المسلسل السوري… هل يجب أن يحكي عن “كل شيء”؟/ زياد عدوان

03.03.2025
الضجة المثارة حول مسلسل “قيصر” ثم إيقاف تصويره يُخشى أن تقوّض الحريات وتُرضخ الإنتاج الفني لحساسيات “محليّة” لا نعرف من يقررها، قد تصل حد التفاف السلطات على الموضوع بهدف خنق حرية التعبير.
عاد “التلفزيونيون” ليتصدّروا المشهد بعد سقوط الأسد، وانطلقت حشود المعجبين و”نقاد الفن” والحسابات الوهميّة للعمل، مراهنةً على أن معيار “الحياة” هو ما يقدمه المسلسل التلفزيوني. لكن نظراً الى التوقيت والموضوع وطرق المعالجة، لا بد من الوقوف أمام ما يحدث من تحديات واستحقاقات فرضها الإعلان عن البدء بعمليات تصوير المسلسل السوري “قيصر” الذي يتمحور حول سجن صيدنايا.
يقول مخرج الفيلم حرفياً: “حرصنا على التصوير في أماكن حقيقية لأنها تحمل بين جدرانها قصصاً حقيقية، وأردنا تقديم تجربة بصرية ووجدانية تجذب المشاهد ليعيش معاناة الشخصيات بكل تفاصيلها”.
أخذ السجال حول المسلسل أبعاده على السوشيال ميديا وعلى عموم نقاشات السوريات والسوريين. وإن كان الجميع غير مدرك لما يحتويه المسلسل، إلا أن هناك توقعات عدة لمن يقوم بخطوة شديدة الحساسية كالتناول الفني لقضية المعتقلين.
التوقع العام هو أن يذهب المسلسل إلى تصوير آلام الضحايا وإدانة الجلادين، ما سيكون غير لائق أمام حدث حار وآني، ولا يزال الناس يعيشون آثاره حتى الآن. وقد يكون التوقع الآخر أن يقدم مادة فكرية بعيدة عن الاستثارة العاطفية، أي الابتعاد عما يقوم به المسلسل التلفزيوني عادة من الاعتماد على العواطف والإثارة والرغبة في رؤية المزيد.
وقد يلجأ من لهم تجارب شخصية مع الاعتقال، أحياناً، إلى التفكير بالفنون أو حتى المسلسلات التلفزيونية لإعادة سرد قصصهم، ولكن وبالنظر إلى القائمة التي تعمل على المسلسل، فلا نجد من امتلك خبرة شخصية في ما يخص قضية المعتقلين، كالممثلة يارا صبري على سبيل المثال، كي تكون هناك مقاربة ذاتية وتجربة شخصية. كما لم يكن لمعظمهم ما يقولونه حول قضايا مرتبطة بالاعتقال ومصائر المعتقلين طوال السنوات الماضية.
كانت مواقف الكثير من المشاركين في المسلسل محط استنكار بسبب اصطفافها ضد الاحتجاجات واستهانتها بالعذاب السوري. وفعلاً طوال السنوات الماضية، كانت مواقف البعض ممن عرفنا بوجودهم في المسلسل مليئة بالتبريرات والحجج، التي اتكأوا عليها كي لا يقولوا ما يجب أن يقال، لكنهم يريدون الآن الحديث عنه. في السياق، يقول غسان مسعود: “المشاركة في “قيصر” مسؤولية فنية وأخلاقية، فهو ليس مجرد عمل درامي، بل توثيق لمرحلة مفصلية في تاريخ سوريا، والشخصيات التي نؤديها ليست من وحي الخيال، بل هي أصوات حقيقية عانت وواجهت مصيرها في تلك الفترة”.
يطرح هذا المسلسل أسئلة كثيرة تبدو الإجابة عنها واضحة أمام الشعور العام بالفاجعة لمصير الضحايا، وأمام الغضب والسخط من انتهازيات “التكويع”. كما يزداد الاحتقان من الإحساس العام بركوب موجات لتبييض صفحات وحتى لو كان هذا الموضوع استفزازياً لأسر الضحايا، وبالتالي اختيار هذه اللحظة المبكرة لتبرير الماضي. وهذا ما أثار حفيظة الكثيرين، الذين اعترضوا على توقيت المسلسل وسرعة كتابته.
مثياق فني؟
من جهة أخرى، هذه الضجة المثارة حول المسلسل يُخشى أن تقوّض الحريات وترضخ لحساسيات “محليّة” لا نعرف من يقررها، لتلتف السلطات على الموضوع بهدف خنق حرية التعبير.
فما يثير القلق هو أن تستغل السلطة المتزمتة المسلسل، للالتفاف حول التحريمات التي يفرضها الرأي العام. وهنا تكون بداية فرض الوصايات على المسلسلات السورية والفنون والآداب، والمنابر الأساسية التي نختبر من خلالها حرياتنا.
وقد يكون هذا الالتفاف بادرة لتحريم الكثير من المسلسلات والأعمال الفنية والأدبية التي تتطرق إلى الثالوث الشهير الديني والجنسي والسياسي، بحجة مساسها بحساسيات الرأي العام.
موضوع المعتقلين تحديداً حساسّ من الناحية الإنسانية، ما يجعل من المبكر جداً استخدامه كمادة ترفيهية. ولا ندري إن كان القائمون على مسلسل “قيصر” سيتطرقون إلى الثالوث المحرم في المعتقلات، التي شهدت انتهاكات جنسية وتشكيل جماعات جهادية وتعذيب الأفراد لآرائهم السياسية. كما أن هذا الموضوع الأكثر إيلاماً في الحياة السورية، ومع ذلك يرغب العاملون في المسلسل في التصوير داخل السجون كتتمة للعبث بهذا الملف والاستهتار بحدث أني.
وبغض النظر إن كان العاملون على المسلسل مدركين أم لا، فإن اختيار السجون لتكون مواقع التصوير هو تتمة أخرى لمسلسل الانتهاكات والعبث بالأدلة ومحاولات طمس ما ألمّ بالمعتقلات والمعتقلين عبر إهمال الوثائق، ودهن المعتقلات، وفتح محلات أمام سجن صيدنايا لشرب المرطبات.
واستكمالاً للحملات التي تدعو الى إيلاء أهمية خاصة لملف المعتقلين في الوعي السوري، يمكن أن نفكر كسوريين بتضامن شامل تجاه قضية المعتقلين، من دون أن يطاول هذا الاتفاق بقية القضايا المعنية بالحريات العامة، وحريات الفنون.
وكحال مجازر الأرمن ومجازر اليهود في ألمانيا والمعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، يجب التعامل مع ملف المعتقلين بشكل متفرد، وبناء على اعتبارات خاصة، عبر صياغة تعاقدات أو قوانين أو اتفاقات توحّد رؤية السوريين حول هذا الملف، بخاصة أنه الأكثر تجاهلاً إلى الآن، فيما دفع الآلاف الثمن في سبيل الحرية.
من يمثّل من؟: الصوابية السياسية أم الصوابيّة السوريّة
استنكر البعض مشاركة شخصيات معينة في المسلسل، وعلى رأسها غسان مسعود. ما أثار سجالاً حول خلفية العاملين في المسلسل السياسيّة، صاحب اللقاء الشهير مع زاهي وهبة، وهنا المفارقة بين ما يقوله في مقابلاته وما يفعله، ولعبه دوراً في مسلسل يتناول حكايات معتقلين أشعل سجالاً، انتهى بإيقاف السلطات في دمشق تصوير المسلسل.
وبغض النظر عن مواقفه، فهو ممثل يقوم بأدوار متنوعة ويتميز بجودة أدائه، ما يثير المخاوف من أن تصبح المواقف السياسية معياراً مهنياً، وأن نكرر اعتبارات الولاءات على حساب الكفاءات، حتى لو وصل الأمر إلى إسناد دور إلى ممثل لا يمتلك الموهبة بسبب المواقف السياسية.
هذا الجدل والسجال كنا نراه ساذجاً، حين يُستنكر إسناد دور قائد مسلم لممثل مسيحي، أو إسناد دور رئيس سوري لممثل فلسطيني، أو خليفه راشديّ لممثل علويّ. وغسان مسعود نفسه قام سابقاً بأداء دور شخصيتين إسرائيليتين في فيلم سينمائي وعرض مسرحي. وهو، كعموم السوريين، يعتبر إسرائيل دولة عدوة. ولكن في هذه الحالة، هل يتوجب البحث عن ممثل متعاطف مع الإسرائيليين كي يكون الأجدر بأداء هذا الدور ؟
هذه المواقف من “التمثيل” لها صدى ضمن نقاش عالميّ مريب خاص بالصوابية السياسيّة، ثمة من يرى أن هناك أدواراً معينة يجب أن تُسند إلى ممثلين ذوي بشرة سوداء، أو ممثلين عرب، وأن الممثلين المثليين هم من يجب أن يؤدوا أدوار المثليين في الأفلام، الى حد اعتبر البعض أنه لا يجوز كتابة أو إخراج عمل فني أو مسلسل تلفزيوني ترفيهي لمن لا ينتمي الى مجموعة معينة أو لم يجاهر برأي معين. وهنا، وتحت مظلات غير واضحة المعالم كالصوابية السياسية والحساسيات العامة، تتقلص الوظائف التقليدية للفنون والمسلسلات، لتنتج ما يساير تلك منظومات التي لا نعرف من ينصها ومن يشرعنها.
تطلق السلطات عادةً تسميات وأحكاماً، مثل “الشعبي”، الذي تعتبره محافظاً وضد حريات الفنون وأفكار “المثقفين”. وتفرض هذه السلطات نفسها كرقيب يمتلك صلاحيات تحديد الذائقة والحريات، وهو الدور نفسه الذي قام به بشار الأسد وعائلته.
فمن جهة، ادعت تلك العائلة أنها تحمي الفنانين من غوغاء الشعب وتبلد أجهزة الرقابة بإجازة مسلسلات تتعرض للأديان والجنس والقليل من السياسية. ومن جهة أخرى، تخرج بخطابات وممارسات تقول فيها للشعب إنها تصون حياته المحافظة من “الليبرالية الداعرة “التي يروجها الفن والمثقفون، وتشيّد المساجد كمحاولة لإرضاء الجميع، ولتنصيب نفسها كملجأ تأوي إليه كل الأطراف.
المسلسل الذي يقول “كلّ شيء”
ننتقل إلى الهوس السوري المتعلق بالمسلسل التلفزيوني واعتباره الوسيط الذي يتصدر الحديث عن الشأن العام. ومرة أخرى، يتم تحميل المسلسلات عبء التطرق إلى القضايا السياسية على الرغم من دراية الجميع بأن هذا الوسيط ليس ألا وسيطاً يخضع إلى شروط تجارية، وإلى ذائقة عمومية تحاول إرضاء الكم الأكبر من المشاهدين، وقائمة على عناصر الاستمتاع والتشويق وانتظار ما سيحدث.
ومع الإفقار الممنهج لحضور السينما والمسرح والقراءة في الحياة السورية، ينتهز المسلسل السوري الفرصة لتصدّر المشهد باعتباره الأجدر بمناقشة القضايا العامة، والتي، وللمفارقة، لا تنسجم مع معايير الربح التي تهم شركات الإنتاج والقنوات، ومع ذلك يُصنع المسلسل!
عالمياً، لم يحدث هذا الهرع إلى صناعة مسلسل تلفزيوني يناقش قضايا حساسة وشائكة كما في المسلسلات السورية، إذ يندر أن نشاهد مسلسلات عالمية تطرقت إلى قضايا مشابهة. بل ظلت بعيدة عن قضايا سياسية كعملية برجي التجارة العالمية، وسجن أبو غريب، وفيروس كورونا، وانهيار البنوك عام 2008، لا لشيء، إلا لأن المسلسل ليس المكان المرغوب إنتاجياً للتطرق إلى هذه القضايا. وفي المقابل، تصدرت هذه المواضيع الأفلام السينمائية والمسرحيات والروايات والشعر. أما سورياً فينتهز “التلفزيونيون” أية فرصة للاستفراد بالمشهد.
لكن ما يثير الاستغراب، أن العاملين في مسلسل “قيصر” ينشطون في المسرح والأدب والسينما. وبدلاً من أن يختاروا واحداً من هذه الفنون والآداب، والتواصل مع جمهور اختار بإرادته الذهاب إلى المسرح أو شراء كتاب يتحدث عن المعتقلين، يهرعون إلى المسلسل التلفزيوني. وهنا يتنطح المسلسل السوري كالعادة كي يكون السباق للتطرق إلى هذا الموضوع مخاطباً مشاهدي التلفزيون وعموم السوريين بكل فئاتهم وأعمارهم وأحزانهم.
والسؤال الذي يُطرح: هل كان يرغب العاملون على المسلسل في أن يبقى المشاهدون أمام التلفزيون ينتظرون بشوق وإثارة ليعرفوا ماذا سيحدث في سجن صيدنايا في الحلقة القادمة؟
درج