مراجعات الكتب

“مهنتي هي الرواية”… دليل هاروكي موراكامي للكتابة/ ساري موسى

27 فبراير 2025

لا يسعى الكاتب الياباني هاروكي موراكامي (1949) من خلال الكتاب الذي يستعرض فيه بداية مسيرته روائياً وتطوّرها، المعنون في نسخته العربية “مهنتي هي الرواية”، الصادر حديثاً عن “دار الآداب” بترجمة أحمد حسن المعيني، إلى تقديم خُلاصة خبرته في الكتابة الممتدَّة لنحو نصف قرن، من خلال نصائح للكُتَّاب الشباب مثلاً، كما فعل ماريو بارغاس يوسا على نحوٍ بديعٍ وشديد الإفادة في “رسائل إلى روائي شاب”. كما أنه لا يسعى إلى إبراز الأسباب العميقة التي شكَّلت وعيه منذ الطفولة إزاء فعل القص، وحبَّبته به دافعة إيَّاه إلى تخليد السرد الشفوي من خلال التدوين، كما فصَّل غابرييل غارسيا ماركيز تلك الأسباب في “عشتُ لأروي”.

نحن في هذا الكتاب أمام حالة خاصة لا فائدة عامّة لها، إننا أمام كتابة ذاتيَّة تُثير دهشة القارئ، والدهشة هنا بمعنى الاستغراب لا الانبهار، ولا وقع لها في العقل لناحية الفهم، ولا في القلب لناحية التأثُّر، إذ حدث الأمر مع الرجل كما لو أنَّه قرَّر شراء قطعة أثاثٍ جديدة، أو الذهاب في عطلة إلى الجبال مع زوجته.

يصف موراكامي اللحظة التي خطر له فيها “من دون أي مقدِّماتٍ من أي نوع”، أنَّ بإمكانه أن يكتب رواية، وبأنها “لحظة تجلٍّ”. كان ذلك في شهر إبريل/نيسان من سنة 1978، حين كان متَّكئاً في مدرَّج ملعبٍ في طوكيو يشاهد مباراة بيسبول بين فريقين في الدوري الياباني، ويشرب مشروباً بارداً. قال في نفسه: “أعتقد أنَّ بإمكاني أن أكتب رواية!”. وبالفعل مضى ليفعل ذلك، وفعله. كتب الشاب الذي كان قد أصبح في الثلاثين من عمره روايته الأولى، التي فازت بـ”جائزة غونزو للكُتَّاب الجدد”، ما حمَّسه وشجَّعه على المضي في طريق الكتابة.

الغرابة التي حكمت لحظة بداية الكتابة عند واحدٍ من أبرز الروائيّين اليابانيّين المعاصرين لم تتوقَّف فيما بعد. هناك الكثير من النقاط الجدليَّة في آراء موراكامي وتصرُّفاته، منها على سبيل المثال أنَّ كلَّ ما يحتاجه المرء للكتابة هو قلمٌ وأوراق بيضاء وطاولة يجلس إليها في مكانٍ ما.

يعرف كلُّ من سبق له أن كتبَ، ولو القليل، أنَّ هذا ليس صحيحاً، وأنَّ الأمر ليس بهذا التبسيط كأنَّه خربشة، أو نسخٌ من كتاب، أو نقلٌ لتجربة شخصيَّة. وكذلك اعتباره أن الأشخاص الأذكياء لا يكتبون الروايات، فهذا العمل يُناسب الأشخاص البليدين الذين سِمَتهم الصبر والجَلَد أكثر من الفطنة والنباهة، فالأذكياء بحسبه ينصرفون إلى أعمال أخرى، علميَّة أو تجاريَّة، تتناسب مع ذكائهم. كأنَّ الذكاء مفهومٌ ينحصر في مجالٍ دون غيره، أو كأن كاتباً مثل فيودور دوستويفسكي، سبق سيغموند فرويد إلى تناول التحليل النفسي من خلال رواياته، كان غبيَّاً. أو اعتباره أيضاً، في مثال آخر يُبطله كاتبٌ عظيمٌ ومريضٌ مزمنٌ مثل دوستويفسكي، أو مثل العظيم الروسي الآخر، المسلول أنطون تشيخوف، أنَّ اللياقة البدنية أمر ضروري وأساسي للكاتب، لا يمكنه من دونه أن يحتمل الكتابة التي تتطلب ساعات طويلة من الجلوس والمحافظة على استقامة الظهر، وعلى التركيز الذي يُمكِّن الكاتب من متابعة عمله من دون تشتُّتٍ ذهنيّ، لذلك هو يجري يوميَّاً مهما كانت حالة الطقس، أو البلد الذي يسافر إليه من أجل الكتابة.

ثمَّة سلوكيَّات أخرى، لا يصحُّ وصفها إلَّا بالصبيانيَّة، تمسُّ بعلاقته مع من يعاونونه في إنجاز أعماله، ومنحها شكلها النهائي، مثل تعامله مع المحرِّرين الذين يعملون على رواياته الضخمة، حيث يتباهى بأنه يفعل عكس ما يقترحونه في الملاحظات التي يضعونها على مخطوطاته، بحجَّة أنَّهم لا يعرفون أكثر منه في تفاصيل عمله؛ فهو يُسهب أكثر في المواضع التي يسألون الاختصار فيها، فيما يحذف الفقرات التي يطلبون منه فيها المزيد من الإيضاح والتوسُّع في السرد!

وبينما يفتخر الكاتب بنيله “جائزة الكُتَّاب الجدد” منذ بدء مسيرته، يكرر في كلِّ فصلٍ من فصول الكتاب أنَّه غير مهتمٍّ بعدم حصوله على “جائزة أوكوتاغاوا”، التي تعتبر أرفع الجوائز الأدبية اليابانية، والتي نالها أبرز كُتَّاب الجزيرة الطافية في شرق آسيا، مثل يوكو أوغاوا ومييكو كاواكامي. إن عدم نيله هذه الجائزة، إضافة إلى التعليقات السلبية حول مستوى كتابته في رواياته المبكِّرة من قبل الأكاديميين والنُقَّاد والُمحكِّمين ودور نشر في بلاده، يرجعه هو نفسه إلى كون كتابته تختلف عن الكتابة اليابانية التقليدية. كما أن رفض مجلة “نيويوركر” عدداً غير قليل من القصص القصيرة التي أرسلها للنشر فيها، وعدم فوزه بجائزة “نوبل للأدب” التي لا يزال اسمه مطروحاً لنيلها، يُرجعه عدد من النُّقَّاد إلى عدم نضج مستواه الأدبي.

أمَّا عن شهرته في العالم، التي بدأت بشكل أساسي بعد رواج رواياته في الولايات المتحدة الأميركية، التي تظلُّ سوق الكتب الأكبر، بسبب وحدة اللغة، وكثرة عدد السكان والقراء من ضمنهم، بالمقارنة مع اللغات العديدة والقرّاء الأقل عدداً في أوروبا، فيمكننا اختصارها بالقول إنَّه فهم اللعبة. يُصرِّح موراكامي بأنَّه اكتشف أنَّ الوكلاء الأدبيين الأميركيّين لن يطَّلعوا على أي كتاب، مهما كان مستواه، إن كان مكتوباً بلغة أخرى غير لغتهم. لذلك كلَّف الروائي الياباني مترجمين على حسابه لترجمة كتبه، قبل أن تصبح الدور مهتمَّة بالمبادرة إلى ترجمتها، بفعل ارتفاع أرقام مبيعاته، وإقبال القراء على اقتناء أعماله وقراءتها، وهو الأمر الذي نشعر بأن الكاتب الياباني نفسه لا يجد سبباً له، كأنَّه تحقَّق له من دون جهد، إلى حدِّ اعتباره أنَّ الكتابة لا تحتاج إلى أكثر من ورقة وقلم وساقين للجري!

* كاتب من سورية

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى