في ذكراه الأولى: بصمة مجدي نجيب وأحزانه/ هشام أصلان

26 فبراير 2025
ربما لا يوجد شاعر غنائي، خلال نصف قرن مضى، مثلت أعماله مشتركًا بين ذائقة ومشاعر ووجدان شرائح كبيرة بين أجيال متتالية، وشكّلت خطًا للتواصل والاتقاء بين هذه الأجيال، كما فعلت أعمال مجدي نجيب، الذي مرت ذكرى رحيله الأولى قبل أيام قليلة. “شبابيك” وحدها تصلح نموذجًا براقًا لهذه الحالة، بالنظر لمجمل تأثيرها منذ صدرت أوائل الثمانينيات حتى اليوم.
وذلك الأثر النوعي ليس سببه أنه كتب أغاني ناجحة في أكثر من حقبة زمنية، فهناك عدد من الشعراء فعلوها بعظمة، ولكن بسبب البصمة التي تركتها بعض أعماله في فواصل زمنية مهمة، على مستوى التطوّر الغنائي من ناحية، وعلى مستوى إصابتها أحيانًا لقلب حالات الشجن الجمعي من ناحية أخرى، كنقطة كبيرة متوهجة لملمت خيوط اختلاف الذائقة وكانت صالحة للتعبير عن الوجدان العام المشحون بدوافع مختلفة ثقافيًا وسياسيًا وإنسانيًا، بصمة ولو بأغنية واحدة في كل جيل.
المؤكد أيضًا أن أغلب أغانيه التي لمعت بشدة كانت تعبر عن شكل مختلف لدى مطربيها، وهي نقطة تحتاج إلى مناقشة متخصصين في النقد الغنائي والموسيقي لمناقشتها، ولكن بالتلقي العادي قد يبدو لنا ببساطة أن “كامل الأوصاف” كانت لونًا غير اعتيادي على مراحل عبد الحليم السابقة عليها، كذلك “قولوا لعين الشمس” أو “غاب القمر يابن عمي” لشادية، أو في أبسط التقديرات كانت شكلًا مميزًا على مستوى الكلمة واللحن. لدينا أيضًا، مثالًا لا حصرًا: “حبيتك” لنجاة و”مركب حبيبي” لمحمد قنديل وغيرها من الأعمال المهمة، قبل أن يضع سطره الذهبي في بداية جديدة بـ”شبابيك” لمحمد منير، مرحلة جديدة في حياة نجيب الفنية، ومرحلة جديدة على مستوى الصناعة، وأغنية ذات أثر ممتد بين أكثر من جيل منذ صدورها قبل عشرات السنين وحتى اليوم.
وفضلًا عن أن هناك مجموعة كبيرة من البشر، متقاربي الأعمار مختلفي الأذواق والأفكار، تستطيع وصفهم مرتاحًا بجيل “شبابيك” كأنها مساحة انتماء فكري وعاطفي مشترك، صدرت الأغنية على رأس ألبوم أيقوني جاء كموجة عاتية يعتبرها المهتمون بتطوّر الأغنية المصرية فاصلًا لم تعد بعده كما كانت قبله.
طبعًا، على مستوى التأثير في الصناعة، لم يكن مجدي نجيب وحده صانع التأثير الفني لحالة “شبابيك”، بل إن الأغنية منفردة لم تصنع الحالة، إنما صنعتها مجموعة من كبار شعراء مصر ومعهم فرقة الموسيقار يحيى خليل، الذين كرسّوا بهذا الألبوم بداية جديدة ونقلة كبيرة ناجحة في الأغنية المصرية الحديثة بعد حالة من التجريب الجماعي لكثيرين بداخل فراغ خلّفه رحيل عبد الحليم حافظ، لكننا هنا في معرض الكلام عن مجدي نجيب صاحب أكثر أغاني الألبوم تأثيرًا بكل المعايير، والتي كما كانت عنوانًا لمرحلة انقلابية في تاريخ الأغنية، كانت عنوان مرحلة مختلفة في حياته الفنية.
“كان مجدي نجيب، فضلًا عن كونه كاتب أغانٍ كبير ومؤثر، صحافيًا ورسامًا وأحد أجمل شعراء العامية المصرية، وأُطلق عليه لقب “شاعر الألوان””
والمهتمون بحالة “شبابيك” في مجملها وكواليسها الفنية، يستطيعون الاستمتاع بمشاهدة حلقة بودكاست “دقائق”، التي قدمها الناقد الموسيقي أمجد جمال بمشاركة الكاتب الصحافي والناقد مصطفى حمدي وهي متوفرة على يوتيوب.
والحكاية المعروفة تقول إن مجدي نجيب كتب “شبابيك” محتقنًا بتبعات فترة اعتقاله، ذلك أنه شأن كثيرين من مثقفي الستينيات، لم يفلت من الاعتقال السياسي، برغم تأييده لعبد الناصر. وحين خرج من المعتقل عانى في إيجاد فرصة عمل والحياة بشكل طبيعي لفترة. يحكي للكاتب عمر طاهر في إحدى حلقات برنامجه “وصفولي الصبر”:
“كانت عايشة معايا من أيام المعتقل، بس مكتبتهاش في المعتقل. إحنا كنا بنحب عبد الناصر جدًا. يعني إنت الراجل الكبير الأمل بتاعنا بتحبسني؟ وأنا بقول لك بحبك وفوق راسي. وتجربة المعاناة بعد الخروج من المعتقل قاسية. أنا اللي حميتك وبنيتك وشلتك فوق راسي بنظامك أبقى حالي كده؟ طيب شكرًا”.
**
“… واللى كان خايف عليك، انتهى من بين إيديك،
دي عينيك شبابيك، والدنيا كلها شبابيك،
سرقت عمري من أحزاني، سرقته لكن ما جاني
ولا حد شاف فين مكاني، ورا الشبابيك،
غيرت ياما كتير أحوالي، وأنا كنت عاشق وكان يحلالي،
أحب بس يكون حلالي ورا الشبابيك،
أنا بعت الدموع والعمر… طرحت جنايني فى الربيع الصبر
وقلت انا عاشق… سقوني كتير المر ورا الشبابيك…”
**
كان مجدي نجيب، فضلًا عن كونه كاتب أغانٍ كبير ومؤثر، صحافيًا ورسامًا وأحد أجمل شعراء العامية المصرية، وأُطلق عليه لقب “شاعر الألوان” حتى آخر معارضه التشكيلية الذي حمل اسم “شبابيك” حيث كان يضم نحو أربعين لوحة مستوحاة من كلمات الأغاني التي كتبها لمحمد منير.
وشأن كثير من الشعراء الذين اتجهوا لكتابة الأغاني، ظُلمت أعماله الشعرية، بالقياس الجماهيري، لصالح أغانيه المعروفة، وقد يكون هذا سببًا في أن ديوانه الأول “صهد الشتا”، الذي صدر قبل أن يذيع صيته ككاتب أغان، وجد تلقيًا أكبر، فضلًا عن أنه صدر منتصف السيتينيات، حيث لحظة زمنية شديدة الخصوبة واحتوت كل الموهوبين من أبناء هذا الجيل أدبيًا. لديه أيضًا دواوين: “ليالي الزمن المنسي”، “مقاطع أغنية الرصاص”، “ممكن”، و”الوصايا”.
كان مجدي نجيب ابنًا مثاليًا للمدينة، يتشح كثير مما قاله بمسحات الشجن، وكما أغانيه ورسوماته وحياته، لم تبتعد قصائده المكتوبة عن مجمل أسئلته الحزينة:
“الحمل ياما يا مدينتي يهز شاعر كان في ندره يكون غطا
ويغطي قلبك في الشتا
وإحنا سنينّا كلها دايمًا خريف
ما عاش في راسك يا مدينتي غير عرايا الفكر
يتنفسوا بُكا”.
—————————
Mohamed Mounir – Shababek (Official Audio) l محمد منير – شبابيك
—————————
غاب القمر يابن عمي – شادية
————————————-
شاديه قولو لعين الشمس ما تحماشي
————————————-
محمد قنديل – مركب حبيبى
ضفة ثالثة