مقالات سينمائية

“عربيةٌ جريحة” تدقّ باب الحرية بيدٍ مضرجة.. في فيلم برهان قرباني الجديد في برليناله/ سليمان عبدالله

26 شباط 2025

بعد أن خطف الأضواء عالمياً قبل أعوام، بمشاركته في المسابقة الرسمية لمهرجان برليناله، بفيلمه “برلين الكسندر بلاتز”، المستند على رواية الفريد دبلن، “برلين الكسندر بلاتز”، شارك المخرج الألماني من أصول أفغانية برهان قرباني، في قسم “برليناله سبيشال” خارج مسابقة دورة هذا العام، بفيلم “لا حيوان بتلك الوحشية”، المستند بشكل فضفاض على مسرحية شكسبير، ريتشارد الثالث، في محاولة منه لتكرار النجاح، عبر رؤية حديثة لعملٍ كلاسيكيّ آخر. عنوان الفيلم مقتبسٌ من المسرحية “ما من وحشٍ شرسٍ للغاية إلا ويعرف بعضًا من الشفقة”.

عندما حرر المخرج اليوناني يورغوس لانثيموس امرأة، بيلا، جعلها في “كائنات مسكينة”، بجسد امرأةٍ بالغة، ووعي طفلة، تريد ممارسة حريتها ببراءة. المخرج الألماني قرباني هنا، يقدم لنا امرأةً عربية تدعى رشيدة، تعيش في مجتمع بطريركي، فيما يُسمّى العشائر العربية في برلين، التي يفترض أنها منخرطة في الجريمة المنظمة. عندما يحررها، لا يجد لذلك سبيلاً سوى أن يجعلها تسلك طريق ريتشارد الثالث الدموي نحو الاستقلالية وتقلّد السلطة في العائلة.

ما يفرّق فيلم قرباني الجديد عن سابقه، هو أنه بالغ فيه في الطموح، أراد، كما يبدو، المضي خطوةً أكبر في التجريب في ميدان لم يطأه من قبل، على مبدأ: ولم لا؟. هنا، نحن لسنا أمام اسقاط مجريات المسرحية، كمرجع، على واقع برلين اليوم، بل محاكاةٌ فضفاضة للمسرحية.

يتبنى قرباني نهجاً مشتّتاً للمشاهد/ة، فالحدود فيه بين العمل الأدبيّ التاريخي العائد للقرن الخامس عشر والواقع البرليني الآن ليست واضحة تماماً، سواءُ أكان من حيث اللغة أو الأماكن والأحداث. كثيراً ما تتساءل وأنت في صالة العرض، ما الذي أشاهده الآن، إعادة تمثيلٍ للمسرحية مع ادخال تغييراتٍ عليها، تحويل جندر البطل من رجل إلى امرأة؟  أم فيلم “جريمة”؟

نبدأ الفيلم مع رشيدة (تلعب دورها باقتدار كندة حميدان)، الابنة الصغرى لعائلة يورك، وهي تدافع في المحكمة عن شقيقها المتهم في قضيةٍ مقدمة من لانكستر، العائلة المنافسة في عالم برلين السفلي، كما يفترض. رغم نجاح رشيدة، التي يراد لها أن تكون داهية، لاعبة ماهرة في التكتيك والتخطيط، في إنهاء القضية، والقضاء على اثنين من كبار لانكستر، تجد نفسها حبيسة دور المرأة المقموعة في عالمٍ لا يرى القيادة لائقةً سوى بالرجال.

شقيقها عماد، زعيم العائلة، وزوجته الألمانية اليزابيث، يخططان لبناء جامعٍ ومركز تسوق، ويريدان لرشيدة أن تكون طرفاً في زيجة سلامٍ مع عائلة لانكستر، أمر تأباه. عبر مونولوج، تكشف رشيدة لنا عن نواياها المتمردة، وخطتها في الصعود، عبر التحالفات المؤقتة والإغواء، وهي تدوس على جثث أفراد عائلتها وعشيقتها، إلى أعلى هرم السلطة، مستعينةً بمربيتها مشاعل (تلعب دورها الممثلة الفلسطينية القديرة هيام عباس)، التي تنفّذ لها “العمل القذر”.. قاتلة متسلسلة، تتحدث العربية الفصحى.

“يحدّث” قرباني وشريكته، الكاتبة المسرحية إنيس ماكي، مسرحية ريتشارد الثالث، فتتحول الزيجة بين ريتشارد وزوجة شقيقه في فيلم قرباني إلى علاقة مثلية بين رشيدة و”غنيمة”، فيما ندرك منذ البداية أن الصراع سينفضّ في النهاية بين رشيدة واليزابيث وطفليها. رغم إعادة ترجمة إنيس المسرحية، بلغة “شكسبيرية” ألمانية، مناسبة للوسيط، الفيلم، لكن هذه الخلطة الجديدة، بين اللغة المسرحية الرصينة، ولغة عالم الجريمة المفترض، لا تنجح دوماً.

بعد أن يمضي بنا قرباني حتى منتصف الفيلم، المكون من خمسة فصول، في حجرات معتمة، في باراتٍ وحفلاتٍ مقامة في قصور فارهة، مذكراً إيانا بـ “العراب”، يكسر الهوية البصرية للفيلم ويغير الألوان بشكلٍ راديكالي، ناقلاً معظم أحداث الفيلم إلى خيمة كبيرة في الصحراء، مقامة داخل أستوديو.. إلى اللا مكان، وهذا عن قصدٍ كما يصرّح في مقابلاتٍ صحفية، مجادلاً بأنه يريد أخذنا إلى “داخل” الشخصية.

من برلين التي يتحدث عن اسقاط المسرحية عليها، لا نرى إلا القليل، لا نرى الشخصيات تتحرك في بيئتها، سوى في موقع بناء مسجد. الفيلم ككل يبدو وكأنه يجري في مكانٍ معلّقٍ في الهواء، لا هوية له، يصلح ليكون في أيّة بقعة على الأرض. هذه النقلة إلى واقعٍ مجرد، مدعّم بمشاهد تبدو مسرحية، وأخرى كأنها ساقطة من عالم الفيديو كليب، يجرّد الفيلم من جديته، ويصل به إلى حواف العبثية، رغم العمل الابداعي الجميل لمدير التصوير يوشي هايمرات ومصممة الإنتاج البولندية ياغنا دوبسز.

ومع ذلك، نستمتع بالأداءات والوجبة البصرية التي يقدمها لنا، لبعض الوقت. لكن مع معرفتنا إلى أين يمضي الفيلم، وتوالي المشاهد داخل هذه البيئة المجردة، وإطالة قرباني فيلمه على نحوٍ مبالغٍ فيه، (١٤٢ دقيقة)، يخسر اختباره صبرنا، واهتمامنا بمصير البطلة، ولا نرى جدوى من مواصلة الاستثمار عاطفياً فيها.

قرباني، ذو الأصول المهاجرة، لا يتجرأ فقط في الأسلوب والاسقاط، بل يعيد، دون قصد كما يُفهم من تصريحاته، تقديم الصور النمطية السيئة في الصحافة الألمانية السائدة والتلفزيون عما يُسمّى “العشائر العربية”، أو كما يتخيلها أنصار حزب البديل لأجل ألمانيا اليمينيّ المتطرف. ما نراه هي شخصياتٌ عربية دموية، عديمة الرحمة، تتكلم الفصحى، ترافقها عباراتٌ مكتوبة بالعربية.

يبدأ قرباني فيلمه وينهيه بالعودة إلى ماضي رشيدة، التي نستطيع تخمين أنها سورية، مصدومة من الحرب.

يجادل قرباني، بأن شخصية رشيدة عديمة الرحمة، ولا تتصرف بإنسانية، لكنها ليست شريرة، “ليست حيواناً، كما تقول في الفيلم”، بل بشر .. شخصٌ ذو جرح لا يُشفى، جراحٌ لا يراها الجمهور الغربي. يقول أن الأمر يتعلق هنا بشخصٍ يعاني من تراوما الحرب، وعايش العنف، و”هذا ما تجلبه معها إلينا هنا في أوروبا، وتحمله داخلها”، تنزلق من نظامٍ عنيف تعيش فيه إلى نظامٍ عنيف آخر، لتكمل دورة العنف. هذه مجادلة يستطيع تقديمها على هامش العرض أو المقابلات. لكن ما يصل إلى المشاهد/ة، يتطابق إلى حدٍّ بعيد مع سردية أنصار حزب البديل لألمانيا اليمينيّ المتطرف، وتصوره عن العوائل العربية.

الخبرة المسرحية التي راكمتها كندة حميدان في السنوات الماضية، في مكسيم غوركي برلين، وطبيعة الأداء المطلوب منه، الذي ينحو باتجاه المسرح، مكّنتها من حمل الفيلم على أكتافها بأداءٍ قوي، “شرسٌ” تارةً، ولطيفٌ تارة. ابتسامات إغواء، تعكس تمتعها بالنفوذ، وقدرتها على السيطرة على باقي الشخصيات، تنثرها هنا على الشاشة الكبيرة، قابضةً على عدسات المشاهدين/ات، وهي تتحدث بثقة بلغةٍ ألمانيةٍ أدبية.

خلال إقامة المهرجان، تكررت الإشادة الصحفية بأداء كندة، والمجادلة بأنها كانت لتُرشح لجائزة أفضل ممثل/ة في برليناله، لو اختير الفيلم في المسابقة الرسمية.

أداءٌ قوي آخر، قدمته الممثلة الفلسطينية هيام عباس، التي قال قرباني أنه لم يصدّق أنها قبلت أن تشارك في فيلمه، بل وجعلته يفهم نصّ السيناريو بشكلٍ أفضل. أداءان عربيان قويان في فيلم، يتركان المجال للكثير من التمنيات، كما يقال في الألمانية.

صحافي سوري مقيم في ألمانيا، يكتب في مواضيع الهجرة والنقاش العامة المرتبطة بالهوية والعنصرية والفن.

حكاية ما انحكت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى