صفحات الثقافة

التعددية الثقافية المشرقية: كم شعباً يوجد على «أرضنا»؟/ محمد سامي الكيال

تحديث 28 شباط 2025

يثير الحديث عن «التعددية الثقافية» كثيراً من الجدل، في كل أنحاء العالم. وقد باتت لها نظرياتها، وممارساتها المؤسساتية في بعض الدول، وكذلك تواجه نقداً شرساً، من اليمين واليسار، ما يجعلها أمراً واقعاً، وسؤالاً أساسياً لدى كل التيارات السياسية، سواء الليبرالية، المحافظة، الجمهورية والشعبوية. ولكننا لسنا أبناء كندا أو فرنسا، إنما نتحدّر من دول ناطقة بالعربية، يمكن لنخبها، المحلّية والمهاجرة، أن تكتب وتترجم كثيراً عن «التعددية الثقافية في الغرب»، دون أن تقدّم إسهامات جديّة عنها في بلدانها، رغم تنوّعها الشديد، المؤلم والقاتل أحياناً، خاصة في المشرق.

يصعب في الثقافة السياسية العربية رصد طروحات في الموضوع أبعد من استنكار «الطائفية»؛ والأحاديث عن أفضل طرق الوصول لـ»الوحدة الوطنية»، و»التماسك الوطني»، لتجاوز أزمة ما. هنالك بالطبع بعض المتمردين، الذين يؤكدون أن الانقسام المذهبي والإثني والقومي، أمرٌ لا يمكن تجاوزه، ويقدّمون على أساس ذلك مطالب، تتراوح بين الفيدرالية، وحتى الانفصال أو الانضمام إلى دول أخرى، وهي أمور ما تزال تُعتبر مستنكرة، أو حتى نوعاً من الهرطقة، لدى جمهور عريض من المهتمين بالشأن العام. ووسط كل هذا يغيب السؤال عن «التعددية» نفسها: بغض النظر عن أصل الشعوب والطوائف والقوميات، وسواءً اعتبرناها مترسّخة في التاريخ؛ أو تكوينات سياسية حديثة، جاءت مع الاستعمار، أو نموذج الدولة القومية، أو الدولة الطائفية؛ أو نتيجةً لفشل التحديث والتنمية، والتبعية للنظام الإمبريالي؛ أو أي طرح آخر، فكيف يمكن التعامل معها؟ هل إذا قلنا لها إنها شعب واحد، وأخرسنا المهرطقين، فسنقتنع بذلك، ونصل إلى «الوحدة الوطنية»؟ وبالمقابل، إذا أكدنا لها أنها أقرب لإثنيات مكتملة العناصر، ما يؤهلها للمطالبة بأوضاع وترتيبات سياسية ودستورية خاصة، فهل سيكسبها ذلك الذات السياسية المستقلة، التي تجعلها تتصرّف بطريقة أشبه بشعوب، تطالب بالاعتراف أو المساواة أو تقرير المصير؟

سؤال «كم شعباً على أرضنا؟» معقّد جداً. بالتأكيد ليس شعباً واحداً، ولكن لا يبدو أن هناك شعوباً كثيرة. توجد تعددية بالطبع، ولكنها ليست تعدديةً واعيةً بذاتها، وقادرة على التعبير السياسي والثقافي. ولذلك، فربما كان الأصح، قبل أن نقوم بعَدِّ وإحصاء «الشعوب»، أي الإثنيات والطوائف، القابلة نظرياً لأن ترفع هويتها الجماعية إلى المستوى السياسي، أن نسأل عن السبب الذي يمنع نشوء ذوات سياسية أقرب للاستقلالية، والقدرة على التمثيل والتنظيم. لماذا يرفض كثير من «الأقليات» أن تُصلّب نفسها، بوصفها جماعات تطالب بالاعتراف؛ ورغم رفضها لا تندمج تماماً في «الشعب الواحد»؟ لماذا يمكن أن تندلع حروب أهلية، تشهد مجازر تطهير طائفي وعرقي، وينكر كثير من المتحاربين، في الوقت نفسه، اتهامهم بالطائفية أو الانفصالية؟ هل التورّط بجرائم ضد الإنسانية أهون من التعبير السياسي الصريح عن الذات، إن وجدت؟ لماذا لا نقول ببساطة: نحن طائفيون وإثنيون. ونتصرّف على هذا الأساس، علّنا نجد حلاً، وصيغة مشتركة للعيش؟ وإذا لم نكن كذلك، وقررنا تدمير الطائفيين والانفصاليين، بوصفهم جسماً غريباً عن أرضنا، ألا يتطلّب هذا بدوره حروباً طائفية وإثنية؟ هذه الأسئلة ليست أسئلة نظرية مجرّدة، بل حاسمة في كل المجالات، وربما كان عدم طرحها بشكل صريح السؤال الأساسي عن طبيعة مجتمعاتنا وثقافتنا السياسية المعاصرة.

الإثنية الخرساء

يمكن لراسمي الخرائط، من دارسي ما يسمى عادةً، على المستوى الأكاديمي، «التوزّع الإثني في المشرق»، أن يضعوا ألواناً كثيرة، ضمن الحدود السياسية لأي بلد من بلدان المنطقة، تمثّل طوائف أو عرقيات معيّنة، ويقارنوا انتشارها بمناطق سيطرة الميليشيات والقوى السياسية المتصارعة، أو الدول الأجنبية المتدخّلة عسكرياً في حروب المنطقة. وبغض النظر عن دقّة تلك الخرائط، فهي بالتأكيد عمل بحثي مفيد، يساهم في توضيح الصورة العامة للصراعات، إلا أنه لا يُعنى بأسئلة أساسية، على رأسها: هل هذا توزّع إثني فعلاً؟ بمعنى هل أبناء هذه «الإثنية» أو تلك، يفهمون أنفسهم بصفتهم الإثنية؟ إذا تجاوزنا النظريات الإثنولوجية العرقيّة، التي لم تعد مقبولة في عموم المجتمع الأكاديمي الغربي، وعدنا إلى الأصل اليوناني لمفردة «إثنية»، فسنجد أنها تشير إلى ترسيم حدود جماعة بشرية، وتمييزها عن غيرها، بناء على تحديد ذاتي، من داخل الجماعة نفسها؛ أو خارجي يفرضه آخرون. عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، ذهب أكثر باتجاه التحديد الذاتي، وقدّم واحداً من أهم التعريفات غير العرقيّة للإثنية، وقد بات تعريفه أساسياً في الإثنولوجيا المعاصرة: إنها «الاعتقاد الذاتي بوجود جماعة من أصل مشترك، وهو اعتقاد مهم للترويج لبناء الجماعات»، على أساس «تشابهات في المظاهر الخارجية، أو العادات والأخلاقيات، أو كليهما، أو ذكريات الاستعمار والهجرة». الاعتقاد الذاتي حاسم إذن في تعريف الإثنية، ورسم حدودها، حتى لو كان غير عقلاني، أو لا يستند إلى جذور تاريخية صحيحة. كما أن الإثنية تُبنى، بمعنى أن الاعتقاد بإثنية معيّنة يدفع إلى إعادة صياغة عادات وسمات ورموز مشتركة لها، وقد يوصلها إلى المرحلة السياسية، أي بناء تنظيمات وقوى، تطرح، في الحيز العام، وعلى أجهزة الدولة، مطالب واضحة، تتعلّق بالاعتراف بالإثنية، أو مراعاة خصوصيتها، ومصالحها.

بهذا المعنى، فالصفة الإثنية لا تقتصر على مجموعات عرقية ولغوية متمايزة في المنطقة، مثل الآشوريين والتركمان، بل قد يكون كثير من طوائف المشرق الدينية إثنيات، خاصةً الطوائف غير التبشيرية، والأصح، من منظور إثنولوجي، تسميتها «جماعات إثنو- دينية». مع ذلك، ورغم وجود «الاعتقاد الذاتي» في أوساطها، فإنه لا يصل إلى المرحلة السياسية، بل كثيراً لا يصل حتى إلى مرحلة التدوين، وبالتالي النشر للعموم، إذ نادراً ما نجد أدبيات جديّة، تتحدث عن تلك المجموعات الإثنو- دينية، وثقافتها، وفهمها الداخلي لنفسها. يبدو هذا تناقضاً صعب الحل: الإثنية هنا، تعي نفسها، بل يخوض عدد من أفرادها معارك على أسس هوياتية، وفي الوقت نفسه لا تتكلّم، بل حتى عندما يتكلّم عدد ممن يفترض أنهم ممثلوها، من رجال دين ووجوه مجتمعات محليّة، فإنهم ينطقون بلغة مُلغّزة، تُبطن أكثر مما تُظهر، وتصرّ على مقولة «الشعب الواحد»، و»الوحدة الوطنية». ربما لا يؤكد هذا على هيمنة الأيديولوجيا الوطنية على المتحدثين الإثنيين، بقدر ما يشير إلى أن «الوطنية» مفرغة أساساً من أي معنى قابل للإمساك والفهم. إنها مجرّد عبارات إنشائية لملء فراغات الخطاب، وإبراز المسكوت عنه. ما قد يعني أننا كي نكون طائفيين فعلاً، يجب أن نزايد قدر الإمكان في تكرار صيغة «الشعب الواحد».

إلا أن طريقة التعبير الإثنية/الطائفية هذه، التي تتجنّب التصريح عن الذاتية السياسية، تتركنا أمام مشكلة أعقد: تلك المجموعات عاجزة عن تمثيل نفسها بالمعنى السياسي، أو لا تريد ذلك، فلا يبقى أثر لحضورها الفعلي إلا عبر المسلحين غير أو شبه النظاميين. وهذا يجعل الميليشياوية الطريقة الوحيدة لما يشبه التمثيل الإثنو- ديني في المشرق، فالمجموعة التي لا تمتلك ميليشياتها الخاصة، لا حضور فعلياً لها. ولهذا يقارن راسمو الخرائط بين الحضور الإثني وخطوط السيطرة الميليشياوية.

لا يعرقل كل هذا إمكانيات بناء حياة سياسية، وحيز عام ديمقراطي فحسب، بل يدمّر المجتمعات الإثنية والإثنو- دينية نفسها، فالميليشيات تقمع مجتمعاتها أولاً، وتمنع تشكّلها الذاتي المستقل، سياسياً واجتماعياً. هل الوصول إلى الوطنية المُفرغة من المعنى يتطلّب إذن أجهزة قمع ضارٍ، انحدرت إلى ميليشيات إثنية/طائفية، بعد اضمحلال وانهيار الدول القومية؟

الإجابة غالباً «نعم». ولكن هل هذا يعني أن من الأفضل السعي باتجاه تجاوز «الوطنية» من هذا الطراز، نحو تشجيع الجماعات الإثنية، والإثنو- دينية، على تأسيس ذاتها سياسياً، بدلاً من الاكتفاء بمسلحيها غير النظاميين؟

البحث عن شعوب

لم يكن بالإمكان دراسة الطائفية المشرقية، بعيداً عمّا يسمى «الدولة الطائفية»، أي نموذج الدولة الحديثة، الاستعمارية وبعد الاستعمارية، التي أنتجت وأعادت إنتاج الطوائف بنيوياً، عبر آليات كثيرة، منها السياسة، الداخلية والخارجية؛ والأيديولوجيا؛ والقانون؛ وتوزيع الموارد والريوع؛ والمحاصصة، المعلنة أو الصامتة. الدولة الطائفية مركزية بالضرورة، ولا يمكن للطوائف أن توجد باستقلال عنها. وحضورها المركزي القوي، هو ما يسمح لها بإدارة عمليات التطييف، أي الانطلاق من الوقائع الإثنوغرافية للمجتمعات، وإعادة صياغتها سياسياً، للوصول إلى البنية الطائفية القائمة، وعلاقات السيطرة والهيمنة ضمنها.

لقد اضمحل نموذج الدولة ما بعد الاستعمارية، سواء كانت دولة طائفية تامة، مثل لبنان والعراق؛ أو عصبوية أدنى من طائفية، مثل سوريا، ونحن الآن في حالة من الفوضى، التي تصل إلى درجة انهيار كل ما تبقّى من أنظمة التحضّر، حتى لو كانت أنظمة طائفية. وعلى هذا الأساس، فربما من الصعب مطالبة الجماعات الإثنية، والإثنو- دينية، بتطوير وعيها الذاتي، وبناء نفسها سياسياً، فهي عاجزة غالباً عن ذلك، بغياب دولة تقوم بعملية تطييف (تحويل إلى طائفة) أو أثننة (تحويل إلى إثنية)، وعلى الأغلب ستبقى في حدود الميليشيات والعصابات، تحت السياسية. قد يكون الأجدى الخروج من ثنائية «شعب واحد» في مقابل «طائفية»، أي تجاوز المراهنة على أحد الخيارين، وإدانة كل التعبيرات التي قد تُحسب على الخيار الآخر. توجد لدينا مجموعات إثنية تمتلك ذاتاً سياسية واضحة؛ وأخرى عاجزة عن تأسيس وتمثيل نفسها؛ وميليشيات وعصابات متحاربة؛ وفئات وأفراد يرفضون حصر أنفسهم في الحدود الإثنو- دينية؛ وما يشبه أحزاباً سياسية و»قوى مدنية»؛ فضلاً عن فاعلين إقليميين أقوياء، قادرين على إعادة رسم الخرائط، والتأثير على كل المعادلات الداخلية. ربما كانت تلك هي «تعدديتنا الثقافية»، وعلينا الاعتراف بها، ومحاولة تنظيمها قدر الإمكان. ولكن كيف؟

قلنا إن الطوائف لا يمكن أن توجد دون دولة طائفية مركزية، وقياساً على هذا فربما لا يمكننا الاعتراف بتعدديتنا، دون المطالبة بدولة تدير هذا الاعتراف، وما يترتب عليه من إجراءات سياسية واقتصادية وثقافية. قد يكون المقترح الأفضل هو التوافق على دولة غير مركزية، بدستور علماني، لا يحدد ديناً أو قومية للدولة، ويؤمّن قانوناً مدنياً، يعترف بالتقليد الديني والإثني، ولكن لا يجبر الناس عليه، ويتيح لهم بدائل عنه، ما قد يساهم بفتح مجال لكي تتعرّف «الشعوب» في المنطقة على نفسها، وعلى الآخر؛ وتُسَيّر شؤونها الحياتية والسياسية، وتتداولها، وصولاً إلى بناء مشتركات وطنية ما. أما احتمالية الوصول إلى مثل دولة كهذه فمتروك للزمن وتطوّر الأحداث. قد نصل إليها بأنفسنا، بعد أن جرّبنا طويلاً الدول الطائفية والدينية المركزية؛ وقد تجبرنا عليها قوى إقليمية؛ وقد لا يحدث شيء من هذا، وتستمر حالة الفوضى والانحدار إلى الهمجية، إلى أن يستجدّ شيء ما، لا يمكن توقّعه الآن.

كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى