الناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

فصل الموظفين في السويداء .. مكافحة الفساد أم انتقام من الماضي؟/ ضياء صحناوي

“النظام السابق قتل زوجي والحكومة الحالية تقتلنا بالجوع”

25 شباط 2025

“النظام السابق استغل دم شقيقي كي يبقى، والحكومة الجديدة تعاقبني على دمه، الذي أكاد أجزم أنه سال نتيجة رصاصة من الخلف، ربما كانت لرفضه أمراً يقتضي أذيّة أحد السوريين” هذا ما تقوله المعلمة داليا بريك المفصولة من عملها كمديرة في إحدى مدارس ريف السويداء. وإذا كانت الحكومة السورية قد تجد تبريرًا ما لقرارها ضد بريك، فكيف يمكن تبرير قرار فصل زوجة معارض قُتل تحت التعذيب في سجون نظام الأسد، لأنه رفض السكوت عن نصرة دماء السوريين الذين انتفضوا ذات يوم؟

كانت خلود شيّا تحدّق في صورة تحمل أمراً إدارياً بفصل قائمة من عمال التأمين والمعاشات في سوريا، تضمنت اسمها، كأنها تبحث عن كلمةٍ مفتاحية تفسّر لها لماذا فصلوها بعد خمس سنوات من العمل الدؤوب. تقول: “أنا زوجة ضابط مفقود منذ 12 عاماً، وظفتني الحكومة السابقة لأسدّ جزءاً من متطلبات أبنائي. والآن فُصلتُ من عملي رغم أنني لم أتغيب ولو ليومٍ واحد”.

لم تكن خلود شيّا تعلم أنها ستتحول من “ضحية” للنظام السابق إلى “ضحية” للإدارة الجديدة. فنظام الأسد منحها الوظيفة كـ”تعويض” لفقدان زوجها في معاركه، أما الإدارة الحالية فتعاملها كـ”إرث فاسد” يجب إزالته، ما جعلها تقول لسوريا ما انحكت: “بشار الأسد قتل زوجي، بينما قتلت الإدارة الجديدة الأمل بأن أعيش بكرامتي الإنسانية”.

وخلود ليست الوحيدة في مدينة السويداء،  ففي التاسع من كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٥، وبين لافتاتٍ كُتب عليها “الوظيفة ليست منّة”، وأخرى “الفصل انتقام”، وقف طارق (34 عاماً، اسم مستعار، عاملٌ في معمل الأحذية الذي كان ينتج أحذيةً عسكرية للجيش السوري)، حاملاً ابنته الصغيرة، يقول بألم: “النظام السابق استغلنا كأدواتٍ لتحقيق أهدافه، والحكومة الجديدة تخوننا بتشريدنا”. وبذلك تعود ساحة السويداء السورية لتشهد تصاعداً متجدّداً في وتيرة الاحتجاجات، حيث تتجمّع الحشود أسبوعيّاً، رافعة شعاراتٍ ضدّ سياسات الفصل التعسفي التي تطال عدداً من الموظفين، ممّن تراهم حكومة تصريف الأعمال لا يستحقون الوظيفة، بناء على ارتباطها السابق بسياسات التوظيف التي انتهجها نظام الأسد الهارب.

وفي سياقٍ مماثل، قالت المدرّسة تيجان شلهوب لسوريا ما انحكت عن زوجها المدرّس خالد قرموشة، الذي جاء اسمه بين المفصولين ضمن القرار الصادر عن وزارة التربية في حكومة تصريف الأعمال بتاريخ 29 كانون الأول/ ديسمبر 2024 والمصادق عليه بتاريخ 15 كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٥: “زوجي مدرّس لغة عربية، فُصل فجأةً من عمله على خلفية القرار الأخير، فقط لأنه عيّن على خلفية نجاحه في مسابقة تحمل اسم المسرّحين وذوي الشهداء عام 2018 “. مشيرةً إلى أن زوجها معارضٌ لنظام الأسد، وكانت خدمته العسكرية إجبارية وقد سرّح عام 2012 ولم يشارك بسفك دم السوريين. وقد لاحقته قوات أمن النظام خلال السنوات الأخيرة بناءً على خلفيته المعارضة لسياساته، مستطردة: “لماذا يُعاقب الآن؟ الوظيفة كانت حقاً اكتسبه باجتهاده وشهادته”.

وتضيف شلهوب؛ قصة خالد ليست استثناء، فهو واحدٌ من مئةٍ واثني عشر معلماً/ةً، فصلوا في محافظة السويداء مؤخراً، بحجة أنّ تعيينهم ارتبط بالسياسات الوظيفية للنظام السابق، لكن المفارقة أن بعضهم كزوجي دفعوا ثمن معارضتهم للنظام مرتين؛ مرةً بالتهديد بالاعتقال والحرمان من الوظيفة، ومرةً بالفصل من الوظيفة”.

والغضب هنا لا يقتصر على المفصولين فحسب، بل يمتد ليطال حتى زملاءهم/ن من الموظفين/ات الذين/اللواتي ما زالوا/ن يحتفظون بوظائفهم/ن، لكنهم/ن يعيشون في رعبٍ يومي من مصيرٍ مجهول. تقول مها (اسم مستعار لممرضة في مشفى السويداء الوطني): “كل صباح أتصفح صفحات التواصل الاجتماعي بقلق، أتوقع منشوراً عن قرار فصل قد يطالني. هذا هو ثمن بقائنا في الوظيفة: عيشٌ بلا أمان، وكابوسٌ لا ينتهي”.

يلخص المشهد القائم في السويداء تحوّلاً في مطالب الشارع السوري ككل، من هتافات الحرية التي انطلقت قبل أربعة عشر عاماً، إلى صرخاتٍ ضدّ الجوع والخوف من فقدان الوظيفة التي لا تغني من فقر ولا تسمن من جوع. فالقرارات الأخيرة لا تسبّب البطالةً وحسب، بل تكرّس الفكرة بأن الوظيفة في سوريا لم تكن يوماً حقاً أساسياً بل سلعةٌ قابلة للتصفية، تُستخدم كأداةٍ للعقاب أو المكافأة، وتجعل من الساحات مرّة أخرى مرآةً تعكس جراح السوريين، الذين يجدون أنفسهم محاصرين بين ماضٍ استُخدموا فيه كوقودٍ للحرب، وحاضرٍ يُهددهم بالفقدان الكلي لأدنى مقومات الحياة الكريمة.

“وظائف مسمومة”: كيف حوّل الأسد الوظيفة إلى أداة قمع.. وهل أصبح ذلك نهجاً حكومياً في سوريا؟

في ظلّ نظام الأسد الهارب، تحوّلت الوظائف الحكومية من وسيلةٍ لبناء الدولة إلى أداةٍ لترسيخ السلطة وقمع الأصوات المعارضة. فمنذ نشأته اعتمد النظام السابق آليات مُمنهجة لتحويل الوظيفة العامة إلى “عملة” لشراء الولاءات وتحويل المواطن إلى رهينةٍ داخل منظومة الفساد والقمع.

يقول مدرس الفيزياء عصام خداج، وهو المفصول نتيجة مواقفه السياسية في عهد النظام السابق، لسوريا ما انحكت “يحزّ في نفسي أن يتكرّر النهج السابق بحقّ أشخاص ذنبهم أنهم كانوا محسوبين على طرفٍ سياسيٍّ معاكس، لم نثر لأجل ذلك، ثرنا لأجل العدالة، ولكي تتحقّق العدالة لابُدّ من أن ننتهج نهج المسامحة والصفح”.

ويستطرد خداج “لقد فُصلت وستة عشر زميلاً لي من سلك التدريس بينهم 11 مدرّساً من السويداء و5 من باقي المحافظات على خلفية إعلانيّ دمشق ودمشق-بيروت المناهضَين للنظام السوري عام 2005، فصلنا لأننا انتقدنا ممارسات وانتهاكات الأسد وجيشه وحزبه بأقلامنا، ولا أحبّذ أن يفصل أيّ موظف بناء على موقفه كائناً من كان”.

وازدادت تلك السياسة ترسّخاً بعد انطلاق الثورة السورية منذ آذار عام 2011، وكانت أولى هذه الآليات توظيف أسر الجنود والضباط الذين قُتلوا في المعارك، بمن فيهم معارضون، تحت مسمّى “ذوو الشهداء”. لم تكن هذه الخطوة لتكريم الضحايا، بل لاحتواء غضب الأهالي وتحويلهم/ن من ناقمٍ إلى داعمٍ صامت عبر ربط مصيرهم/ن الاقتصادي به. أما الفئة الثانية، فهم المسرّحون من الجيش، من عناصر أُجبروا على القتال في حروب النظام، ثم مُنحوا وظائف حكومية كمكافأة تُخفي وراءها تهديداً ضمنياً بالعودة إلى الجبهات إن تمردوا. أما الآلية الأكثر خطورة، فهي ما يُعرف بـ”المفرّغين حزبياً”، وهم عناصر حزب البعث الذين شغلوا مناصب إدارية من دون كفاءة، بهدف ضمان ولائهم للنظام وسيطرة الحزب على مفاصل الدولة وتحويل المؤسسات إلى أدواتٍ طيّعة.

وتقول الناشطة الحقوقية لينا أبو حامد لسوريا ما انحكت إنّ “نظام الأسد لم يكتفِ بتحويل الوظيفة إلى هبة، بل جعلها سجناً لأصحابها. كانت تُمنح لشراء الصمت، أو لتحويل المواطن إلى رهينة في يد السلطة”. مضيفةً؛ إن “هذه السياسات لم تُضعف كفاءة المؤسسات فحسب، بل حوّلت الموظفين/ات إلى آلاتٍ صامتة، خوفاً من فقدان مصدر رزقهم/ن الوحيد إن انتقدوا النظام. وهكذا، تم تحويل الوظيفة من حقٍّ مدنيّ إلى أداة قمع، تُذكّر الموظف/ة دوماً بأن الولاء هو الثمن الوحيد للبقاء في الوظيفة”.

في إحدى مدارس ريف السويداء، كانت المدرّسة داليا بريك تشغل منصب مديرة المدرسة، بعد ترشيحها من الكادر التدريسي والطلاب لهذه المهمة منذ أول العام الجاري، إيماناً منهم باستحقاقها ذلك لكفاءتها ومحبّة الجميع لها. إلا أنّها باتت تنتظر مصيراً مجهولاً بعد أن شملها قرار الفصل. “تعييني كان بناءً على مسابقةٍ وزارية، لكن الحكومة الجديدة فصلتني لأنني من ذوي الشهداء. النظام السابق استغل دم شقيقي كي يبقى، والحكومة الجديدة تعاقبني على دمه الذي أكاد أجزم أنه سال نتيجة رصاصة من الخلف ربما كانت لرفضه أمراً يقتضي أذيّة أحد السوريين، فأنا أثق أن أخي لم يكن يحب أن يؤذي حتى النملة فكيف ابناء شعبه”، تقول بريك.

القرار التعسفي الذي طال المعلمة بريك شقيقة أحد الضحايا، الذي سقط أثناء خدمته الإجبارية في صفوف النظام، قد يبرّر من قبل بعض معارضي النظام، رغم أنه لا يبرّر من الناحية الإنسانية. لكن ما لا يستطيع أحدٌ تبريره هو قرار فصل زوجة معارضٍ قُتل تحت التعذيب في سجون نظام الأسد لأنه رفض السكوت عن نصرة دماء السوريين الذين انتفضوا ذات يوم. فكانت مكافأة دمه الذي سال لأجل مَن وصلوا مؤخراً إلى سدّة الحكم فصل زوجته التي كانت تعمل في معمل الأحذية التابع لوزارة الصناعة، والتي تعيل أطفالها براتبٍ لا يزيد عن عشرين دولاراً شهرياً. “النظام السابق قتل زوجي لأنهم عرفوا بمعارضته، والآن الحكومة تقتلنا نحن بالجوع”، تقول بأسى.

ثلاثمائة ألف موظف على حافة الهاوية!

تداولت مواقع ومنصاتٌ سورية أخباراً عن توسّع حملة فصل الموظفين، مُهددةً ما يقارب ثلاثمائة ألف موظف بفقدان وظائفهم، في خطوة تُفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وسط تناقضٍ صارخ بين مبررات الحكومة وواقع المؤسسات العامة.

وفي تفاصيل وثائق استطاع سوريا ما انحكت الحصول على صور نسخٍ منها كنموذج عن هذا الكم الكبير من القرارات، فقد أصدرت حكومة تصريف الأعمال قراراتٍ بالاستغناء عن خدمات سبعمائة موظف في مديرية صحة درعا، ومئة وثلاثة وثمانين موظفاً في القصر العدلي باللاذقية، وثلاثمائة موظف في وزارة الإعلام بدمشق، بينهم صحفيون عملوا لعقود. وهنا، تكمن المفارقة في الفجوة بين شعار “محاربة البطالة المقنعة” الذي ترفعه الحكومة، وحقيقة الانهيار الخدمي الذي تعانيه مؤسساتٌ حيوية. ففي السويداء مثلاً؛ تُعاني المدارس من نقصٍ حاد في الكوادر التعليمية، ورغم ذلك تمّ فصل مئة واثني عشر مدرساً/ةً. حيث يتساءل المدرس ربيع الدبس: “كيف تُبرر الإدارة الجديدة فصل عشرات المدرسين/ات في محافظةٍ تسير بعض صفوفها بمعلمٍ واحدٍ لأكثر من ستين طالباً؟” مشيراً إلى أنّ الإجراءات تفتقر إلى معايير موضوعية، وتضرب استقرار الموظفين، من دون حلّ أزمات الهيكلية.

بينما ترى المدرّسة تيجان شلهوب أنّ هذه القرارات تتجاهل حقيقة نقص الكوادر في المؤسسة التربوية على سبيل المثال لا الحصر، بينما تُسرّح أخرى في قطاعاتٍ مكتظةٍ أصلاً. وترى أنّ مثل هذه القرارات “تُكرّس سياسة العقاب الجماعي، وتحوّل الوظيفة العامة من حقٍّ إلى امتيازٍ هش، قائم على الولاء لا الكفاءة كما كان ينتهج النظام المخلوع”. وترى أنّ ذلك، لا يهدّد حياة عشرات آلاف الأسر وحسب، بل يعمّق أزمة الخدمات، والكارثة الاقتصادية.

الوجه الخفيّ للقرارات: انتقام أم إصلاح؟

في منزلٍ متواضع يجلس عمر حمزة، خريج المعهد الصناعي (٣٦ عاماً)، يتحدّث عن قرار الفصل الأخير الذي طال 44 موظفاً في شركة الكهرباء، يحاول تفسير كيف سيتحوّل من موظف إلى عاطل عن العمل، ومن أبٍ يُكافح لإطعام أبنائه الثلاثة إلى رقمٍ في ملفّ “التقليص الإداري”.

يروي عمر لـسوريا ما انحكت قصّة شقائه بالقول “خدمتُ في الجيش قسراً، لقد أُمِرتُ بمراجعة شعبة التجنيد عندما حاولت استخراج جواز سفر. أخذني النظام كرهينٍ لخدمته. وبعد تسريحي من الجيش، خضتُ مسابقةً وظيفية لأعيل أسرتي”. يضيف: “راتبي بالكاد يكفي لطعام أسبوع، فكنت أعمل بعد الدوام في أعمالٍ حرة، ومع الفصل، فقدتُ حتى هذا الراتب الهزيل، كنت على أمل أن يكون الراتب التقاعدي معيلاً لي بعد أن أشيخ وأهرم، لكن على ما يبدو فإن هذا الحلم قد تبدد”.

القصة لا تقتصر على الأرقام الجافة. فعمر، الذي أدى خدمته العسكرية في السويداء ولم يخض في جبهات القتال في المحافظات الأخرى، يؤكد: “لم أطلق رصاصة واحدة ضد أي مواطن. كنتُ حارساً في ثكنةٍ في السويداء، فلماذا أُعاقب اليوم لأن النظام السابق أجبرني على الخدمة؟”.

الحكومة تبرّر حملات الفصل بـ”إعادة هيكلة المؤسسات”، لكن عمر يرى أن الإجراءات تستهدف بسطاء الموظفين: “النظام السابق سرق شبابي بالخدمة الإجبارية، والحكومة الجديدة تسرق مستقبلي بالفصل التعسفيّ. أين العدالة؟”.  ويعتبر الشاب أنه نموذجٌ لآلاف السوريين الذين تحوّلوا من ضحايا سياسات النظام إلى ضحايا قرارات “الإصلاح” التي تكرّس الإقصاء.

في خضمّ الفوضى التي خلقتها قرارات الفصل التعسفية والإجازات الإجبارية للموظفين في سوريا، تطفو على السطح أسئلةٌ تُقلق الرأي العام: هل تُخفي الإجراءات الأخيرة رغبةً حقيقية في الإصلاح، أم أنها مجرّد أدواتٍ للانتقام السياسي وتصفية الحسابات؟ وكيف يتم فصل موظفين في قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم، في وقتٍ تعاني فيه هذه القطاعات من شحّ في الكوادر، بينما تُرحّل المئات منهم/ن إلى البطالة؟

أما السؤال الأعمق، فيتعلق بـغياب دستورٍ، ولو مؤقّت، يبيّن آلية الإدارة الوظيفية وإدارة الموارد البشرية في المؤسسات الحكومية، ويحدّ من إنهاء عقود من دون وجود أسباب قانونية واضحة.

وفي هذا الصدد، يعلّق أحد الناشطين العاملين في المجال الحقوقي، وقد فضّل إخفاء اسمه: “حكومة تصريف الأعمال تخرق المعايير والقوانين الدولية لحقوق الإنسان، أولا من خلال تجميد العمل وفق دستور حتى لو كان مؤقتاً يوضح آليات قراراتها، وثانياً خرق المنطق، فلو كانت تهدف فعلياً لمكافحة الفساد، لبدأت بمحاسبة من نهبوا ملايين الدولارات وكانوا أصحاب القرار بقتل السوريين، لا بطرد موظفين بسطاء حتى لو كانوا عسكريين خدموا في جيش النظام أو من ذوي قتلى النظام”. ويضيف: “تحويل الموظفين البسطاء إلى خراف أضاحي، يؤكد أن الإصلاح شعارٌ أجوف ولا يحمل في طياته إلا مبدأ الانتقام ممن لاحول لهم ولا قوة”.

ويشدد على أنه “تتحول القرارات إلى غطاءٍ لتصفية الخصوم وتكريس الفوضى، فيما تتهاوى حقوق المواطنين تحت شعاراتٍ لا تجد طريقها إلى التنفيذ”. متسائلًا إن كان بإمكان الإدارة الجديدة أن تُجيب على سؤال المجتمع حول ما إذا كان ما يحدث إصلاحٌ أم انتقام؟.

يقول معين (اسمٌ مستعار)، مدرّس من محافظة السويداء، فصله نظام الأسد من وظيفته منذ تسعة عشر عاماً لانتقاده الانتهاكات ضد المدنيين وقمع الحريات، واعتقلته قوات الأمن إبان اندلاع الثورة السورية مرات عديدة، يقول: “إن ما يحدث من قرارات فصل بناءً على الموقف السياسي السابق للموظفين لا يختلف عما كان يحدث في زمن الأسد، وهو انتهاكٌ صارخ لحقوق الإنسان، ومناقضةٌ كبيرة لأهداف الثورة”.

اليوم، يعبّر الرجل عن خيبة أملٍ كبيرة من سياسات الحكومة الحالية، التي تقوم بحسب تعبيره بـ”اجتثاث” كلّ من ارتبط اسمه بالنظام السابق، من دون تمييز بين الجلاد والضحية، مشيراً إلى أن معظم من فُصلوا لا يمكن تصنيفهم/ن أكثر من “ضحايا” للنظام السابق.

ويضيف معين: “لم نقم بثورتنا كي نستبدل وجوهاً لتكرار النهج ذاته، فالثورة أخلاقٌ وليست انتقام. ثرنا على الظالمين لنكون بديلاً أخلاقياً، لا بديلاً شكلياً يحمل القمع نفسه بتوقيعٍ جديد. الفصل التعسفي ليس عدالة، بل انتقامٌ ومن شأنه أن يُهدر فرصة المصالحة الوطنية”.

ومن جانب آخر يرفع مهتمون بالاقتصاد تحذيراتهم من تداعياتٍ كارثية قد تُحوّل القرارات الحكومية الأخيرة إلى شرارةٍ لانهيارٍ غير مسبوق. فبحسب رأي رمزي (اسم حقيقي لأحد العاملين في الحقل الاقتصادي، ومجاز في الاقتصاد، طلب إخفاء كنيته)، سيُفاقم فصل ثلاثمائة ألف موظف معدلات البطالة لتصل إلى أكثر من ستين بالمئة، وسيؤدي حتماً إلى انزلاق آلاف العائلات إلى دائرة الفقر المدقع. ويُوضح في حديثه لسوريا ما انحكت: “الوعد بزيادة الرواتب أربعمائة بالمئة لمن سيتبقون في وظائفهم خدعةٌ خطيرة، فالقرار يستثني المفصولين/ات الذين/اللواتي سيواجهون/ن الجوع حتماً. وإن الحكومة تبرر ذلك بفقر الخزينة العامة وعجزها عن تحمل هؤلاء الموظفين والموظفات، فيما تتجاهل أن سبب المشكلة الأساسية ليس هؤلاء، بل توقف الاستثمارات منذ سنوات، والذي جعل الاقتصاد عاجزاً عن استيعاب هذه الأعداد”.

ويلفت رمزي إلى أنّ “المفارقة الأكثر قسوةً تكمن في أنّ العديد من المفصولين/ات هم ضحايا سياسات النظام السابق ذاته، فالمسرّحون من الجيش الذين أُجبروا على الخدمة العسكرية تحت تهديد الفصل الوظيفي، يُفصلون اليوم بحجة أنهم منتوج نظامٍ فاسد”. ويعتبر أنه في حال استمرت “إدارة سوريا الجديدة” في الفصل التعسفي، تكون في طريقها لإنتاج المنظومة القمعية القديمة نفسها تحت غطاء الإصلاح، داعياً إلى تفعيل قانون إصلاحٍ مؤسساتيّ عادل ونزيه.

ويختم: “هنا يبقى السؤال هل ستُبنى سوريا على أشلاء الماضي الممزق؟ وهل ستُدوّن هذه المعاناة كفصولٍ في تاريخ سوريا الحديث، أم إنها مجرد شرارة لحربٍ جديدة، حرب الجياع؟ التاريخ يُحذّر من أن إهمال هذه الصرخات سيُحوّل الإصلاح إلى وهمٍ كبير، بينما تُدفن أحلام الثورة تحت ركام القرارات غير محسوبة النتائج. فهل ستُدرك السلطة الحالية ذلك؟”.

صحفي مستقل من محافظة السويداء، خريج كلية الإعلام في جامعة دمشق

حكاية ما انحكت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى