«أنت خائن»… عندما تصبح الكتابة تهمة/ سعيد خطيبي

تحديث 01 أذار 2025
روائي في سجن، بينما أعماله تمنع من العرض في المكتبات. روائي آخر ينتظر محاكمة أو صار مرغماً على المنفى، بينما الناس يتداولون سيرته بكل سوء، ووسائل الإعلام كرست صفحات لها في نعته بأسوأ الصفات، وثالث تحت مراقبة أمنية… هذه المشاهد صارت مألوفة، وتعود عليها الكتاب. وفي كل الحالات يخرج الكاتب منتصراً إزاء موجة الكراهية، ويمكن العودة إلى أورهان باموق، من أجل المزيد من التفاصيل. في فبراير/شباط 2005، أجرى باموق حواراً مع صحيفة سويسرية، تحدث فيه عن الكتابة وشؤونها، لكن السلطة في بلده لم تهتم بشؤون الأدب، ولا أن يتحدث مواطن لها عن رواياته، فقد اجتزأت من الحوار فقرة واحدة، جاء فيها على لسان أورهان باموق: «30 ألف كردي، ومليون أرميني قتلوا في تلك البلاد. ولا أحد تحدث عنهم سواي». هذه الفقرة ستكون سبباً في أن تقوم القيامة ولا تقعد في تركيا. مع أن الكاتب تحدث عن وقائع من الماضي، والذين يتحملون مسؤوليته رحلوا عن هذه الدنيا. مع ذلك فإن تلك الوقائع لا تزال من التابوهات.
وواجه الروائي تهمة ثقيلة: «الإساءة إلى الهوية، إلى الجمهورية وإلى مؤسسات الدولة». كيف يعقل أن بضع كلمات من شأنها أن تصيب قائلها بهذه التهمة؟ مع العلم أن كتابات تاريخية صدرت في وقت سابق، في موضوعي الأرمن والأكراد، وقضيتهما لا تخفى عن مؤرخين ولا باحثين، لكن الكاتب هو الخاصرة الرخوة، هو من يتحمل الوزر والمصائب، والتهمة التي وجهت إلى باموق كان من شأنها أن تودي به إلى سجن يطول سنوات. وفي الأثناء وجد صاحب «الكتاب الأسود» نفسه وحيداً ومعزولاً، وتكفلت وسائل الإعلام بوصفه بأسوأ النعوت، وعندما حل في المحكمة، قابلته جماعات من اليمين، ووصفته ﺒ«الخائن»، هذه التهمة، التي باتت توزع بالمجان، على كل كاتب يخالف السائد ويدافع عن حقه في الكتابة وفي التفكير.
ولحسن الحظ، التحق مثقفون أتراك في دعم باموق، وقفوا معه في المحاكمة، كما سانده مثقفون أجانب، دفاعاً عن الحق في الرأي، وأن الرأي يُرد عليه بالرأي المناقض، وليس بالسجن، فاضطرت المحكمة إلى إسقاط التهمة، عقب تدخل وزير العدل، وهكذا هي الإجراءات في تركيا، فعندما يعترض وزير العدل على قضية، يجري إلغاؤها. مع ذلك، لا يزال روائيون آخرون يتعرضون إلى محاكمات مشابهة.
سفيتلانا أليكسيفيتش وأخواتها
هناك من الروائيين من لم يدخل السجن، لكنه تحمل عقوبة لا تقل قسوة: وهي المنفى. وذلك ما حصل مع سفيتلانا أليكسيفيتش، التي اضطرت، قبل خمس سنوات، إلى هجر بلدها بيلاروسيا والاستقرار، مرغمة، في ألمانيا. فعقب حصولها على نوبل للأدب عام 2015، ظنت أن بلدها سوف يحتفي بها، لأنها أعادته إلى محفل الأمم، لكن بدءاً من ذلك العام تعقدت أحوالها. وصارت كل كلمة تتلفظ بها تواجهها مقالات في صحف محلية، في الإساءة إليها وفي الحط من قيمتها. كاتبة البلاد الأولى في بيلاروسيا صارت شخصاً غير مرغوب فيه. بحكم أنها تنتقد السلطة القائمة (منذ 1994)، وتدافع عن الذين سجنوا ظلماً من مواطنيها. والمعروف أن كل أعمال هذه الكاتبة ينحاز إلى كتابة توثيقية، في التخييل الذاتي، تستقي شهادات من أناس عاديين عن أحداث كبرى شهدتها البلاد أو جمهوريات سوفييتية، مما يحميها من متابعات قضائية، بحكم أن ما ورد في كتبها هو شهادات واقعية من أناس آخرين، وليس كلاماً لها، كما إنها حذرة في تصريحاتها، ولا تتجاوز المناطق الخطرة، مع ذلك فإنها لم تسلم من المراقبة الأمنية، ومن حملات التشهير، تعرض بيتها إلى السطو، كما ظلت مكالماتها الهاتفية تحت المراقبة، ولأن عمرها لا يسمح لها بمغامرة في السجن، وهي تدنو من الثمانين، فقد قررت الفرار بجلدها، اختارت المنفى، علماً منها أن البقاء في بيلاروسيا، سوف يودي بها إلى المحاكم، أو إلى أقبية السجون المظلمة.
وتعرف أولغا توكارتشوك مصيراً مشابها لها، وهي الحائزة نوبل للأدب عام 2018. فقد صارت توكارتشوك مادة دسمة، في الصحف وفي التلفزيونات، في بلدها بولندا، مرة يسيئون إليها ومرة إلى عائلتها، ولا يظهر اسمها أو صورتها في بلدها إلا مرفقاً بسيل من الاتهامات، بل إن الكاتبة نفسها تتذكر عند إعلان اسمها في نوبل، كيف أن الإعلام المحلي ود إخفاء النبأ عن الناس، لكن الإنترنت أفشلت الخطة. ومرّ خبر حصولها على نوبل كأنه لا حدث في بلدها. وأزمتها بدأت عام 2015، عندما صرحت: «في هذه البلاد، اضطهدنا أقليات، قتلنا يهوداً، طردنا أوكرانيين واستولينا على أرضهم». وفي اليوم التالي عقب تصريحاتها، وصفت بالخائنة. هل لا يزال كاتب لم يوصف بالخيانة؟ من يكتب لا بد أن يواجه هذه التهمة، في زمن صارت فيه الشعبوية تحكم العقول. كما إن كل كاتب يخوض في شؤون التاريخ يتحول إلى «عدو» في نظر الناس. يبدو إن العودة إلى التاريخ أكثر إيلاماً من الحديث في قضايا الراهن. مع ذلك فإن أولغا توكارتشوك لم تلتف إلى حملات التشويه التي تتعرض إليها، بل تواصل حياتها في قرية بولندية، في صحبة زوجها وكلبها، وترد على منتقديها بإصدار رواياتها، التي تحظى باهتمام في الخارج، أكثر مما تحظى به في وطنها، ما يشعرها باغتراب رغم أن كل كتاباتها تدور عن بولندا.
ما حصل معها يذكرنا بما وقع للكاتبة إنعام بيوض، فبعد حصولها على جائزة محلية في الجزائر، الصائفة الماضية، ورغم أن روايتها المعنونة «هُوارية» لم توزع في المكتبات كما ينبغي (وذلك حال غالبية الروايات في البلد)، فقد عثر عليها بعض الناقمين على الأدب، وشنوا حملة تشويه ضد الكاتبة، بحجة استخدامها مفردات وصفت أنها «تخدش الحياء». نعم كلمات من رواية صارت سبباً في صيف ساخن في الجزائر، تخلله دعوات متطرفة في الانتقام من الكاتبة وفي محاكمتها. محاكمتها لأنها نشرت رواية. ولحسن الحظ، فقد وردت هذه الرواية في القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية، هذه الجائزة المرموقة أنقذتها من عزلتها، ومن حملة التشويه التي تعرضت لها. ففي النهاية لا سند للكاتب سوى أشخاص يؤمنون مثله بالكتابة. وفي كل الأمثلة التي أوردناها سلفاً، خرج الروائيون منتصرين، انتصروا على التكفير والتحريم وانتصروا على من وصفوهم بالخيانة، ولا زالوا يواصلون حياتهم في مركب الأدب.
كاتب جزائري
القدس العربي