نقد ومقالات

هل يحق للجمهور أن يعترض على فنّانيه؟/ فارس الذهبي

2025.02.28

في عام 1996، اشتعلت الصحافة الأرجنتينية وهي ترصد ردود فعل الشارع الأرجنتيني واللاتينيّ على وجه العموم، الرافضة بإصرار اختيار النجمة الأميركية المتمرّدة مادونا لأداء دور إيفا بيرون الرئيسة الأرجنتينية من عام 1948 حتى 1952، وزوجة الرئيس السابق خوان بيرون.

على امتداد مسيرتها، مثّلت مادونا الصخب الهوليوودي بوصفها أيقونةً فنية كسّرت القيود، ولم تعترف بالأصول الفنية المتعارف عليها، وبوصفها واحدةً من أشهر نجوم البوب في تاريخ الموسيقى المعاصرة، مساهمة برفقة برنيس ومايكل جاكسون وغيرهم في نقل الموسيقى الحديثة إلى مستويات غير مسبوقة إيقاعياً وسرعة، مع الحفاظ على جمالية خاصة ميزت أغانيها التي لا تزال حاضرة إلى اليوم. ترافق كل ذلك مع تكريسها صورة المرأة المتمرّدة على منطق الجنس الذكوري، المنحازة إلى الإباحية في اختيار الأزياء والإشارات أثناء الرقص، المثيرة في طريقة تموضعها أمام كاميرات المصورين الثابتة. كانت مادونا جاهزة في كل وقت لكي تقول إنني أتيت إلى هذا الميدان كي أنقلب على الأعراف وأرفع راية التحدي ممثلةً صورة الفتاة الأميركية المنفلتة من كل عقال في زمن الرأسمالية المعاصرة التي تقبل كل شيء، المنقلبة على قيم الماضي رائية فيه إرثاً ثقيلاً يجب التخلّص منه والقفز فوقه بأسرع وقت ممكن. مادونا في هذا السياق مثّلت داخل وجدان الشابات والشباب أيقونة مغايرة وحقّق الاستماع إلى أغانيها أرقاماً قياسية غير مسبوقة، كما سجّلت حفلاتها كمطربة أنثى أعلى حضور عالمي في التاريخ. حضورها الجدليّ والصاخب في كل حفلة كان مثار جدل بين ساخط أو معجب، كبار السن والمحافظون تعاملوا معها، حتماً، بالرفض الغاضب، في حين احتفى بها الشباب والثوريون وأيدوا ما تقوم به، لا بل قلّدوها في الخفاء والعَلَن، فإذا بها نمطٌ عالميٌّ ينتشر في أربع جهات الأرض؛ قصات شعرها، لونه، شكله، ثيابها، طريقة حديثها، رقصها، تصريحاتها المتمرّدة على السياسيين ورجال الدين وعلى الرجال جميعهم.

في المقلب الآخر كانت إيفا بيرون نموذجاً للمرأة المثالية في أعين محبيها في بوينس آيريس، وأنموذجاً لنضال المرأة في سبيل تحصيل حقوق نساء المجتمع، حيث وعلى مدار خدمتها السياسية كزوجة رئيس أولاً، ومن ثم كرئيسة، عملت على تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة والتصديق في العام 1947، على قانون حق المرأة في الاقتراع، وحق الأبوين كل على حِدة في حضانة الأطفال، إضافة لتأسيسها الحزب البيروني النسائي، وجمعية إيفا للأعمال الخيرية، والكثير من الملاجئ والمشافي والمدارس في المدن والأرياف.

وكان لوفاتها المبكرة في سن الثالثة والثلاثين وهي في سدة الرئاسة أثراً كبيراً في تحويلها إلى أيقونة لاتينية حقيقية، حزن الشعب عليها بشدة وتحولت قصة نجاحها وصعودها وصمودها أمام المرض إلى أسطورة تُلهِم نساء العالم. وهكذا تعاظمت أسطورتها حتى آن الأوان لتخليد سيرتها في عمل من إنتاجات هوليوود الضخمة تصدى له المخرج العملاق آلان باركر، الذي قرر أن يبني عمله التكريمي الضخم على مسرحية “إيفيتا” الاستعراضية التي حصدت نجاحاً كبيراً في سبعينات القرن الماضي. اللافت أن خيارات المخرج كانت تشمل طيفاً واسعاً من نجمات تلك الفترة من ميريل ستريب إلى باربرا سترايسند وراكيل والش وغلين كلوز وماريا كاري وغيرهن، لكن باركر أصر على إعطاء الدور إلى الشخصية الأكثر إشكالية في ذلك العام وهي مادونا المغنية صاحبة الحضور المختلَف عليه الذي يمثّل نقيضاً كاملاً لما تمثله إيفا بيرون. وإثر تمسّك باركر بخياره الفني وافقت الشركة المنتجة، لكن الشعب الأرجنتيني رفض هذا الخيار بشكل كامل، بل إن مظاهرات غاضبة نزلت إلى الشوارع كي تعترض طريق فرق التصوير في العاصمة الأرجنتينية، وشنّت الصحف هناك حملات طالت مادونا بشكل حاد وقاس، وسط تحشيد لمقاطعة الفيلم والسعي لمنعه في البلاد إن تعذّر إيقاف تصويره. وبالفعل حصلت عدة إشكالات أثناء التصوير مما جعل المخرج ينقل مسرح التصوير إلى بودابست القديمة التي تشبه بوينس آيريس في تلك الفترة معمارياً. استمر الرفض واستمر التصوير، لكن الشعب قال كلمته، لن نقبل أن تقوم مادونا بأداء دور القديسة إيفيتا، حتى أن الرئيس كارلوس منعم صرح: “لا أستطيع أن أتصوّر أن مادونا تلعب دور إيفا. ولا أعتقد أن الشعب الأرجنتيني الذي يعتبر إيفا شهيدة حقيقية، سيتقبّل هذا الأمر”. اضطرب التصوير وتوقف طويلاً ولكنه عاد وظهر الفيلم الذي رفضه الأرجنتينيون ثم سرعان ما قبلوه بعد تصريحات مادونا التي أشادت بإيفيتا ودورها النسائي في العالم وتأثيرها الشخصي عليها. وعند سؤال المخرج عن سبب هذه الأزمة التي أصر عليها، كان رده “أن مادونا تمثل سياقاً مشابهاً لمسيرة إيفيتا، ولكن سيرتها الشخصية متناقضة مع سيرة إيفا بيرون، مما سيساهم في بلورة الشخصية أكثر”!

في موضع آخر وبعد إعلان شبكة نتفلكس عن مسلسلها الجديد الذي يجسد شخصية كليوباترا، احتجت الصحف المصرية وهيئة الآثار على خيارات المسلسل في تقديم كليوباترا ببشرة سمراء تعكس أصولها الإفريقية، وهي نظرية قدمتها منظمة (أفروسانتريك) بينما يعتبر الآثاريون أن كليوباترا حنطية أو بيضاء البشرة من أصول يونانية.

بغض النظر عمّا جرى ويجري وعن ظهور الأعمال الفنية إلى النور، لكن احتجاج الجمهور أمر صحي بالكامل، ويعكس ديمقراطية العملية الفنية التي تُبنى بين طرفين: المتلقي والمرسل. المتلقي أي الجمهور الذي من أجله يُصنع الفن، وبالتالي يجب احترامه واحترام خياراته، والمرسل هو الفنان (ممثل، كاتب، مخرج، منتج) الذي يجب عليه أن يتابع عن كثب رأي المتلقي بما يصنع ويسعى بكل جهده كي يحوز على أعلى رضاً من الناس أو المتفرجين، لا أن يفعل ما تمليه عليه آليات الإنتاج ومؤسسات الدولة الأمنية كما جرت العادة في بلد مثل سوريا، حيث يتم فرض المنتَج الفني على الجمهور فرضاً بغض النظر عن رأي هذا الجمهور بهذا المنتج، سواء أكان كذباً أم تلفيقاً أم رياءً، وهل يمثّل حقاً ما يريده المشاهد وكيفية حياته وصراعه مع قوى المجتمع بكل صلفها وقسوتها. في سوريا الماضي لا رأي للجمهور البتّة، بل إن تفضيلات الأخير لا تكاد تذكر في زحام أولويات الإنتاج التلفزيوني، فالموضة الرائجة أولاً، وحضور النجم يليه، ثم تكلفة الإنتاج وقبول المحطات العربية، بينما تقبع رغبات الجمهور السوري في ذيل القائمة إن ذكرت. وعليه فإن احتقار نجوم سوريين لجمهورهم والسخرية منهم ومن شكل حياتهم، وازدراء المنتجين لقضايا هذا الجمهور باتت تفوق الحد. وليس اختيار ممثلين سوريين موالين لسلطة الرئيس الفار، لتأدية أدوار تعكس ثورة الشعب السوري، إلا استهتاراً برأي هذا الجمهور وكرامته. فإن كنا نعيش على مبدأ “مات الملك، عاش الملك” التي تعني أن لا شيء سيتغير في سياق المجتمع سوى تبديل رأس الدولة، فإن هذه البدايات ستقودنا حتماً إلى دراما مشابهة لدراما النظام السوري السابق، بمختلف تفاصيلها وتشوهاتها (مع استثناء نسبة ضئيلة من أعمال مقبولة). إن دور الجمهور الحقيقي إن أراد تغييراً في الدراما التلفزيونية يبدأ من مقاطعة هذه الأعمال ورفضها، كي يحقق خسارة لشركات الإنتاج التي تعتاش على أعمال تصر على غسل مواقف وسمعة شركاء المقتلة، ليعاد إنتاجهم من جديد بصورة تناسب المرحلة.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى