سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعنقد ومقالات

الأدب السوري والهوية: الانتماء والتحولات الكبرى/ مرح الحصني

27 فبراير 2025

عندما نتحدث عن الأدب والهوية في سوريا، نواجه أسئلة معقدة تتعلق بدور الأدب في تشكيل الوعي الجمعي والانتماء الوطني. هل كان الأدب السوري محركًا رئيسيًا لهذه الهوية، أم أن وسائل أخرى مثل الإعلام والدراما والمناهج التعليمية كان لها التأثير الأبرز؟

الكاتب السوري يعرب العيسى يشكك في فكرة أن الأدب السوري لعب دورًا محوريًا في تشكيل الهوية الوطنية، ويرى أن تأثيره كان محدودًا مقارنةً بالدراما والموسيقى ووسائل الإعلام الأخرى، إذ لم يعرف المجتمع السوري ظاهرة “الأديب النجم” الذي يُقرأ على نطاق واسع ويؤثر في الوعي العام. ومع ذلك، بقي الأدب مساحة أساسية للتأمل العميق في قضايا الهوية والانتماء، حتى لو لم يكن بالضرورة الأكثر حضورًا في المشهد الثقافي العام.

لكن العيسى يؤكد، في الوقت ذاته، أن الهوية السورية موجودة بقوة في كتاباته، حتى لو لم يكن الأدب هو القوة الرئيسية في تكوينها. ويقول العيسى في حديث لـ”الترا سوريا”: “الهوية السورية، بلا شك، حاضرة بشكل طبيعي في الكتابة. أنا شخص مهتم بسوريا، وهذا، من منظور أدبي، قد لا يكون أمرًا جيدًا، لأن الأدب في جوهره يجب أن يكون إنسانيًا، أي غير منغلق على محليته. ومع ذلك، في كتاباتي، أجد نفسي منشغلًا بسوريا وتفاصيلها، سواء كنت أكتب في الصحافة أو الأدب أو أي مجال آخر. الهوية السورية موجودة بقوة في كتاباتي، وهي تؤثر بي بشكل واضح”.

أما الكاتب الشاب أحمد السح، فيرى أن الرواية السورية كانت دائمًا انعكاسًا للتحولات الاجتماعية، حتى عندما لجأ الكتّاب إلى الرمزية أو الإسقاطات السياسية غير المباشرة. ومع ذلك، يشير إلى أن الرواية السورية لم تتحرر بعد من القيود التي كبلتها لعقود. وكما قال السح في حديثه لـ “الترا سوريا”: “إذا أردنا الحديث عن الأدب السوري من زاويته السياسية، نجد أن الرواية السورية في القرن العشرين تميّزت بالتنوع. نحن نعيش اليوم ما يُسمى بعصر الرواية، ولكن هل يعني ذلك أن الرواية باتت أكثر تحررًا؟ لا أعتقد ذلك، لأننا ما زلنا نعاني من الرقابة الذاتية، ذلك القيد الذي فرضه القمع السياسي على مدى عقود، وجعل الكتّاب غير قادرين على التعبير عن رؤيتهم الكاملة بحرية تامة”.

بين رؤى العيسى والسح، يظل السؤال مطروحًا: هل الأدب السوري يصنع الهوية أم أنه مجرد مرآة تعكس تحولات المجتمع؟ وهل يمكن أن يصبح الأدب في المنفى أو عبر الفضاء الرقمي مساحة جديدة لإعادة تعريف الانتماء؟

بين التقليد والتجديد

مع نشوء الدولة السورية الحديثة في القرن العشرين، بدأ الأدب يعكس تحولات الهوية الوطنية الناشئة، متأثرًا بالأحداث السياسية والاجتماعية الكبرى مثل الاستقلال عن الانتداب الفرنسي عام 1946، والانقلابات العسكرية، وصعود الفكر القومي، ثم لاحقًا الأزمات الداخلية والحروب. لم يكن الأدب مجرد انعكاس لهذه التحولات، بل كان أيضًا مساحة لصياغة تصورات جديدة عن الهوية والانتماء، ومحاولة للإجابة عن أسئلة معقدة تتعلق بالماضي والمستقبل، بالجذور والتغيير، بالذات والآخر.

في البدايات، كانت الهوية الأدبية السورية تتشكل ضمن الإطار العربي العام، حيث تأثر الكتّاب السوريون بالحركات الفكرية والثقافية التي اجتاحت العالم العربي، من النهضة الأدبية في أواخر القرن التاسع عشر إلى الفكر القومي في منتصف القرن العشرين. كان للأدب، وخاصة الرواية، دور في تكريس مفاهيم العروبة والنضال ضد الاستعمار، لكن مع مرور الوقت، بدأت الهوية الأدبية تتخذ مسارات أكثر تعقيدًا، حيث ظهرت تيارات متعددة تسائل هذه المفاهيم من زوايا مختلفة.

خلال الخمسينيات والستينيات، ومع تنامي الفكر القومي والاشتراكي، تحول الأدب إلى أداة لتكريس الهوية الوطنية، لكنه في كثير من الأحيان وقع في فخ الأيديولوجيا، حيث باتت الرواية والشعر انعكاسًا لمواقف سياسية مباشرة. في هذه المرحلة، ظهرت أعمال حاولت كسر هذا القالب، مستكشفةً الهويات الفردية والهويات المتعددة داخل المجتمع السوري، بعيدًا عن الخطاب السياسي الأحادي.

في العقود اللاحقة، خصوصًا مع ازدياد الهجرة والانفتاح على العالم، بدأ الأدب السوري يعكس تنوعًا أكبر في فهم الهوية، حيث لم تعد الهوية السورية محصورة في بعدها القومي أو السياسي، بل أصبحت أكثر تعقيدًا، متشابكةً مع الهويات الدينية، الثقافية، والطبقية. ظهر في هذه المرحلة أدب المنفى، الذي عكس تجربة الشتات السوري، والتوتر بين الانتماء للوطن والاندماج في ثقافات جديدة.

أما في السنوات الأخيرة، فقد شهد الأدب السوري تحولات عميقة نتيجة للأزمة التي عصفت بالبلاد، حيث أصبحت الهوية الأدبية مرتبطة بأسئلة الاغتراب، النزوح، فقدان المكان، وإعادة تعريف الوطن. لم تعد الهوية السورية في الأدب مسألة مستقرة أو محسومة، بل باتت تعكس هشاشة الواقع الذي يعيشه السوريون داخل البلاد وخارجها، وأصبحت الكتابة ذاتها فعل مقاومة ضد النسيان والتشظي.

في ظل هذه التحولات، يبقى السؤال مفتوحًا حول مستقبل الأدب السوري: هل سيظل وسيلة للحفاظ على الهوية الوطنية في ظل التغيرات الجذرية التي تشهدها سوريا، أم أنه سيتحول إلى فضاء لتشكيل هويات جديدة، تتجاوز المفاهيم التقليدية للانتماء؟

الأدب والهوية في ظل الأزمات السياسية

شهدت سوريا تحولات سياسية كبرى خلال العقود الماضية، وكان لهذه التحولات تأثير مباشر على الأدب. يمكن تقسيم هذا التأثير إلى مرحلتين رئيسيتين:

• ما قبل 2011: حيث كانت الرواية السورية تميل إلى تناول القضايا الاجتماعية بشكل غير مباشر، مستخدمة الرمزية والإسقاطات للتعبير عن الواقع.

• ما بعد 2011: تغيّر المشهد الأدبي مع تصاعد الأزمة السورية، وبدأ الأدب يعكس واقع الانقسام والنزوح والمنفى والبحث عن معنى جديد للهوية والانتماء.

وبحسب يعرب العيسى، فإن الكتابة عن الهوية السورية قد تكون أمرًا حتميًا بالنسبة لبعض الكتّاب، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الأدب هو الذي يصنع الهوية. يقول: “هذا طموح كبير جدًا، وأتمنى أن يُمنح لي، أو لأي كاتب سوري آخر، الفرصة لترك بصمة حقيقية في هذه الهوية.”

المنفى وإعادة تشكيل الهوية الأدبية

مع تزايد موجات الهجرة، وجد العديد من الكتّاب السوريين أنفسهم في المهجر، مما خلق ديناميكية جديدة في الأدب السوري. لم يعد الأدب مجرد وسيلة للتعبير عن الانتماء، بل أصبح مساحة لإعادة تشكيله بالكامل.

في أعمال كتاب، مثل سمر يزبك وإبراهيم الجبين، نجد أن المنفى لم يكن مجرد تجربة جغرافية، بل تحوّل إلى صراع بين الانتماء إلى الجذور والتأقلم مع الواقع الجديد. أصبح الأدب السوري في المهجر يبحث عن سوريا في الذاكرة أكثر مما يبحث عنها في الواقع.

الأدب الرقمي ووسائل التواصل: جيل جديد بأساليب مختلفة

مع انتشار الإنترنت، تغيرت طبيعة الأدب والتعبير عن الهوية السورية. لم يعد الأدب محصورًا في الكتب والصحف، بل انتقل إلى المدونات، مواقع التواصل الاجتماعي، والمنصات الرقمية، حيث ظهر جيل جديد من الكتّاب يعبر عن الهوية بأساليب أكثر تفاعلًا.

أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي مساحة لظهور أدب أكثر جرأة وتنوعًا، بعيدًا عن الرقابة التقليدية. في هذا السياق، يمكن القول إن الأدب الرقمي منح الكتاب السوريين فرصة لإعادة تعريف الهوية السورية بعيدًا عن القيود القديمة، وهو ما يتماشى مع رؤية أحمد السح حول ضرورة تحرر الأدب السوري من الأدلجة والرقابة الذاتية.

هل الأدب صانع الهوية أم مرآتها؟

عند الحديث عن العلاقة بين الأدب والهوية في سوريا، لا يمكن تقديم إجابة قاطعة. الأدب السوري، مع مرور الوقت، لم يكن مجرد صانع للهوية، بل كان أيضًا مرآة تعكس تطورات المجتمع وتغيراته.

في النهاية، يظل الأدب السوري في حالة بحث دائم عن هويته، سواء داخل الوطن أو في المنفى، سواء عبر الرواية التقليدية أو من خلال المنصات الرقمية. ومع استمرار التحولات السياسية والاجتماعية، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن للأدب أن يكون أكثر من مجرد انعكاس للهوية، ليصبح قوة فاعلة في تشكيلها؟

الترا سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى