحول القرارات إلى غطاءٍ لتصفية الخصوم وتكريس الفوضى، فيما تتهاوى حقوق المواطنين تحت شعاراتٍ لا تجد طريقها إلى التنفيذ”. متسائلًا إن كان بإمكان الإدارة الجديدة أن تُجيب على سؤال المجتمع حول ما إذا كان ما يحدث إصلاحٌ أم انتقام؟.
يقول معين (اسمٌ مستعار)، مدرّس من محافظة السويداء، فصله نظام الأسد من وظيفته منذ تسعة عشر عاماً لانتقاده الانتهاكات ضد المدنيين وقمع الحريات، واعتقلته قوات الأمن إبان اندلاع الثورة السورية مرات عديدة، يقول: “إن ما يحدث من قرارات فصل بناءً على الموقف السياسي السابق للموظفين لا يختلف عما كان يحدث في زمن الأسد، وهو انتهاكٌ صارخ لحقوق الإنسان، ومناقضةٌ كبيرة لأهداف الثورة”.
اليوم، يعبّر الرجل عن خيبة أملٍ كبيرة من سياسات الحكومة الحالية، التي تقوم بحسب تعبيره بـ”اجتثاث” كلّ من ارتبط اسمه بالنظام السابق، من دون تمييز بين الجلاد والضحية، مشيراً إلى أن معظم من فُصلوا لا يمكن تصنيفهم/ن أكثر من “ضحايا” للنظام السابق.
ويضيف معين: “لم نقم بثورتنا كي نستبدل وجوهاً لتكرار النهج ذاته، فالثورة أخلاقٌ وليست انتقام. ثرنا على الظالمين لنكون بديلاً أخلاقياً، لا بديلاً شكلياً يحمل القمع نفسه بتوقيعٍ جديد. الفصل التعسفي ليس عدالة، بل انتقامٌ ومن شأنه أن يُهدر فرصة المصالحة الوطنية”.
ومن جانب آخر يرفع مهتمون بالاقتصاد تحذيراتهم من تداعياتٍ كارثية قد تُحوّل القرارات الحكومية الأخيرة إلى شرارةٍ لانهيارٍ غير مسبوق. فبحسب رأي رمزي (اسم حقيقي لأحد العاملين في الحقل الاقتصادي، ومجاز في الاقتصاد، طلب إخفاء كنيته)، سيُفاقم فصل ثلاثمائة ألف موظف معدلات البطالة لتصل إلى أكثر من ستين بالمئة، وسيؤدي حتماً إلى انزلاق آلاف العائلات إلى دائرة الفقر المدقع. ويُوضح في حديثه لسوريا ما انحكت: “الوعد بزيادة الرواتب أربعمائة بالمئة لمن سيتبقون في وظائفهم خدعةٌ خطيرة، فالقرار يستثني المفصولين/ات الذين/اللواتي سيواجهون/ن الجوع حتماً. وإن الحكومة تبرر ذلك بفقر الخزينة العامة وعجزها عن تحمل هؤلاء الموظفين والموظفات، فيما تتجاهل أن سبب المشكلة الأساسية ليس هؤلاء، بل توقف الاستثمارات منذ سنوات، والذي جعل الاقتصاد عاجزاً عن استيعاب هذه الأعداد”.
ويلفت رمزي إلى أنّ “المفارقة الأكثر قسوةً تكمن في أنّ العديد من المفصولين/ات هم ضحايا سياسات النظام السابق ذاته، فالمسرّحون من الجيش الذين أُجبروا على الخدمة العسكرية تحت تهديد الفصل الوظيفي، يُفصلون اليوم بحجة أنهم منتوج نظامٍ فاسد”. ويعتبر أنه في حال استمرت “إدارة سوريا الجديدة” في الفصل التعسفي، تكون في طريقها لإنتاج المنظومة القمعية القديمة نفسها تحت غطاء الإصلاح، داعياً إلى تفعيل قانون إصلاحٍ مؤسساتيّ عادل ونزيه.
ويختم: “هنا يبقى السؤال هل ستُبنى سوريا على أشلاء الماضي الممزق؟ وهل ستُدوّن هذه المعاناة كفصولٍ في تاريخ سوريا الحديث، أم إنها مجرد شرارة لحربٍ جديدة، حرب الجياع؟ التاريخ يُحذّر من أن إهمال هذه الصرخات سيُحوّل الإصلاح إلى وهمٍ كبير، بينما تُدفن أحلام الثورة تحت ركام القرارات غير محسوبة النتائج. فهل ستُدرك السلطة الحالية ذلك؟”.
صحفي مستقل من محافظة السويداء، خريج كلية الإعلام في جامعة دمشق
حكاية ما انحكت
————————–
اتهامات “الدعائية والاستعجال والإقصاء” تطارده… هل يفشل مؤتمر الحوار الوطني السوري؟/ جعفر مشهدية
الثلاثاء 25 فبراير 22025
افتتح السوريون، اليوم الثلاثاء 25 شباط/ فبراير 2025، أعمال مؤتمر الحوار الوطني الأوّل، المنعقد بعد سقوط نظام بشار الأسد، بحضور نحو 600 شخصية سورية، لـ”التحاور وإيجاد صيغ مشتركة لبناء الدولة السورية الجديدة في إطار مساعي السلطات الجديدة لإدارة المرحلة الانتقالية”.
منذ ما قبل البداية، واجه المؤتمر اعتراضات حادّةً -متوقعة بحسب الكثيرين- أبرزها أنّ الدعوات وُجّهت إلى شخصيات لا إلى أجسام سياسية، فعلى الرغم من أنّ 600 شخصية سورية تلقّت الدعوة للحضور، إلا أنّ هؤلاء يمثّلون أنفسهم، ولا يمثّلون نقابات وأحزاباً وتجمّعات تشكّلت في وقت الثورة.
كما عدّ البعض أنّ سرعة توجيه الدعوات، والمهلة القصيرة التي أعطيت للمدعوين، تحديداً من هم خارج البلاد، كانتا مقصودتَين لتقليل عدد من سيتمكّنون من الحضور، بينما واجه المؤتمر انتقادات حادّةً حول عدم وجود برنامج وأجندة سياسية شاملة، وحول قصر مدة الحوار الذي لم يتجاوز يوماً واحداً، واتُّهم بأنه أقيم “لأغراض دعائية”.
الشرع: “لن نستورد أنظمةً لا تتلاءم مع حال البلد”
وألقى الرئيس السوري أحمد الشرع، خلال فعاليات الافتتاح، كلمةً من قصر الشعب في دمشق، ركّز فيها على أنّ “البلاد تحمّلت أوجاعاً وآلاماً اقتصاديةً وسياسيةً في ظلّ حكم البعث وآل الأسد، وأتت الثورة فأنقذت سوريا من الضياع، ولكن التحديات لا تزال كبيرةً”.
ونبّه الشرع إلى أنّ الدعوة اليوم للتشاور والاتفاق حول مستقبل البلاد، مع مراعاة أنّ سوريا في مرحلة بناء الدولة من جديد، الدولة التي لا تقبل القسمة، مع تأكيده أنّ وحدة السلاح واحتكاره بيد الدولة وموضوع السلم الأهلي، واجب وفرض، وليست رفاهيةً، مشدّداً على أنه “ينبغي ألا نستورد أنظمةً لا تتلاءم مع حال البلد، وألا نحوّل المجتمعات إلى حقول تجارب لتنفيذ أحلام سياسية”.
انسحابات فور الانطلاق
لم تكد أولى جلسات مؤتمر الحوار الوطني تنطلق، حتى أعلن المحامي أسامة الهجري، المدير القانوني والاستشاري للرئاسة الروحية لطائفة المسلمين الموحدين الدروز، انسحابه من حضور المؤتمر المستمرّ في الانعقاد في دمشق.
وتساءل الهجري، في منشور على صفحته على فيسبوك، عن آلية اختيار ممثلي المحافظات في المؤتمر، ومؤهلاتهم وشهاداتهم: “الذين ذهبوا للمؤتمر لديهم قدرات طيبة، ومثقفون وأكفاء ولهم كل احترامي وتقديري…. لكن ما يؤسفني يا أحبّة أنني لم أسمع ولم أقرأ عن أحد تكلّم عن المؤتمر؟! لم يبحث أحد عن أهميته، عن برنامجه، عن زمنه، عن آلياته، عن باقي المكونات السورية ومدى تمثيلها، وعن المواضيع التي سيتم طرحها فيه”.
ومن المنشور: “لماذا هذه السرعة الجنونية المفاجئة لعقد المؤتمر؟ لماذا يوم واحد وتسبقه دعوة إلى العشاء حسب برنامج العمل؟ واليوم الثاني نقاشهم سيكون خلال ثلاث ساعات ونصف بعد طول انتظار وبعد 14 عاماً من الثورة، وبعد 54 عاماً من حكم السفسطائي الهارب بعد والده الجلاد المحروق، سيلتقون في ثلاث ساعات بلجان ستة؟ عناوينها سطحية عامة مكررة، بعيداً عن البنود الجوهرية التي كان يفترض استعراضها، والتقرير والتوصية بشأنها وسيتلون بيان المؤتمر الختامي. هل يُعقل أيها الأخوة أن تنشغلوا بالممثلين ولا تنتبهوا لمضمون المؤتمر؟!”.
استبعاد الأحزاب والمنظمات
ليس الهجري، وحده من اعترض على طريقة التنظيم، وسرعته، ولم تقتصر الاعتراضات على مضمون المؤتمر.
“لدى الحديث عن مؤتمر حوار وطني، من الضروري أن تكون صفته وطنيةً والتركيبة المشكّلة له تمثّل كل الوطن والشعب”، بهذه الكلمات يعبّر القيادي في الحزب السوري القومي الاجتماعي طارق الأحمد، عن رأيه في تعريف المؤتمر، ويضيف في حديثه إلى رصيف22: “بالعودة إلى تصريحات اللجنة التحضيرية، نرى أنّهم أطلقوا رصاصة الرحمة عليه عندما حصروا الدعوات في الأفراد، وللمفارقة فإنّ أعتى الأنظمة الشمولية تدّعي تمثيل شرائح الشعب عكس ما صرّحت به اللجنة التحضيرية عن استبعاد الأحزاب والمنظمات والمجتمع المدني وحصر المدعويين في أفراد. فمن حضر يمثّل نفسه فقط، وفق منطق الداعين إلى المؤتمر”.
يكمل: “من يقول إنه لا توجد في سوريا أقليات وأكثريات، قوله يقتضي أن يذهب لتمثيل الناس وفق أحزابهم ونقاباتهم وهيئاتهم بمعايير الدولة الحديثة، فإذا أردنا أن تكون لدينا ديمقراطية، يجب الذهاب إلى منطق الأحزاب دون إقصاء لها أو تخوّف منها. وعليه، لا توجد عدالة في التمثيل، ولاحظنا أنّ الدعوة إلى هذا المؤتمر كانت مبكرةً وتكرر تأجيل موعد الشروع فيه مرات عدة، ثم تشكلت لجنة تحضيرية قامت بأعمالها على عجل، وبشكل شكلي دون رغبة في استمذاج الآراء والخبرات لمعاونتهم على إخراج شيء ذي معنى ومهم”.
بخصوص الأجندة المطروحة للحوار، يتحدث الأحمد عن أنّ “جانباً منها أخذ ببعض الأمور المهمة، لكن لا توجد منهجية واضحة، فالسوريون يريدون خريطة طريق شاملة للخروج من الأزمة، وهذا غير ممكن بالصيغة الزمنية واللوجستية التي طُرحت، خصوصاً أنّه كانت لدينا 3 أشهر أضعناها دون أي خطوة على الطريق الصحيح”.
وأردف أنه “لم يتم التحضير للمؤتمر أبداً، ولا سيّما أنّ اللجنة المكلّفة بذلك غير ذات خبرة في هذا النوع من الأعمال، وشاهدنا الأخطاء في الجلسات، فهي لم تقُم بخطوات تحضيرية بل بجلسات تعارف مع مجموعة من السوريين وفق السياسة نفسها التي كان يتّبعها النظام السابق. وأسلوب الدعوة إلى المؤتمر والوقت القصير الممنوح للأعضاء للالتحاق به يوحيان بأنّ من أرسل الدعوات يفتقر إلى الدقّة والعمق والتجربة”.
ويختم حديثه بالإشارة إلى أنّ “الإعلان الذي انتشر للمؤتمر يظهر أنّ العمل سيكون في يوم واحد، وهذا غير كافٍ لمناقشة أزمة متجذرة لا منذ 14 عاماً، بل منذ نحو 6 عقود. في المحصلة، كل ما ذكرته يمثّل نقاط الضعف في هذا المؤتمر، وباقي التفاصيل تحصيل حاصل، ولم أجد أيّ نقطة قوة في المؤتمر مع الأسف”.
… وغياب كردي
إلى ذلك، لم توجّه الدعوة إلى قوات سوريا الديمقراطية، باعتبارها تنظيماً عسكرياً يرفض الاندماج في وزارة الدفاع السورية الجديدة. وبحسب اللجنة التحضيرية، فالدعوات وُجّهت إلى نخب المجتمع السوري، وليس إلى تشكيلات عسكرية، ولم تتلقَّ أيّ هياكل سياسية أو عسكرية دعوةً للحضور بصفتها التنظيمية. كما غاب ممثلو الإدارة الذاتية التي تسيطر على شمال شرق سوريا، بينما تمت دعوة شخصيات كردية بصفتها الفردية، الأمر الذي أثار انتقادات واسعةً في المجتمع الكردي.
وكانت الإدارة السورية الجديدة، وعقب استلامها السلطة، قد أعلنت نيتها تنظيم مؤتمر حوار وطني شامل في دمشق، يهدف إلى تشكيل مجلس استشاري يُمنح الصفة التشريعية، ويشرف على الحكومة الجديدة. وتم تشكيل لجنة تحضيرية للمؤتمر (مكونة من 5 رجال محسوبين على هيئة تحرير الشام، وسيدتين إحداهما مسيحية، مع استبعاد الدروز والأكراد والعلويين وباقي المكونات)، تلتها جلسات تحضيرية في مختلف المحافظات السورية، إلا أنّ هذه التحضيرات شهدت مشكلات عدة أبرزها تنظيمية، أرجعها ناشطون إلى السرعة وضيق الوقت.
وانطلق يوم 24 شباط/ فبراير الجاري، مؤتمر الحوار الوطني السوري الذي سيمتدّ على يومين، حيث خُصص اليوم الأول للتعارف، بينما خُصّص اليوم الثاني لنقاش ست قضايا محورية هي العدالة الانتقالية، البناء الدستوري، بناء المؤسسات، قضايا الحريات الشخصية، الحياة الإنسانية، ودور منظمات المجتمع المدني والمبادئ الاقتصادية. وبحسب تصريح سابق للمتحدث باسم لجنة الحوار الوطني السوري، حسن الدغيم، نتائج الحوار لن تكون شكليةً برغم أنها غير ملزمة، لكنها ستُقدَّم كتوصيات يعتمد عليها رئيس الجمهورية في اتخاذ قراراته.
“وكأنّ الهدف دعائيّ فحسب”
أمين المكتب السياسي في التيار المدني السوري، مازن مصطفى، يعتقد أنّه “من الطبيعي تفاوت آراء السوريين حول هذا الحدث”. يقول: “أعتقد أنّ الغالبية تشكّك في جدوى المؤتمر، ومن الناحية الشخصية أشكّ في قدرة المؤتمر على تحقيق نتائج ملموسة مع استمرار التحديات الاقتصادية والأمنية، ومن الملاحظ أنّ السلطات الجديدة تركّز على بناء العلاقات الخارجية أكثر من معالجة القضايا الداخلية”.
وعن آلية التحضير، يشرح مصطفى، لرصيف22، أنّ “اللجنة التحضيرية بدأت أعمالها من دون أجندة واضحة، أو جدول أعمال، حيث تمت التحضيرات بسرعة كبيرة، وكأنّ الهدف دعائيّ فحسب، ليتم الإعلان عن موعد المؤتمر قبل يومين من انعقاده، ما يطرح تساؤلات حول شمولية واستعدادات المؤتمر، بالإضافة إلى قصر المدة التي سيتحاور خلالها المؤتمرون، فلا أفهم كيف يمكن نجاح مؤتمر بإدارة حوار يضمّ أكثر من 500 مشارك في وقت فعلي لا يتجاوز الخمس الساعات، وتكون نتائج هكذا حوار منطلقاً لبناء مستقبل سوريا؟”.
ويشير إلى أنّ من نقاط الضعف المرافقة للمؤتمر، “الغياب الملحوظ لممثّلين عن بعض المكوّنات، مثل قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، وضعف تمثيل الأقليات الدينية والعرقية، بالإضافة إلى غياب النخب السورية على امتداد المساحة السورية، والاستعاضة عنهم ببعض مشاهير التيك توك ووسائل التواصل الاجتماعي غير المؤهّلين تقنياً وثقافياً وسياسياً للمشاركة في هكذا حدث، ما يثير تساؤلات حول عدالة وشمولية التمثيل بل جدّيته أيضاً. في النهاية، يبقى نجاح المؤتمر مرهوناً بمدى جدّية تنفيذ توصياته وقدرته على تحقيق توافق وطني شامل يمثل جميع مكونات الشعب السوري”.
الاستعجال مقتل الحدث
الصحافي وهاج عزام، يقول لرصيف22، إنّ “المؤتمر من حيث المبدأ مهم، لكنه بحاجة إلى تحضير أكثر، إذ ظهر جليّاً فيه الاستعجال والتخبّط وغياب المعلومة. وبحسب المعلومات التي جاءت من الجلسات التحضيرية، الطروحات كانت غير كافية وبعيدةً عمّا يرغب السوريون في طرحه، والحاضرون كانوا من فئات محددة، وتالياً المخرجات لم ولن تكون كافيةً لإعطاء التوصيات للحكومة”.
وعن أسباب ذلك، يوضح عزام: “أعتقد أنّ السلطة تريد الاستعجال في عقد المؤتمر بمعزل عن رضا الشارع عنه، لأنّ ما بعده سيوحي بشكل المرحلة القادمة، وسط وقوعها تحت الضغوط الشعبية والاقتصادية المتردية، بالإضافة إلى الضغوط الدولية الغربية (والإسرائيلية)، بالرغم من التحركات الخارجية الكبيرة التي أجرتها الإدارة الجديدة. لكن في النهاية، وعلى أرض الواقع، لم يلمس المواطن أي تغيير إيجابي، لذلك نجد السلطة واقعةً تحت ضغط يجعلها تُسرع في عقد المؤتمر، وهنا يتوجب عليها لضمان تحقيق نتائج جيدة، توسيع مشاركتها للناس، والتواصل معهم عبر منابر رسمية لمخاطبة الشعب لتوفير المعلومات الصحيحة وغير المضللة لهم”.
واتهامات بغياب الوضوح والتنظيم
إحدى المشاركات في الاجتماعات التحضيرية للمؤتمر، تيماء عيسى، وهي ناشطة مدنية، تقول لرصيف22: “تمت دعوتي لحضور جلسة حوار دمشق. لم تكن معايير الدعوات واضحةً، وظهرت في العملية مشكلات في التنظيم، لكنها كانت جيدةً لقول: ‘مرحباً، علينا البدء بالحوار، ليس أكثر’، ولكنها في المجمل بدت وكأنها حلم. اللجنة المكلّفة استمعت بحياد وجدّية الى الجميع، ويسّرت سماع المداخلات بعدلٍ، والتي بدورها لم تخلُ من الخطب الدينية والشعر. نسبة النساء في الجلسة كانت من 30 إلى 40%، ولكن النسويات منهنّ يمثلنّ ربع هذه النسبة في الحقيقة وليس أكثر، ونسبة الشباب كانت من 20 إلى 30%، وكان لهم نصيب جيّد من المشاركة، وكانت اللجنة تطلب سماع صوتهم، وكان ذلك مبشّراً بالنسبة لي”.
وتضيف: “مؤتمر الحوار الوطني غاية بحد ذاته، وأداة فعّالة لحلّ معضلة السردية السورية للنزاع، وبناء السلام والتنمية المستدامة، وإن أضعنا هذه الفرصة عن طريق الخطأ المقصود، أو قلة التعاطي المسؤول مع متطلباته ومخرجاته، فستنتج عنه سوريا أشدّ سوءاً من التي لا نريد العودة إليها ثانيةً”.
وعن محاور المؤتمر ومدّته الزمنية، تشرح عيسى: “تم تحديد 6 محاور للنقاش من قبل اللجنة، لكن برأيي كل محور يتطلب ورشةً لـ5 أيام في كل بلدة. من وجهة نظري، لا بدّ من التعاطي المسؤول مع هذه الفرصة -مهما كان رأيك السياسي حيال السلطات الجديدة- ولا بدّ من التعامل مع التسارع بمشاركة حقيقية وإلا فنحن أمام إضاعة مزيد من الفرص”.
في النهاية، تلعب مؤتمرات الحوار الوطني دوراً حاسماً في إعادة بناء الدول التي عانت من النزاعات، خصوصاً في ما يتعلق بالشرعية السياسية للحكم، وبناء الثقة بين الأطراف، وصياغة عقد اجتماعي جديد، ومعالجة المظالم التاريخية، وتعزيز الوحدة الوطنية.
رصيف 22
—————————-
=====================