منوعات

عندما دمر الإسبان حضارة “تينوكيتثلان” عاصمة الأزتيك/ إبراهيم العريس

الغرب أضاع فرصة حضارية جديدة في أميركا لذهوله أمام حضارة تماثل الفرعونية

الأربعاء 26 فبراير 2025

كان في مدينة تينوكيتثلان عاصمة حضارة الأزتيك ازدهارا عرفته خلال الـ200 عام، التي تفصل بين إعادة بناء المدينة 1325 ووصول الغزاة الإسبان إليها و”اكتشافهم” إياها، ومن ثم تدمير بناها الأساسية

كان ذلك في أواسط العقد الأخير من القرن الماضي، حين كانت “احتفالات ضخمة وعلى المستوى العالمي تقام لمناسبة مرور 500 عام على ما سُمي “اكتشاف” القارة الأميركية. حينها عمد كثر من كبار المفكرين الأميركيين إلى استذكار تلك الحضارات التي كانت قائمة بصورة خاصة في الجزأين الجنوبي والأوسط من القارة الأميركية، وتحديداً عبر استحضار ما يرويه عالم الإناسة الفرنسي كلود ليفي-ستراوس في كتابه المهم “الخزافة الغيورة”، من كيف أن سكان أميركا الأصليين الذين سيسمون الهنود الحمر، حين شاهدوا طلائع بحارة وجنود كريستوف كولومبوس ينزلون على شواطئهم، لم يتعاملوا معهم كغزاة، بل مدوا أياديهم إليهم مرحبين منشدين أغانيهم. لقد بدوا وكأنهم يستقبلون “إخواناً” عادوا إلى الديار بعد غيبة طويلة، لكن الغزاة الأوروبيين لم يفهموا ذلك التصرف بل حتى فهموه على عكس ما هو عليه كما يبدو، فاستلوا سيوفهم وبقية أسلحتهم وراحوا يذبحون المستقبلين وسط دهشة هؤلاء. ويشرح العالم الفرنسي الأمر: في التقاليد الشعبية والدينية لأولئك القوم، كان ثمة ما يهيئهم لذلك الاستقبال الودي إذ إن التقاليد تقول لهم إنهم لن يكتملوا دينياً وإنسانياً إلا حين يصل “نصفهم” الآخر من الشرق، شرق مناطقهم بالطبع، ومن هنا كانوا ينتظرون ذلك الوصول باعتباره فرصتهم لدخول حياتهم الحقيقية. لكن الأوروبيين البيض لم يدركوا هذا البعد، لـ”جهلهم المطبق”. فكانت المجزرة، كما كانت بداية ذلك سوء التفاهم الذي تحول منذ اللحظة الأولى إلى “فرصة أضاعها الغرب على نفسه”، كما سيقول ليفي- ستراوس، مما منعه من أن يستفيد حقاً من ذلك التقدم الحضاري الذي كانت تعيشه تلك الحضارات الأميركية، واصلاً إلى أوجه في ما يعرف اليوم بالمكسيك.

أجمل مدينة في العالم

غير أن ما لم يفهمه كولومبوس وجنوده، سيفهمه بعضهم لاحقاً ومن بينهم كورتيس الذي سيقول، “إنها أجمل مدينة في العالم. إنها أشبه بأن تكون فينيسيا الجديدة”. فهو بهذه العبارات المملوءة بدهشة الاكتشاف تحدث بوصفه “مكتشف” معظم أجزاء أميركا الجنوبية في رسالة بعث بها إلى شارلكان، حين دخل عام 1519 إلى تلك المدينة التي ستحمل لاحقاً اسم مكسيكو، وكانت في ذلك الحين تحمل اسماً مختلفاً تماماً هو تينوكيتثلان. وطبعاً يمكن القول منذ الآن إن وصف كورتيس هذه المدينة يتناقض كما يستفاد من مقدمة هذه العجالة، مع الصورة المعهودة للبلاد الخالية والضارية التي وصل إليها الإنسان الأبيض بدءاً من نهاية القرن الخامس عشر، ليبدأ في تمدينها… فالواقع أن تلك المدينة التي كانت في ذلك الحين حاضرة لشعب الأزتيك، كانت تعكس في ازدهارها وتقدمها، كما في عمرانها وعادات سكانها، تلك الحضارة المعقدة التي عاشت تاريخها الخاص ونمت فيه، في وقت كانت أوروبا لا تزال تعيش عصور ظلماتها. ولئن كانت مدينة تينوكيتثلان قد تأسست، من جديد عام 1325، فإن الحضارة التي كانت هي عاصمتها كانت مزدهرة قبل ذلك، بحيث إن الإسبان الفاتحين، حين وصلوا القارة الأميركية للمرة الأولى، عند بدايات القرن السادس عشر، كانوا قد سمعوا بالفعل بوجود إمبراطورية قوية مهيمنة قوية الشكيمة تثير مخاوف بقية سكان القارة، إمبراطورية كان لها تاريخها وقوانينها وبنيانها.

نهب عاصمة وتدميرها

والمؤسي في هذا كله أن الإسبان، بدلاً من أن يستفيدوا من وجود تلك الحضارة، ويمارسوا نوعاً من التبادل، سارعوا ما إن وصلوا إلى عاصمتها، إلى تدميرها ونهبها في حركة من شأنها اليوم أن تدهشنا وتدفعنا، حقاً، إلى التساؤل مع ليفي- ستراوس، عن تلك الفرصة الضائعة التي كانت أمام الغرب، لتحقيق نوع من التبادل الحضاري والازدهار، فإذا به، على عادته، يضيعها كما اعتاد أن يفعل في كل مرة يحتك فيها بحضارة جديدة، متفوقة عليه علمياً ومدنياً وفكرياً، فيدمرها مفقداً دينامية التقدم إمكانات مدهشة. فلقد كان الأزتيك، كما تقول لنا الدراسات، ورثة ماض عريق، وكانوا، مثل سابقيهم من أصحاب الحضارة الأولمكية، وجيرانهم من أصحاب حضارة المايا، يعزون أهمية كبيرة إلى الدين والفلك والنظام الاجتماعي، مثلهم في هذا مثل الفراعنة المصريين والهنود الآسيويين، وهذا ما جعلهم يعكسون ذلك كله في عمرانهم الذي كان يتجلى، في شكل خاص، في مدنهم التي كانوا يبنونها من حول مركزي السلطة: الديني والسياسي. وكان المركزان واحداً تقريباً، وهذا ما يعكسه خصوصاً بناء مدينة تينوكيتثلان، ذلك البناء الذي كان يأخذ في حسبانه، اعتبارهم أن ثمة ثلاث سنوات في تقاويمهم، السنة الإلهية ومقدارها 260 يوماً، والسنة الشمسية ومقدارها 360 يوماً مع خمسة أيام تخرج من الحساب مرة في كل عام، وسنة الزهرة وتتألف من 560 يوماً. والكتابة الأزتيكية الصورية، كانت في تطور وازدهار حين تم الغزو الإسباني وقضى على ذلك كله.

قرنان من الازدهار

كان في مدينة تينوكيتثلان ازدهار عرفته خلال الـ200 عام، التي تفصل بين إعادة بناء المدينة 1325 ووصول الغزاة الإسبان إليها و”اكتشافهم” إياها، ومن ثم تدمير بناها الأساسية، مما يقدم للمدينة وازدهارها صورة تاريخية للتطور الذي عاشه ذلك الشعب، ولسنا نعتقد أن كورتيس كان مغالياً، في الوصف الذي أورده للمدينة في رسالته إلى شارلكان. ولعل الملاحظة الأولى التي فرضت نفسها، هي أن العمرانيين الأزتيك، حين أنشأوا تلك المدينة عرفوا كيف يستفيدون من تلك الأراضي التي بدت أصلاً غير صالحة للبناء، ومع هذا جرأوا وأنشأوا عليها عاصمة للإمبراطورية مستفيدين أقصى درجات الاستفادة، حتى من الجزر الصغيرة التي كانت موزعة وسط مساحات هائلة من المستنقعات والمياه الآسنة. وهم لكي يكسبوا مساحات من اليابسة إضافية ابتكروا نظاماً عرف باسم شينامباس، يقوم على رمي كميات هائلة من أغصان الأشجار، ومن ثم يوزع فوق مساحات تلك الأغصان كميات ضخمة من الطين الطميي الذي يؤتى به من قاع المستنقعات والبرك. وكانت تلك المساحات تبقى عائمة حتى تجف المياه تماماً فتتحول إلى يابسة وأراض صالحة للبناء. وهكذا بنى شعب الأزتيك ومهندسوه مدينة كاملة فوق أرخبيلات من اليابسة المصطنعة. وكان من المستحيل على أحد أن يخمن حين يزور المدينة في ذلك الحين، أنها إنما بنيت على تلك الشاكلة. وكان هذا صعب التصديق خصوصاً على الإسبان الذين حين وصلوا إلى المدينة وجدوا أمامهم حاضرة عريقة حافلة بالقصور الضخمة ذات الطوابق العديدة والحدائق والمعابد. ولاحظوا أن المياه موجودة في كل مكان هنا، وتشكل في بعض المناطق أقنية تجتازها المراكب موصلة بين حي وآخر. وهذا ما جعل كورتيس يتحدث عن تينوكيتثلان بوصفها “البندقية الجديدة”.

تنظيم اجتماعي متقدم

وتشير الدراسات بالطبع إلى أن مدينة مثل هذه، لم يكن في إمكانها إلا أن تكون “انعكاساً لتنظيم اجتماعي متقدم، بل شديد التقدم”. ولقد أشارت تلك الدراسات إلى أن نشاطاً اجتماعياً وعمرانياً على تلك الشاكلة، ما كان في إمكانه إلا أن يكون مرتبطاً بمركزية سياسية، أي مركزية حكم شديدة الصرامة، ومن هنا تلك الإشارات إلى أن السلطة الحقيقية كانت تمارس من جانب كهنة معابد “هويتزيلوبوكتلي”، كما كانت الحال في مصر بالنسبة إلى كهنة معبد آمون، وكان هؤلاء الكهنة يعاونون في ممارستهم السلطة والتنظيم من جانب زعماء العائلات، لا سيما خلال المرحلة المسماة “مرحلة الهجرة” أي مرحلة التأسيس حين راحت القبائل تتدافع للاستقرار في المدينة، وفي غيرها من الحواضر العمرانية. وهكذا، إذاً، حين وصل الإسبان وجدوا أنفسهم أمام ذلك التنظيم الاجتماعي المتقدم الذي كان يتزعمه إمبراطور يطلق عليه اسم “تاتواني” أي صاحب الكلمة وكان التاتواني، في الحقيقة، أشبه بضابط ارتباط في نوع من الاتحاد بين القبائل، تحت زعامة قبائل الآزتيك نفسها. والمدهش أن التاتواني، وهو زعيم مطلق، لم يكن يصل إلى مركزه بالوراثة بل من طريق الانتخاب، أو بالأحرى، كان ينتخب داخل العائلة نفسها، دائماً، بوصفه الأقدر والأجدر من بين أبناء تلك العائلة، على الحكم.

وفي شكل عام، أشارت الدراسات إلى أن المدينة كانت مقسمة إلى أحياء، يضم كل منها أسراً متحدرة من قبائل معينة، كما كانت حال مدينة الكوفة حين أسسها الفاتحون المسلمون في العراق. وكان التنافس بين الأحياء يقوم في تطويرها عمرانياً وحضارياً. وكان هذا مما أسهم في ازدهارها السريع، وفي نموها الذي ظل متواصلاً حتى جاء الإسبان ودمروها. ونعرف أن الأوروبي العادي سيظل محتفظاً بالصورة القديمة المزيفة، عن أرض بلا شعب وبلا حضارة، قروناً طويلة عاد بعدها واعترف ليس فقط بالواقع الذي كان يجهله، بل كذلك بالخطايا والمجازر التي اقترفها جدوده “المستكشفون”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى