اللون الأسود: جدل اللاأضداد/ باسم سليمان

3 مارس 2025
ليس الأسود لونًا، فعند التحليل الطيفي للضوء لا نجد له أثرًا، ومع ذلك يظهر الأسود كلون. إنّ التعامل البشري مع الأسود عبر حضارته، منذ إرهاصاتها الأولى إلى الآن، يعدّه لونًا، بل هو اللون الضد للون الأبيض، الذي يكتنز في ثناياه جميع ألوان الطيف التي يغيب عنها الأسود. إنّ الأسود هو غياب الضوء، وحكمًا يعني غياب أي طول موجي طيفي للضوء. إذًا، الأسود نفي للضوء/ اللون الأبيض. هذا النفي يعني أنّه لا ضوء، وبالتالي لا لون، لكنّ الأسود لون، فهل يعني أّنّه قادر على نفي الضوء والألوان؟ الأسود لا يفعل ذلك! فالأسود نفي سلبي للضوء والألوان، فهو إشارة لغياب نظيره/ ضده؛ اللون الأبيض، وكأنّه تأكيد سلبي لحضور الأبيض الغائب. من هذا الجدل البيزنطي الخلّاق ينطلق الفيلسوف ألان باديو في كتابه الجديد: “الأسود فلسفة اللالون”، والصادر عن دار الساقي لعام 2024، بترجمة جلال بدلة، في مَوْشَرة (من موشور) الأسود ليس بحثًا عن ألوان الطيف المختبئة في داخله، والتي لا يسفر عنها، كما يحدث عند تمرير اللون الأبيض في الموشور، وإنّما كشفًا عن أطيافه الثقافية والفلسفية والبيولوجية في حياة الإنسان. فالأسود، بقدر ما يتنكّر كلون، إلّا أنّه في الوقت ذاته يؤكّد على لا لونيته ونفيها من الطيف الموجي للضوء، لكنّه يثبتها، في الوقت نفسه، في الطبيعة والفكر البشري ومفاهيمه.
لا ينتهج باديو الطريق المعتاد للفلسفة الغربية في مقاربة الأسود، بحثًا في مقدمات ومستخلصات ينمّط فيها الأسود سلبًا، أو إيجابًا، وإنّما ينتهج طريقًا أقرب إلى إشراقات فلسفة الزن الصينية، من مثل: “ما صوت يد واحدة تصفق لوحدها”! إنّ الاستفسارات والأسئلة، وحتى الأجوبة التي يضعها، لا تتغيا نتيجة، بل نسجًا لبدء جديد، بقدر ما تعارض المنطق السائد للفكر، إلّا أنّها تجلوه وتمدّه بأمداء جديدة، ففي مقاربته لعلاقته بـ(قلم الرصاص الأسود) الذي يخطّ باللون الرمادي! يستذكر معلّمه في الرسم الذي كان يطلب من الطلاب إظهار أشكال وحجوم الأواني من خلال قلم الرصاص الموصوف بالأسود! والمفارقة التي يقصدها باديو تكمن بين صفة الأسود لقلم الرصاص، ولون خطّه الرمادي، والأحرى أنّ صفة الأسود للقلم، لا تدرجات لها، ولا يمكن إظهار حجوم الأشكال المرسومة من خلالها، لكنّ خطّ قلم الرصاص رمادي، وله تدرجات من الغامق إلى الشفاف، فالإمكانية موجودة في التطبيق، لكنّها ممتنعة في الصفة! هذه الرؤية في المقاربة تفكّك البداهات والقناعات البشرية التي التصقت بالأسود كجلده، من وصف الحزن بالسّواد، أو أنّ الشر أسود، أو أنّ النفوس السيئة سوداء، أو تصنيف البشر برتبة دنيا تستوجب العبودية بموجب سواد بشرتهم، أو وسم الأخضر بالسلام، فيما تمتح جذور النباتات من عتمة التراب.
الأسود في مواجهة أريكة سيغموند فرويد
ولدت مخاوفنا عندما تُركنا في سواد الليل عندما كنّا أطفالًا؛ ومن هذه الذكرى التي لا نتذكّرها بشكل شخصي، وإنّما ندركها بالملاحظة، عندما نكبر ونرى هلع الأطفال من الظلمة، ينطلق باديو بفصل عنونه بــ: (الطفولة والشباب)، يقارب السّواد بموجبه، عندما كان عسكريًا مسؤولًا عن فرقة من العازفين. ففي ذلك الزمن، كانت واجباته أن يطفئ موقد الفحم الأسود الحجري والأضواء قبل النوم، حتى لا يتسمّموا بالغاز السّام، فالأسود الفحمي المحترق لا يدرك أنّهم أعضاء فرقة النشيد الفرنسي في الاستعراضات. وحينما تُطفأ الأنوار، ويندسّون كخادرات الفراش في أسرّتهم، يغني أحدهم لـ(جوني هاليداي/ Johnny Hallyday) أغنيته الشهيرة: “سواد، سواد في كل مكان! لا أمل بعد اليوم”. هكذا كانوا يستقوون بأغنية السّواد على قوى الليل والبرد المهكلة، إذ لطالما حمل التغنّي باليأس الأسود عزاء ما!
ليس كالسواد ما هو قادر على طمس قوانين ومحرّمات النهار، ولأجل ذلك اخترع باديو عندما كان مراهقًا لعبة “أزوف منتصف الليل”. كانت اللعبة تقتضي أن يبتعد الآباء عن البيت، ليخلو للمراهقين الأصدقاء من الجنسين، أن يعتموا إحدى الغرف ويبدأوا اللعب في السواد المحرّم. وعندما يشعلون الأضواء من جديد، ويعود النهار الاصطناعي بالأضواء الكهربائية، يجب أن لا تبدو قوانين المحرّمات قد خُرقت! لن تستطيع أن تكتب وتقرأ في الظلمة. لكن في فصل: (المحبرة) قلب المداد الأسود، عندما يخطّ الحبر الأسود على بياض الورق، تتجسّد المعرفة بأبهى صورها، هكذا يخبرنا باديو، بأنّ التضاد طريق التآلف بين المختلفات، فمن لا يدرك بأنّ العالم هو حصيلة لمعايرة مبدعة ودقيقة لأسود منثور على البياض، ستفوته المعرفة، لأنّ تلويث نصاعة اللون الأبيض بالأسود هو جوهر المعرفة.
ديالكتيكات الأسود والأبيض
لماذا توصف النفوس السيئة بالسّواد والجيدة بالبياض؟ في مسرحية (فيدرا) للمسرحي راسين/ Racine تتّهم إحدى الشخصيات بطل المسرحية (هيبوليت) بأنّه متيّم بالفتاة (فيدرا) زورًا وبهتانًا. وهنا ينبري الشاب هيبوليت دفاعًا عن نفسه واصفًا كلام الشخص الآخر بأنّه (فرية سوداء)، وأن سريرته صافية كالنهار. هذا التعارض الأخلاقي بين الأسود والأبيض ينقل اللونين إلى مجال آخر، حيث يصبح السّواد مدار الشر، أمّا البياض فمدار النقاء والعفّة. ألهذا تزيّن العرائس بثوب أبيض، وكأنّ بياض ثوبها ينفي عنها تهمة عدم عذريتها، لكن هذا البياض دفاع ضعيف يتمثّل بالجهل، فالعروس عذراء بقدر جهلها للعلاقة الجنسية، كما في قصة ليلى والذئب، فهي لم تر الذئب الجنسي بعد. ما معنى ذلك وفق رؤية باديو؟ إنّه يرى بأنّ الأبيض ليس إلّا شبح الجهل، ولا معرفة حقّة إلّا بالأسود. ألم تكن غواية الشيطان الموصوم بالسّواد، هي سبب أكل آدم وحواء من شجرة المعرفة، ألهذا نطلق عليه تسمية: أمير الظلمات، أو أمير المعارف!
الأبيض لون السلام، ولكنّه راية الاستسلام، وهو رمز النقاء، وفي الوقت نفسه رمز التخلّف والرجعية، فعادة ما يقال في الأدبيات المناهضة لفكرة الثورة عن شخص معارض لها بأنّه أبيض! فهذا يعني أنّه رجعي! هذه التضاد الرمزي في الأبيض نجد صنوه في الأسود! لقد كانت رايات القراصنة ومجموعة “الدولة الإسلامية” في أفريقيا تدل على الموت والقتل، وكذلك كانت قمصان شباب موسوليني السوداء والصليب المعقوف لهتلر بلون أسود. وهكذا لا يمكن أن تكون راية ثورة حقيقية سوداء، لربما حمراء من لون الدم، لكن أليس الأسود، كما يقول غوته في (فاوست) على لسان أمير الظلمات، بأنّه: “أنا الذي النفي ديدنه” قادرًا على نفي نفسه؛ إذًا الأسود يثور على ذاته، ويصبح راية الثورة! لقد رفع الثوّار ضد الديكتاتور فرانكو في إسبانيا راية سوداء إلى جانب الراية الحمراء، كذلك كانت المنظمة الروسية الشعبوية (الأرض والحرية) التي ثارت ضد القيصرية قد رفعت راية سوداء. كان ماو الزعيم الصيني يعمل تحت فكرة “ديمومة الفعل بين الجماهير”، وأمام انقسام الفرقاء السياسيين في الصين، ما بين الثوّار القليلي الصبر، وتأنّي ماو السياسي، أطلق على فصيله تسمية: “القسمة السوداء”.
كيف من الممكن أن ينقسم الأسود على ذاته؟ لقد رأينا في فصل (قلم الرصاص الأسود) استحالة التدرج في اللون الأسود كما الرمادي. يحضر الجواب من التنظير الشيوعي وفق المذهب الصيني، فإذا كانت الشيوعية ترى في الديالكتيك “اندماج اثنين في واحد”، فإن الشيوعية الصينية ترى العكس: “انقسام الواحد إلى اثنين”، وعليه يمكن للأسود أن ينقسم على ذاته؛ بين أسود عدمي، وأسود الثورة والأمل. يوصف الحزن بالسّواد، لكن هنالك الفكاهة السوداء، فإذا كان الحِداد على الميت بلون السّواد المبلل بالدموع، فإنّ الفكاهة السوداء التي تنبت من قلب الحزن كزهرة ترسم ابتسامة.
المادة السوداء
إنّ المادة المرئية في الكون لا تفسّر لوحدها وجوده وانتظامه ودوامه، لذلك اقترح العلماء وجود مادة خفية غير مرئية، نسبوا إليها تلك القوة في الكون. وكان من الممكن تسميتها المادة الخضراء مثلًا، إنّما الأسود يليق بها أكثر، بما أنّه نفي سلبي للضوء؛ أي للرؤية والحسّ، وكأنّ الأسود يأتي لتسمية ما ينقص داخل الإدراك كي لا ينقص شيء داخل الفكر. كانت الزنبقة السوداء كما تخيلها الكاتب الروائي ألكسندر دوما رمزًا للمحال، أو الوردة الأفلاطونية لاستحالة وجودها؛ لكن ما علاقة السّواد بالطبيعة الخضراء رمز السلام والخصب، حيث يعدّ السّواد رمزًا للجفاف والعقم؟ كان فيكتورهوغو يقول بضرورة النظر إلى الشجرة من جذورها لا من أغصانها وأوراقها، ففي ظلمة التربة وسواد الجذور يتكوّن في الأعلى الأخضر الذي نراه، فليس غريبًا أن تسمي العرب اللون الأخضر بالأسود!
والآن، بعد أن أخذنا باديو في رحلة في عالم اللون الأسود، من الأسود الشهواني على جسد المرأة، إلى الأسود المقدّس على جسد الراهب، إلى الثقوب السوداء في الكون، فما هو هدفه؟ قد تكون مشكلة العنصرية بسبب اللون من أخطر المشاكل التي مرّ بها الإنسان في تاريخه الحديث. وما يريده باديو من كتابه أن يثبت بأنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا لون له، لا أسود ولا أبيض، لا أحمر ولا أصفر، فيقول بعد معالجة مطولة وجدالية لقضية العنصرية بسبب اللون: “ففي النظام العالمي الجديد الذي تتطلّع إليه البشرية، ليس للأسود والأبيض أي حقٍّ في الوجود وجملة القول: الإنسانية، بوصفها كذلك، عديمة اللون”. إذًا، باديو يرى الإنسانية بلا لون، كي لا تستغل دلالات الألوان، فلا تُبنى عليها رموز سلبية، أو إيجابية، في تقسيم البشر بين أسياد وعبيد.
هذا هو الأسود في فكر الفيلسوف ألان باديو، لون فائق ككتلة ثقب أسود، ففي وسط كلّ مجرّة كمجرّة درب التبانة ــ خاصتنا ــ هنالك ثقب أسود لا يُرى، ولا لون له، لكنّه يمنع تلك المجرة من الانهيار! ونختم باقتباس من تقديم الكتاب: “في الواقع، لم يكن الأسود مضيئًا من قبل كما في هذا الكتاب”.
*كاتب من سورية.
عنوان الكتاب: الأسود: فلسفة اللالون المؤلف: ألان باديو المترجم: جلال بدلة
ضفة ثالثة