هل تجوز المقارنة؟/ رشا عمران

2025.03.01
لم تتردد الممثلة البريطانية الشهيرة تيلدا سوينتون (ولدت في 5 نوفمبر 1960 في لندن واشتهرت بأدوار فريدة في السينما المستقلة التي دعمتها طويلا بقدر اشتهارها بالسينما الهوليوودية وحصولها على أوسكار أفضل ممثلة دور ثان في فيلم (مايكل كلايتون) وأفلام شهيرة أخرى مثل (نريد أن نتكلم ) وكثير من الأفلام العظيمة التي شاركت بها وجعلتها إحدى أيقونات السينما العالمية، مما جعل من تكريمها بجائزة الدب الذهبي الفخرية عن مجمل أعمالها في مهرجان برلين السينمائي في نسخته الأخيرة أمرا متوقعا، بل منتظرا، نظرا لما قدمته هذه الممثلة العظيمة من دعم للسينما المستقلة، ولما تتمتع به من حضور عالمي بالغ الاحترام والتقدير لدى صناع السينما؛ لم تتردد تيلدا سوينيتون وهي تستلم جائزتها الفخرية في قلب برلين من إلقاء كلمة بالغة القوة عن دور السينما المستقلة وأهميتها ودورها في صناعة مستقبل أكثر تحضرا وإنسانية؛ مؤكدة على ضرورة دعم المنصات الرقمية للسينما المستقلة لتجديد دور السينما في المجتمعات.
أما الأهم في كلامها، والذي حظي بتصفيق كبير من الجمهور. كان عن دور السينما “بوصفها وسيلة قوية لدعم القضايا الإنسانية والسياسية ونضال الشعوب” وأكدت أن السينما المستقلة “تمثل دولة عظيمة شاملة بطبيعتها” وقادرة على مقاومة الاستعمار والاحتلال، ومشيرة إلى أهمية تسليط الضوء على القضايا العالمية مثل حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. ،نددت بالترف السياسي وصعود الاستبداد ، وأعربت عن تضامنها مع الشعوب التي تعاني من القمع والظلم واصفة السينما بأنها” الأداة التي لا يمكن الاستغناء عنها لتوثيق النضال وإلهام التغيير بوصف الفن إحدى وسائل التعبير عن الحقيقة ومواجهة الظلم”.
هذا الكلام بالغ القوة من تيلدا سوينتون قالته في قلب برلين عاصمة دولة ألمانيا، أكثر الدول الأوروبية مساندة لإسرائيل في كل جرائمها الأخيرة في غزة إلى حد تجريم حتى الفلسطينيين المقيمين في ألمانيا إذا ما هتفوا ضد إسرائيل في مظاهراتهم، ومنع رفع العلم الفلسطيني، وإجبار الحاصلين جديدا على الجنسية على الاعتراف بدولة إسرائيل كشرط رئيسي لقبول طلب التجنيس. إلى استدعاء ناشطين فلسطينيين وعرب إلي التحقيق معهم وإجبارهم على التوقيع علي تقليل نشاطهم ضد إسرائيل تحت طائلة الترحيل من البلاد.
لكن تيلدا سوينتون العظيمة لم تكترث بكل ذلك، وقالت ما قالته أمام وسائل الإعلام الألمانية والعالمية التي كانت توثق الحدث؛ لم يعنها أن تكريمها جاء من ألمانيا ذاتها التي تحولت إلى دولة عنصرية يمينية فيما يخص العلاقة مع إسرائيل، ولم تكترث للموقف الألماني من العنصرية ضد العرب والمسلمين، بل أشارت بوضوح أن دور السينما هو نبذ هذا السلوك غير الحضاري وغير الإنساني لصالح الشعوب المظلومة والمحتلة والمقموعة.
اعتبر كثيرون بعد كلام تيلدا سوينتون، أن ما قالته يجب أن يكون أحد المبادئ الرئيسية المعتمدة في صناعة السينما القادمة دوليا. فهذا وحده ما يعيد لهذا الفن العظيم ألقه ودوره التاريخي التغييري، والذي يتم السعي حاليا لتحويله إلى دور ترفيهي غير منغمس بالواقع العالمي السياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ وإنما يراد جعله وسيلة ترفيه، كما أسلفنا، يراد منه تحويل النظر عما ترتكبه مافيات رأس المال الدولية المسيطرة على العالم واقتصاده من تحويل البشرية إلى مجرد سوق مستهلك لمنتج تكنولوجي ما بعد حداثي يطمح أصحابه إلي تشبيه البشر بروبوتات تشتغل حسب ما يبرمج لها، ويتم استبدال إبداعها وابتكاراتها وخيالها بذكاء صناعي تتنافس الشركات حاليا على تقديم نسخ تتفوق في الذكاء على سابقتها وتزيد في عزلة واغتراب أكثر من ستين في المئة من شعوب العالم التي تعاني من الحروب والفقر وما ينتج عنهما من تخلف وجهل ومسافة زمنية شاسعة عن الحضارة التكنولوجية وعن المساهمة في إنشائها
في وسط هذا الجنون والتوحش الرأسمالي الذي خضع له نجوم عدة من نجوم السينما العالمية، لم تتوان تيلدا سوينتون في كلمة لم تتجاوز العشر دقائق عن قول ما كان عليها قوله بقوة شديدة من دون تلكؤ أو تردد، ليس مرده فقط حضورها القوي على المسرح بل إيمانها العميق بأن دورها في الحياة هو إيصال رسائل لكل البشرية عن ضرورة دعم الشعوب المقهورة والوقوف معها وتأييد قضاياها ضد توحش التحالف بين الرأسمال والسياسة والذي يكاد ينهي صناعة السينما لصالح دراما تلفزيونية ممسوخة تقدمها منصات مملوكة لشركات رأسمالية سياسية تحمل أجندات بالغة الخطورة. وإن كانت صناعة هوليوود سابقا ليست متخففة كثيرا من الانحياز لأجندات سياسية معينة خاضعة بشكل ما لرأسمال موجه، لم تكن لتتمكن من السيطرة علي السينما المستقلة، علي عكس المنصات الحالية التي تبدو كحوت يريد ابتلاع كل صناعة السينما والدراما في العالم.
وأنا أحاول الاستماع أمس إلى أجزاء متفرقة من الحوار (الطويل جدا) للممثلة السورية سلاف فواخرجي مع منصة المشهد الإماراتية، لم أتمكن من إبعاد مقارنة ما قالته سويتنون في عشر دقائق مع ما تحاول فواخرجي قوله خلال ساعات بلا أي معنى سوى سعيها الحثيث لتبرير جرائم نظام الأسد واعتبار السوريين الثائرين إرهابيين “خربوا سوريا الجميلة الحضارية” واعتبار الاحتلالين الإيراني والروسي حلفاء ضروريين للقضاء على الإرهابيين، ومحاولتها المستميتة لتشويه سمعة زميلات وزملاء لها غادروا الحياة منذ سنين نتيجة لما عانوه من قهر الغربة والخذلان. واعتبار رحيلهم عن سوريا قرارات شخصية لم يجبرهم عليها أحد، مدافعة في الوقت نفسه عن أكثر مسؤولي سوريا، زمن الحكم البائد، إجراما ووحشية وفسادا.
لكن هل كان يحق لي المقارنة بين فواخرجي وسوينتون؟ في المعطى العام لا تجوز المقارنة بأي شكل من الأشكال فسوينتون ممثلة مثقفة تعرف جيدا أن الحرية والاستقلالية هي الطريق الوحيد نحو إبداع إنساني يسهم في نشوء حضارات بشرية مستدامة، والفن هو أول ظواهر هذا الإبداع، وبالتالي يجب الإعلان دائما عن موقف الفن المستقل والحر وفي كل مكان يتواجد فيه، ذلك أن رسالة الفنان الحقيقي وصناع السينما ليس فقط تقديم الترفيه بل السعي للتغيير القيمي والمجتمعي والسياسي. هذا دور الفن الحقيقي، الذي كان شريكا في صناعة الحضارات الإنسانية الكبيرة. في حين لا تشكل سلاف فواخرجي أكثر من ممثلة متواضعة الموهبة جميلة الشكل صعدت في بلد تتحكم مافيات السلطة فيه بشركات الإنتاج وتقرب من تقربه وتقصي من تقصيه؛ أما التقرب والإقصاء فهو متعلق بالفنان نفسه لا بالسلطة، برغبة هذا الفنان بالتبعية للسلطة والدخول في دورة فسادها، والتحول إلى حامل لسردية السلطة التي صنعت نجوميته، ثم يتحول شيئا فشيئا إلى جزء لا يتجزأ منها يتبنى خطابها ويتماهى معها بحيث تصبح رسالة الفن مكرسة لخدمة رواية النظام والسلطة، وتصبح قيم الفن هي قيم السلطة نفسها، ،في الحالة السورية قيم النظام هي الإجرام والطائفية والإقصاء وتجارة الممنوعات والفساد والقمع والقتل وتشويه الشعب السوري وتكريس الانقسامات وتعزيزها واستدامة الاحتلالات ومحاولات التغيير الديمغرافي وحصار الشعب معيشيا وخدميا ونهب الثورات وإفساد المؤسسات بما فيها مؤسسة الجيش، ثم أخيرا، وبعد تجريف البلد بالكامل، الهرب من الحكم بكل ما تم نهبه وترك سوريا مشفاة تماما كشجرة عارية حتى من اللحاء. وكل ذلك بات مفضوحا ومكشوفا للعالم بأسره حتى للدول والأحزاب التي كانت تحاول تدويره في المجتمع الدولي. ومع ذلك تصر سلاف فواخرجي على اعتباره نظاما وطنيا محترما وحضاريا، وكأن كل ما ارتكبه من جرائم هي في سبيل تكريس حضارة لم تقل ماهي، إلا إذا كانت الحضارة تتمثل في ارتداء ثياب من ماركات عالمية باهظة الثمن.
والحال إن المقارنة بين أي فنان عالمي وآخر عربي هي مقارنة عبثية، ذلك أن الحرية هي الشرط الأساسي للفن في دول العالم، الحرية بكل أنواعها، بدءا من حرية التعبير والتفكير إلى حرية التصرف بالجسد البشري، لكن هذه الحريات تمر أولا عبر الحرية السياسية التي تكفل لأي مبدع استقلالية تامة تقيه من الخضوع لأية أيديولوجية أو سلطة تحميه وتقدم له الدعم اللازم للظهور. وربما قد نكون قساة قليلا حين نعقد مقارنات كهذه أو حين نطلب من فناني العرب خطابا يشبه خطاب نجوم العالم، فهم أكثر جبنا من مجرد التفكير بهذا، والجريء منهم يصبح قوي الخطاب حين يتاح له أن يهاجر، لكن حتى في هذا فهو لا ينتقد في خطابه المجتمع المضيف وسياساته بل سياسات نظامه الذي شرده وهجره. وهذا أيضا لا يمكن تحميل ذنبه للفنان فهو عاش حياته خائفا من النقد والاعتراض الي كان سيعرضه للتهميش والإقصاء أو السجن في حالات عديدة. لا يشمل هذا سوريا فقط، طبعا، بل يشمل ممثلي وصناع الفن في عالما العربي كله، ومالم تتغير سياسات وأنظمة هذا العالم نحو الديمقراطية واحترام الفنون وحرية استقلالها فإن هذه الشريحة سوف تبقى تدور في فلك الأنظمة الحاكمة من دون أن تتاح لها فرصة أن تقدم إبداعا حقيقيا يرفد الحضارة الفنية البشرية.
تلفزيون سوريا