ملامح الإسلام الذي نراه/ وائل ميرزا

أدناه ملامح الإسلام الذي نراه، بسنن الاجتماع البشري، يولدُ على الأرض السورية من مخاض ثورتها وتحريرها. تُطرح هنا للإحاطة والدراسة والحوار. وتبقى، في أقل الأحوال، شاهداً على السوريين لله والتاريخ. ووثيقةً أولى لمشاريع ثقافية أو سياسية ممكنة.
فهل يمثلك هذا الإسلام؟ دعِ السوريين يعرفون ذلك، فهذا مقامُ جدٍ كبير.
1. إنه إسلامٌ لا تُحاصَرُ فيه معاني الحرية، ولا يجري فيه تضييق معاني الاستقلالية والاختيار الشخصي، ولا يتوقف معه الإبداع في مجالات الفكر والثقافة والأدب والفن وغيرها من مناشط الحياة البشرية.
2. إسلامٌ لا يوصفُ فيه كل إبداع بأنه ابتداع، ولا يُتهمُ فيه كل تجديد بأنه طعنٌ للأصالة، ولا يُوصمُ معه أيُّ خروجٍ على المألوف بأنه منكرٌ وخطيئة، وكلُّ رأي آخر بأنه مخالفٌ للإجماع.
3. إسلامٌ لا تتوسعُ فيه دوائر المحرَّمات والمُقدَّسات بشكلٍ سرطاني حتى تُصبحَ هي الأصلَ في الدين، وتصير محورَ تنزيله على حياة الناس وواقعهم، من خلال ممارسات الضبط والمنع والقهر والعسف والإجبار.
4. إسلامٌ يعرف أهلهُ دلالات الإشارات الكامنة وراء حرصه الشديد على تجنّب التقديس للأشخاص وللأماكن وللمظاهر. يتذكرُ فيه أتباعهُ أن نبيهم يُوصف عندما يُذكرُ بالـ(كريم) وليس بـ(المُقدﱠس)، ولا يتجاوزون حقيقة أن الكعبة (مُشرّفة) وليست (مقدّسة)، ولا يقفزون فوق المعاني الكامنة وراء عدم إمكانية استخدام تصريف (القدُّوس) إلا للإشارة إلى الخالق.
5. إسلامٌ يقوم على الإيمان الفطري الطبيعي بالحلال البيّن والحرام البيّن، بعيدًا عن التشدد والعنت والقسوة والغلاظة التي تريد أن تفرض نفسها على تأويله الأصيل، وعلى الناس.
6. إسلامٌ يرفض تقزيم العقل وتقييده ومنعه من التحليق بقوةٍ وعزيمة في آيات الأنفس والآفاق بدعوى إجلال الله، ويرفض ممارسات الكبت والتحريم وملاحقة البشر وضمائرهم، ويرفض العودة إلى شرعة الإصر والأغلال بعد أن حرّر اللهُ الناسَ منها، ومن الرهبانية المبتدعة والمرفوضة في أي شكلٍ من أشكالها.
7. إسلامٌ يرفض كل المبالغات التي تؤدي إلى الشلل العقلي والنفسي والعملي الذي يحاصر كثيراً من الناطقين باسمه اليوم، ويؤدي إلى افتقاد القدرة على العمل والحركة الفعلية بغرض تحرير الأرض والإنسان من كل القيود.
8. إسلامٌ لا يكون فيه الشرعي أو عالِم الدين هو أيضاً العالم بالسياسة والاقتصاد والعسكرة والقانون الدولي وعلوم الاجتماع، بحيث يتعامل مع كل مسألةٍ في هذه المجالات بناءً على مبلغ علمه من الرصيد الشرعي (النقلي البحت في أغلب الحالات)، ومبلغ علمه عن الدنيا الذي يُحصلهُ من مقتطفاتٍ من الأخبار والنقولات.
9. إسلامٌ لا ينحصرُ فَهمهُ وتمثيلهُ في جماعةٍ محددة، شرعية أو سياسية أو حزبية أو عسكرية، تنطلق من ظروفها الخاصة وأحوالها المُعيّنة، وتتحرك بناءً على حدود علمها التي كثيرًا ما تكون في غاية القصور، لتقوم بأفعال وتصرفات، وتصنع قرارات ومخططات، تتجاوز بكثيرٍ قدرتها على الإحاطة، وينتج عنها مستتبعاتٌ تؤثر في مصير السوريين جميعًا، دون امتلاك المقومات والشروط المطلوبة لإصدارها بما يحقق المصالح العامة.
10. إسلامٌ لا يسمح بأن يطغى على المجتمعات أنصافُ متعلمين ينطلقون في (معاركهم) من بضاعةٍ مزجاةٍ في العلم، شرعيًا كان أو غير ذلك، ولا شخصياتٌ مريضة تُنفس عن مآزقها العقلية والنفسية بلباس الحماسة والغيرة على الدين.
11. إسلامٌ يعيش فيه أهلهُ حالة (حُسن الظن) بالناس وبـ(الآخر)، ولديهم القابلية للحوار مع الأفكار، ومحاولة قراءتها بحياد، والتفكير في دلالتها بموضوعية، وعندهم القدرة على الاعتراف الواضح والصريح بالخطأ، وعلى ممارسة المراجعات، دومًا، دون خوفٍ موهومٍ على الإسلام، أو احتكارٍ لفهمهِ وتنزيله، أو توظيفٍ له للحفاظ على مواقع النفوذ والقوة والسلطة.
12. إسلامٌ يتجنبُ معتنقوهُ عقلية التماهي العميق والمستمر بينهم وبينه، ويدركون الفارق بينه كدين، وبين (التديُّن) كفعلٍ بشري يُمارسه الإنسان على طريق محاولة تمثُّل قيم الدين وتحقيق مقاصده.
13. إسلامٌ يكون مرادفًا آخر لمفهوم (الإصلاح) و(البناء) الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، بشكلٍ يؤكد على (العودة) إلى العصر والدخول في الزمن الراهن للعيش في (الحاضر) بدلًا من المحاولات المستمرة للهروب منه، إما إلى الماضي، أو إلى مستقبلٍ بعيد في (الآخرة)، بداعي كون الحياة بكل مكوناتها (ابتلاءً) و(فتنةً) ما من سبيل للتعامل معهما إلا بشكلٍ عابر، تمهيدًا لـ(خَلاصٍ) لن يأتي بغير انتهاء الوجود البشري الشخصي أو العام.
14. إسلامٌ يحض على العلم والتخطيط والتنمية والإدارة والتنظيم، وعلى فهم العالم والاهتمام بالشأن العام وقراءة سنن وقوانين إعمار الأرض، وعلى التركيز على الحاضر والمستقبل.
15. إسلامٌ لا يحرصُ بِهَوَسٍ على تجميد الزمن، وعلى محاصرة وتنميط الفعل البشري في قوالب محدّدة و محدودة من الممارسات، وإنما يتمحور حول التعامل مع حاجات الناس وهمومهم وتطلعاتهم وتحقيق نفعهم ومصالحهم، ويدفع لحصول ذلك بلغة العصر وأدواته، آخذًا بعين الاعتبار كل ما في الواقع الإنساني من حيويةٍ وتعقيد وتغيير واختلاف وتناقض وتوازنات، بعيدًا عن شعارات (المفاصلة) مع هذا الواقع وإنكار حقائقه ومكوناته.
16. إسلامٌ لا يغرق في تبرير الواقع القائم بقصدٍ أو دون قصد، وتُربى فيه الأجيال على أن واقع الظلم والفساد والتخريب الممنهج في كل مجالات الحياة، والممارسات التي تقف وراء ذلك الواقع، هي في حقيقتها أكبرُ انتهاكٍ لتعاليم الدين، وأعظمُ في تأثيرها السلبي من انتهاك بعض أوامره ونواهيه على المستوى الفردي.
17. إسلامٌ حقيقيٌ كبيرٌ لا يخاف من انتماء أتباعه إلى (شعبٍ) و(وطن)، فضلًا عن استحالة خوفه من مجرد ذكر هذه الكلمات، حتى لو كان من تلك الشعوب وفي تلك الأوطان من لا ينتمي للإسلام، ويؤكد على وجوب التعامل مع هؤلاء كإخوةٍ في الوطن والإنسانية، خاصةً إذا كانوا من العاملين لتحقيق معاني الكرامة والحرية الإنسانية بأي شكلٍ وطريقة.
18. إسلامٌ يُعلِّم أهله أن الاختلاف سنّة الكون والحياة، وأنه سبيلٌ للتنوّع والتكامل والثراء والتطور الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، ويُبصرهم بضرورة وإمكانية تجاوز مشاعر الطفولة الإنسانية المتمحورة حول (الأنا)، وبكيفية الارتفاع عليها عمليًا، ويربيهم على أن (الاختلاف) ليس مدعاةً لـ(الخلاف)، وأن قبوله لا يعني بالضرورة السقوط في أفخاخ الذوبان الثقافي والدونية والتبعية، كما يتوهّم الكثيرون.
19. إسلامٌ متصالحٌ بشكلٍ كبير مع الحياة. متصالح مع قيم ومعاني التجديد والإبداع والابتكار، على كل مستوىً وفي كل مجال. لا مكان فيه لمن يتعامل مع العالم بعقلية الخوف من كل جديد، والحذر من كل طارىء، والرهبة من كل مختلف. لا يوجد فيه ذلك الرعبُ السائدُ عند البعض من الخلط بين الإبداع والابتداع. وليست القيودُ والشروطُ والموانعُ هي الأصل فيه، وإنما الأصلُ الإباحة.
20. إسلامٌ لا تتمحور حياة المسلمين فيه إلى حدّ الهوس حول التفكير بالمُحرَّمات، ولا يجعلون هذا التفكير المدخل الأساسي لعلاقتهم بالإسلام، ولا مقياساً لتديُّنهم، ولا تنشغل عقولهم وكتبهم ونشاطاتهم الثقافية والاجتماعية بالوهم الذي يوحي بأن فعاليات الحياة البشرية المختلفة إنما هي مصائدُ شيطانيةُ كبرى، لا يمكن للإنسان أن يتعايش معها إلا بوجود واستمرار أقصى مشاعر التوجُّس والحذر والشك والخوف والريبة، في النفس وفي الآخرين، وفي متغيرات الواقع وأحداثه.
21. إسلامٌ متصالح مع المرأة، يجعلها حاضرةً بقوة في كل مجال من مجالات الحياة. لا يُكتفى فيه برفع الشعارات التي تتحدث عن ضمان حقوق المرأة، ولا يَخاف من صياغة قوانينَ خاصة تحفظ تلك الحقوق، وتخلق الظروف المناسبة لتطوير مكانتها ودورها في الحياة بشكلٍ مباشرٍ وواضحٍ وصريحٍ ومستمر. يتجاوز التناقضات الموهومة ويفتح الأبواب لها مُشرعةً للمشاركة في بناء المجتمع وإعمار الحياة، دون أن يعني هذا فقدانها لخصوصيتها وهويتها والتزامها، أو يكون سبباً لشيوع الفساد والرذيلة، أو مدخلاً لتفكك الأسرة وضياعها.
22. إسلامٌ متصالح مع الابتسامة والبهجة والفرح. لا يخاصمُ هذه المعاني ولا يرتعب من وجودها على تدينِ أهله، ولا من تَبعات ذلك في الدنيا ولا في الآخرة. ويمنحُ حامليه سماحةً كبيرة تؤكد أنهم يستحقون موقعاً مميزاً في الحياة المعاصرة، لأنهم يعرفون معنى هذه الحياة (الحاضرة) وقيمتها، ويؤكدون على ضرورة العيش فيها، وليس في التاريخ أو في عالم الغيب.
23. إسلامٌ يدركُ أهلُهُ معنى أن يكون الهدفُ الأساس من إرسال نبيه (رحمةً للعالمين). بحيث يكون هاجسهم إظهار مقتضيات تلك الرحمة لكل الناس، وفي كل مجالٍ من مجالات الحياة.
24. إسلامٌ ينفي كل دلالات الاصطفاء والتمييز القائمة على العِرق أو الجنس أو اللون أو الانتماء الاسمي المُجرد، في الدنيا وفي الآخرة. يُعلِّمُ معتنقيه أنهم لن يكونوا مُصطفين أخياراً لمجرد أنهم تسموا باسمه، وترتبط فيه الكرامة عند الله بدرجة التقوى والعِلم والعمل والإعمار ونفع الناس.
25. إسلامٌ يرفض ثقافة الاسترخاء والسكونية والتقليد والآبائية والكسل الذهني. فلا يحتفي بالمنع وسيلةً للحفاظ على القيم، ولا تختلط فيه مقاصد الشرع بأفهام البشر بالعادات والتقاليد دون ضابط. يحترمُ العقل ويؤكد على مركزيته في كرامة الإنسان وقيمته، ويدفع لاستعماله على الدوام تفاعلاً مع النص وفَهماً للدنيا، وصولاً إلى تقديم أوعيةٍ متجددة لتنزيل النص على الواقع بما يُحقق القيم والمقاصد، دون تواكلٍ دائم على الهياكل والقوالب التاريخية.
26. إسلامٌ يؤكد على المعاني الثورية الكامنة في أن يبدأ وجودَهُ ومسيرته بكلمة (اقرأ). يحض على التفكير والتدبر والنظر والسؤال، ويحترم الثقافة والتخصص والعودة لأهل الذكر في كل المجالات، طريقاً لصناعة القرارات.
27. إسلامٌ يدعو أتباعه، قبل الآخرين، إلى مواجهة التحدي الأخلاقي بالتواضع والإخلاص والصدق في القول والعمل. يؤكدُ على تجنب كل معاني ومظاهر الغرور والكبرياء والعُجب والاستعلاء على الآخرين، خاصةً حين يحصل هذا بدعوى الانتماء إليه. ويرفض أن تنقلب السياسة إلى براغماتية بأسوأ تجلياتها، يجوز معها الكذب والخداع والمكرُ ونكث العهود وشراءُ الولاءات والذمم، خاصةً حين يُمارسُ هذا بدعوى إعلاء كلمته في الأرض.
28. إسلام لا يحاصر نفسه وأتباعه في فهمٍ طَهوري جهادي يُبسِّط دوره في الأرض، ويضعه بين احتمالين: فإما إقامة دولةٍ على صورة دولة الخلافة الأولى، وبكل التبسيط الكامن في ذهن أصحابها عن تلك الصورة، أو تقديم الروح رخيصةً دون ذلك.
29. إسلامٌ تنضبط فيه العلاقة بين العاملين في السياسة باسمه وبين الجماهير. لا تسير الجماهير فيه خلف (قيادةٍ مُلهَمة) لديها كل الإجابات تقودُ الفِعلَ وتوجهه، ويكون هذا السير وفق قراءة تلك القيادة وفهمها للدين وللعصر على حدّ سواء. بمعنى ألا يقتصر فيه دور الجماهير، من الفعل البشري، على التبعية والاستجابة والالتزام، لأنه يرفض الوهم بأن الأسلمة تبلغُ أوجَها وتصلُ إلى تَمَامِها حين تتحقق تلك التبعية في أعلى درجاتها.
30. إسلامٌ يدرك العاملون في السياسة باسمه أنهم يتطلعون، في أحسن الأحوال، لأن يكونوا جزءاً من (إدارة) للمجتمع تسعى لتمكينه من صناعة حاضره ومستقبله. لكنها إدارةٌ تدرك أن أسئلة الواقع كثيرةٌ وكبيرة، وأن من المستحيل الإجابة عليها إلا من خلال الفعل التراكمي للمجتمع بجميع مكوناته وشرائحه. تماماً كما تستحيل الإجابة عليها في غياب قيم الحرية والعدل والمساواة وسيادة القانون، وفي غياب منظومةٍ إدارية وقانونية تسمح بالحلم والطموح، وتفسح المجال لممارسة فعلٍ بشري، ولوجود تجربةٍ إنسانية تسعى لتحقيق الحلم والطموح، مهما كانت احتمالات الخطأ والصواب في تلك التجربة.
هذا الإسلام الذي نتحدثُ عن ملامحه موجودٌ في القرآن وفي الصحيح من السنة النبوية، بل ويمكن استقراء أمثلة عليه في طيات التراث. وفي بلدٍ مثل سوريا، كان الأمر يحتاج لثورةٍ تُظهر ملامحه الأصيلة، وتمسح عن جبهته ما كان البعض يعتقد أنه غبارٌ تاريخي، ثم جاءت الثورة بكل ملابساتها لتُظهر أنه كان عملية (اختطاف) و(تغييب) كاملة الأركان، آن الأوان لأن تنتهي.