“نظرة أخيرة على أشجار الكرز”: شاهدة على وطن مقتول/ دارين حوماني

25 فبراير 2025
في حديثه عن القصة القصيرة، يقول إدغار آلن بو “يجب أن تحتوي القصة القصيرة على مزاج واحد، ويجب أن تتجه كل جملة نحو ذلك المزاج”، وإذا أردنا أن نضع تصنيفًا لمزاج واحد لكل المجموعة القصصية “نظرة أخيرة على أشجار الكرز” (مرفأ للثقافة والنشر، 2024) للقاصّ السوري نور دكرلي فهو مزاج الوجع العميق، فكل قصة ينبع منها وجع ما، ويوجعنا معه انطلاقًا من القصة الأولى حتى القصة الرقم 17، وكل ما بينهما من قهر يختزل معاناة السوريين، وهو بهذا المعنى استطاع أن يختزل الواقع المؤلم ويحوّله إلى قصص تمتلك كل أدوات القهر، تحزن في مكان، وتسخر في مكان، ومشتبكة مع الفانتازيا التي تقع أيضًا أسيرة ممرات الموت والرعب كشاهدة على وطن مقتول.
إنه الرعب، الموت، اللجوء، الانكسار، الهلوسات، والكثير من تصنيفات القهر السوري، تبدو هذه المجموعة القصصية مثل جسد يتعذب، جسد يذكّرنا بعصافير وأسماك يوسف عبدلكي الميتة وسكاكينه، مع حرص دكرلي على تأمين الصدمة في نهاية كل قصة مثل مسامير عبدلكي التي يدقّها مباشرة في قلوبنا.
يجد دكرلي في حكايات تشيخوف شبيهًا لشخوص حكاياته، بل وربما أشباهًا، ربما هي أمكنة تتشارك الشقاء نفسه، فإذ بإيونا باتابوف التشيخوفي في قصة “لمن أشكو كآبتي؟”، الذي يعمل عربجيًا ويعاني من حزن عميق على وفاة ابنه ولا يجد من يشاركه حزنه، يطل في قصة نور دكرلي “هل أنت إيونا باتابوف”، ولكنه يطلّ بنسخ متعددة ومتشابهة، فالمدرّس الجامعي المتقاعد يدخل في سيارة أجرة لسائق يعتريه الحزن وإذ بالسائق يقول له: “أنا يا سيدي، هذا الأسبوع، ابني مات… الموت أخطأ في الطريق، بدلًا من يأتيني ذهب إلى ابني”، ويضطرب المدرّس الجامعي المتقاعد ويتهمه بأنه اقتبس من قصة تشيخوف، فالعبارات التي ردّدها السائق هي نفسها عبارات إيونا باتابوف، وعندما يغضب ويخرج من السيارة ويصعد في سيارة أخرى، يتبين أن السائق الآخر مات ابنه أيضًا منذ أسبوع، ليتبيّن لنا في آخر جملة من القصة أن غضب هذا المدرّس الجامعي من السائقين كان بسبب موت ابنه أيضًا منذ أسبوع. هي صورة مقتطعة من متاهة الموت السوري، خسارة الأبناء التي استشعر به الكثير من الآباء خلال الحرب السورية وهو ما جسّده دكرلي في عبارة السائق “لا علاقة لي بشفوخ هذا… هل تخوشف وحده من مات له ابن؟ كل يوم يموت الكثير هنا يا سيدي”.
أما قصة “نظرة أخيرة على أشجار الكرز” فتختصر، من خلال شخصية “أبو الليل”، مصائر العديد من السوريين خلال الحرب الذين كانوا يستمتعون بالسهر على صوت جورج وسوف وترداد الشعر والنكات، ولا يفكرون بالغد، ليتحولوا إلى مقاتلين في تنظيمات إسلامية، وبينما تمكن الراوي في القصة من الهرب تحت القصف، وكان آخر ما رآه عند خروجه أشجار الكرز من بين الجبال الحدودية، إلا أنه سيرى لاحقًا جثة صديقه في الليالي الدمشقية “أبو الليل” على صفحات فيسبوك وفوقها عبارة “مقتل قائد إحدى الكتائب المدعوّ أبو الليل”.
وتجسّد قصة “مخبر النادي السينمائي” قضية توظيف أجهزة النظام السوري مخبرين سرّيين في كل مكان، ويتم تعيين الراوي “الفاشل” كمخبر في النشاطات الثقافية، وبالأخص السينمائية، ليكتب تقريرًا يتضمن موضوع الفيلم وأسباب اختيار الفيلم والتركيز إذا كان يحتوي رسائل سياسية، وإذ بالتقارير تتحول إلى مقالات نقدية سينمائية مشبعة بالأحاسيس مع تذييل أنه لا يوجد فيها أي محظورات، ما يؤدي إلى طرده، يقول له الضابط المسؤول في نهاية القصة: “تكتب عن لجوء تاركوفسكي إلى السيريالية بسبب القمع وضيق مساحة الحرية؟ من هذا الحقير؟ وما علاقتنا به؟ لم نوظفك من أجل هذا، هل تعلم خطورة ما كتبته؟ والله لو أن والدك لا يعزّ عليّ لكنتَ الآن في السجن أنت وصاحبك بطيخسكي”…
وتطلّ حكاية “تقاعد” على إنكار ما يقدّمه الكثيرون للوطن، لنرى عميد كلية جامعية يحاول معاودة ممارسة التعليم، ولكن لا يتم استقباله بشكل لائق في المكتب الذي كان ذات يوم له، ويخرج خائبًا بعد انتظار ساعات بدون أن يستقبله العميد الجديد. أما “رسائل ليلة” فهي حكاية أم تدخل يوميًا إلى غرفة ابنها المسافر منذ سنوات وتكتب له، عن مرضها وحزنها وفقدها له، “خطوطًا لا معنى لها…” فهي لا تجيد الكتابة “سامح الله والدي، كان يقول: ما لزوم تعليم البنات…”. أما في “باب للوجود” فينتقل دركلي من الفضاء الواقعي إلى الفضاء السريالي، حيث يفتح الراوي باب بيته فلا يجد أي إشارة إلى أن الشارع كان موجودًا من قبل؛ “صار باب بيتي يُفتح على فراغ مطلق”، وزادت مخاوف الراوي: “فقدان الشارع يعني الجوع”، وتحيلنا هذه القصة إلى مشهديات موزّعة من المدن السورية المدمرة، حيث أحياء كاملة تم سحق الحياة فيها، وتحوّلت إلى فضاءات شبحية، إلى أن يفتح الراوي باب بيته ذات يوم ويجد الحياة في الشارع قد عادت كما كانت، ويقرر الخروج، ثم يتساءل بقلق: “ماذا لو عدتُ ولم أجد البيت؟”.
وينبش دكرلي في آلام اللجوء في العديد من القصص، منها “تهجير” عن الأم التي أجهضت ثلاث مرات ودفنت أجنّتها في الحوض الترابي وأصرّت على أن تقتلع الزرع في ذلك الحوض الترابي من جذوره وتأخذه معها في رحلة اللجوء. ومنها قصة “نوستالجيا سائق التاكسي” حيث الراوي وهو “اللاجئ السوري في لبنان” سيعدّد تصنيفات السائقين في لبنان، السائق المحيّر الذي يسأل عن أوضاع سورية، والسائق المتذمر والمقهور الذي سيبدأ بالشكوى من تأثير اللجوء السوري على لبنان في تدهور الوضع، والاحتمال الأسوأ وهو السائق العنصري الذي “لا يمكنك بعدها أن تتوقع سير الأمور”، ولكن هذا الراوي سيركب سيارة أجرة ليتبين أن السائق سوري وتصبح سرديات الحنين للوطن مثل ضمادات للألم والفقدان، يطلقها السائق ثم يرفض أخذ الأجرة من الراوي لأنه سيظن أنه من نفس قريته: “شمّيت فيك ريحة الضيعة من أول ما طلعت بالسيارة، حسيت حالي زرتها معك”. أما قصة “عشاء أندريه” فعن عائلة سورية لجأت إلى فرنسا حيث ستستقبلهم عائلة فرنسية؛ “أخذ الأولاد يراقبوننا كأننا هدية وصلتهم من أمازون”، ويجلس الجميع أمام طاولة الطعام في منزل دافئ، يقول الراوي عن العائلة التي استقبلتهم “مشهد عائلي كنت اعتقدت أنه زال مثل اختراع قديم أزاحته الحداثة”.
وعن التأثيرات النفسية للّجوء، يكتب دكرلي في قصة “إدارة الألم” عن كوابيس يعيشها طبيب مرّ عبر البحار، في رحلة الهرب واللجوء، بمركب مطاطي ونجا من الموت مرارًا، لكن الحرب التي عاشها، الصرخات والقذائف والدماء، وما مرّ به أثناء عمله كطبيب تخدير، ومن مات بين يديه لأسباب شتى، لم يفارق ذاكرته، بل تحوّل عمله في بلد المنفى من “إدارة ألم المرضى” إلى “إدارة الكوابيس”. وهو تارة يرى نفسه يؤدي دورًا على المسرح مع ممثلة غارقة بالدماء، وتارة يستعيد أمه التي كانت تطعم الدجاجات حين ألقت مروحية برميلًا متفجرًا وحوّلت جسدها إلى أشلاء، أما والده فيستعيد موته مختبئًا تحت شجرة، وإذ بمروحية تقصف الشجرة فتكسر أغصانها ويُقتل. وبينما يحدّثنا الراوي “الطبيب” عن تعبه في بلد المنفى مع المرضى في “إدارة الكوابيس” تنفتح خاتمة القصة على صورة موازية تمامًا للحزن العميق حيث هو نفسه يكون المريض؛ “هل عليّ أن أقابل بقية المرضى غدًا؟ لا، لست مجبرًا على ذلك، الآن فقط تناول هذا الدواء سيساعدك على نوم هادئ، وغدًا أقابلك ونتباحث بشأن مرضاك الآخرين”.
ثمة قصص أخرى في مجموعة “نظرة أخيرة على أشجار الكرز” انتشلها دكرلي من مجرى الحزن والموت ومرّرها عبر الفانتازيا، يبدو هو نفسه فيها كعائد من الموت ويُخبرنا عنه، لتبدو قصص “أشجار الكرز” كأشجار تمت تعريتها مصفوفة في عتمة الشقاء السوري، وهو ما يذكّرنا بجون شتاينبك حين قال عن كتابة القصة: “إذا كان هناك سحر في كتابة القصة، وأنا مقتنع بوجوده، فلم يتمكن أحد قط من اختزاله في وصفة يمكن تمريرها من شخص إلى آخر. يبدو أن الصيغة تكمن فقط في الرغبة المؤلمة لدى الكاتب في نقل شيء يشعر بأهميته للقارئ”، إنها الرغبة المؤلمة لدى دكرلي في إخراج الوجع السوري عبر فتحات ضيقة، كل فتحة تستدعي ندوبًا غُرست تحت الجلد. وهذه المجموعة هي المجموعة القصصية الثالثة له بعد “مملكة التخاريف” و”انتحار رجل سخيف” ويحكي في معظمها بضمير الـ”أنا” لالتصاق هذه الحكايات بسيرته الشخصية.
عنوان الكتاب: نظرة أخيرة على أشجار الكرز المؤلف: نور دكرلي
ضفة ثالثة