مقالات سينمائية

الوثائقي “لا أرض أخرى” يفوز بالأوسكار… انحياز إلى السردية الفلسطينية/ عُلا الشيخ

الاثنين 3 مارس 2025

تُعدّ السينما الوثائقية، واحدةً من أقوى وسائل التعبير الإنساني؛ فهي لا تقتصر على توثيق الأحداث فحسب، بل تفتح نافذةً لتسليط الضوء على العواطف، الحقائق، والصراعات التي قد لا تكون معروفةً للعالم.

تنبع قوة هذه السينما، من قدرتها على نقل الواقع بتفاصيله كافة، وفي الكثير من الأحيان، تصبح المنبر الوحيد لقصص المهمّشين والمقموعين. تتميز السينما الوثائقية الفلسطينية، بقدرتها الفريدة على تسليط الضوء على معاناة الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال والتشريد، وتروي قصصاً لا يمكن لأيّ قوّة عسكرية محوها. إنها تقدّم شهادةً حيةً على صمود شعب ما زال يتمسك بهويته وأرضه، برغم محاولات الاحتلال المتكررة لتهجيره وتصفية هذه الهوية.

الأفلام الوثائقية الفلسطينية ليست مجرد وسيلة لتوثيق الأحداث، بل هي أداة مقاومة وسلاح ثقافيّ في يد الشعب الفلسطيني، تروي التاريخ من خلال تجارب الأفراد وحكاياتهم اليومية.

من خلال هذه الأفلام، يتحدث الفلسطينيون عن حقهم في العودة، وعن تمسّكهم بالحرية، وعن صراعهم المستمر من أجل البقاء.

تقدّم السينما الوثائقية الفلسطينية صورةً حيّةً لآلام الشعب الفلسطيني، سواء الجماعية أو الشخصية، وتعرضها بشكل يترك أثراً عميقاً في نفوس المشاهدين. لذا، يصبح كل فيلم وثائقي بياناً للصمود والحق، لا مجرد توثيق.

من بين هذه الأفلام التي تُبرز جوانب غير مرئية من حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال، فيلم “لا أرض أخرى” (No Other Land)، وهو إنتاج مشترك فلسطيني نرويجي، من إخراج الفلسطيني باسل عدرا، والإسرائيلي يوفال إبراهيم، شاركهما فيه أيضاً حمدان بلال ورانيا تسور، وجميعهم ناشطون فلسطينيون وإسرائيليون من أجل القضية الفلسطينية. فاز الفيلم بجائزة أفضل فيلم وثائقي في حفل جوائز الأوسكار في ليلة تاريخية تنحاز إلى السردية الفلسطينية من أجل العدالة والحرية.

هذا الفوز لا يمثّل مجرد إنجاز سينمائي، بل هو انتصار لصوت الشعب الفلسطيني في واحد من أكبر المحافل الفنية العالمية. “لا أرض أخرى” يُعدّ شهادةً حيّةً على كفاح الفلسطينيين ضد التهجير القسري في “مسافر يطا”، إحدى المناطق المهددة بالتهجير في جنوب الضفة الغربية. الفيلم، الذي تم إنتاجه بأسلوب بسيط، ولكن قوي، يجسد معركة الفلسطينيين في الدفاع عن أرضهم وهويتهم في مواجهة محاولات الاحتلال المستمرة لاستباحتها.

السياق التاريخي والسياسي

لا يمكن فهم فيلم “لا أرض أخرى”، فهماً جيّداً، دون وضعه في السياق التاريخي والسياسي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني منذ عقود.

فالمشاهد التي يعرضها الفيلم، ليست مجرد توثيق لحاضر قاسٍ، بل هي جزء من صراع طويل بدأ مع نكبة 1948، واستمرّ بالمجازر التي ارتُكبت في حق الفلسطينيين تاريخياً، وصولاً إلى احتلال الضفة الغربية عام 1967، ولم ينتهِ مؤخراً بحرب الإبادة على غزّة.

“مسافر يطا”، حيث تدور أحداث الفيلم، هي إحدى المناطق التي تعرضت لتهديدات التهجير بسبب التوسع الاستيطاني الإسرائيلي. وبرغم محاولات الاحتلال المستمرة لتقويض الهوية الفلسطينية، وإنكار الحقّ في الأرض، يظلّ الفلسطينيون هناك متمسكين بحقوقهم.

الفيلم يُبرز هذه الحقائق المُرّة، ولكن لا يقدّمها كحكايات عن الهزيمة، بل كقصص عن الإصرار على البقاء. هذه الأرض هي جزء لا يتجزأ من التاريخ والجغرافيا الفلسطينيين، ولن تتمكن أي قوة استعمارية من محوها، وإن حاولت.

الصمود والأمل وسط القهر

ما يميّز فيلم “لا أرض أخرى”، هي الطريقة العميقة التي يتم من خلالها تصوير الشخصيات الفلسطينية الحيّة، التي تكافح من أجل البقاء، بل من أجل الحياة نفسها. يعرض الفيلم حياة عائلات فلسطينية في “مسافر يطا”، وهي منطقة مهددة بالتهجير القسري بسبب مشاريع الاستيطان الإسرائيلية. لكن الفيلم لا يقتصر على توثيق معاناتهم، بل يُبرزهم كأبطال صامدين. يواجه هؤلاء الأشخاص حياةً مليئةً بالتحديات، مثل نقص الموارد، تهديدات المستوطنين، وهدم المنازل، ولكنهم لا يزالون متمسكين بأرضهم وأملهم في غدٍ أفضل. في كل مشهد، يظهر الفلسطينيون وهم يواصلون حياتهم اليومية، برغم التهديدات العسكرية، مصمّمين على البقاء.

ما يضفي على الفيلم طابعاً إنسانياً عميقاً، هو تصوير الأطفال في هذه البيئة القاسية. هؤلاء الأطفال يخوضون معركةً وجوديةً، حيث يعيشون في ظلّ الخوف من المستقبل، وأحياناً من اللحظات التالية، لكنهم لا يزالون يحلمون بمستقبل أفضل.

الفيلم يُظهر أطفال “مسافر يطا”، وهم يلعبون في الحقول التي قد تُجرَف في أي لحظة، ويتعلقون بالأرض التي يهددهم الاحتلال بمحوها. هذه المشاهد تُبرز القوّة الكامنة في الضعف، والأمل في قلب المعاناة، وتُجدد إيماننا بقدرة الإنسان على مقاومة التحديات.

بساطة تنبض بالحياة

أسلوب إخراج فيلم “لا أرض أخرى”، يتّسم بالبساطة والصدق، ما يعزز تأثيره العاطفي والإنساني، إذ يعتمد على تصوير الواقع كما هو، دون تجميل أو تقنيات سينمائية معقدة. الكاميرا تتنقل بين الوجوه، ملتقطةً تفاصيل تعبيرات الأشخاص في لحظات غير مصطنعة، لتكشف لنا الحقائق العميقة حول معاناتهم اليومية.

لحظات بسيطة مثل تجمّع العائلات حول طعامها، أو الأطفال وهم يركضون في الحقول، تظهر بشكل غير مسبوق على جمالها وحقيقتها.

الفيلم يتجنّب استخدام أسلوب السينما الدرامية الثقيلة الذي قد يؤثر على مصداقية الواقع. على العكس، تُستخدم الكاميرا لتقليد الواقع الفعلي، ما يجعل المشاهد يشعر وكأنه يشاركهم لحظاتهم؛ لحظات تهديد هدم المنازل، والاصطفاف لمقاومة الجرّافات الإسرائيلية، والمقابلات مع الأهالي الذين يصفون حياتهم اليومية التي تُعرض بطريقة قريبة إلى الحقيقة، ما يجعل الفيلم تجربة مشاهدة مؤثرةً على المستوى الشخصي.

تحدّيات صناعة وثائقيات السردية الفلسطينية

من الجدير بالذكر، أنّ صناعة الأفلام الوثائقية الفلسطينية ليست بالأمر السهل. في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي، يواجه صانعو الأفلام العديد من التحديات مثل القمع، الرقابة، محدودية التمويل، وتقييد حرية الحركة. ومع ذلك، استطاع فيلم “لا أرض أخرى”، أن يظهر كوثيقة سينمائية تضاهي أفلاماً عالميةً في المهرجانات الدولية. ويمكن عدّه انتصاراً للحكاية الفلسطينية في مواجهة العوائق السياسية والفنية.

أثر الفيلم على المجتمع الدولي والجمهور

استطاع الفيلم جذب انتباه جمهور عالمي، وتحفيز النقاش حول الحقوق الفلسطينية في المحافل الدولية. “لا أرض أخرى”، ليس مجرد فيلم يُعرض في مهرجانات السينما، وقد عُرض لأول مرة في مهرجان برلين السينمائي في دورته الأخيرة، بل هو دعوة إلى إيقاظ الضمير العالمي بشأن ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، إذ يتجاوز مجرّد توثيق اللحظة، ويعكس التفاعل العاطفي القوي مع معاناة الفلسطينيين من خلال الصوت والصورة.

الطبيعة لتعزيز التأثير العاطفي

الموسيقى في فيلم “لا أرض أخرى”، تركّز على الأصوات الطبيعية والمشاهد الحيّة من الحياة اليومية للفلسطينيين في “مسافر يطا”، دون استخدام موسيقى تصويرية تقليدية، كما هو الحال في بعض الأفلام الأخرى. يعتمد الفيلم بشكل أكبر على الأصوات الطبيعية والمقابلات الشخصية، ما يعزز تأثيره العاطفي والواقعي، ويجعل القصة أكثر صدقاً وقوةً.

صوت يقاوم الألم والتاريخ

أفلام مثل “لا أرض أخرى”، أكثر من مجرد تسجيل للأحداث؛ إنها وسيلة مقاومة تسلّط الضوء على السردية الفلسطينية وعلى أصوات الفلسطينيين للتعبير عن أنفسهم بحرّية. 

أفلام مثل “لا أرض أخرى”، تتجاوز التوثيق البسيط، لتصير بيانات حضاريةً تُذكّر العالم بضرورة احترام حقوق الإنسان والحق في تقرير المصير.

الأمل في كل صورة

في الختام، يُعدّ فيلم “لا أرض أخرى”، خطوةً أخرى في مسار طويل من النضال الفلسطيني، حيث يظهر لنا كيف يمكن للفيلم الوثائقي أن يكون أكثر من مجرد أداة توثيقية، فهو سلاح ثقافي قويّ. يعكس الفيلم معاناة الشعب الفلسطيني في “مسافر يطا”، لكنه يُظهر أيضاً أنّ التحدي لا يتوقف، وأنّ الأمل دائماً موجود. هذه النوعية من السينما تُظهر لنا معركة الفلسطينيين من أجل الأرض، والهوية، والكرامة، والوجود. وكل مشهد في “لا أرض أخرى”، هو رسالة قوية مفادها أنّ المقاومة تكون بالفنّ أيضاً.

رصيف 22

—————————

أوسكار «لا أرض أخرى»: جائزة الصحوة والصفعة

رأي القدس

تحديث 04 أذار 2025

حقق الفيلم الوثائقي «لا أرض أخرى» إنجازاً فنياً كبيراً حين فاز بجائزة الأوسكار عن أفضل فيلم وثائقي طويل، خلال المهرجان السينمائي الأشهر الذي تشهده مدينة لوس أنجليس الأمريكية كل سنة، وإليه تتجه أنظار صناعة الفن السابع. وهذه النتيجة ليست بعيدة عن تحقيق مفاجأة من العيار الثقيل، ولعلها سجلت أيضاً نقلة نوعية في تقاليد هذا المهرجان تحديداً، لاعتبارات عديدة لا تقتصر على حيثيات الفنون السينمائية.

فالفيلم من جانب أول يتصل مباشرة بالسياسة في واحدة من أعقد ملفاتها الراهنة، أي الصراع العربي ــ الإسرائيلي عموماً، والحقوق الوطنية والإنسانية والتاريخية للشعب الفلسطيني خصوصاً، ثم بصفة أكثر تخصيصاً طرائق دولة الاحتلال في توسيع الاستيطان عن طريق اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم وطردهم منها، وتهديم البيوت، وردم الآبار بالأسمنت، وتجريف الأراضي، في القرية الفلسطينية مسافر يطا جنوب الضفة الغربية المحتلة.

الجانب الثاني الذي يُكسب الفيلم أهمية نوعية خاصة يتمثل في أنّ مخرجي الفيلم هم الفلسطينيان باسل عدرا وحمدان بلال والإسرائيليان يوفال إبراهام وراشيل سزور، وبالتالي فإن رسالة الشريط تصدر عن ائتلاف مشترك يناهض سياسات الاستيطان التي تعتمدها دولة الاحتلال من جهة أولى، كما يدين قوانين التمييز العنصرية عموماً وممارسات حكومة بنيامين نتنياهو الأكثر يمينية وفاشية في تاريخ الكيان الصهيوني من جهة ثانية.

ولقد حرص المخرج الإسرائيلي يوفال أبراهام على إبراز هذا الجانب وإدانته، فقال في كلمة استلام الأوسكار عن زميله الفلسطيني: «حين أنظر إلى باسل، أرى أخي. ولكننا غير متساويين. نحن نعيش في نظام يجعلني حراً تحت قانون مدني، وباسل تحت قوانين عسكرية». كما ذهب أبعد حين انتقد السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وأنها تساعد على إغلاق الطريق أمام حل سياسي خالٍ من التفوّق العرقي، يوفّر الحقوق الوطنية للشعبين.

لكن الجانب الثالث الذي أسهم في تكريم «لا أرض أخرى» لم يكن يقلّ عن هذه الاعتبارات أهمية ودلالة، لأنه يتصل بالخصائص الفنية العالية لشريط يقترح أسلوبية انفرادية تخرج عن كثير من تقاليد صناعة السينما التسجيلية، بمعان إبداعية رفيعة اللغة وشديدة الوفاء لمفهوم التوثيق العياني المباشر. ذلك لأن مشاهد الفيلم ترصد سلسلة الفظائع التي اقترنت بتدمير القرية وطرد سكانها، ليس عبر التوثيق غير المباشر أو اقتباس شهادات لاحقة أو توظيف موادّ مرئية أو محكية ذات صلة، بل اعتماداً على حضور الكاميرا الحيّ واللصيق والمتابع والمراقب. ولعلّ هذا الجانب تحديداً كان بصمة المصداقية الكبرى للفيلم، وتفسر أيضاً الترحاب الذي قوبل بها والجوائز التي حصدها في مهرجانات دولية عديدة سبقت الأوسكار.

وإذ كان نجاح الفيلم بمثابة صحوة ضمير في ظلمات المناخات المكارثية المناصرة لدولة الاحتلال، أو المتواطئة علانية وضمناً مع حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزة، التي هيمنت على أمريكا ومعظم أوروبا، فإنه أيضاً لا يقل عن صفعة جديدة بليغة للسياسات الاستيطانية والعنصرية الإسرائيلية. ولا عجب أن يعلن ساسة الاحتلال أن فوزه بالأوسكار «لحظة حزينة لعالم السينما».

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى