مقالات سينمائية

بايال كاباديا: سينما غير بوليوودية/ سمير رمان

3 مارس 2025

تعرض دور السينما الهندية، والعالمية، هذه الأيام، أوّل فيلم روائي للمخرجة الهندية بايال كاباديا “All We Imagine as Light”. الفيلم هو أوّل فيلم هنديّ يفوز بالجائزة الكبرى لمهرجان كان السينمائي، خلال الثلاثين عامًا الماضية. وهو ليس من النوع الذي ارتبط بالسينما الهندية، حيث الأغاني والرقص. ومع ذلك، نجد أغاني ورقصاتٍ في واحدٍ من أفضل أجزاء الفيلم، ولكنّ السياق الذي جاء في المشهد يبعد آلاف السنين الضوئية عن أفلام بوليوود التقليدية المعتادة.

فازت كاباديا (1986)، وهي مخرجة أفلام روائية ووثائقية، وكاتبة سيناريو، بالجائزة الكبرى في مهرجان كان السينمائي عن فيلم “كلّ ما نتخيّله كضوء” (2024)، وهي مرشحة للفوز بجائزة “غولدن غلوب” في فئة أفضل مخرج عن الفيلم نفسه.

ولدت كاباديا في مدينة بومباي الهندية في عائلة مثقفة، فأمّها صانعة محتويات الفيديو، ناليني مالاني، ووالدها المحلل النفسي، شايليشا كاباديا. أثناء دراستها في إحدى المدارس الخاصة، شاركت في نادي السينما المدرسي، حيث تعرفت هناك على أعمال مخرجين وصنّاع سينما عظام، أمثال: الألماني فيرنر هرتزوغ/ Werner Herzog، والروسي أندريه تاركوفسكي، والبنغالي ريتفيك غاتاك/ Ritwik Ghatak، وساتياجيت راي/ Satyajit Ray. التحقت بكليّة الاقتصاد في جامعة بومباي الكاثوليكية، ومن ثمّ حصلت على شهادة الماجستير في وسائل التواصل الإعلامي من جامعة صوفيا. عملت كاباديا خمس سنوات في مجال الإعلان في بومباي، ومساعدة لفنان فيديو.

بعد فشل محاولتها الأولى، تمكنت عام 2012 من الالتحاق بقسم الإخراج في معهد السينما والتلفزيون الشهير في مدينة بونيه (120 كيلومترًا جنوب شرق بومباي)، لتحقق حلمًا راودها مذ كانت في المدرسة. كانت أفلامها الأولى من فئة الأفلام القصيرة، مثل: “البطيخ، السمك ونصف شبح”/Wassermelon Fisch and half Ghost ,  (2014)، وكذلك فيلم “آخر ثمرة مانجو قبل العاصفة الموسمية”/ The Last Mango before The Monson (2015).

في عام 2015، شاركت كاباديا في مظاهرات استمرت 139 يومًا احتجاجًا على تعيين الممثل السابق والسياسي غاجيني جوخانا في منصب مدير المعهد، فحرمت من الراتب الشهري الذي كانت تتقاضاه من المعهد. كذلك حرمت من المشاركة في برنامج التبادل الدولي. كمشروع تخرج، قدمت كاباديا فيلمًا قصيرًا لمدة 13 دقيقة بعنوان “غيوم ما بعد منتصف النهار/ Afternoon Clouds”، الذي تمكّن من الوصول إلى مسابقة مهرجان كان السينمائي عام 2017.

وفي عام 2021، ظهر أول أفلامها الوثائقية “ليلة عدم معرفة أيّ شيء/ The Night of Knowing Nothing”، الذي يدور حول الاحتجاجات الطلابية ضدّ السياسات القومية التي كان يمارسها رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي. ضمن غيرها من الجوائز، نال الفيلم جائزة “العين الذهبية” عن أفضل فيلم وثائقي في مهرجان كان الـ74. وفي الوقت الذي كانت تعمل فيه كاباديا على فيلم “ليلة عدم معرفة أيّ شيء”، وبعد تخرجها من معهد السينما والتلفزيون عام 2018، بدأت العمل على فيلمها الروائي الطويل الأوّل “كلّ ما تتخيّله كضوء”، الذي أنجزته عام 2024، ويدور حول صداقة بين ثلاثة من قاطني مدينة بومباي.

في كوخٍ ساحلي، حيث غابت الأضواء منذ فترةٍ طويلة، يتدفق صوتٌ عذبٌ يغني أغنية شعبيّة. يأتي الصوت من الشيء الفاخر الوحيد في الكوخ، جهاز رخيص يشغّل الموسيقى. تتمايل على أنغام الموسيقى ثلاث فتيات (بطلات الفيلم) هربن لبضعة أيامّ إلى موقعهنّ الطبيعي بعيدًا عن هموم وصخب المدينة لبضعة أيام. ترقص البطلات بعفويةٍ، وبشكلٍ ساخرٍ، غير آبهاتٍ بقواعد الرقص: جميعهنّ، حتى المتعلمات منهنّ، جئن من القرية. إحداهنّ متقدمة في العمر (الممثلة تشايا كادام)، تعمل طاهيةً في مستشفى بورفاتي، أما الفتاتان الصغيرتان فتعملان ممرضتين: الأولى، برابها (الممثلة كاتي كاسروتي) والثانية، أنو (الممثلة ديفيا برابها)، اللتان ساعدتا الطاهية في العودة إلى وطنها الصغير. هن نسوة يحلمن بالموسيقى بالتأكيد، ولا يحلمن بالحياة السعيدة، بل ببعض العدالة والحبّ فقط. على الرغم من مرارتها، تبدو الحياة لهنّ سحرية، رغم كلّ المشاكل التي ألقتها عليهنّ. يبدو أنّ مشاكل المجتمع الهندي مشاكل أبدية، ولأنّها أبدية يبدو أيضًا أنّها غير قابلة للحلّ.

لقطة من فيلم “كلّ ما نتخيّله كضوء”

بالنسبة للحضارة الهندية، تبدو كلمة “مشاكل” تعبيرًا غير مناسب، فالتعبير له طابع أوروبي أنثوي. مدينة بومباي هي مدينة الأحلام في الهند، أو ربما مدينة الأوهام. إنّها “تمنع سكانّها من الغضب”، حتى وإن كانوا يعيشون في حفرةٍ بائسة. في الفيلم، لا يوجد أناسٌ أشرار. ورغم أنّنا نتحدّث عن مجتمعٍ أبويّ، فإنّنا نجد الرجال أكثر حياءً من النساء. حبيب أنو، شياز (الممثل هريدهو هارون) شابّ خجول. وكذلك الدكتور مانوج (الممثل عزيز نيدو مانجاد) خجولٌ هو الآخر، ويظهر عليه الخجل جليًّا وهو يقدّم إلى الممرضة برابها كتابًا يضمّ قصائد غزل في حبّها، أو عندما يقدّم لها كيسًا من الحلوى. حتى أنّه يخاف القطة الصغيرة التي التقطتها برابها. تضحك برابها: “يقال إنّ الأشخاص الذين يخافون القطط كانوا فئرانًا في حياتهم السابقة (في إشارةٍ إلى اعتقاد الهنود بالتقمّص)”.

ربما يعود الفضل في سحر الشاشة إلى المصوّر الخبير رانابير داس. في البداية، كان أسلوبه مزعجًا بمجموع التقنيات المكررة، فكلّ تلك الجولات التي لا تنتهي عبر شوارع بومباي، حيث تتكدّس أكوام من أكياس النفايات، وحيث أحواض الزهور، وأكشاك الفاكهة والخضروات. أمطارٌ لا نهاية لها تتدفق على الشاشة، وكأنّها مشاهد رئيسية تذوب في تدفق تيار الحياة. إنّه موسم الأمطار الموسمية. غير أنّ الإيقاع البصري سرعان ما يسيطر، وكأنّه يتحرر أخيرًا ليدخل حالة النيرفانا(*). أمواج المدّ والجزر ليلًا سحرية هي الأُخرى، كأنّها كهفٌ مسحور تحت عرش الإله (غانيشا)(**). على صخور جدرانه نقوش بارزة تبيّن متى يكون الاحتفال على شرف هذا الإله برأس فيل، وكذلك متى تكون حفلة ديسكو الشوارع جزءًا قصيرًا، ولكنّه مهمّ من الحياة في الوقت نفسه.

وكما ناطحات السحاب، التي يتسبّب زحفها نحو بومباي القديمة في حرمان طاهية المستشفى بورفاتي من منزلها، صنعت كاباديا بأسلوبها الصارم دراما عن المشاكل الاجتماعية، المشاكل الجندرية والإثنية. والمسكينة بورفاتي ليست سوى ضحية من ضحايا أثرياء مطوري العقارات الجشعين، الذين لا سبيل للانتقام منهم، اللهمّ إلا عبر القيام ليلًا بتحطيم إعلاناتهم.

بترتيبٍ عائليّ، تزوجت برابها: وبعد يومين يغادر زوجها البلاد إلى ألمانيا بقصد العمل. لم تتلق برابها منه أيّ ردٍّ على رسائلها، ولم تصلها منه ولو تحية، فقط أرسل لها جهاز طهي فاخر متعدد المهام. تعانقها صديقتها بشكلٍ مؤثّر، وتكاد تقبّلها! سواءً كانت تحبّ زوجها، أو لا تحبه، وسواءً كانت ستنتظره أم لا، فإنّها ستجتمع إمّا معه، أو مع شبحه، في نهايةٍ شبه سوريالية.

تقع الفتاة الهندوسية أنو في حبّ شياز، الشابّ المسلم، حتى أنّها تشتري حجابًا، وتشعر بنفسها بطلة فيلم جاسوسيّ، وهي تذهب إلى عرس أقاربه. ولكن حفل العرس يلغى بسبب الأمطار الموسمية التي أغرقت طرق السكك الحديدية.

تطرح كابادايا في الفيلم مجموعةً كاملةً من المشاكل، من دون مبالغة، ومن دون مشاعر عاطفية صاخبة، أو ادعاءات بأنّه بيان نسويّ، على الرغم من أنّ الوعي اليومي الأنثوي الذاتي يشكّل جوهر الفيلم. تعقد نقابة العاملين في المستشفى تجمّعًا احتجاجيًا، ترتفع خلاله صيحات يائسة من قبيل “نحن القوة”. لا يترك التجمّع النقابي العتيد أثرًا أكبر مما تخلّفه ثرثرة ثلّة ممرضات في طريقهنّ إلى السينما لمشاهدة فيلمٍ درامي. إنّه احتجاجٌ أثره أقلّ بكثيرٍ من تأثير مصير تلك القطة الصغيرة الشاردة، التي ربما كانت هي نفسها الفتاة برابها في إحدى حيواتها السابقة.

هوامش:

(*) النيرفانا: بحسب المعتقدات البوذية والهندوسية والسيخية، فإنّ النيرفانا هي الخلاص النهائي للنفس البشرية، والتخلص من تكرار دورات الحياة (التقمّص).

(**) الإله غانيشا: من أشهر الآلهة الهندوسية، وأكثرها عبادةً. معروف برأسه على هيئة رأس الفيل. إنّه مقيل العقبات، وراعي الفنون والعلوم، وربّ الفكر والحكمة. ينظر إليه كإله البدايات.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى