منوعات

اللجوء في فرنسا كنظام عبودية مُحدَّث/ مصعب الحمادي

2025.03.13

يعرف اللاجئ تماماً لماذا أتى إلى فرنسا، فهو في الأغلب هاربٌ بحياته من دكتاتورٍ قاتل، أو باحثٌ عن حريته بعيداً عن القمع والسجون.

لكن اللاجئ قد لا يخطر له أبداً التفتيش عن السبب الذي لأجله استقبلته فرنسا في الأصل، وقد يستغرق الأمر منه شهوراً وربما سنواتٍ قبل أن يستوعب أنه صار عالقاً في نظام عبوديّةٍ مُحدَّث، وأن كرامته التي جاء إلى هذه البلاد لأجلها تبقى على المحكّ، وأن عليه أن يخوض كفاحاً مريراً على أساسٍ يومي كي يحافظ عليها.

كنت مرة في نقاشٍ مع جاري الجزائري بخصوص صعوبة إيجاد عمل بالنسبة للاجئين وخصوصاً أن السلطات لا تعترف بما يحملونه من شهاداتٍ وخبرات أتوا بها من بلدانهم الأصلية، فقال لي الجار:

“لا بأس، لماذا لا يأخذون أي عمل يُعرض عليهم؟ الفرنسيون يريدون أن يبدأ كل قادم جديد إلى بلادهم من تحت الحذاء”.

لم يقصد جاري أن يجرحني بكلامه، فهو رجلٌ عامي بسيط، وكان يريد بالفعل تقديم خلاصة تجربته، ولم أشك في أنه على حق، فالرجل مستوعبٌ جيداً للدائرة التي هو فيها ويتحرك من خلالها معتقداً أنه يبلي أحسن البلاء ما دام يأكل ويشرب ويجد المسكن الذي يؤويه. لكن الرجل لا يدرك أن دائرة “تحت الحذاء” التي يصفها ما هي إلا عبودية فاضحة تمارسها فرنسا في حقه وحق الغالبية الساحقة من البشر الذين وصلوا إلى هذه البلاد مضطرين. فاللجوء في فرنسا غير قائمٍ على مبادئ الرحمة، ولا الإنسانية، ولا حقوق الإنسان. واللاجئ سرعان ما يكتشف أنه يعيش في مجتمعٍ متوحش يحكمه المال والشركات وفيه هرمية سلطوية مقيتة تجرّد اللاجئ –  بقوة القانون والوثائق الرسمية – من كل شيءٍ إلا عضلاته كي يقوم بالمهام التي تركها له الفرنسي وهي على الأغلب رعاية المسنين الذين تخلى عنهم أبناؤهم، أو كنس الطرقات في الأحياء “الراقية” التي يسكنها الفرنسيون، أو تقليم العشب في الحدائق العامة، أو فرز القمامة من أجل إعادة تدويرها، أو حتى العمل الشاقّ في معامل ليس لدى الفرنسيين مقدرة جسدية على العمل فيها.

أعرف مهندساً معمارياً تقدم إلى العمل في إحدى شركات البناء وهو يتقن اللغة ولديه خبرات تقنية وإدارية هائلة. وبعد مداولاتٍ طويلة مع مسؤولي التوظيف عرضوا عليه أن يوظفوه في الشركة كعامل حفريات كون شهاداته وخبراته غير معترف بها في فرنسا، ولأن لديهم شواغر كثيرة في مجال الحفريات. وسمعت عن كاتبٍ محترم يعيش في باريس قبِل العمل كعامل نظافة في البلدية بعد أن سدّوا كل فرص العمل والحياة في وجهه. ولو فكّر لاجئ بتدارك الأمر والتسجيل للدراسة في جامعةٍ فرنسية كي يعادل شهادته وخبراته فإن الدولة سرعان ما تقطع المساعدات عنه ما يجعله عرضةً للجوع والطرد من البيت الذي أُعطي له.

غالبية السوريين في فرنسا يكرهون العيش على المساعدات ويحبون العمل والكسب “الحلال.” حدثني شخص سوري من ذوي الشهادات العليا والثقافة الممتازة أنه لما يئس من إيجاد فرصة عملٍ مناسبة عزم على زيارة صديقٍ قديمٍ له يسكن في مدينة فرنسية بعيدة عنه، ويعيش في هذه البلاد منذ عشرين سنة، ويحمل شهادة دكتوراه من إحدى الجامعات المرموقة فيها. كان في نية الرجل أن يطلب نصيحة صديقه الدكتور بخصوص ورطته في اللجوء إلى هذا البلد وكيف له أن يحصل على عملٍ لائق يحسّن دخله ويحفظ كرامته. قال الرجل:

“سافرت بالقطار إلى المدينة التي يقيم بها صاحبي، وقصدت العنوان الذي أعطاني إياه وهو اسم مطعم يملكه. توقعت أن صاحبي مشغولٌ ربما في الإشراف على العمال ولا يقدر على أن يبرح المطعم. ولم يضايقني أنه لم يستقبلني في بيته.”

ولدى وصوله إلى العنوان تفاجأ الرجل بصاحبه يقف بمريولٍ أبيض مطروش بالدهن خلف سيخ شاورما هزيل داخل مطعم صغير جداً، حيث لم يكن هناك عمال ولا هم يحزنون. فصاحبه الدكتور لم يكن سوى مجرد معلم شاورما بائس؛ أو هكذا أرادت له فرنسا أن يكون. أضاف الرجل يتابع سرد قصته:

“لم يمنعني بؤس صاحبي من إثارة موضوع العمل معه وطلبت مشورته فنصحني بالاستثمار بمشروعٍ صغير مثله أو – إن لم أجد رأس المال – فعلي أن أنجب عدداً كافياً من الأولاد كي تزيد مستحقاتي من المساعدة الاجتماعية. قال صاحبي ما دام لديّ طفل أو طفلان سأعيش عمري مكسوراً للدولة. وإذا جاء الثالث ستزيد المساعدات ويحصل التوازن. لكني كي أعيش بدخلٍ كافٍ من المساعدات نصحني صاحبي أن أنجب أربعة أطفالٍ فما فوق.”

أعجبتني مروءة الشخص الذي حكى لي هذه القصة وأنكرت نصيحة صاحبه الدكتور/معلم الشاورما. فهذا رجل مثقف يحمل شهادة عليا من جامعةٍ فرنسية انحطت همته كي يستمرء العبودية في نفسه ثم يمضي يشجع الآخرين عليها. وكي لا نقسو كثيراً على صاحب النصيحة، فهذا الرأي شائعٌ بين اللاجئين ويتواصون به عموماً.

مؤسفٌ جداً أن ينظر الإنسان لعائلته بوصفها “مَفرَخة” للأطفال كي يعيش على المساعدات فهذا انحطاط دون مستوى الإنسانية بكثير يشجّع عليه نظام اللجوء في فرنسا والذي ليس هو في الحقيقة إلا آليةً لممارسة العبودية بطريقةٍ مُحدّثة بعد أن صارت العبودية محظورة بموجب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948. ففي نظام اللجوء الفرنسي المذكور، وبسبب نمط حياة المجتمع في ظل الرأسمالية المتوحشة، يصبح أولاد اللاجئين مجرد هدية عضلية لطبقة الأسياد، وقوة عمل كامنة للمستقبل يستحق الوالدان لأجلها أن يحصلا على الطعام والمسكن حتى وإن مكثا في البيت دون أي عمل. وعليه فاللاجئ إن لم يدخل في العبودية بنفسه سيكون قد كفلها لأولاده قبل أن يكبروا. فالأولاد في ظلّ ظروفٍ كهذه سيعيشون فقراء في مجتمعٍ رأسمالي عنصريّ يجردهم عندما يكبرون من كل مساواة حقيقية في الدراسة وفرص العمل، وسينتهي بهم دينهم وعرقهم ووضعهم الاجتماعي والمالي إلى المسار الذي تتوقعه فرنسا منهم؛ وهو المساهمة في الأعمال العضلية التي يأنفها الفرنسيون لكنها أساسية لدوران عجلة الاقتصاد واستمرار الحياة في بلدٍ عجوز يعاني التدهور السكاني والشلل النفسي والتآكل الأخلاقي.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى