سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 04 أذار 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
——————————–
ملامح المرحلة الانتقالية من تسريبات الإعلان الدستوري السوري/ محمد أمين
04 مارس 2025
شرعت لجنة شكلتها الرئاسة السورية في العمل على كتابة مسودة الإعلان الدستوري السوري الناظم للمرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد، في خطوة لملء الفراغ القانوني والدستوري الذي خلّفه سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، وإيقاف العمل في الدستور الذي كان وضعه هذا النظام. وأناط القرار بهذه اللجنة مهمة صياغة مسودة الإعلان الدستوري السوري الناظم للمرحلة الانتقالية في سورية، ورفعها إلى رئيس الجمهورية أحمد الشرع. والدستور الذي ستنتجه هذه اللجنة هو دستور مؤقت خلال المرحلة الانتقالية التي ستستغرق بين ثلاث إلى أربع سنوات بحسب تصريحات الشرع، ريثما يتم تشكيل لجنة لصياغة دستور دائم للبلاد يخضع لاستفتاء شعبي، بينما الدستور المؤقت هو الدستور الذي سيعتمد لتشكيل أرضية دستورية وقانونية للقرارات التي ستتخذ خلال المرحلة الانتقالية. وعلى الرغم من قرار اللجنة بعدم الحديث إلى وسائل الإعلام، وفق ما أكد عدد من أعضائها لـ”العربي الجديد”، إلا أن بعض المصادر المقربة من الإدارة الجديدة كشف أن العمل على مسودة الإعلان الدستوري السوري التي ستعرض على الشرع “لن تتأخر” في الصدور “بسبب الحاجة إلى وثيقة قانونية ناظمة للمرحلة الانتقالية”. ورجّحت هذه المصادر أن تكون المسودة جاهزة خلال أقل من أسبوع، مشيرة إلى أن المسودة ستحدد الملامح الرئيسية للدولة والعلاقة بين السلطات الثلاث (التنفيذية، التشريعية، القضائية).
مسودة الإعلان الدستوري السوري
وكشفت مصادر مقربة من اللجنة لـ”العربي الجديد” أن المسودة ستتضمن 48 أو 50 مادة، تمنح الشرع منصب القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، وسلطة تعيين مجلس تشريعي لمدة عامين مؤلف من مائة شخصية خلال شهرين من تاريخ صدور الإعلان الدستوري السوري على أن يراعي هذا المجلس “التمثيل العادل للمكونات والكفاءة”. كما يشترط الإعلان الدستوري السوري أن يكون رئيس الجمهورية مسلماً، وفق المصادر، التي أكدت أن الإعلان “سيفتح الباب أمام تشكيل أحزاب على أسس وطنية، وفق قانون سيصدر لاحقاً”. وفي لقاء مع “تلفزيون سوريا”، قال عضو اللجنة إسماعيل خلفان، إنه “سيكون هناك اطّلاع على الدساتير السابقة، ولا سيما دستور 1950، الذي يُوصف بأنه أفضل الدساتير التي مرت على سورية”، مضيفاً “سنطّلع على بعض التجارب في دول واجهت ظروفاً مشابهة، مثل التجربتين التونسية والعراقية”. وأضاف: “سيتم العمل على صياغة الإعلان الدستوري السوري بما يعكس تطلعات الشعب السوري ويلبّي احتياجاته في هذه المرحلة”. ومن المتوقع أن تُشكَّل الحكومة الانتقالية المنتظرة بناء على الإعلان الدستوري السوري المؤقت. وكانت الإدارة الجديدة قد أوقفت في يناير/كانون الثاني الماضي العمل بالدستور الذي وضعه نظام بشار الأسد عام 2012، والذي فُصّل على مقاسه ومنحه سلطات مطلقة لإدارة البلاد، كما حلت البرلمان وهو ما أدخل البلاد في حالة من الفراغ الدستوري. وضمت لجنة صياغة الإعلان الدستوري السوري عدداً من الخبراء القانونيين السوريين، ما خلق آمالاً بصدور إعلان دستوري يُرضي السواد الأعظم من السوريين.
ونقلت وكالة الأنباء السورية “سانا” أمس عن اللجنة القانونية لصياغة الإعلان الدستوري، أن “الإعلان الدستوري يستمد مشروعيته من مؤتمر الحوار الوطني ومؤتمر النصر، حيث توافقت مختلف مكونات الشعب السوري على ضرورة وجود إطار قانوني ينظم المرحلة الانتقالية ويحدد أسس الحكم ويضمن الحقوق والحريات”. وأضافت أن هذا الإعلان “هو وثيقة قانونية تهدف إلى إدارة المرحلة الانتقالية في سورية، حيث يحدد صلاحيات السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)”. وتابعت: “يضع الإعلان الدستوري الأسس العامة لنظام الحكم بما يضمن مرونة وكفاءة إدارة الدولة خلال هذه الفترة الحساسة، للحفاظ على وحدة البلاد سياسياً واجتماعياً وسلامة أراضيها”.
وضمت اللجنة ريعان كحيلان وهي رئيسة قسم القانون العام في كلية الحقوق بجامعة دمشق، وبهية مارديني وهي كاتبة وإعلامية سورية حاصلة على الدكتوراه في القانون وماجستير في القانون الدولي من جامعة نورثامبتون في بريطانيا. كذلك، ضمّت اللجنة عبد الحميد العواك وهو دكتور في القانون الدستوري في جامعة ماردين آرتوكلو التركية، ومستشار قانوني لدى “وحدة دعم الاستقرار” (منظمة مجتمع مدني تعمل في شمال سورية)، ومتحدر من محافظة الحسكة، وياسر الحويش وهو أستاذ في قسم القانون الدولي والعلاقات الدولية وعميد كلية الحقوق بجامعة دمشق، ومتخصص في القانون الدولي الاقتصادي، ومتحدر من بلدة العشارة التابعة لمنطقة الميادين في محافظة دير الزور، إضافة إلى إسماعيل خلفان وهو أستاذ في القانون الدولي وعميد كلية الحقوق بجامعة حلب.
غموض حول الدستور السوري في المرحلة الانتقالية
كما ضمت محمد رضى جلخي وهو عميد كلية العلوم السياسية في دمشق، وعضو اللجنة المكلفة بتسيير أعمال الجامعة، وباحث مشرف في “المركز السوري للدراسات الاستراتيجية”، وحاصل على دكتوراه في القانون الدولي من جامعة إدلب. كذلك، ضمّت اللجنة أحمد قربي الذي يشغل منصب مدير وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري، وحائز على الدكتوراه في القانون العام من جامعة حلب، واعتمادية المعهد العالي للحقوق في الشرق الأوسط، وعمل في السابق مدرساً في كلية الحقوق بـ”جامعة حلب الحرة”.
وأوضح القانوني عبد الناصر حوشان، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “الإعلان الدستوري السوري وثيقة قانونية تنظم أعمال المرحلة الانتقالية من الحكومة القانونية الواقعية (حكومة الثورة)، إلى الدولة الدستورية”. وتابع: “الإعلان الدستوري يكون مقتضباً تحدد فيه المضامين الدستورية الرئيسة من دون التطرق إلى شكل نظام الحكم والقضايا التفصيلية، كما ينظم أحكام مقام رئاسة الجمهورية الانتقالية والحكومة الانتقالية والبرلمان المؤقت”. وأوضح أن الغاية من الإعلان الدستوري هي “سد الفراغ الدستوري بعد إعلان إلغاء العمل بالدستور وحل الحكومة والبرلمان والأحزاب في العهد البائد”. وعرفت سورية منذ عام 1920 العديد من الدساتير، إلا أن دستور عام 1950 يعد الأفضل لأن جمعية تأسيسية منتخبة كتبته بعد نقاش مستفيض، شارك فيه أبرز رجال السياسة والقانون في ذلك العام.
مبدأ المواطنة في الإعلان الدستوري
وتعليقاً على بدء صياغة الإعلان الدستوري، طالب المستشار القانوني السوري غزوان قرنفل، في حديثٍ مع “العربي الجديد”، أن يكون “مبدأ المواطنة العمود الفقري سواء للإعلان الدستوري المؤقت أو حتى للدستور الدائم مستقبلاً”، مضيفاً: “هذا المبدأ متفق عليه بين السوريين بإقرار الشرع نفسه في أحد تصريحاته”. وتابع: “من ثم، فإنّ المواد الأخرى كافة يجب أن تكون حساسة لهذا المبدأ وخاضعة له، لذا لا يمكن الحديث عن إقرار لمبدأ المواطنة بالإعلان الدستوري ثم نقضه بمادة تقول إن الرئيس يجب أن يكون مسلماً؟ لأنك هنا انتهكت مبدأ التساوي في حقوق المواطنة، ولا يمكن أيضاً الإقرار بمبدأ تكافؤ الفرص في تولي الوظائف العامة ثم تنتهك النص بنص دين رئيس الدولة”. وأشار قرنفل إلى أن “الإعلان الدستوري أو حتى الدستور يكتب ليعبر عن حقوق كل السوريين وليس لتجزئة الحقوق بعضها للمسلم والباقي يتشارك فيها المسلم مع الآخرين. هذا الاستئثار والتفرد يناقض مبدأ المواطنة”، مضيفاً: “تستطيع أن تلبي حقوق ومطالب السوريين على مختلف انتماءاتهم عندما تقر للجميع بحقوق متساوية”. وتابع: “يجب التنويه إلى أهمية التركيز على الحريات العامة وحمايتها. هذه مسألة جوهرية في كل دستور”.
في السياق، أوضح أستاذ القانون الدولي محمد خالد الشاكر، لـ”العربي الجديد”، أن الإعلان الدستوري “يجب أن يتضمن مقدمة توضح الهدف منه، ليأتي بعدها بند المبادئ الأساسية التي يقوم عليها النظام السياسي، مثل سيادة القانون وفصل السلطات وتنظيمها، وآليات تصميم، وتنظيم، وبناء السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية”. وأضاف: “الإعلان الدستوري يوزع الاختصاصات والصلاحيات بين السلطات الثلاث، بما يضمن تحقيق حالة من التوازن والتعاون الوظيفي، في إطار ما يُعرف بنظام الكوابح والتوازن الذي يحول من دون تغوّل سلطة على أخرى”. ورأى أن “مسودة الإعلان الدستوري في سورية تحتاج التركيز على محورية ما عاناه السوريون من انتهاك للحقوق الطبيعية كالحق في الحياة، الحرية، والكرامة، والمساواة من دون تمييز، وحرية التعبير، وغير ذلك من الحقوق الطبيعية”. وبيّن أن أهمية الإعلان الدستوري “تتأتى من كونه المقدمة والوثيقة المرجعية للدستور المؤقت قبل عرضه على الاستفتاء العام ليصبح دائماً”.
العربي الجديد
———————-
احتكار السلاح وسيلة أم غاية؟/ سميرة المسالمة
03 مارس 2025
أحد المبادئ الأساسية التي تُعزّز سيادة الدول، احتكار السلاح بيدها، لأنه يعزّز قدرتها على فرض القانون وحماية السلم الأهلي. وهو معيار لا غنى عنه لتحقيق الاستقرارين، السياسي والاجتماعي، وهو ما يمكن أن نستخلصه من التجارب التاريخية والدروس المستفادة من نزاعات مختلفة امتدّت عشرات السنين في أنحاء ودول كثيرة في العصر الحديث، ومنها كولومبيا على سبيل المثال. فبعد 50 عاماً من النزاع المسلّح، الذي أودى بحياة الآلاف، وقّعت الحكومة الكولومبية في عام 2016 اتفاق سلام تاريخي مع حركة التمرّد المسلحة، تضمّن تسليم الأسلحة تحت إشراف الأمم المتحدة، وتحويل القوات المسلّحة الثورية الكولومبية (FARC) حزباً سياسياً شرعياً، إلا أن الأقرب إلينا، بحكم تأثيرها المباشر في ما يجري في سورية، تجربة حزب العمّال الكردستاني في تركيا.
لقد شكّلت رسالة زعيم الحزب، عبد الله أوجلان، إلى الأكراد، بعد 30 سنة من الاعتقال، ودعا فيها إلى إلقاء السلاح واعتماد الطرائق السياسية، نقطة تحوّل مهمّة، عبّرت عنها استجابة الحزب لهذه الدعوة، رغم تقييدها بشروط لا تبدو تعجيزية، بل واقعية وممكنة، وقد تكون الحكومة التركية قد تجاوزتها قبل السماح لتداول الرسالة علناً، وبخاصّة أن الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان على أبواب مباحثات شاملة مع الجانب الأميركي بشأن المنطقة عموماً. ويوضح وضع السلاح أن للتفاوض بين الأطراف المحلية بشأن الحقوق والمطالب المشروعة وسائل أكثر فاعلية في زمن التحالفات الدولية، ولا يتطلّب بالضرورة اللجوء إلى العنف. الوصول إلى المكاسب الوطنية والسلم الأهلي غالباً ما يتطلّب التضحية بالعنجهيّة السياسية لحساب الحكمة والعقلانية، ولعلّ هذا ما يمكن أن يكون الحامل الأساس لمضمون التفاوض الذي أنتج تلك الرسالة السلمية، التي تؤسّس لمسار جديد لم يختبره الطرفان سابقاً. وتُظهر هذه التجربة أن الضمان الحقيقي لحقوق المواطنة المتساوية، على المستويين الفردي والجمعي، يجب أن يكون عبر دستور عادل يُحافظ على حقوق الجميع، مع تأكيد المشاركة الشعبية في السلطة بوصفها ضمانة حقيقية للتمثيل العادل لمختلف المكوّنات، رغم أن الدستور التركي الحالي يُعتبَر نموذجاً ديمقراطياً متقدّماً في المنطقة، إلا أن ذلك لم يمنع من الحاجة إلى طلب الضمانات القانونية والتعديلات الدستورية لتحقيق السلم الأهلي الدائم وحماية الأمن القومي.
وبإسقاط هذه الدروس على الوضع السوري، نجد أن تحرير قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من تبعيّتها لحزب العمّال الكردستاني خطوة استراتيجية مهمة، فقد كان الارتباط بين قضيتي الأكراد السوريين والأكراد الأتراك، بالإضافة إلى التداخل في العمل المسلح، يزيد من تعقيد المشهد، ويُعرّض “قسد” لاتهامات تركية بالإرهاب. وبهذا الفصل العملياتي، يمكن القول إن من شأن الدخول في تفاهماتٍ جادّة مع الحكومة السورية أن يُحدِث مساراً مختصراً لتجنّب العقود الطويلة من الصراع غير المجدي، والكارثي على الأطراف كلّها، كما حدث في الحالة التركية، وصولاً إلى مشهد إعلان الحزب القبول بإرادة رئيسه، والذهاب نحو التفاوض السلمي على حقوق مواطنة متساوية، وطيّ ملف الصراع المسلّح.
يمنح هذا الفصل بين القضيتين “قسد” مساحةً أوسع في المفاوضات مع الحكومة السورية، ويُخفّف عنها عبء الدفاع عن قضايا خارج إمكاناتها، ما يُتيح لها التركيز في علاقتها مع محيطها السوري. وعليه، يُصبح من الضروري أن تتحوّل “قسد” حاملاً اجتماعياً غير مسلّح للأكراد في سورية، فتُقدّم نموذجاً للشراكة الوطنية التي تضمن الحقوق والواجبات بالتساوي. ويفترض هذا خطوات متبادلة تقدّمها حكومة الرئيس أحمد الشرع للأكراد السوريين، وفق مبدأ المواطنة، والفرص المتساوية مع مكوّنات المجتمع السوري، إضافة إلى إعلان واضح أن الجيش السوري مؤسّسٌ وفقاً لمواد دستورية تنظّم عمله ودوره، فالولاء للوطن، وليس لأيّ جهة سياسية أو حزبية.
في هذا السياق، يُصبح النقاش بشأن اللامركزية الإدارية في سورية جزءاً من تأكيد وحدة البلاد، وليس مؤشّراً على تقسيمها. ما يُعزِّز المخاوف من التقسيم، بقاء السلاح خارج سيطرة الدولة، إذ يتحوّل كلّ حديث عن اللامركزية شبهةَ تقسيم محتمل. لكن في حال إزالة السلاح وتحرير الأكراد (والدروز والعلويين) من أعبائه، ستُصبح المفاوضات أسهل وأكثر شمولاً مع مكوّنات الشعب السوري كلّها، لأنها ستنطلق من إطار وطني عام يشمل جميع المناطق السورية.
وهكذا، عندما تكون الدولة الجهة الوحيدة التي تحتكر السلاح، يُصبح الحوار في المطالب الشعبية والدستورية أكثر واقعيةً وقابليةً للتنفيذ، فالهدف يجب أن يكون دولة المؤسّسات التي تُحقّق حقوق المواطنة الكاملة والمشاركة الشعبية في السلطة، بما يضمن الاستقرار، ويُعزّز من فرص التعافي الوطني بعد سنوات طويلة من الصراع. لهذا، استمرار الصراع المسلّح، سواء كان من أفراد خارجين عن القانون أو فصائل غير مندمجة مع السلطة، لأسبابٍ طائفيةٍ أو عرقية، وفي ظلّ الظروف الاقتصادية الصعبة التي خلّفها نظام الأسد القاتل والفاسد، يعرقل مسيرة توطيد الأمن في البلاد، ويمكن أن يُنسَب إليه أيضاً، عرقلة توفير مستلزمات الحياة الضرورية، التي يأتي في مقدّمتها تحفيز اقتصاد سورية لاستعادة دوران العجلة فيه، وهذا لن يتحقّق ما لم يُكبَح جماح النزاعات المسلّحة. وبكل صراحة، أيّ استمرار في الاقتتال هو عملية تجويع للسوريين كلّهم، وعلى اختلاف مواقعهم الجغرافية من شرق وغرب وشمال وجنوب، فمن يُقدّم سلاحه على التفاوض، فعليه أن يفهم أيضاً أنه يموّله من لقمة السوريين وعلى حساب أمانهم.
العربي الجديد
———————————–
في تشريح «المسألة العلوية» الراهنة/ حسام جزماتي
2025.03.03
يتابع جزء كبير من السوريين أخبار الاقتحامات والملاحقات التي تحدث في الساحل وحمص. وتتضارب الآراء والروايات حولها بين من يقول إنها تستهدف فلول النظام السابق من المجرمين وإن لم تخلُ من تجاوزات فردية، وبين من يرى أن أكثرها عمليات تعدٍّ ممنهجة بدوافع طائفية. وبناء على تصاعد عدد هذه الحوادث أو انخفاضه يقيس كثيرون درجة حرارة التوتر، السنّي العلوي حسب هذا السياق، في البلاد.
لكن هذه الوقائع، مهما بدت مثيرة ودموية ومزعزعة للسلم الأهلي؛ ليست إلا قمة جبل الجليد الذي يرسم صورة انشقاق أهلي أبعد غوراً اختزنته عقود حكم الأسدين وانفجر بعد الثورة ثم التحرير. فلدى العلويين اليوم تيارات عميقة تستأهل الرصد دون الاكتفاء بما يتجلى من الموج على السطح. لكن قبل استعراض هذه المحددات، التي ترقى لأن تكون استراتيجيةً الآن، لا بد من الإشارة إلى أن الحديث سيتناول ما يمكن وصفه بالرأي العام الظاهر دون أن ينطبق بالضرورة على كل أفراد الطائفة.
في البداية هناك اختلاف حاد في السردية بين العلويين وبين رواية جمهور الثورة التي أصبحت الرواية الرسمية الحالية لما جرى في البلاد خلال السنوات الفائتة. فعن جهل أو تجاهل يسود بين العلويين وهم متواطئ بأن بشار الأسد أوقعهم في خديعة أن الثورة مؤامرة خارجية، بأبعاد طائفية داخلية، على سوريا. ولذا استعان بالجيش، الذي يشكّل العلويون عصبه، في معركة بدت مشروعة. وبناء على ذلك فإن الضباط وصف الضباط والعناصر كانوا يؤدون ما عدّوه واجباً وطنياً دعمتهم بيئتهم الحاضنة في القيام به. وتبعاً لهذه النظرة فإن المحاسبة يمكن أن تطول فقط من تجاوز حدود الضوابط العسكرية إلى ارتكاب مجازر عشوائية، وغالباً ما يكون هؤلاء من قوات «الدفاع الوطني» أو سواه من الفصائل الرديفة. وعموماً لا ينظر العلويون باحترام إلى قوات الضرورة هذه، فقد اقترنت صورتها بالفوضى والفساد والتعديات التي لم توفر محيطهم نفسه أحياناً، بخلاف الضابط الذي احتفظ بمكانته في أنظارهم، خاصة إذا كان «فقيراً» بحسب مفردة رائجة تحيل إلى دلالات إيجابية. ومن هنا أيضاً تجري المراوغة حول محاسبة ضابط سالت على يديه الدماء بطريقة «نظامية» بينما يصبّ الحقد على الضباط الأثرياء الفاسدين مالياً مهما كانت طوائفهم.
وللخروج من هذه التعقيدات تذهب رواية تبسيطية أخرى إلى أن ما جرى في البلاد «حرب أهلية» ارتكبت كل أطرافها انتهاكات، يتذكر العلويون ما وقع عليهم منها، ولذا فإن الحل هو اعتماد منطق عفا الله عما مضى بالنسبة للجميع أو محاسبة المسؤولين من كل الجهات في وقت متزامن.
النقطة المركزية الثانية هي أن العلويين أصيبوا بصدمة عنيفة عند سقوط النظام بشكل مفاجئ وبهذه السرعة. ومهما قيل عن «الطائفة الأسدية» من كلام، لا يخلو من الصحة، فإنه مما لا جدال فيه أن العلويين تمتعوا بمواقع تمييزية متدرجة في النظام السابق. شعروا هم بهذا وعايشه السوريون الآخرون. ومما لا شك فيه أن انقلاب هذه الوضعية، ولا سيما بعدما أعلن بشار الأسد «النصر» قبل سنوات، وبدأت إشارات التطبيع معه تتوارد من المحيط العربي والإقليمي ومن دول في المجتمع الدولي. قبل أن يفرّ «الخائن» تاركاً أنصاره مصدومين مخذولين مضطرين إلى التوافد على مراكز التسوية بعد أن كانوا يديرونها. وفي الحقيقة فإنه من غير المتوقع أن يمر هذا الانقلاب بطريقة سلسة.
وإذا انتقلنا من هاتين النقطتين المعنويتين إلى معطيات مادية حاسمة فلا شك في أن أكثرية علوية أصيبت بكارثة معاشية مباشرة نتيجة مجموعة إجراءات اتخذتها السلطة الحالية؛ أولها حل الجيش من دون راتب تقاعدي ولا تعويض نهاية خدمة لمنسوبيه. وإذا كان هذا القرار مصدر ارتياح لمؤدّي الخدمة الإلزامية والمطلوبين إليها فإنه مصيبة لعشرات ألوف الضباط ومثلهم من صف الضباط الذين كانوا يعتمدون على هذه المؤسسة في إعالة أسرهم، سواء بالراتب النظامي أو بابتزاز العساكر أو بالفساد الذي كان يأكلها.
وإذا كانت نسبة المتطوعين العلويين في الجيش مرتفعة فربما كانت أعلى في الأجهزة الأمنية، خاصة مع تنامي تطييفها في سنوات الثورة بالانشقاقات من جهة والدورات الجديدة الموثوقة من جهة أخرى. كما أن القوات الرديفة التي كانت تستوعب جزءاً كبيراً من العمالة العلوية -وغير العلوية بالطبع- تبخرت من دون حاجة إلى الحل. وكذلك المكتب الأمني للفرقة الرابعة الذي منح بطاقته للآلاف ليقوموا بأعمال الترفيق وتحصيل الرسوم من الحواجز والتجارة غير المشروعة.
كما تأثر عاملون مفضَّلون في قطاعات مدنية محددة بشكل مباشر، كالمفرغين الحزبيين في الهرم الضخم للبعث، والموظفين في الجمارك والمرافئ والمطارات والمنافذ الحدودية. ولم تخلُ هذه الوظائف من محسوبية طائفية وإن لم تكن فاقعة وشاملة. وقل مثل ذلك عن قطاعي التعليم والإعلام، اللذين استقطبا كتلة من العمالة النسائية العلوية حتى صار نمط المعلمة زوجة الضابط مألوفاً قبل أن تلحق بها شقيقته الأصغر، أو ابنته، الإعلامية.
يتعزز ذلك كله بخطة الحكومة الحالية في تقليص موظفي القطاع العام بنسبة تبدأ من الثلث وقد تصل إلى النصف. وقد طال هذا الموظفين/ات المدعومين/ات الذين كانوا مسجلين على القوائم من دون أن يداوموا، وأولئك المعيّنين بناء على مسابقات خاصة بالمسرّحين من الجيش في أثناء الثورة، وذوي «الشهداء» من قوات النظام، والموظفين بعقود استنسابية. وكثير من هؤلاء علويون كما تدل الوقفات الاحتجاجية التي ينظمونها أمام مؤسساتهم بعد صدور قرارات فصلهم أو منحهم إجازة مأجورة لثلاثة أشهر تمهيداً للاستغناء عن خدماتهم.
يضاف إلى ذلك إيقاف رواتب المتقاعدين العسكريين بعد العام 2011. ومبادرة جهات مبهمة إلى إخلاء المساكن العسكرية من قاطنيها لأنهم حصلوا عليها تبعاً لخدمتهم في الجيش، وخاصة في ضواحي دمشق حيث شكلت هذه الأحياء مصدر حساسية للجوار الذي كان لا يجرؤ على الاعتراض وحانت فرصته.
تتضافر كل هذه العوامل لتضع في زاوية الجوع غالبية العلويين الذين اعتادوا على «الدولة» كرب عمل أساسي، من جيشها بقطاعاته العديدة وحتى وظائفها المدنية، فاعتمدوا عليها في دورتهم الاقتصادية الشهرية التي احتل فيها الراتب مكانة ضابط الإيقاع.
تلفزيون سوريا
—————————–
بناء الدولة.. عمل سياسي عماده الديمقراطية/ أحمد عيشة
2025.03.02
ما عدّه الرئيس الشرع منذ عدة أيام في خطابه أمام مؤتمر الحوار الوطني بـ (تيه السياسة) مشيراً إلى مرحلة ما بعد الاستقلال وقبل الوحدة (1946 -1958)، ينظر إليه كثير من السوريون والمؤرخين بأنه من الفترات الأكثر انتعاشاً في الحياة السياسية، فحتى أشد فترة “الديكتاتورية” قسوة كانت مزحة قياساً لمرحلة الأسدين، كما كانت فترة عايشت حياة سياسية حرة وانتخابات برلمانية وظهور شخصيات وطنية، وهي الفترة التي كُتب فيها دستور 1950 بمشاركة تيارات مختلفة، حيث تلمست بدايات تجربتها الديمقراطية، التي يصر رجال الحكم اليوم حتى على عدم
ما عدّه الرئيس الشرع منذ عدة أيام في خطابه أمام مؤتمر الحوار الوطني بـ (تيه السياسة) مشيراً إلى مرحلة ما بعد الاستقلال وقبل الوحدة (1946 -1958)، ينظر إليه كثير من السوريين والمؤرخين بأنه من الفترات الأكثر انتعاشاً في الحياة السياسية، فحتى أشد فترة “الدكتاتورية” قسوة كانت مزحة قياساً لمرحلة الأسدين، كما كانت فترة عايشت حياة سياسية حرة وانتخابات برلمانية وظهور شخصيات وطنية، وهي الفترة التي كُتب فيها دستور 1950 بمشاركة تيارات مختلفة، وفيها تلمست بدايات تجربتها الديمقراطية، التي يصر رجال الحكم اليوم حتى على عدم لفظها، مع العمل بشكل أو بآخر وفق مضمونها من حريات ونقاشات، وكذلك يأتي الحديث عن نظام الحكم المقبل في سورية بأنه يرتبط بالثقافة العميقة للبلد والأصيلة لأهله، كأنه محاولة للابتعاد عنها، مع أنها لم تعد مرتبطة بأي مكان أو كيان، بل نمط إدارة للحكم والاختلاف بوسيلة سلمية.
يتكامل هذا الخطاب مع الحديث على أعلى المستويات بما فيها الرئيس، بتجنب الحديث عن التنوع السياسي والأحزاب السياسية، التي من دونها لن يكون هناك بناء لنظام سليم ولدولة قوية، فقد ذكر هؤلاء المسؤولين أكثر من مرة مسألة الحفاظ على التنوع الثقافي والاجتماعي وبناء السلم الأهلي وهي أمور محقة وضرورية، لكن كيف يمكن تحقيق هذه العملية، فسوريا ليست قرية أو مجموعة قرى صغيرة متناثرة، وحتى إن كانت كذلك، فالمطلوب بناء كيان واحد يعبر عنها ويمثلها، وهو الدولة، التي تقوم على ركائز أساسية: القانون، الدستور، قوات إنفاذ القانون، البرلمان، القضاء، وبالطبع من دون هيمنة من إحدى هذه المؤسسات على الأخرى، ومن دون ذوبان واحدة ضمن الأخرى، وما ينظم هذه العلاقات هو الدولة من خلال القانون (الدستور) الذي ينظم عمل هذه المؤسسات وينسق فيما بينها.
الأمر المهم الآخر، في دعم بناء الدولة، وهو من مستلزماتها، اختيار النظام السياسي التي ستدار من خلاله هذه المؤسسات، فحتى لا تكون شكلية أو ممسوخة، لا بد من وجود تعبيرات تمثيلية تدعم استقلاليتها وتراقب الدولة (السلطة) في وقوفها وممارستها، وهذه التعبيرات التمثيلية هي الأحزاب والهيئات المدنية والسياسية وحتى الشخصيات المستقلة، إضافة للصحافة الحرة، ومن ينظم العلاقة بينهما هي العملية الديمقراطية بما هي آلية للانتخابات وضمان حق المختلف في التعبير عن رأيه كفرد وجماعة، وإيصال رأيه من خلال ممثليه ومنابره، وهو ما يشكل عوامل استقرار للدولة ومؤسساتها، بل يمكن القول يضخ الدم في عروقها.
من المهم ألا نتخذ من التجارب الفاشلة والبائسة التي عاشتها الأحزاب في ظل الأنظمة الطغيانية، وبنسختها الفريدة، المتمثلة بالنموذج الأسدي، وهو نموذج يستحق الدراسة العميقة والتشريح، ومن المؤكد أن وصفه بالديكتاتوري رحمة له وظلم للديكتاتورية، وكذلك بالشمولي (الكلياني)، فهو نظام اخترع نمطاً جديداً، من سماته الأساسية إماتة الحياة في عقول البشر، ومن ثم قتلهم، إنه نظام إبادي أسدي، وهذا النموذج وغيره من التجارب الفاشلة، ينبغي ألا تكون جملة مقارنة لنا، بل نقيضها، الذي لن يتحقق إلا بضخ الحياة في روح المجتمعات، وتفعيلها من خلال مشاركتها وحقها في تأسيس تعبيراتها وتمثيلاتها المختلفة، وأهمها السياسية التي تضمن ألا نعود للحقبة الأسدية ولشبيهاتها. إن تحفيز الناس على المشاركة في صنع القرار هو همٌ وواجب وطني على الجميع، على السلطة وعلى الناس، كما أنه المقدمة الضرورية لتأسيس دولة المواطنة.
كثر الحديث في الآونة الأخيرة، تقريباً منذ عقد من الزمن، عن دولة المواطنة، أو المواطنة المتساوية، بمعنى قيام الدولة التي تعامل الناس كمواطنين متساويين أمام القانون من دون تمييز أياً كان سببه، دولة تساوي بين الناس في الحقوق والواجبات، لدرجة تحولت الدعوة إليها إلى ما يشبه الأيديولوجيا، بمعنى أنها الحل السحري لكثير من المشكلات التي تعانيها البلاد، وهذه من أهم عيوب التفكير لدينا، عدم التعامل النقدي مع الأفكار كما أوصى ذات يوم علي عزت بيجوفيتش، الرئيس البوسني، فبداية لا بد من ذكر أمر أساسي تشير إليه المواطنة، فهي علاقة بين الفرد الحر من خلال الجماعة مع الدولة، أي أن هذه المواطنة تقوم على ركائز ثلاث: وجود دولة (مؤسسات ذات قوانين مستقلة وثابتة)، فرد حر يمتلك ذاته، مؤسسات تمثيلية، وهي أمور ثلاثة نفتقدها في سوريا إلى حد كبير، ويتوجب بناؤها، وأولها الدولة.
هناك قضية مهمة ينبغي التعامل معها بموضوعية، بمعنى الإقرار بها كحالة قائمة بغض النظر عن الموقف منها، وهي حالة الانقسامات في المجتمع السوري، الذي تذرر بكل ما تعنيه الكلمة نتيجة لعوامل عديدة، أهمها القمع الإبادي المفرط الذي مارسه النظام، وثانيه التدخلات الدولية والتصارعات على سورية طوال أكثر من عشرة أعوام، بما شجعت على الخندقات الأيديولوجية والإثنية والمذهبية، حيث يتوجب علينا الإقرار بوجود تصارعات إثنية وطائفية ودينية، وما يترتب على ذلك من أشكال صراع واقتتال ممكنة، خاصة مع انتشار السلاح وعدم تمكن الدولة بجمع السلاح وحصره حتى الآن بيدها، وهذه الوقائع لا يلغيها مجرد الإعلان عن الدعوة إلى دولة المواطنة، فتلك نتاج عمل تاريخي طويل، وبالتالي تكون العملية الديمقراطية كوسيلة لإدارة الحياة بما تحويه من صراعات ومعارك بطريقة سلمية ضرورة لا تقل عن ضرورة متابعة الدولة بعملية جمع السلاح وحصره تحت إدارتها.
يتطلب بناء الدولة عملاً طويلاً وشاقاً، لكنه ينطلق ويرتكز إلى أمور أساسية: السيطرة على الجغرافيا المقصودة، وبناء مؤسسات (تشريعية، تنفيذية، قضائية) مستقلة عن بعضها وتتكامل في تسيير أعمالها من دون طغيان لواحدة على أخرى، وقانون واحد في عموم هذه الجغرافيا، وقوة لتنفيذ القانون هذا، ورضا وقبول من الجمهور لهذه القوانين. بالطبع فهي مهمة شاقة وتاريخية حتى تصل لصورة الدولة -الحلم التي يكثر الحديث عنها، لكن هذا لا يمنع، بل يتطلب بين ما يطلبه هو التشارك في العمل، وعدم حصر القرار بفريق من أي لون كان مهما كانت ميزاته، وفتح المجال أمام المشاركة الواسعة من خلال التجمعات والكيانات السياسية، والتحفيز لتأسيسها بحال عدم وجودها، وهذا يتطلب إعلان (قبل إصدار قوانين تأسيس الأحزاب والجمعيات) يكفل حق الجميع بالتجمع والمناقشة وإبداء الآراء وتأسيس الكيانات السياسية بكل حرية ضمن شرط وطني فقط، وتجريم الاعتقال السياسي (لا يجوز اعتقال أي شخص لمجرد رأي بشكل سلمي وغير عنيف).
من طبيعة السلطة، أياً كانت التغول تجاه المجال العمومي والهيمنة عليه، وما يحد أو يكبح هذا التغول هو فعالية المجال السياسي بتجمعاته وأحزابه وشخصياته، وبالتالي من الضروري على السوريين الانتقال نحو فعل تشاركي في عملية البناء هذه، بناء الدولة، والتخلي عن قاعدة “أننا لا يمكن أن نغير شيئاً، أو شو طالع بإيدنا” التي ساعدت على إدامة الاستبداد والانتقال للفعل، فالحقوق تحصل، وأهم وسيلة للتحصيل هي السياسة كإحدى صيغ الحرب، لكن بوسائل سلمية، فلننفض غبار الابتعاد عن القضايا العامة، ولنبدأ، واللحظة حاسمة ومتاحة، ينبغي ألا نضيعها، وألا نسمح بالعودة إلى الوراء.
تلفزيون سوريا
—————————
وصفة انتحار سورية بقنبلة طائفية/ سميرة المسالمة
الإثنين 2025/03/03
الشعور بالتفوق الطائفي يتنافى تمامًا مع تحقيق السلم الأهلي، وهو ما أكده الرئيس أحمد الشرع منذ اليوم الأول لبدء عملية ردع العدوان. فحقن الدماء وتسليم السلطة بأقل الخسائر، كان نتيجة طبيعية لسياسة التحرير المتبعة من حلب إلى دمشق. ولو أن سياستها اعتمدت على التفوق الطائفي أو العرقي خلال مسيرتها إلى دمشق عبر القرى والمدن والمناطق المترامية، لكانت سوريا غارقة في دماء أبنائها.
ومع ذلك، رغم تكرار الحديث عن السلم الأهلي من قبل الرئيس، فإن هذه الرسائل لم تصل إلى جميع السوريين، سواء من العاملين تحت إمرة الحكومة السورية أو من معارضيها، وبالرغم من محدودية المناطق التي تشهد اشتباكات (تحت مسمى طائفي) بين الجهتين، وتصوير الأمر على أنه نتيجة تصاعد الحس الطائفي لدى بعض الأفراد غير المنضبطين، سواء من العلويين أو السنّة، واختلاف الروايات وأسبابها، إلا أنه يبقى تهديدًا حقيقيًا للسلم الأهلي. ولذا، فإن إبقاء الوضع من دون معالجة جذرية يجعل الطائفية قنبلة مؤقتة قابلة للانفجار في أي لحظة.
إنّ استمرار المناوشات المسلحة في سوريا من دون معالجة حقيقية يعكس خللاً عميقًا في بنية المجتمع والسياسات المتبعة. علاوة على ذلك، فإن إضفاء صبغة طائفية على الاشتباكات ليس مجرد تداعٍ جانبي للصراع، بل هو جزء من الأدوات المستخدمة في النزاع، سواء عن قصد أو بحكم الظروف. لذلك، عندما يُحاسب المجرم بصفته فردًا وليس ممثلًا لطائفته، تنهار أولى حجج الخطاب الطائفي. إذ أن عدم وضع آلية واضحة للمحاسبة وتطبيقها بعدالة، يترك البلاد في حالة من الترقب الدائم لاحتمالية اشتعال فتيل الفتنة، مما يهدد أي جهود لإرساء الاستقرار وبناء مجتمع متماسك.
علاوة على ذلك، لا يكمن الحل فقط في ضبط الأفراد المنفلتين أو معاقبة مرتكبي الجرائم أو حتى في التنديد الخطابي بمخاطر الطائفية، بل يتطلب الأمر التزامًا واضحًا بمبادئ العدالة والمساءلة. وعلى وجه الخصوص، فإن من يحسب نفسه على السلطة السورية أو مؤيدًا لها، يجب أن يلتزم بما أقرته الدولة من قوانين بهذا الشأن، وتسليم أمر العدالة إليها، بدلًا من أن يحاول استبدال سلطة قمعية بأخرى تستخدم ذات الأدوات.
ومن ناحية أخرى، فإن النشاط على وسائل التواصل الاجتماعي قد يبدو عملًا فرديًا، لكنه، في حال تجاوزه حدود الرأي إلى التحريض الطائفي، لا يقل خطورة عن العمل المسلح، بل قد يكون هو الدافع الرئيسي له. على سبيل المثال، فإن الدعوات الشعبوية غير البريئة لاستخدام العنف ضد أي فئة مجتمعية، مثل المطالبات باستخدام الكيماوي ضد (العلويين)، ردًا على استخدام بشار الأسد للكيماوي ضد أهلنا في الغوطة ومناطق أخرى، تمثل خطرًا جسيمًا. إذ تساوي بين سلطة جاءت بانتصار ثورة قدّم الشعب السوري في سبيلها تضحيات جسام، وبين سلطة الأسد التي مارست القمع والقتل.
مثل هذه الطروحات المشبوهة تخدم النظام المخلوع وعملاءه، وليست سوى وصفة انتحار بقنبلة طائفية.
إضافة إلى ذلك، ومع وجود جيوب خارج سيطرة الدولة، سواء لأسباب قومية أو دينية أو بسبب محاولات التفاوض على تقاسم السلطة، فإن إنكار العامل الخارجي في تأجيج الصراع يعد ضربًا من السذاجة. فمن غير الممكن إغفال دور القوى الإقليمية والدولية في تغذية النزاع، إذ أن بعض الجماعات المتمردة لا تتحرك بدوافع مذهبية أو دينية فقط، بل تتداخل المصالح الخارجية مع الديناميكيات الداخلية، مما يجعل أي جهود محلية من جهة الدولة فقط لحل الأزمة غير كافية، إذ لا بد من وجود إرادة وطنية حقيقية لدى كل الأطراف في الجنوب من فصائل حوران، وفي السويداء من الفصائل الدرزية، وفي الساحل من العلويين، وفي الشمال الشرقي من الأكراد، ترفض أي تدخلات تعزز الانقسام وتُكرّس الفرقة بين أبناء الوطن، ومن دون ذلك فإن يد الحكومة وحدها لن تصفق للسلام المنشود.
ومن هذا المنطلق، تبرز أهمية السرعة في إعادة صياغة العقد الاجتماعي السوري على أسس المواطنة المتساوية، بحيث يكون الانتماء الوطني هو الرابط الأساسي بين أبناء المجتمع، وليس الهوية الطائفية أو العرقية. وهذا الأمر يستدعي بالضرورة إصلاحًا سياسيًا جادًا يتمثل في إعلان دستوري واضح وتشكيل حكومة شاملة تضمن مشاركة جميع المكونات من دون تمييز، فضلًا عن إعادة بناء المؤسسات لتكون محايدة وعادلة في تعاملها مع جميع المواطنين.
في النهاية، لا تقتصر محاربة الطائفية على مسؤولية جهة واحدة، بل هي مسؤولية المجتمع بأسره. كما أنه لا يمكن القضاء عليها بالقوة فقط، بل يجب أن يكون ذلك من خلال الفكر، والإعلام، والقانون، والتربية. وعندما يشعر جميع المواطنين أن القانون يحميهم، فلن يكونوا بحاجة إلى طوائفهم لحمايتهم. ما يعني أن تقوم المحاسبة على أساس الجريمة لا الهوية. فالطائفية لا تنمو إلا عندما تجد من يروج لها، ولذلك، يجب أن تخضع وسائل الإعلام والخطاب الديني والسياسة لضوابط صارمة تمنع التحريض الطائفي، فالتساهل مع هذا الخطاب يعني أن الفتنة ستجد طريقها إلى العقول التائهة والمستَفزَة.
ولعل خير مثال على ذلك ما حدث في ألمانيا، حيث أدى تجريم الخطاب العنصري بعد الحرب العالمية الثانية إلى تحجيم الفكر النازي ومنع تكرار الكارثة. وعلى غرار ذلك، فإن تحقيق السلم الأهلي في سوريا يتطلب خطوات جريئة على كافة المستويات، تبدأ بالاعتراف بالمشكلة، مرورًا بوضع حلول عملية وعادلة وسريعة، وليس انتهاءً ببناء ثقافة وطنية جامعة تتجاوز الانقسامات الضيقة.
وحده هذا النهج يمكن أن يضمن مستقبلاً مستقرًا للأجيال القادمة، ويمنع إعادة إنتاج دوامة العنف والانقسام التي يراهن عليها النظام السابق، كما تراهن عليها قوى إقليمية ودولية تسعى لإطالة أمد النزاع لتحقيق مصالحها، وتلك المصالح التي قد تكون المسافة إليها، أقرب إلينا من حبل الوريد.
المدن
——————–
السوريون وأحمد الشرع ولعنة “الكاريزما”/ إياد الجعفري
2025.03.03
في الأصل اليوناني لكلمة “Charisma” بالإنجليزية، بعد ديني. فهي تعني الموهبة. لكنها تشير إلى “التفضيل الإلهي” الذي يقف وراء منحها. وهي بالضبط الخاتمة التي تؤول إليها قناعة “القائد” الموصوم بـ “الكاريزمي”، حيال صفاته وقدراته الشخصية، وينجم عنها أثمان باهظة تدفعها الشعوب الخاضعة لحكم هذا “القائد”.
يحفل علم السياسة بالاختلاف في الموقف والتوصيف حيال دور “القائد الكاريزمي” في حياة الشعوب والأمم التي يقودها. وهناك تضاد كبير بين من يسبغ عليه إيجابية أكبر، مقابل من يصبغ عليه سلبية أكبر. إحدى أبرز المدارس في هذا السياق، تلك التي ترى مخاطر إسباغ صفة “الكاريزما” على “قائدٍ” ما، أكبر من الإيجابيات.
في مقدمة الجزء الأول من موسوعة “الحركات والأحزات والجماعات الإسلامية”، الصادر عن المركز العربي للدراسات الاستراتيجية بدمشق، مطلع هذا القرن، يرد تعبير ملفت -“النمط الكاريزمي الرسولي الآسر”-. استُخدم التوصيف في المرجع المشار إليه، بهدف الإضاءة على هوس حركات الإسلام السياسي بـ “القيادة الكاريزمية”. وهو هوسٌ مستمدٌ من أصول في الثقافة الغربية –الإغريقية بدايةً والمسيحية القروسطية تالياً-، وتحديداً، في الهوامش التي يختلط فيها الدين بالسياسة في مسعى قائدٍ ما لتعبئة جمهوره، أو بالاتجاه المعاكس، أي مسعى جانبٍ من جمهوره للذهاب بـ “القائد” إلى مرتبة أكبر من البشر العاديين.
قبل 3 سنوات، نشرت مجلة “كنعان”، قراءة ملفتة في كتاب، “قوة الكاريزما في زمن الثورة”، للأكاديمي الأميركي ديفيد بيل. ويتمحور الكتاب حول سؤال: “هل القيادة الكاريزمية من صنع القائد نفسه، أم مِن صُنع الذين اتبعوه واستلهموا منه؟”.
ووفق صاحب القراءة –الكاتب المصري، يحيى الطيب-، فقد برهن ديفيد بيل على حجته القائلة “إن الجماهير تُحب القادة الأقوياء الذين يحكمون باسمهم حتى من دون أن يعطي هؤلاء القادة أي سلطة أو قرار لتلك الجماهير”. وجاءت هذه البرهنة عبر دراسة نماذج تاريخية لقادة وُصفوا بـ “الكاريزميين”، ولعبوا أدواراً تاريخية في حياة شعوبهم، من بينهم، جورج واشنطن، ونابليون بونابرت، وسيمون بوليفار.
من الاستنتاجات المهمة لتلك الدراسة، الإشارة إلى دور وسائل الإعلام في تحويل “الكاريزما الشخصية” إلى ظاهرة سياسية جماهيرية. وإشارة أخرى إلى أن “كاريزما الشخصية” كانت عامل تهديد للديمقراطية “الناشئة” في الغرب، في القرن التاسع عشر.
في عام 2016، نشر المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، دراسة مطوّلة بعنوان: “القيادة الكاريزمية والتحول الديمقراطي، دراسة حالة (عبد الناصر – ديغول)”. وتخلص الدراسة إلى أن كلاً من الزعيم المصري الراحل، جمال عبد الناصر، والزعيم الفرنسي الراحل، شارل ديغول، استغلا زعامتهما “الكاريزمية” بغية التفرّد بالحكم دون منازع، لكن مع اختلاف جذري في كيفية الوصول إلى السلطة والتجربة الديمقراطية لشعبيهما، مما أثّر على مآلات كل تجربة، بصورة مختلفة. ففيما جاء جمال عبد الناصر إلى السلطة بانقلاب عسكري ضد المَلكيّة، حظي لاحقاً بتأييد شعبي كبير، وصل شارل ديغول إلى السلطة بطريقة ديمقراطية. وفي حين عرقل عبد الناصر عملية التحوّل الديمقراطي في مصر، عبر إلغاء الأحزاب وفرضِ رقابة صارمة على حرية الصحافة والرأي والتعبير، عمل ديغول على الحد من دور الأحزاب وحرية الإعلام، لكنه لم يستطع الذهاب في ذلك بعيداً، بسبب التراث الديمقراطي الفرنسي. إذ واجه ديغول معارضة شرسة منذ منتصف الستينات، أجبرته على تقديم بعض التنازلات بهذا الصدد. وكخاتمة، لم يتخلَ عبد الناصر عن السلطة حتى وفاته، وذلك رغم الأثر السلبي لهزيمة حزيران 1967 على مكانته الشعبية، في المقابل، حينما تصاعدت المظاهرات المناوئة لديغول، طرح استفتاءً أعلن أن نتيجته هي التي ستحدد بقاءه في السلطة من رحيله. وجاءت النتيجة في غير صالحه، فترك السلطة فوراً.
يوضح السرد السابق لأمثلة وأدبيات متعلقة بقادة “كاريزميين”، كيف أن الشعوب ذات التجارب الديمقراطية الراسخة، هي الأقدر على لجم “القائد الكاريزمي”، كي لا يتحوّل إلى الضفة السلبية من “الكاريزمية”. ففي الضفة الإيجابية من هذا التوصيف، تلعب “الكاريزمية” أدواراً إيجابية في وقتٍ ما، في توحيد الشعوب وإلهامها. كما أن طريقة وصول “القائد” إلى السلطة، تحمل أثراً كبيراً هي الأخرى، في خاتمة تجربته وأثرها على شعبه. أما أهم خلاصة لما سبق، أن الجمهور، وبالذات، مؤثريه وإعلامييه، يلعب دوراً خطيراً في دفع “القائد الكاريزما” إلى الضفة السلبية لهذا التوصيف.
في حالتنا بسوريا، نزعم بأن الرئيس أحمد الشرع بات قريباً من خطر الوقوع بـ “لعنة الكاريزما”، بالمعنى السلبي للتوصيف. فحالات التمجيد لشخصه تتزايد، وتتورط فيها وسائل إعلام ومؤثّرون ورجال دين من الطراز الرفيع أيضاً.
تقول المصادر، إن شارل ديغول، حالما تسلم مقاليد السلطة عام 1959، بدأ يتصرف وكأن العناية الإلهية هي التي اختارته لإنقاذ فرنسا من نفسها، كما سبق واختارته لإنقاذها من ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية. تلك القناعة، هي الخطر الذي يحيق بحاضر سوريا ومستقبلها، إن باتت راسخة في ذهن الممسك بزمام أمرها، اليوم. وفيما لجم الفرنسيون بتراثهم الديمقراطي الراسخ، نوازع ديغول السلطوية وحدّوا من آثارها السلبية على مستقبل بلادهم، لا يتوافر لدينا في سوريا، ثرات مشابه من الحراك الديمقراطي الشعبي القادر على لجم النوازع السلطوية المتشكّلة لدى أحمد الشرع. مما يجعل خطر “النمط الكاريزمي” للقيادة أكبر من إيجابياتها. وفي ذلك، يتحمّل المسؤولية الأساسية، أولئك الممجّدون للحاكم الجديد، وخاصة منهم، من يصبغون صبغة دينية على مبررات دعمه.
تلفزيون سوريا
———————————–
السلطات السورية الجديدة ومبررات الحفاظ على العلاقات مع روسيا/ طه عبد الواحد
2025.03.03
عاد الجدل حول العلاقة بين دمشق وموسكو بعد سقوط نظام الأسد إلى الواجهة مجدداً، وذلك عقب نشر وكالة أنباء تقريراً نقلاً عن مصادر حول القضايا التي جرت مناقشتها خلال محادثات الرئيس السوري أحمد الشرع، مع ميخائيل بوغدانوف، الممثل الخاص للرئيس الروسي لشؤون الشرق الأوسط، في أثناء زيارته دمشق على رأس وفد رفيع المستوى في نهاية شهر كانون الثاني الماضي.
إن تعبير كثيرين عن عدم الرضا إزاء الميول الإيجابية التي أبدتها السلطات السورية الجديدة فيما يخص العلاقة مع موسكو يُعد أمراً طبيعياً، بالنظر إلى الدور الذي لعبته روسيا في دعم الأسد خلال السنوات الماضية. إلا أن مرحلة ما بعد سقوط الأسد، وتولي الإدارة العسكرية زمام الأمور، في وقت تحتاج فيه سوريا إلى كل دعم إقليمي ودولي ممكن، دفع السلطات إلى اتخاذ قرارات لا تحظى بتأييد واسع على المستوى العام. ومع ذلك، يرى بعضهم أن هذه القرارات مصيرية، نظراً لتأثيرها المباشر على المرحلة الحالية، وعلى عملية بناء الدولة السورية واستعادة موقعها ومكانتها إقليمياً ودولياً.
خيارات السلطات الجديدة للعلاقة مع روسيا
عند اتخاذها القرار بإطلاق عملية “ردع العدوان”، وجدت الإدارة العسكرية نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما فيما يتعلق بالتواجد العسكري الروسي على الأراضي السورية: إما مهاجمة تلك القواعد، أو تجنبها وترك الأمر لما بعد التحرير. وكانت تدرك أيضاً أن لكل خيار نتائج وتداعيات سيتعين التعامل معها لاحقاً.
الخيار الأول: استهداف القواعد الروسية والمواجهة المفتوحة مع روسيا
كان بوسع فصائل المعارضة، في أثناء تقدمها نحو دمشق بالتزامن مع اختراقها عمق طرطوس واللاذقية، أن تهاجم القواعد الروسية هناك. لكن من الواضح أن هناك إدراكاً بأن مثل هذه الخطوة لم تكن لتمر من دون تداعيات خطيرة، وربما مصيرية، على مسار العمليات العسكرية.
وأقل ما يمكن قوله في هذا السياق، هو أنه لو تدخلت روسيا مجدداً في المواجهة، فإن الفصائل كانت ستنجر إلى “معركة جانبية”، تستهلك جزءاً كبيراً من قواتها الفاعلة، وتؤدي إلى تعطيل تحقيق الهدف الرئيسي لعملية “ردع العدوان”، وهو إسقاط النظام. وفي أسوأ السيناريوهات، كان فتح مواجهة مع روسيا سيشكل تهديداً حقيقياً لاستمرار معركة التحرير ضد النظام.
استبعاد خيار “المواجهة” مع روسيا منذ الأيام الأولى لعملية “ردع العدوان”
لا أحد يعرف بدقة ما الذي جرى وكان يجري قبل وخلال الأيام الأولى لعملية “ردع العدوان”، فيما يخص مسألة خيارات التعامل مع الوجود العسكري الروسي في مختلف المدن السورية. لكن الواضح أن إدارة العمليات كانت قد حددت مسبقاً أن الهدف من العملية هو التقدم تدريجياً حتى الوصول إلى دمشق، والإطاحة بنظام الأسد، وعدم الدخول في أي معارك جانبية، الأمر الذي تطلب “تحييد” الدور الروسي.
وتؤكد على ذلك تصريحات أدلى بها أحمد الشرع في 15 ديسمبر لوسائل الإعلام من دمشق، عن العلاقة مع روسيا، حيث كشف حينها أن “إدارة العمليات حاولت موازنة الأمور مع الروس أثناء المعارك”. وأضاف أن “الإدارة العسكرية” أرسلت إلى روسيا رسائل عبر وسطاء بأن ضرب قواعدها وارد، لكنها تفضّل إعطاء فرصة للطرفين من أجل بناء علاقة جديدة”.
ولم تكن تركيا بمنأى عن جهود تحييد الدور الروسي عن المعركة، إذ وصف وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، السياسة التي اتبعتها روسيا خلال تغيير السلطة في سوريا بالعقلانية، وقال: “كان لدى الروس القدرة العسكرية للرد وكان بإمكانهم استخدامها، لكنهم قرروا عدم القيام بذلك. وكانت لدينا اتصالات مكثفة بشأن هذه المسألة. والحقيقة أنهم تصرفوا بعقلانية”. وأضاف أن روسيا “لم تتدخل أثناء سقوط دمشق”.
ما هي مصلحة سوريا في عدم التصعيد مع روسيا؟
تحييد احتمالات الانخراط الروسي في المواجهات سمح لفصائل المعارضة، التي كانت تتحرك في وضح النهار على شكل أرتال طويلة من السيارات المحمولة من دون غطاء جوي، بمتابعة تقدمها نحو دمشق من دون أن تتعرض لقصف جوي أو صاروخي. فضلاً عن أن الفصائل، بفضل هذا القرار، لم تضطر إلى تشتيت قواها، ولم تنجر إلى معركة جانبية تعطل، أو ربما تحول بشكل تام دون إمكانية المضي نحو تحقيق الهدف الرئيسي للعملية، أي الوصول إلى دمشق لإسقاط النظام.
سياسياً، من الواضح للجميع أن سوريا المنهكة بعد إسقاط النظام ليست بحاجة إلى قرارات تؤدي إلى خلق أعداء، لا سيما وأن الحديث يدور حول دولة عضو دائم في مجلس الأمن، هي روسيا، التي تربطها في الوقت نفسه علاقات طيبة مع حلفاء رئيسيين للسلطات في دمشق، وفي مقدمتهم تركيا وعدد من دول الخليج العربي.
في الوقت نفسه، فإن عدم إغلاق الأبواب مع موسكو، وسط المشهد الدولي المعقد، يمنح دمشق قدرة على المناورة، بحيث لا تجد سوريا نفسها رهينة لعلاقاتها مع الغرب، الذي لم تكن انعطافته نحو دمشق بعد التحرير خالية من الإملاءات، سواء على صعيد السياسة الداخلية لسوريا وكيف يجب أن تكون، أو على صعيد السياسة الخارجية للدولة.
على الجانب الآخر، تعاملت روسيا مع الوضع الجديد بواقعية، بما في ذلك على لسان الرئيس بوتين، حين قال في حديثه حول مصير القواعد الروسية في سوريا: “إذا بقينا هناك، فهذا يعني أنه يتعين علينا أن نفعل شيئاً لمصلحة البلد الذي نتواجد فيه. ما هي المصالح التي ستعود علينا، وما الذي يمكننا أن نفعله من أجلها، هذا هو السؤال الذي ينتظر بحثاً من الجانبين”.
كما تحاول موسكو التأكيد على تفهمها للصعوبات التي تواجهها السلطات في دمشق، وتعبر عن موقف داعم للموقف السوري في قضايا مصيرية، وفي مقدمتها وحدة الأراضي السورية، ورغبة السلطات السورية في استقرار الوضع في البلاد. وكان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قد عبر مؤخراً عن رفض بلاده “الأفكار الانفصالية التي تم تغذيتها في سوريا في ظل الإدارة الأميركية السابقة”، في إشارة إلى “قسد” والدعم الذي تتلقاه من الأميركيين، محذراً من أن هذه النزعة “قد تؤدي إلى حرب كبرى في المنطقة”. وقال إن سوريا لم تعد تريد أن تكون أرضاً تُحلّ عليها المشكلات الجيوسياسية للاعبين الخارجيين.
تلفزيون سوريا
————————-
اجتثاث الأسديَّة قانون ننتظره أم ثقافة نرسخها؟/ أحمد جاسم الحسين
2025.03.02
قبل مرور أقل من مئة يوم على انتصار الثورة السورية، بدأ عدد كبير من “الأسديّين” بالإعلان عن صوتهم، واجتراح الأسباب لمناصرتهم للنظام المخلوع، من مختلف الشرائح السورية، والحديث عن سياقات علاقاتهم به وتسويغها، من دون اعتذار، أو أيّ شعور بالذنب، أو تفهّم لأرواح الضحايا، بل إن هناك عدداً منهم لا يزال يدافع عن الرئيس المخلوع ونظامه، بحجة تعدّد الآراء أو الحرية أو الديمقراطية وأهمية تفهم ضرورات التنوع السوري، مستفيدين من فترة فراغ في السلطة السورية وعدم وجود آليات ناظمة للفضاء العام، أو وجودهم خارج البلد أو جسّ نبض السلطة الحالية تجاههم!
وأبرز ما نجده في هذا السياق هو “البودكاست مع كل من سلاف فواخرجي وباسم ياخور”، حيث وجد كثير من السوريين في مقابلة سلاف فواخرجي مثلاً وقاحة وقلة أدب تجاه التضحيات السورية. مما جعل كثيراً منهم يتساءل عن الحلول مع هذا النوع من الأشخاص ضمن الأطر القانونية، وطرحت عدة أفكار من مثل: منعها من دخول البلد، الصمت، الاعتذار، التبرع بجزء من مالها للضحايا، المحاكمة.
وقد سرّع مثل هذا النوع من التصريحات، وكذلك التكويعات السريعة لعدد من مجرمي النظام السابق مثل محمد سيلمان ومحمد الشعار وقد شغلا مهمة وزير سابقاً، فكرة “اجتثاث الأسدية” كأحد الحلول لمحاكمة إرث النظام السابق، كي تكون رادعاً لمنكري الجرائم التي سبق ارتكابها، ولتمشي مسيرة البلد إلى الأمام.
وكي لا تكون المواطنة في المرحلة القادمة قائمة على تجاوز جرائم المرحلة السابقة، خاصة أن الضحايا المباشرين أو ذويهم لا يزالون على قيد الحياة ولم تجف دماؤهم بعد. وتعد هذه الخطوة جزءاً من العدالة الانتقالية التي عادة ما تكون جزءاً من مراحل ما بعد النزاعات الأهلية، والعدالة الانتقالية تعني وفقاً لأدبيات الأمم المتحدة: الاعتراف بالضحايا، وتعزيز ثقة الأفراد في مؤسسات الدولة الجديدة، وتدعيم احترام حقوق الإنسان وتعزيز سيادة القانون، كخطوة نحو المصالحة ومنع الانتهاكات التي يمكن ان تحصل من الضحايا دون العودة إلى القانون، وقد كانت العدالة الانتقالية إحدى أبرز مخرجات مؤتمر الحوار الوطني.
تقنياً، آليات اجتثاث منظومة إجرامية أو تشبيحية سابقة كحالة اجتثاث الأسدية تعدّ مهمة قانونية، يمكنها أن تسترشد بالتجارب العالمية، ولدى السوريين خبرات كبيرة بتجارب الشعوب الأخرى في هذا السياق، وبات لدينا نفر كبير من الصبايا والشباب السوري الذي حصل على شهادات عليا في مجال ما بعد النزاع.
أما من جهة تاريخية واجتماعية وفكرية فإن دور المفكرين والباحثين وأساتذة الجامعات والإعلاميين لاغنى عنه في التركيز على دور اجتثاث إنكار الجرائم بحق الشعب، وعليه فإن الحديث بداية عن مفهومه وضروراته وأهدافه والوعي به، وأنه لا يعني الانتقام بقدر كونه جزءاً من علاج المجتمع السوري لنكباته الكثيرة والطويلة، وأنه ليس موجهاً ضد طائفة أو عرق أو اتجاه سياسي أو شرحية اجتماعية.
ويقصد بالأسدية، في إطار تعريف أولي، كل من سوّغ أو أسهم بجرائم الأسد في تاريخ سوريا وخاصة في مرحلة الثورة السورية ممن قام بارتكاب جرائم بنفسه أو أعطى الأمر بها أو سوغها، أو دعا إلى إبادة مدن سورية عبر منشوراته، أو أفاد عبر صفقات من النظام السابق من دون جوه حق، أو شغل موقعاً من المواقع السيادية التي أسهمت بتمكين النظام السابق.
فيما يميل كثيرون إلى اعتبار ضرب السوريين بالسلاح الكيماوي فاصلاً رئيسياً بين مرحلتين. في حين يرى رأي آخر أن الاجتثاث يجب أن يقع على من لا يزال متمسكاً بذلك النوع من التفكير، أما من اعتذر أو تراجع من دون أن يكون مجرماً فيمكن التعامل معه بطريقة مختلفة. ولعلّ استمعال مصطلح “الأسدية” نوع من محاولة عدم تطييف الاجتثاث كي لا يكون موجهاً لشريحة بعينها أو طائفة ما، بل يشمل كل من كان جزءاً فاعلاً من تلك “الأسدية” من مختلف الطوائف والمحافظات.
كثير من “الأسديين” اليوم يحاولون الهروب من فكرة تبنيهم للأسدية بالقول: هؤلاء ليسوا أفضل من أولئك! وهو يريد أن يقارن بين السلطة الحالية -التي هي كما أي سلطة لديها أخطاؤها- غير أن هذا التسويغ غير جائز بالمفهوم الحِجاجي لأن المقارنة لا تكون مع سلطة أمر واقع بل تكون مع القيم والقوانين السائدة ومدى الامتثال إليها.
المخيف في مثل هذا النوع من الاجتثاث، كما يرى باحثون، هو أن يصبح أداة في يد السلطة لقمع معارضيها أو من تختلف معهم، أو ملعباً انتخابياً يبرز دوره لاحقاً، أو قد يصبح مثل “محكمة أمن الدولة” الشهيرة في سوريا ذات الصيت السيء في قمع المعارضين إذ كانت تفصل الأحكام تبعاً لما يريده النظام حيث تغدو تهمة “إضعاف هيبة الدولة” حجة صالحة لأي نوع من أنواع القمع.
في أدبيات الاجتثاث تحضر تجربتان كبيرتان: واحدة ذات سمعة سيئة، وهي تجربة اجتثاث حزب البعث في العراق حيث تم توظيفها بطريقة انتقامية واستهدفت شرائح اجتماعية معينة، وواحدة أخرى تعد ناجحة وهي تجربة اجتثاث النازية. ولعل التجربة الألمانية مفيدة في السياق السوري نظراً لأن الأسدية تقترب منها في نقاط عدة منها: تسويغ القتل والكراهية والسماح لضباط الأمن والعسكر بقتل الناس من دون سند قانوني، ووجود مثقفين وإعلاميين وبرلمانيين وأساتذة جامعات دعوا للإبادة وقتل السوريين شركاء الوطن.
فكرة اجتثاث الأسدية قد تكون خياراً ملائماً للوضع السوري نظراً لأن النظام المخلوع في عهد الأسدين بقي أكثر من نصف قرن، وبالتالي نشأ جيلان في عهده، وهذا يسهل كونهم ضحايا على مستوى الوعي، لنظام استبدادي، وبالتالي فإن الاجتثاث لا يعني السجون والمحاكمة فحسب، بل خطة فكرية لتوعية المواطن السوري عامة والأسدي خاصة بالمفاهيم الصحيحة للتعامل بين البشر وفقاً لقوانين حقوق الإنسان والقوانين الدولية المعنية بالأمر.
ويمكن أن نشير في إطار مناقشة ما قالته سلاف فواخرجي إلى أحد ممن عرفها في مرحلة شبابها أنها كانت إنساناً طبيعياً تحضر محاضراتها الجامعية وتحرص على الالتزام بالقيم التربوية، وكانت إنسانة خجولة ومحترمة، لكنها اليوم في إطار غسيل الدماغ الأسدي، أو المصالح، أو البحث عن دور، باتت تتحدث في الإعلام عن تسويغات محددة وبالتالي، هي ضحية وعيها الذي تشكل لاحقاً، أو ضحية البحث عن مصالحها التي تقاطعت مع النظام السابق بحيث ارتبطت هي وعائلتها بعلاقات شخصية مع النظام المخلوع، من هنا فإن اجتثاث الأسدية لا يعني الجانب القانوني فحسب بل كذلك الجانب النفسي والفكري يحتاج إلى معالجة ومناقشة.
التجربة الهولندية في هذا المجال مهمة ولديهم أكثر من حالة يمكن أن يستضاء بها ما يتعلق بالزنوج وما يتعلق بتجارة البشر. فقد شكلت لجان علمية بحثت في الأمر ووصلت إلى النتائج المرجوة، إذ تركز تلك التجربة من أجل أمان المجتمع ليس على فكرة السجن فحسب؛ بل كذلك على المعالجة النفسية والاجتماعية والفكرية.
تشير فكرة الأدلجة أو الدفاع عن اتجاه ما أو نظام أو مجرم والتماهي معه إلى أسباب عدة: تقاطع في المصالح، أو ممارسة السلطة، أو قصور في الوعي، أو التخويف من القادم، أو مرض نفسي ما.
وفي الوقت الذي يدعو فيه سوريون لاجتثاث الأسدية فإن هناك من يدعو لتكريس للتسامح مع الأسدية وعدها مفرزاً سورياً طبيعياً، ومن ذلك بيان صدر قبل أيام لتجمع سوري معارض للسلطة الحالية من داخل دمشق نص حرفياً: “يعتبر شهيداً كل من قضى من أجل سورية من كلا الطرفين المتصارعين منذ أحداث 2011، إذ لا يمكن إنجاز المصالحة إلا بعد العفو والمسامحة التي تشكل حجر الأساس لإعادة الإعمار في البشر والحجر ويمكننا استلهام تجارب مصالحات الحروب الأهلية في رواندا والجزائر وجنوب أفريقيا على سبيل الاستئناس بها في عملية المصالحة بين السوريين”
ربما البيان فيه استباق للمحاكمة المتوقعة لأحد مسؤوليه الرئيسيين الذي دعا من قبل لإبادة مدينتي “دوما وإدلب”! ومن الملفت الإشارة إلى أن الأسديين أنواع: أسديون واعون وقد أفادوا من الأسديين، وأسديون بسطاء يملأ الرعب قلبهم، ويحاربون طواحين الهواء، وأسديون ساذجون، وأسديون خائفون وأسديو الجكارة ضد السلطة الحالية لأنها لا تمثلهم!
هناك أسئلة عدة تبقى قيد النقاش ضمن ” اجتثاث الأسدية” ما هي حدود الزمن الماضي الذي سننظر إليه؟ وما هي المعايير؟ ومن هم الأشخاص المعنيون بالاجتثاث؟
فكرة اجتثاث الأسدية وقوانينها وثقافتها تحتاج إلى ندوات وتقاطعات ونقاش عبر الفضاء العام كي يتم بلورتها، من دون أن تكون أداة انتقام أو أذى لأشخاص ليسوا جزءاً منها، وما هذه السطور إلا أحد مفاتيح الحديث عن ضرورة حدوثها كجزء من تحقيق العدالة الانتقالية وأخلاقيات سورية مأمولة كجزء من أخلاقيات حقوق الإنسان.
تلفزيون سوريا
—————————
التصوّرات الإيرانية للتحوّلات الإقليمية الجديدة/ محمد أبو رمان
02 مارس 2025
تعرّض النفوذ الإيراني الإقليمي لضربات قاسية وشديدة في العامَين الماضيَين، منذ الحرب الإسرائيلية على غزّة، مروراً بالضربات القاسية التي تعرّض لها حلفاء طهران، بخاصّة حزب الله وبشّار الأسد، وصولاً إلى عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وما يحمله هو وفريقه من اتجاه تصعيدي، يبدأ بخنق إيران اقتصادياً، ويمرّ بإضعاف نفوذها في العراق، وقد يصل إلى مستوى الضربة العسكرية القاسية.
يتمثّل السؤال المهم في مواقف النخب السياسية الإيرانية واتجاهاتها في إدراك الواقع الجديد وتحليل التأثيرات الاستراتيجية على الأمن القومي الإيراني. خلال الحوارات واللقاءات والتصريحات المختلفة، نجد أنّ موقف الاتجاه المحافظ في طهران يراوح بين مستوى الإنكار ورفض التعرّض لهزيمة إقليمية، ويرى أنّها مرحلة مؤقتة ولن تدوم طويلاً، وبين مستوى محاولة التكيّف والتأقلم مع المتغيّرات الجديدة وتخفيف حجم الخسائر السياسية، وربّما الجملة المفضّلة التي تسمعها من سياسيين إيرانيين في محافل فكرية وسياسية عديدة هي: “ننتظر ونراقب ما الذي سيحدُث، سواء على صعيد سورية أو على صعيد المنطقة أو العراق”، وتجد هنالك قناعة لدى سياسيين إيرانيين عديدين بأنّ تركيا اليوم ستواجه تحدّيات كبيرة كانت تواجهها إيران خلال المرحلة السابقة.
أمّا سقوط نظام بشّار الأسد، وتبرير وقوف طهران إلى جانبه في الفترة الماضية، فيفسّره هذا الاتجاه بأنّه مرتبط بمواجهة مؤامرة صهيونية أميركية، لكن الأسد (في العام الأخير من حكمه) بدأ يأخذ مسافةً كبيرة من طهران، ولم يعد يسمع للإيرانيين، ويفضّل التعامل مع الروس. ولما بدأ الهجوم عليه من هيئة تحرير الشام لم يقاتل جيشُه، ولم يكن بوسع المليشيات الموالية لطهران أن تقاتل أو تدافع عن نظام بات في مرحلة الانهيار المُحقّق، فهي معركة خاسرة.
وبالرغم من الإقرار بخسارة نظام الأسد، تقرّ نخبٌ سياسيةٌ إيرانية (محافظة) بأنّ خسارة سورية استراتيجية لطهران، لكن الأسد نفسه كان عبئاً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً على إيران، وأدخلهم في مشكلاتٍ إقليمية عديدة، ولم يكن هذا التدخّل موضع ترحيب لدى الرأي العام الإيراني، ومن ثم، ليست المسألة خسارةً مطلقةً، بل نسبية، ويمكن أن تشكّل فرصةً لتحالفات إقليمية تدخل فيها طهران مع أنقرة والسعودية لضمان الأمن الإقليمي، في مواجهة التغوّل الإسرائيلي.
الخشية الكبيرة لدى طهران اليوم من أن يكون العراق، وحتى إيران نفسها، هما الحلقة المقبلة في اللعبة الإقليمية. ويرى سياسيون إيرانيون أنّ خسارة سورية أو حتى إضعاف حزب الله لا يمثّلان تهديداً وجودياً لإيران (Existential Threat)، لكنّهم يعدّون استهداف طهران بأيّ ضربة عسكرية بمثابة تهديدٍ حقيقي، والعقوبات الاقتصادية إذا وصلت إلى حدّ خنق إيران بالكامل، كما الحال عند تطبيق العقوبات الجديدة، أمر يعني أنّ إيران ستكون مستعدّة لخوض حرب، وفي حال كانت الضربة لإيران من القواعد الأميركية العشر في المنطقة، لن تتردّد طهران في مهاجمة هذه القواعد، التي انطلقت من إحداها الطائرات التي استهدفت قاسم سليماني، الزعيم التاريخي لفيلق القدس وقتلته، قبل خمسة أعوام.
إلى أيّ مدى طهران مستعدّة لمثل هذه الحرب العسكرية، في وقتٍ ترى فيه تقارير أمنية غربية أنّ الضربة الإسرائيلية أخيراً قضت بصورة كبيرة على منظومة الدفاع الجوي الإيراني؟… ينكر المحافظون الإيرانيون ذلك، ويحذّرون من أن قوّة إيران الحقيقية لم تُختبَر بعد.
في الجهة الأخرى، تحاول الشخصيات السياسية المقرّبة من التيّار الإصلاحي أن تتبنّى مقاربةً براغماتيةً، ذات أبعاد متعدّدة، سواء على صعيد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان ونائبه للشؤون الاستراتيجية جواد ظريف، اللذين يحاولان تجنّب المواجهة مع إدارة ترامب على الصعيد الدولي، من خلال مقايضة المصالح الاقتصادية بمفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني، وعلى الصعيد الإقليمي بالتعاون مع السعودية وتركيا لبناء شبكة مصالح استراتيجية إقليمية، وعلى الصعيد الداخلي الإيراني باستثمار ما يحدث لمواجهة التيّار المحافظ وتحقيق انتصارات سياسية داخلية عليه.
واضح أن ما تمرّ به إيران اليوم مرحلة جديدة بالكلّية، ليس على صعيد إقليمي أو حتى دولي فقط، بل على صعيد المعادلة الداخلية، بعدما تصاعدت الشقوق الداخلية والانقسامات حول شرعية النظام والكلفة التي دفعها بسبب السياسات الإقليمية، فضلاً عن بروز نماذج إسلامية متنوّعة ومتعدّدة في المنطقة، أكثر براغماتية وواقعية وتنوعاً من النموذج الإيراني.
العربي الجديد
—————————————-
دمشق ــ بيروت: العلاقات الصعبة/ فايز سارة
2 مارس 2025 م
ثمة قطبة مخفية في العلاقات السورية – اللبنانية، تؤكد ضعف القدرة على تفسير واضح ومقبول لمشهد بؤس وتدهور العلاقات بين البلدين الموصوفين بـ«الشقيقين» على نحو ما درج الوصف في تصريحات وأقوال أغلب المسؤولين ورجال السياسة في البلدين، بل وفي أوساط شعبية واسعة.
واقع التطورات السياسية التي حدثت في البلدين وحولهما في الأشهر الأخيرة، يفرض تقارباً بينهما في المستويين الرسمي والشعبي. فقد تخلص البلدان من انسدادات ومشاكل سياسية وأمنية، كانت احتمالات الخلاص منها بعيدة جداً، وإن كان لها أن تحصل، فإنها لن تحصل إلا وسط أنهار من دم أهلي، ستبقى آثارها وتداعياتها طويلاً في واقع البلدين وفي أرواح سكانهما، لكن الأمور انقضت بطريقة سهلة في سوريا، حيث قامت فئة صغيرة من المسلحين بإسقاط نظام الأسد، وإحلال نظام جديد مكانه، وجرت تصفية أجهزة القتل والسيطرة الأسدية من حزب البعث ومنظماته الشعبية، إضافة إلى قوات جيش الأسد ومخابراته، وتم إخراج قوات الاحتلال الروسي والإيراني والميليشيات الطائفية من البلاد بأقل الخسائر البشرية والمادية، بخلاف فاتورة القسوة التي فرضها التغيير في لبنان، والتي كانت إسرائيل الفاعل الرئيسي فيها، وقد كلفت لبنان وبعض مناطق فيه خسائر بشرية ودماراً مادياً كبيرين، وكان من نتائجها إعادة ترتيب خريطة سيطرة القوى المسلحة والقوى السياسية، وتم حل مشكلة الرئاسة المستعصية وتأمين انتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة بدلاً من حكومة تصريف الأعمال، وانتهت مشكلة ثنائية السلاح في لبنان، وحصر الشرعي منه بيد الجيش اللبناني الذي أعيد تأكيد مكانته، وحق انتشاره على عموم الأراضي اللبنانية.
لقد ضربت التحولات السورية اللبنانية الأخيرة قواعد السيطرة الأسدية على لبنان، وكان من تعبيراتها سيطرة «حزب الله» وحلفائه على لبنان عبر مشاركته في السلطة من جهة، وإقامة كيان مواز للحزب من جهة ثانية، والتعبير الآخر يمثله جلب «حزب الله» وميليشيات أخرى للقتال إلى جانب الأسد في سوريا، وتنظيم وتنفيذ سياسات اضطهادية ضد اللاجئين السوريين في لبنان، بما فيها قتل واضطهاد واعتقال كثيرين منهم، وتسليم بعضهم لنظام الأسد، بما يوازي سياسة الإذلال التي يتابعها الأسد في سوريا، وكله كان يجري تحت سمع وبصر وبمشاركة قطاع من اللبنانيين الذين صاغت حكومتهم موقفها من الحرب في سوريا بـ«إعلان النأي بالنفس»، الذي جسد عملياً خضوع الأخ اللبناني لأخيه الكبير القابض على السلطة في دمشق.
لا يختلف السوريون واللبنانيون في تقدير أهمية ما جرى في البلدين وأثره على تحول إيجابي في مسار علاقات دمشق – بيروت، التي صدرت على لسان المسؤولين فيها تصريحات «إيجابية» خجولة ومحدودة، لكنها بقيت دون ترجمة عملية مثل معالجة قضية المعتقلين السوريين في السجون اللبنانية، وتسهيل حركة العابرين على الحدود المشتركة، مما يولد أسئلة لا أجوبة مباشرة لها، إلا بالعودة إلى بعض من إرث تاريخي وسياسي في علاقات البلدين والشعبين.
ففي الإرث التاريخي، ولد لبنان من الخاصرة السورية ضمن واقع جغرافي سياسي، له روابط اقتصادية واجتماعية وثقافية مع الشقيق الأكبر، وله حدود برية مفتوحة حصراً على الأخير وعبره نحو العالم، ساهمت في تأسيس أشكال من الإملاءات والاستجابات في مسار العلاقات الثنائية والعلاقات الإقليمية، التي شهدها القرن الماضي بعد ولادة واستقلال الدولتين.
وباستثناء ما حمله الإرث التاريخي من نزعة هيمنة سورية على لبنان، توازي مساعي الأخير نحو الاستقلالية، فقد تزايدت مساعي السلطات السورية باتجاه السيطرة على لبنان وإعادة هيكلته بما يتوافق مع احتياجات سياساته ومتطلباته، وكان احتلال القوات السورية لبنان عام 1976 فرصة مثالية في هذا الاتجاه، فأنجزت تغييرات جوهرية في البنية السياسية والاقتصادية الاجتماعية، وصار لبنان نموذجاً مشوهاً من سوريا، هدفه القيام بدور متنفس سياسات العهد الأسدي.
إذن أطلقت يد نظام الأسد للعبث في كل الشؤون اللبنانية وصولاً إلى تغيير شامل فيها، ورغم أن العملية تمت في أساسياتها في العهد الأسدي الأول عقب استيلاء حافظ الأسد على السلطة ما بين 1970 و2000، فإن بعضاً من تلك السياسة ظهرت وطبقت في عهود بعد الاستقلال، واستكملت بعض جوانبها في عهد الوريث بشار الأسد ما بين 2000 – 2024.
لقد ولد نظام الاستقلال اللبناني على أرضية تفاهم قادة المكونات حول اقتسام السلطة وتداولها من خلال نظام برلماني، وتوفير حريات سياسية واجتماعية وإعلامية واسعة، ونظام اقتصادي حر وانفتاح، مثلت جميعها نموذجاً متمايزاً عن نظام الاستقلال السوري الذي غرق مع نشأته في صراعات آيديولوجية وسياسية داخلية – خارجية، سرعان ما امتدت إلى المؤسسة العسكرية، التي أصبحت قوة حاضرة في الصراع على السلطة مع الانقلاب الأول عام 1949، واستمرت متلاحقة على مدار عقود تلت.
واستطاعت القوة العسكرية أن تعيد بناء الدولة والمجتمع في سوريا وفق تصوراتها ومصالحها، وهو ما حملته إلى لبنان وفرضته هناك بعد التدخل في لبنان عام 1976، وأجرت تغييرات جوهرية في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حتى صيروة لبنان نموذجاً مشوهاً عن سوريا، قادراً على القيام بدور ساحة تنفيس وتنفس سياسات العهد الأسدي.
خلاصة القول، أن سوريا ولبنان صارا إلى نظام متشابه مع فروقات نسبية، مستمدة من اختلافات لها مبرراتها، أدت مع أسباب غيرها إلى تماثل بين البلدين ونخبتهما، ورغم انهيار النظام فيهما وسقوط القسم الفاعل في نخبتهما الحاكمة، فإن العهدين الجديدين في سوريا ولبنان، لم يستوعبا بعد ضرورة الخروج من العلاقات القديمة بين البلدين، والذهاب إلى نموذج أفضل نتيجة الظروف الجديدة. علينا أن ننتظر بعض الوقت فحسب!
الشرق الأوسط،
—————————
سوريا الفقيرة/ حسام عيتاني
الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لا تظهران اهتماما برفع العقوبات سريعا
آخر تحديث 04 مارس 2025
يمكن الحديث طويلا عن تدمير نظام “البعث” للمجتمع السوري وقضائه على النخب الثقافية والسياسية والاقتصادية. 62 عاما من حكم حزب شمولي دموي، تولى خلال 54 منها السلطة حافظ الأسد وابنه بشار اللذان جسدا كل مصائب الحكم العصبوي المتفلت من كل الضوابط والقوانين، و”توجت” بثورة وحرب استعرض فيها الأسد الابن كل فنون البطش والقمع واستدعاء التدخل الأجنبي، ما كانت لتمحى آثارها فور سقوط الطاغية.
على خلفية الدمار العميم في المجتمع وحالة التجريف التي افتعلها نظام الأسد، تبدو حالة الفقر الشديد في غنى عمن يشرح ظروفها وأسبابها والتركة التي خلفتها على عملية تسيير شؤون البلاد. بل إنه لا مفر من التساؤل عن أي قانون تسعى السلطة الحالية إلى تنفيذه عندما تطرح مشكلة “البؤر الخارجة على القانون”. وهل القانون الذي كان سائدا أثناء عهد “البعث”، ما زال قابلا للتطبيق؟ ثم هل ما اعتاد عناصر أجهزة المخابرات السورية ومن انضوى تحت جناحهم، من ممارسات وجرائم يومية، يشكل ما يصح وصفه بالقانون بحكم الاستدامة والعادة؟
عودة النشاط الاقتصادي إلى حالة شبه بدائية من نقل المزروعات إلى الأسواق لعرضها وبيعها مع بعض المنتجات النسيجية والحرفية، في ظل سيادة النقد (الكاش) والغياب التام للنشاط المصرفي الذي يفترض أن يصب في إطار إعادة الحياة إلى دورة اقتصادية منتجة وحديثة، يترك الوضع في حالة أشبه باقتصادات القرون الوسطى. ويطغى حديث عن مساعدات وهبات ترتبط كلها بمنع الوصول إلى المجاعة من دون أن تستطيع المساهمة في البدء في عملية تراكمية تفسح المجال لاستئناف الإنتاج.
يضاف إلى ذلك أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، المعنيين مباشرة بالعقوبات المفروضة على سوريا منذ 2011، لا تظهران اهتماما برفعها سريعا مع إدراكهما لكل التبعات التي قد تنجم عنها والتي بدأ بعضها يطل برأسه مثل تدهور الوضع الأمني، مثالا لا حصرا.
بديهي أن الخواء هذا لم يقف عند حدود مستوى المعيشة الباقي على انخفاضه. فتجويف المجتمع على أيدي “البعث” والأسد، والقضاء المنهجي على كل مظهر من مظاهر الوعي السياسي حتى لو انسجم مع سرديات الحزب الحاكم، ترك البلاد أسيرة فقر ثقافي أشبه بالتصحر الكامل. والشيء بالشيء يذكر، أنه لا يمكن فهم ظاهرة “الدراما السورية” وأثرها على السوريين، من دون وضعها في سياق التصحر الثقافي الشامل في “سوريا الأسد” وهو الذي صنعه النظام الآفل عن سابق تصور وتصميم. فظهرت “الدراما” كبديل عن كل نشاط ثقافي آخر.
التصحر ظهر جليا في “مؤتمر الحوار”. في طريقة إعداده الأقرب إلى التحضير لورشة عمل من صنع منظمة غير حكومية. وفي أسلوب الدعوة إليه ومستوى المدعوين الذين كان من بينهم عدد من أبرز “شبيحة” بشار الأسد وكتبة التقارير لأجهزته المخابراتية ومن شاكلهم وشابههم.
آخر ما أعلن في هذا الباب هو تشكيل اللجنة المولجة وضع الإعلان الدستوري الذي يفترض أن يُعمل به في الفترة الانتقالية بعد إلغاء القانون المعتمد منذ 2012. كثر من السوريين احتجوا على أسماء أعضاء اللجنة الذين جاءوا من خلفيات أكاديمية شديدة التواضع (وقيل إن إحدى العضوات تحمل شهادات مزورة وأن لا صلة لها بالقوانين والدساتير).
المآخذ هذه تصل إلى تحميل القيادة السورية مسؤولية المستوى الضحل الذي تقيم عنده عملية إعادة بناء مؤسسات الدولة، قبل الوصول إلى العقبات الهائلة التي تعترض طريق توحيد سوريا وإنشاء سلطة تتمتع بقدر كاف من الشرعية المستندة إلى قبول المجتمع وإلى “عقد اجتماعي” بين السوريين ودولتهم. فالبلاد ممزقة إلى ما يشبه الدويلات التي تتباين مواقف كل منها من السلطة المركزية، بين الإنكار التام لكل ما يمت الى هذه الاخيرة بصلة والاستعداد للحوار والانضواء في كنف المؤسسات التي لم تولد بعد. هذا في الوقت الذي يستمر فيه الضغط العسكري الإسرائيلي الذي يقضم المزيد من الأراضي السورية وسط لامبالاة دولية وموافقة أميركية.
وقد يقول قائل إن السلطة الحالية إنما تعمل بالأدوات المتوفرة وأنها لا تستطيع الإتيان إلى جلسات الحوار واللجان التي تنشئها، على سبيل المثال، بمن لا يرغب في العمل مع الوزراء والمسؤولين الذين يتولون المهمات الأساسية اليوم.
لكن هذا القول على وجاهته، لا يجب أن يحجب الحقيقة الساطعة وهي أن حالة من الفقر، المادي والبشري والسياسي (ناهيك عن الفكري والثقافي) تسيطر على مفاصل حاسمة في عملية تشكيل سوريا، فيما الظروف تتطلب شيئا آخر.
المجلة
——————————-
في الحاجة إلى المرجعية الدستورية في البلاد/ حسن النيفي
2025.03.04
غالباً ما تلجأ الحركات والجماعات التي تستولي على السلطة بقوّة السلاح إلى تحصين ذاتها دستورياً وقانونياً بإيجاد مرجعية تُشرعن لها سلوكها – عسكرياً وسياسياً – من جهة، وتوفّر لها النأي عن المساءلة أمام القضاء من جهة أخرى. وهكذا بات مفهوم الشرعية الثورية بديلاً – من المفترض أن يكون بديلاً مؤقتاً – عن الشرعية الدستورية.
في سوريا، كان فرض قانون الطوارئ منذ آذار 1963 هو الحالة القانونية الموازية للشرعية الثورية. ولعلّه من اللافت في الأمر أن جميع السلطات التي تعاقبت على حكم البلاد من خلال الاستيلاء على السلطة بالقوة، وعلى الرغم من تباينها سياسياً أو أيديولوجياً، إلّا أن ثمة ناظماً موحّداً لتفكيرها يتجسّد في أن ما تقوم به إنما جاء تلبية للمصلحة الوطنية العامة وتطلعات الجمهور العام. وبعيداً عن مصداقية هذا الزعم أو عدم مصداقيته، فإن هذا الإخراج القانوني لسلوك السلطات أصبح عرفاً لازماً لأيّ تغيير سياسي في البلاد. ثم كانت الخطوة اللاحقة التي عزّزت الكارثة الدستورية في سوريا، والتي تجلّت في تحويل الحالة المؤقتة لفرض قانون الطوارئ إلى حالة دائمة، الأمر الذي منح الحاكم وأدواته السلطوية حصانة لمجمل الانتهاكات بحق المواطنين، بل بات قانون الطوارئ هو الستار الذي يخفي خلفه جميع موبقات السلطة، التي تحوّلت – بفعل استمرارها وتكرارها المنهجي – إلى مقتلة حقيقية تجسّدت في جميع أشكال الإجرام السلطوي، من اعتقال طويل الأمد وتصفيات جسدية واغتصاب الحقوق والتفرّد بالقرار والتحكّم بمصير البلاد وفقاً لمشيئة الحاكم، الذي لا ينبغي أن ينازعه أحدٌ حكمتَه وحرصَه على مصلحة البلاد ومواطنيها.
ما حصل في سوريا يوم الثامن من شهر كانون الأول الماضي كان حدثاً مغايراً، بل يمكن القول إنه الحدث النوعي الأول في تاريخ سوريا الحديث، باعتباره جاء ثمرةً لحراك شعبي ثوري استمر أكثر من ثلاث عشرة سنة، وتكلّل بنصر عسكري لمجموعة من الفصائل العسكرية المناهضة للسلطة، ولم يكن نصراً مزعوماً لقائد انقلابي على قائد انقلابي قبله، كما كان يحدث في جميع التحوّلات السلطوية السابقة.
لعله كان بإمكان السلطة التي وصلت إلى سدّة الحكم في الثامن من كانون الأول الماضي اللجوء إلى ما يحصّن سلوكها – دستورياً – بما في ذلك العودة إلى قانون الطوارئ، أو أيّ إجراء قانوني آخر يمنحها غطاءً شرعياً لشتى ضروب سلوكها، بما في ذلك مواجهتها لمناهضيها، سواء أكانوا من موالي النظام البائد، أو من جماعات أخرى ترى أن التغيير لم يكن لصالحها. إلّا أن قيادة السلطة الحالية لم تلجأ إلى ذلك لأسباب عدّة، لعلّ أبرزها:
أولاً – التغيير الحاصل في سوريا نتيجة لثورة شعبية بدأت في آذار 2011، وتضمنت مطالب شعبية عامة أقرّ بمشروعيتها وعدالتها معظم الأطراف العالمية والكيانات الاعتبارية الأممية. وهي ثورة لم تستهدف الممارسات السلطوية الجائرة فحسب، بل استهدفت أيضاً البناء القانوني المُشرعن لتلك الممارسات، الذي استثمره النظام البائد طوال عقود مضت. وبناءً عليه، فمن غير المنطقي أو المقبول أن تعود قوى الثورة للاحتماء بالأدوات والإجراءات القمعية ذاتها التي كانت هي أبرز ضحاياها، بل لعلّ القطع مع إرث الإجرام الأسدي ينبغي أن يكون موازياً لقطيعة كاملة مع جميع أشكال استثماراته والتفافاته على الدستور وما يتفرّع عنه من قوانين.
ثانياً – منذ انطلاق معركة “ردع العدوان 27 – 11 – 2024″، أعلنت قيادة إدارة العمليات العسكرية آنذاك عن استراتيجيتها الأمنية الموازية لعملية التحرير العسكري، التي كان عمادها الرحمة واستبعاد منطق الثأر والانتقام. وبالفعل، ما يزال سلوك السلطة الجديدة محافظاً – بنسبة متقدمة – على هذه الاستراتيجية، وذلك بعيداً عن الانتهاكات والأخطاء التي حدثت هنا أو هناك.
ثالثاً – لعله من الصحيح أن الإطاحة بنظام الأسد وجدت ترحيباً عربياً ودولياً واسعاً، إلّا أن هذا الترحيب – ومنذ لحظاته الأولى – كان مرهوناً بعدة اشتراطات ذات صلة بسلوك القيادة الجديدة للبلاد حيال ما تدعوه الأطراف الدولية الأقليات، إضافة إلى مسائل أخرى. ولعل هذه الاشتراطات باتت وازعاً حقيقياً لقيادة البلاد في الحساب الدقيق لسلوكها على الأرض، حرصاً على حيازة المشروعية الدولية من جهة، وكذلك حرصاً على أن يتكلل الخطاب الدولي المتعاطف مع الحالة الجديدة برفع للعقوبات الاقتصادية، التي بات استمرارها عائقاً حقيقياً أمام أي حالة تعافٍ أو إعادة إعمار.
اليوم، تواجه القيادة الجديدة للبلاد تحدّياتٍ أمنيةً كبيرة، تتجسّد في تمرّد عسكري وأمني في أكثر من بقعة جغرافية داخل البلاد. ولا شكّ أن هذا التهديد يستند، في أحد جوانبه، إلى هشاشة الحالة الأمنية في البلاد وغياب الضبط الأمني، وافتقار الحكومة إلى الكوادر البشرية ذات الكفاءة المهنية في بسط الأمن على سائر الجغرافيا السورية. وهو كذلك يستند إلى ماكينة إعلامية دولية جعلت من (حماية الأقليات) مجرد شعارٍ بعيدٍ عن محتواه الإنساني، وكذلك بعيد عن شرطه التاريخي المواكب للحالة السورية، الأمر الذي تمخّض عن مفارقات شديدة الإيلام والغرابة في آن معاً، ونعني بذلك الدعوات المتتالية للكيان الصهيوني لحماية الأكراد والدروز والعلويين في سوريا. ولعلنا لا نحتاج إلى التأكيد على أن الوقاحة الإسرائيلية لا تتجلّى في التدخل السافر في شؤون الآخرين والاعتداء على سيادة الدول فحسب، بل أيضاً في القناع الإنساني المُستعار الذي تحاول أن تستر تحته كلّ تاريخها الإجرامي بحق العرب والمسلمين. فنخوة إسرائيل حيال الأكراد والدروز لم تتحرك طوال قيام نظام الأسد بقتل السوريين على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم، ولكن فقط حين سقط الأسد تحرّكت الحمية الصهيونية تجاه الأقليات السورية، موازاةً مع استمرار إجرامها بحق سكان غزّة، الذين قد يكون انتماؤهم إلى صنفٍ إنساني آخر قابلٍ للاستباحة وفقاً للمزاعم الإسرائيلية.
إحجام الحكومة الجديدة عن مواجهة معظم أشكال التمرّد القائمة بقوّة السلاح، وإيثارها طرق الحوار والتفاهم مع الرموز الاجتماعية والدينية والقوى المجتمعية في مناطق التمرّد، لا يعود إلى ضعف في امتلاك قوة السلاح ووسائل الردع أو العنف، ذلك أن مواجهة تلك الحالات من التمرد لا تحتاج إلى طيران أو دبابات أو صواريخ. وليس ما يردعها عن مواجهة تلك الحالات هو الاعتبارات الأخلاقية والخشية من دخول البلاد في دوامة العنف فحسب، بل ربما كان الرادع الأهم هو غياب المرجعية القانونية نتيجة للفراغ الدستوري الذي تعيشه البلاد منذ أعلنت القيادة الجديدة حلّ الدستور السابق والجيش ومجلس الشعب في 29 كانون الثاني 2024.
في الثاني من شهر آذار الجاري، أعلنت قيادة البلاد عن تشكيل لجنة لكتابة إعلان دستوري ليكون مرجعية دستورية للبلاد في المرحلة الانتقالية. ولعل هذا الإعلان هو أحد الاستحقاقات التي انتظرها السوريون، على أمل أن يكون ذلك تأسيساً لخطوات أخرى لا تسهم في استكمال البناء السوري الداخلي فحسب، بل تكون رادعاً للتدخلات العدوانية الخارجية أيضاً.
تلفزيون سوريا
———————————-
مستقبل سوريا.. بين حكومة الكفاءات الوطنية وحكومة المراضاة السياسية/ بشار الحاج علي
2025.03.04
تمرّ سوريا بمنعطفٍ مصيري بعد فرار بشار الأسد وسقوط النظام السابق، حيث وجدت البلاد نفسها أمام فراغٍ سياسيٍ انتهت معه ولاية حكومة تصريف الأعمال مع نهاية شباط الماضي، وسط ترقّبٍ شعبيٍ وسياسيٍ لتشكيل حكومةٍ انتقاليةٍ من المفترض أن تُعلن مطلع آذار الجاري بعد مؤتمر الحوار الوطني. لكن المؤتمر، الذي كان يُفترض أن يشكّل محطةً أساسيةً لإعادة ترتيب المشهد السوري، انعقد في ظروفٍ غير مثالية، وسط استعجالٍ واضحٍ في تنظيمه وعددٍ ضخمٍ من المشاركين خلال مدةٍ قصيرةٍ جداً، مما أثار تساؤلاتٍ بشأن جِدّيته ومدى فاعليته في التأسيس لمرحلةٍ جديدةٍ قائمةٍ على أسسٍ سياسيةٍ متينة.
في ظلّ هذا المشهد، يطرح السوريون سؤالاً جوهرياً: هل تتجه البلاد نحو حكومةِ كفاءاتٍ وطنيةٍ قادرةٍ على تحمّل المسؤوليات السيادية والأمنية والاقتصادية والمعيشية؟ أم أن توازنات القوى ستفرض حكومةَ مراضاةٍ سياسيةٍ هدفها الأساسي تعزيز سلطةٍ تقارب اللون الواحد، بغضّ النظر عن كفاءتها أو قدرتها على إدارة المرحلة؟
الإطار السياسي الراهن: سلطة جديدة أم إعادة إنتاج الأزمة؟
مع وصول هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها إلى السلطة، وتعيين أحمد الشرع رئيساً انتقالياً، باتت سوريا أمام معادلةٍ سياسيةٍ جديدةٍ تحمل في طيّاتها تحدّياتٍ كبرى. فعلى الرغم من انهيار النظام السابق، إلا أن طبيعة التغيير الحاصل لا تزال موضع تساؤل: هل نحن أمام تحوّلٍ حقيقيٍ نحو دولةِ المؤسساتِ والقانون، أم أن البلاد دخلت مرحلةً انتقاليةً قد تعيد إنتاج الأزمات بصيغٍ جديدة؟
لا يمكن تجاهل أن ميزان القوى الحالي تشكّل في سياقِ صراعٍ طويلٍ أفرز واقعاً معقداً، حيث تباينت المصالح الداخلية والخارجية، وتداخلت الاعتبارات العسكرية والسياسية والاقتصادية. وبينما يأمل البعض في أن تكون هذه التطورات مقدّمةً لمرحلةٍ من الاستقرار، فإن المخاوف قائمةٌ من أن تؤدي الصراعات البينية إلى استمرار حالة الانقسام، مما قد يعرقل جهود بناء الدولة ويؤجل تحقيق أهداف الثورة السورية في الحرية والعدالة والتنمية.
انعقد مؤتمر الحوار الوطني في شباط الماضي وسط آمالٍ بأن يكون خطوةً جادّةً نحو إعادة ترتيب المشهد السياسي، لكنه جاء محاطاً بالكثير من الانتقادات، خصوصاً فيما يتعلّق بسرعة انعقاده والعدد الكبير من المشاركين خلال مدةٍ قصيرةٍ جدّاً. بدا واضحاً أن الاستعجال في تنظيمه لم يمنح المشاركين فرصةً كافيةً لدراسة الملفات الحيوية بعمقٍ، مما أضعف قدرته على إنتاج مخرجاتٍ واضحةٍ وملزمةٍ. وذلك لأسبابٍ أهمها:
غياب التمهيد الكافي: لم يسبق المؤتمرَ نقاشاتٌ تحضيريةٌ حقيقيةٌ تجمع الأطراف الفاعلة، مما أدّى إلى ضعف التوافقات بشأن القضايا الأساسية.
العدد الكبير من المشاركين: في ظلّ وجود عددٍ ضخمٍ من الحضور، أصبح من الصعب إجراء نقاشاتٍ مركّزةٍ ومنهجيةٍ، حيث طغت الفوضى على كثيرٍ من الجلسات.
التسرّع في انعقاده قبل تشكيل الحكومة الانتقالية: بدلاً من أن يكون المؤتمر مساحةً لنقاشٍ هادئٍ وعميقٍ بشأن طبيعة الحكومة المقبلة، بدا وكأنه محاولةٌ لإضفاء شرعيةٍ سريعةٍ على السلطة الجديدة، مما أثار مخاوفَ من أن يكون مجرد إجراءٍ تكتيكيٍّ لإرضاء بعض الأطراف من دون وضع أسسٍ حقيقيةٍ للحكم الرشيد.
في المحصّلة، لم يكن المؤتمر قادراً على إنتاج رؤيةٍ سياسيةٍ متكاملةٍ، مما سيجعل عملية تشكيل الحكومة الانتقالية عرضةً للتجاذبات السياسية، بدلاً من أن تكون خطوةً واثقةً نحو بناء مؤسساتِ الدولةِ الجديدةِ.
ما الذي يريده السوريون؟ بين حكومة الكفاءات وحكومة التوافقات السياسية
في ظلّ هذه الظروف، تتجه الأنظار نحو طبيعة الحكومة الانتقالية القادمة، حيث يبرز خياران رئيسيان:
حكومة كفاءات وطنية
تستند إلى معاييرَ واضحةٍ في اختيار الشخصيات القادرة على إدارة الدولة وفق رؤيةٍ وطنيةٍ جامعةٍ.
تركّز على الملفات السيادية (الأمن، السياسة الخارجية، استعادة هيبة الدولة)، وتضع خططاً اقتصاديةً تنمويةً تنهض بالبلاد من أزماتها.
تتمتع بشرعيةٍ شعبيةٍ قائمةٍ على تمثيلٍ حقيقيٍّ لمختلف مكونات المجتمع السوري، وتكون قادرةً على بناء مؤسساتٍ فعّالةٍ مستقلةٍ عن الإملاءات الفصائلية أو الخارجية.
حكومة مراضاة سياسية
تسعى إلى تحقيق التوازن بين القوى المسيطرة حالياً، بهدف تجنّب الصراعات الداخلية وتثبيت الاستقرار المؤقّت.
قد تؤدّي إلى تكرار أخطاء الماضي عبر تغليب منطق المحاصصة على حساب الكفاءة، مما قد يضعف الأداء الحكومي ويؤدي إلى عرقلة الإصلاحات المطلوبة.
تحمل مخاطرَ ترسيخِ سلطةٍ جديدةٍ أقربَ إلى اللون الواحد، قد تسعى لإقصاء أطرافٍ أخرى تحت مبرّرات الاستقرار السياسي أو التوافق المرحليّ.
في ظلّ هذا الجدل، يواجه أيُّ تشكيلٍ حكوميٍّ قادمٍ جملةً من التحدّيات، أبرزها:
الأمن والاستقرار الداخلي: تأمين المناطق المحرّرة ومنع الفوضى والانقسامات الداخلية، مع إعادة بناء أجهزةٍ أمنيةٍ تضمن الأمن من دون أن تتحوّل إلى أدواتٍ للقمع السياسيّ.
إعادة بناء المؤسسات: الانتقال من سلطةِ الأمرِ الواقعِ إلى دولةِ المؤسساتِ يتطلّب إعادة هيكلة الإدارة العامة، وتحصين القضاء، وإطلاق عمليةٍ سياسيةٍ تضمن تمثيلاً عادلاً لكل السوريين.
الاقتصاد والمعيشة: بعد سنواتٍ من التدمير الممنهج، تحتاج سوريا إلى حكومةٍ قادرةٍ على إطلاق خططِ إنعاشٍ اقتصاديٍّ حقيقيةٍ، تجذب الاستثمارات وتوفّر فرصَ العملِ، بدلًا من الاعتماد على اقتصادِ الحربِ وآلياته.
التوازنات الإقليمية والدولية: لا يمكن فصل الواقع السوري عن تعقيداتِ المشهدِ الإقليمي، حيث تتداخل مصالحُ الدول الكبرى مع مستقبل البلاد، مما يجعل من الضروري تبنّي سياساتٍ خارجيةٍ متوازنةٍ تحمي السيادةَ الوطنيةَ بدون الانجرار إلى تحالفاتٍ مرتهنةٍ للخارج.
السوريون اليوم أمام مفترقِ طرقٍ حاسمٍ: إما أن يتجهوا نحو بناءِ دولةٍ قائمةٍ على الكفاءةِ والشرعيةِ الشعبيةِ، تحقّق طموحاتهم في العدالة والتنمية والاستقرار، أو أن يسلكوا طريقَ المحاصصاتِ السياسيةِ الذي قد يؤدّي إلى تكرارِ تجربةِ الاستبدادِ بأشكالٍ جديدةٍ.
لقد أظهر مؤتمرُ الحوارِ الوطنيّ أن الاستعجالَ في اتخاذِ القراراتِ المصيريةِ دون تهيئةِ بيئةٍ حواريةٍ حقيقيةٍ، قد يعرّض المرحلةَ الانتقاليةَ للاضطرابِ بدلاً من أن يكون نقطةَ انطلاقٍ نحو مستقبلٍ أكثرَ استقراراً.
ولذلك، فإن أيَّ حكومةٍ انتقاليةٍ تُشكَّل اليوم، عليها أن تعي أن الشرعيةَ الحقيقيةَ لا تُمنح من مؤتمراتٍ تُعقد على عجلٍ، بل من قدرتها على تقديمِ حلولٍ واقعيةٍ تعالج أزماتِ السوريين وتؤسّس لحكمٍ رشيدٍ ومستدامٍ.
تلفزيون سوريا
————————–
تركيا وإيران.. شكل العلاقة بعد التغيرات في سوريا/ أحمد درويش
4/3/2025
المتابع لمجريات الأحداث في سوريا منذ نجاح ثورتها المباركة يدرك تمامًا أن إيران، بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد، فقدت أهم قواعدها العسكرية في المنطقة، والتي كانت متواجدة في سوريا؛ حيث اضطرت إيران إلى مغادرة سوريا التي استثمرت فيها على مدى 13 عامًا، خاصة في المجال العسكري.
وقد نشرت وسائل إعلام إيرانية منذ بدء عمليات “ردع العدوان”، وحتى تحرير دمشق، والأيام التي تلت ذلك، تقارير شديدة اللهجة ضد تركيا، كما قام المرشد الأعلى الإيراني “آية الله خامنئي” بتوجيه اتهامات ضمنية لتركيا دون ذكر اسمها صراحة، وأثارت تلك التصريحات تساؤلات حول مستقبل العلاقات التركية- الإيرانية في المستقبل القريب، وكذلك البعيد، خاصة بعد تراجع نفوذ المحور الشيعي في المنطقة لصالح المحور السني، وهو الأمر الذي من شأنه أن يغير حجم المعادلة الجيوسياسية للمنطقة بأكملها.
تنافس قديم أزلي
لطالما شهدت العلاقات بين تركيا وإيران تقلبات منذ أواخر القرن الخامس عشر وحتى اليوم؛ فمنذ عام 1470 كانت الدولتان منافستين جديتين على النفوذ الإقليمي، هذه المنافسة هدأت تارة، واحتدت تارة أخرى، ويعكس التاريخ الطويل للعلاقات التركية- الإيرانية إشارات تدل على الكيفية التي قد تتشكل بها العلاقات بين البلدين بعد سقوط نظام الأسد.
وتشير التطورات إلى أن إيران فقدت مجال نفوذها في سوريا، وبالنظر إلى تراجع قوة حزب الله بعد الخسائر التي تكبدها في الحرب مع إسرائيل وتقلص تأثيره، يمكن القول إن نفوذ إيران قد يضعف أيضًا في العراق واليمن، حيث كانت طهران تتمتع بتأثير كبير في كلتا الدولتين، وهو الأمر الذي من شأنه أن يعيد اشتعال حجم التنافس بين كل من تركيا وإيران مجددًا في ظل التغيرات الإقليمية الكبيرة، التي مرت بها المنطقة خلال الأشهر الماضية.
تلميحات خامنئي
تبادل المسؤولون الإيرانيون والأتراك خلال الأيام الماضية الانتقادات، من دون أن يأتي أحدهم مباشرةً على ذكر الآخر، وعلى رأس هؤلاء كان المرشد الأعلى الإيراني “آية الله خامنئي”، الذي حمّل في أول كلمة له بعد سقوط الأسد الولايات المتحدة وإسرائيل المسؤولية الرئيسية عما جرى في سوريا.
ومن دون أن يأتي على ذكر تركيا، انتقد خامنئي دورها الذي وصفه بـ”السافر” في الإطاحة بالنظام السوري.
حتى إن هذه الانتقادات غير المباشرة لتركيا، نُشرت أيضًا في منشور باللغة التركية عبر حسابات خامنئي في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث جاء فيه: “إن حكومة مجاورة لسوريا اضطلعت بدورٍ سافر في التطورات السورية، وهي تفعل الشيء ذاته في الوقت الحاضر، بيد أن مراكز التآمر وغرفة القيادة الرئيسية تقع في أميركا والكيان الصهيوني، لدينا أدلة لا تدع مجالًا للشك في هذا الخصوص”، وهي التصريحات التي تُظهر بجلاء حجم التذمر الإيراني الواضح إزاء السياسة الخارجية التركية.
التمهيد للتدخل الإيراني
يبدو أن التطورات الأخيرة في سوريا، أحدثت هزة عنيفة في توازن العلاقات بين البلدين؛ إذ ترى إيران أن دعم تركيا إسقاط الأسد هو بمنزلة هجوم يستهدف سياستها الإقليمية، غير أن التصريحات الجديدة للمرشد الأعلى تُظهر أن بلاده لا تعتبر الوضع الجديد في سوريا نهائيًّا، بل تراهن على الحالة المتغيّرة والمتقلبة فيها.
وخلال الفترة الماضية وصف خامنئي في كلمة له، الحكام الجدد في سوريا بأنهم “مجموعة من مثيري الشغب”، كما وصف تغيّر النظام في سوريا بـ”الفوضى”، فيما تحدّث أيضًا عن نهضة “الشباب السوري الغيور”، واحتمالية ظهور مجموعة مشرفة قوية تؤثر في مستقبل سوريا، في إشارة إلى احتمال تشكيل مجموعات جديدة لكي تثور ضد الوضع الجديد في سوريا، على نحو يمكن أن يشكل تحديًا جادًّا أمام المشروع التركي الرامي للتعاون والاستثمار في سوريا الجديدة تحت إدارة رئيسها الحالي “أحمد الشرع”.
أردوغان هو الآخر يرد
وعلى الجانب الآخر، ومن دون أن يشير هو الآخر مباشرةً إلى تصريحات خامنئي حول نهضة “الشباب السوري الغيور”، قال الرئيس التركي أردوغان إن حلفاء بشار الأسد حزينون على فقدانه، وهم بصدد “الثأر”، وأضاف: “بعض حلفاء نظام بشار الأسد هم في حداد منذ أسابيع على فقدانه، ويريدون الآن صبّ جام غضبهم على رؤوس الشعب السوري المظلوم”.
ويُفهم من رد أردوغان أنه أراد أن يُلاعب إيران بنفس الأسلوب الذي انتهجته في إظهار غضبها من الموقف التركي، ليؤكد بذلك على الندية حتى في نهج التصريح والتلميح، وإرسال الرسائل التي يجب أن تصل.
إدارة الخلاف
يُظهر تبادل المسؤولين الإيرانيين والأتراك الهجمات الكلامية صدعًا جديدًا في العلاقات بين البلدين، غير أن إحجام كل طرف إلى الآن، عن ذكر الآخر بصورة مباشرة، يُعد مؤشرًا على سعيهما إلى إدارة الخلافات بينهما.
ومن أبرز الدلائل على إدارة هذا الخلاف القائم حاليًّا بين الدولتين، أن تصريحات المرشد خامنئي تزامنت مع وجود وزير التجارة التركي، عمر بولات، في طهران للمشاركة في الدورة الـ 29 للجنة الاقتصادية المشتركة “الإيرانية- التركية”، وخلال زيارته التقى بولات الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وناقشا معًا موضوعات هامة مثل رفع حجم التجارة بين البلدين إلى 30 مليار دولار، وتطوير مراكز التجارة الحدودية، وتدشين ممرات حدودية جديدة، وذلك بحسب ما أعلن عنه الوزير التركي.
وهكذا استطاعت طهران وأنقرة على مدى العقدين الأخيرين زيادة تعاونهما، على الرغم من الخلافات والتنافس الدائر بينهما، وبالتالي الإبقاء على علاقتهما في وضعية تعادل.
تأثير سياسة ترامب
بعد تسلّم الرئيس الأميركي دونالد ترامب مقاليد السلطة في الولايات المتحدة، يمكن التطرق إلى سؤال مهم يطرح نفسه وبقوة في إطار الموضوع الذي نتحدث حوله، عن الأثر الذي ستتركه سياسات ترامب على العلاقات التركية- الإيرانية، في ظل ما يتم تداوله والتكهن به عن إعادة تفعيل ترامب سياسة الضغوط القصوى على إيران، علمًا أن تلك السياسة التي من المتوقع أن تضع إيران في أزمة اقتصادية حقيقية ليست هي السيناريو المحبّذ لأنقرة، التي تقيم علاقات واسعة في مجالي الطاقة والتجارة مع طهران.
ووفقًا لمعطيات مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي، فقد بلغ حجم التجارة بين البلدين في عام 2016 -أي السنة الأولى لرئاسة ترامب- أكثر من 10 مليارات دولار، لكنه تراجع إلى نحو 6 مليارات دولار في 2023.
وخلال الفترة المذكورة منحت واشنطن -على الرغم من العقوبات القاسية التي تفرضها على طهران- إعفاءات لثماني دول من بينها تركيا؛ لتتمكن من مواصلة استيراد النفط الإيراني.
والجدير بالذكر أن أحد السيناريوهات الأخرى المطروحة، حول ما تنوي أميركا القيام به مع إيران خلال الفترة المقبلة، هو دعم الإدارة الأميركية خطة رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، لضرب المنشآت النووية الإيرانية.
وكما نعلم، فإن سيناريو كهذا من شأنه أن يساهم في زيادة فرص واحتمالات اندلاع حرب إقليمية، وفي حال نشوب حرب كهذه فلا شك أن تركيا لا تريد أن تتورط فيها، لا سيما أنها وإيران ترتبطان بحدود مشتركة يصل طولها إلى 560 كيلومترًا، ما يعني أن التطورات الأمنية في أيّ من الدولتين سوف تلقي بظلالها على البلد الآخر، وهو الأمر الذي يعيه جيدًا قادة كلتا الدولتين.
وبناء على ما سبق، يمكن القول إنه من المتوقع أن تزداد حدة المنافسة القديمة بين تركيا وإيران في المستقبل، خاصة في الساحة العراقية، ولكن مع ذلك يُرجح أن تظل هذه المنافسة متوازنة، دون أن تؤثر سلبًا على العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
ومع تولي ترامب منصب الرئاسة ووصوله إلى البيت الأبيض، وتصاعد العقوبات الاقتصادية على إيران، يُتوقع أن تفضل إيران التعامل مع تركيا كداعم دبلوماسي ضد العقوبات بدلًا من رؤيتها كخصم، حيث إن تركيا لم تدعم من قبل إدخال الاقتصاد الإيراني في أزمات خانقة، وفضلت الحفاظ على استقرار المنطقة، وبالتالي قد ترى إيران في تركيا شريكًا يمكنها الاعتماد عليه، للتخفيف من وطأة العقوبات المتوقعة في عهد ترامب.
كلمة أخيرة
تُوفر التطورات والمتغيرات المستجدة إقليميًّا ودوليًّا في السنوات الأخيرة دوافع ملموسة لإحداث تغير جذري في طبيعة ودينامية العلاقات بين تركيا وإيران، بما يخفف من مساحات الاحتكاك والاستنزاف، ويقوّي الطرفين في مواجهة التحديات الكثيرة التي بات بعضها مشتركًا، كما أن خروج إيران من الواقع السوري يتطلب عدة خطوات إستراتيجية شاملة، نظرًا للتعقيدات العسكرية والسياسية التي كانت تحيط بتدخلها في سوريا من قبل في عهد النظام البائد.
ولا شك أن إيران ستعيد عاجلًا أم آجلًا تقويم إستراتيجياتها في المنطقة؛ لأن مصالحها ونفوذها تراجعا على أكثر من جبهة، ومن ثم فإن الطريق نحو ذلك يمرّ عبر تقليص تدخلها في الكثير من الملفات الإقليمية، ومراجعة سياساتها في سوريا، ولبنان، والعراق، واليمن، وإن لم يكن ثمة وجود لمؤشرات حقيقية بعد على أن طهران جاهزة لفعل ذلك.
وإجمالًا، يُظهر هذا الوضع أن إيران وتركيا جارتان لا يمكنهما التغاضي أبدًا عن الحوار على مستويات عليا، والتواصل المستمر فيما بينهما، لأن كلًا منهما قوة ثابتة في المنطقة، وهما تضطلعان بدور في جغرافيا مشتركة، وذلك في الوقت نفسه الذي تعَدّان فيه متنافسين إقليميين قويين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
صحفي مهتم بالشأن السياسي والاجتماعي لشعوب منطقة الشرق الأوسط، أسعى أن يكون قلمي أحد الأقلام الداعمة لنهضة الأمة الإسلامية من جديد
الجزيرة
——————————-
رايةٌ في الرمال.. مستقبل تنظيم الدولة في سوريا الجديدة/ سعد الشارع
2/3/2025
أعلنت القيادة المركزية الأميركية (سانتكوم) بتاريخ 21/12/2024، مقتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) المدعو “أبو يوسف” في محافظة دير الزور شرق سوريا، قبل أن تُعدل الخبر الذي نشر على حساب القيادة على منصة x (توتير سابقاً) وتدعي أن المستهدف أحد قادة التنظيم ويدعى محمود “أبو يوسف” واثنين من مرافقيه.
يأتي هذا الإعلان بعد يومين من تاريخ تنفيذ هذه الضربة، مما يدلل على أن الخطأ لم يكن من استعجال في إيراد المعلومة، بل يعكس تخبطا في الإستراتيجية المتبعة في قتال التنظيم، ورغم الإعلانات المتكررة من التحالف الدولي ضد الإرهاب عن تقدم في تحييد قادة وعناصر التنظيم إلا أن وتيرة حركة التنظيم في سوريا لم تتغير إلا بعد سقوط النظام السوري السابق، ولذلك مسببات نحاول تفنيدها في هذه المقالة.
ينتشر التنظيم في سوريا في منطقتين منفصلتين، الأولى في الجزيرة السورية (شمال شرقي سوريا)، وتسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي، حيث يتحرك التنظيم في البادية الجنوبية لمحافظة الحسكة، والتي تتصل هي الأخرى بالجهة الشمالية الشرقية من مدينة البوكمال الحدودية وتحديداً عن بلدة الباغوز آخر معاقل التنظيم الحضرية، هذه المنطقة تتصل جغرافياً ببادية الحضر في محافظة نينوى العراقية، ورغم وجود الكتل الإسمنتية الفاصلة بين البلدين إلا أن التنظيم لا يزال يتنقل عبر الحدود، هذا ما أكده لنا أحد سكان ريف محافظة الحسكة.
أما المِنطقة الثانية المعروفة باسم البادية الشامية، وتقع في محيط مدينة تدمر شرق محافظة حمص، وتتصف بأنها واسعة وتنتهي بأطراف معظم المحافظات السورية وتتصل أيضاً ببادية الأنبار العراقية التي تُعد معقلا أساسيا للتنظيم، استفاد التنظيم سابقاً من تقاسم النفوذ على طول الشريط الحدودي بين القوات الأميركية الموجودة في قاعدة التنف العسكرية والمليشيات الإيرانية التي كانت مسيطرة على مدينة البوكمال، وإضافة إلى خبرته الطويلة -نسبياً- في قتال الصحراء والتكيف معها، تمكن التنظيم من إبقاء حركته بين البلدين في هذه المنطقة.
تعدد الأطراف التي تقاتل التنظيم وحالة العداء أو الندية بينها خلق حالة مرتبكة ظهرت جلياً في الفترة الأخيرة (خلال عامي 2024-2023)، وساهم هذا الأمر في جعل المعلومات عن أعداد التنظيم وتحركاته غير دقيقة ومتفاوتة تفاوتا كبيرا، فحتى هذا الوقت لا يوجد رقم دقيق لأعداد عناصر التنظيم في سوريا، إلا أن بعض المصادر الميدانية رجحت أن تعداد عناصر تنظيم الدولة النشطين في سوريا يتراوح بين 900-1100 عنصر، الجزء الأكبر منهم في البادية الشامية بينما ينتشر الجزء الأقل في الجزيرة السورية (شمال شرق سوريا).
لماذا خفت وتيرة هجمات التنظيم في سوريا
خلال السنوات الأخيرة، بعد خسارة التنظيم آخر معاقله الحضرية، نفذت مجموعات التنظيم مئات العمليات العسكرية والأمنية في سوريا، معظمها كان على شكل هجمات سريعة تستهدف نقاط تمركز المليشيات الإيرانية وعناصر جيش النظام السوري السابق، إضافة إلى هجمات متتالية على صهاريج (خزانات) نقل النفط التي تحمل شحناتها من حقول الجزيرة السورية إلى مصفاتي حمص وبانياس.
وسجل عام 2024 أكثر عدد لهجمات التنظيم في سوريا، وارتفاع هذه الوتيرة تدريجياً يعود إلى الاعتيادية التي تطورت لدى قادة التنظيم في فهم تحركات المليشيات الإيرانية وطبيعة انتشارها وتمركزها، ويعزز هذا السبب أيضاً عدم وجود خطط هجومية من هذه المليشيات وجيش النظام السابق الذي اكتفى بوضعية الدفاع والتصدي وتحركات وقائية فقط، بينما التنظيم كان المبادر في أغلب المراحل نظرا لخبرته العالية في قتال الصحراء ضمن إستراتيجية حرب العصابات السريعة التي تعجز أمامها العقلية التقليدية للجيوش النظامية أو شبه النظامية، وتُعد هذه نقطة ضعف المليشيات الإيرانية، فرغم أن الطابع المؤسس لهذه المليشيات ذو حركية فاعلة إلا أن ارتباطها بجيش النظام السابق والتنسيق مع الطيران الروسي أضعف لديها المرونة المطلوبة لمجابهة التنظيم.
ومنذ إعلان سقوط النظام السوري المخلوع، خفت هجمات التنظيم باستثناء الاعتيادية منها في منطقة الجزيرة السورية، وهجومين في البادية الشامية أحدهما استهدف حقل شاعر للغاز وأدى إلى مقتل مدير الحقل، هذا الاختفاء -النسبي- ليس بالضرورة أن يكون دائما، فعلى الأرجح مؤقت ويعود لأسباب عديدة، أهمها:
انتهاء وجود نقاط التمركز والإسناد التي كانت تشغلها المليشيات الإيرانية وعناصر جيش النظام السابق في البادية الشامية، فكان معظم هذه المليشيات أهدافا في متناول التنظيم، يُضاف إليها حركة الأرتال العسكرية بين محافظتي دير الزور والعاصمة دمشق مروراً بمدينة تدمر.
تقدم مجموعات من جيش سوريا الحرة المدعوم من قاعدة التنف العسكرية إلى نقاط متقدمة في البادية الشامية، خاصة في شرق مدينة تدمر ومحطة نقل النفط T2 في بادية محافظة دير الزور. انتشار مجموعات عسكرية تتبع إدارة العمليات العسكرية والتي انتظمت حالياً في فرقة عسكرية (البادية) تتبع وزارة الدفاع في سوريا، كان لها الدور الأبرز في سد الفراغ في المنطقة وسيطرتها على مواقع إستراتيجية في البادية خاصة على الطريق الوحيد الذي يربط محافظتي دير الزور ودمشق.
إستراتيجية دمشق اتجاه التنظيم
من المؤكد أن سقوط النظام السوري السابق ووصول هيئة تحرير الشام إلى دمشق لم يكن خبراً ساراً للتنظيم على الإطلاق، عبّر عن ذلك التنظيم بإصدار مرئي نشرته منصات مقربة من التنظيم بتاريخ 24/1/2025، هدد فيه الإدارة السورية الجديدة في حال طبقت قوانين وميثاق الأمم المتحدة في السلم والحرب، ويُعد هذا الإصدار هو الأول من نوعه بعد انقطاع طويل ويُعبر عن التخوفات من وصول القيادة الجديدة لدمشق ويعطي مبررات مسبقة لتصرفاته اللاحقة.
القيادات الجديدة في دمشق خاصة في وزارة الدفاع والأمن العام التابع لوزارة الداخلية وجهاز الاستخبارات معظمها من القيادات السابقة لهيئة تحرير الشام، والتي خبرت جيداً تنظيم الدولة من خلال سنوات من المعارك ضده في المنطقة الشرقية ودرعا ووسط سوريا وآخرها في إدلب، وتمكنت هذه القيادات من الإيقاع بخلايا التنظيم وحلقاته القيادية ومفارزه الأمنية، وتمتلك القيادة الجديدة مجموعات عسكرية متقدمة من ناحية التأهيل العسكري والأمني تمكنها من مجابهة التنظيم، ويبدو أن النهج الذي تتبعه القيادة الجديدة لن يكون متساهلا مع التنظيم، ويظهر ذلك في إقرار تشكيل أو فرقة في وزارة الدفاع وإسناد مهمة البادية لها وهو مؤشر لتوجهاتها في منع التنظيم من تحقيق أي تقدم له، ويمكن اختصار الإستراتيجية في أنها ستكون مواجهة وفق سياقاتها التالية:
الاستعداد العسكري الميداني والدخول في مواجهة مفتوحة ضد مجموعات التنظيم في البادية الشامية، مستفيدين من مزايا مجموعات فرقة البادية الذين في غالبهم يمتلكون مقومات قتال الصحراء ومحاكاة الطريقة التي يقاتل بها تنظيم الدولة.
جهاز الاستخبارات سيكون له الدور الفاعل في متابعة التنظيم أمنياً، سابقاً تمكن جهاز الأمن العام التابع لحكومة الإنقاذ من اصطياد عشرات القادة وعناصر التنظيم.
منع التنظيم من الحصول على مستلزماته العسكرية واللوجستية بتشديد التموضع لفرقة البادية على الطرقات الرئيسية وسط الصحراء، وينتظر أيضاً وضع خطة لضبط الحدود بين سوريا والعراق.
السطوة المطلقة على مواقع انتشار التنظيم من وزارة الدفاع السورية ستكون مهمة لصالح القيادة من أجل سحب ذرائع وجود التحالف الدولي ضد الإرهاب في سوريا، لذلك ستركز دمشق في خططها في المستقبل القريب لدحر التنظيم.
دور التحالف الدولي
في منطقة البادية الشامية اقتصر دور التحالف الدولي ضد الإرهاب الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية على تنفيذ ضربات جوية محدودة على مواقع التنظيم، دون أن تكون هناك أيُ عمليات برية متقدمة، إلا في حالات تمشيط في محيط منطقة 55 الملاصقة لقاعدة التنف العسكرية، وقد يكون مغزى هذه الإستراتيجية أمران، الأول: إبقاء انشغال التنظيم في مهاجمة المليشيات الإيرانية التي كانت تنتشر نقاطها بالعشرات في البادية، والثاني: عدم خلق مواجهة مفتوحة تضطر إليها القوات الأميركية لتغيير تموضعها القتالي في قاعدة التنف العسكرية التي ستكرن وقتها -حتماً- هدفاً للتنظيم، بينما في منطقة الجزيرة السورية فشاركت القوات الأميركية قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بعشرات الحملات الأمنية وعمليات التوغل في البوادي (جنوب الحسكة).
لكن فاعلية هذه العمليات لم تكن بالمستوى الحرفي، نظرا لشح المعلومات أو الاعتماد على قوات الآسايش في جمع المعلومات التي في غالبها تكون غير دقيقة وكيدية ضد بعض مكونات المنطقة، ففشل بذلك عدد من عمليات الإنزال الجوي التي نفذها التحالف الدولي في ريف محافظة دير الزور، ورغم تكرار الإعلان من قيادة التحالف عن إنجازات كبيرة تحققت في قتال التنظيم في المنطقة إلا أن الوقائع على الأرض تشير إلى خلاف ذلك، ويبقى المحدد الأساسي في تبيان دور التحالف الدولي ميدانياً هو في تمكن التنظيم من إعادة السيطرة على المناطق الحضرية (بلدات ومدن) وهذا لم يحدث، بينما مسارات الحضور الأمني والظهور المتكرر لمجموعات التنظيم وخطره بقي حاضراً ويُشكل هاجساً قوياً للسكان المحليين.
التصريحات الأميركية المتعلقة بالانسحاب من سوريا، والتزامها بضمان إنهاء تنظيم الدولة في المنطقة يقعان على طرفي نقيض نظرياً، وهذا ما يجعل التفاهم بين واشنطن ودمشق على خطط الحماية محتملة، يعترض هذا الاحتمال عدم وجود تعاون قائم بين الطرفين وتركيز واشنطن على مشاركة قسد في حربها ضد التنظيم، وهذا مغاير للمثال العراقي حيث دربت ودعمت واشنطن الجيش العراقي وفق برامج مشتركة لقتال التنظيم.
مستقبل تنظيم الدولة في سوريا
العتبة التي لم يستطع تنظيم الدولة التغلب عليها خاصة في سوريا هي الخطاب العام المتراجع، وتوقف مفردات هذا الخطاب عند مستوى غير جاذب على أقل تقدير في الأوساط المتماهية معه، وتزداد صعوبة هذا المشهد بالنسبة للتنظيم في تأمين حواضن آمنة له وجذب منتسبين جدد إليه، وأصبح اعتماد التنظيم على العناصر السابقة لديه وحالات تجنيد فردية غير مجدية أو فاعلة، يضاف إلى ذلك ضعف شديد ويكاد يكون معدوما كلياً في استقدام العناصر الأجنبية (من غير السوريين) التي يعد وجودها عاملاً أساسياً في بلورة خطاب التنظيم ودعم قطاعاته القتالية والتنظيمية.
ويُشكل الانتصار الذي حققته إدارة العمليات العسكرية بمعركة ردع العدوان التي قادتها هيئة تحرير الشام ووصولهم لدمشق ضربة قاسية للتنظيم لن يتمكن في الغالب من صياغة خطاب ملائم يبرر فيه فشله وانتصار (عدوه) في تحقيق النصر، وهذا يجعل الباب مفتوحاً لانشقاقات محتملة داخل صفوف التنظيم حالياً وانفضاض المروجين له لصالح المنتصر في دمشق، وأمام هذا المشهد قد يذهب التنظيم نحو استعداء مفضوح ضد القيادة السورية الجديدة وهذا الذي عبر عنه في الإصدار المرئي الأخير، والاعتماد على السياق الأمني لإثبات الحضور والوجود، دون أن يغير ذلك في المعادلة الأمنية والعسكرية للمنطقة.
السردية التي بنى عليها التنظيم خطابه العام عانت من تصدعات كبيرة، وجعلت مجمل تحركاته في حالة تراجع، انعكس ذلك جليا على عملية التجنيد أو بقاء الفاعلية قائمة في صفوفه، ويعاني التنظيم من تأمين الموارد المالية واللوجستية، وكل هذه الظروف تدفع باتجاه إضعاف النقطة التي يتفوق بها وهي حرب الصحراء، خاصة من وجود مقاتلين يتبعون لوزارة الدفاع السورية خبروا جيداً هذه المنطقة واعتادوا على أساليب القتال التي ينتهجها التنظيم، أي بات التنظيم يواجه طرفاً يحاربه بذات الأدوات التي يتفوق بها ذاته.
يدرك التنظيم أنه لا مجال -مطلقاً- لأي مهادنة مع القيادة السورية الجديدة، وأن المستقبل في البادية الشامية لن يكون جيداً له، خاصة مع ورود أنباء عن تمركز مستقبلي للجيش التركي في قواعد عسكرية في المنطقة (مطار تدمر العسكري، مطار T4) وهذا يؤمن تغطية جوية ومسوحات استخبارية للبادية التي تمكن وزارة الدفاع في سوريا من إحراز تقدم واسع في تأمين البادية وانهاء أو إبعاد على أقل تقدير مخاطر التنظيم.
من جهة أخرى فإن إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن مساعي حكومته لانسحاب قواته من سوريا قد يدفع بعض الجهات إلى تسهيل حركة التنظيم في المنطقة وخاصة في الجزيرة السورية من أجل إجبار القوات الأميركية على إعادة التفكير في خطط الانسحاب إما بإلغائها أو تأجيلها، وحتماً التنظيم سيستجيب لأي تسهيلات يراها دون قراءة نتائج هذا التحرك.
على المدى القريب والمتوسط وبحسب القراءة الميدانية لوقائع التنظيم فإن التأثير الأمني المحدود سيبقى حاضراً أما التوسع أو التأثير المباشر في المعادلات الأمنية والعسكرية، فمن غير المتوقع أن تتمكن قيادات التنظيم من التأثير بها، ولعل البقاء بهذا المستوى تعتبره اللجنة المفوضة في التنظيم إنجازاً جيداً ومقبولاً تحاول الحفاظ عليه بغية انتظار تغيُر في الظروف تسمح له بإعادة السيطرة والانتشار من جديد.
المصدر : الجزيرة
—————————————
في الاعتراف والاعتذار/ فوّاز حداد
04 مارس 2025
من الظواهر الأبرز التي تشهدها سورية منذ سقوط النظام، ظاهرة “التكويع”، المصطلح الذي تعارف عليه السوريّون لوصف إشهار بعض رجال النظام البائد مواقف على النقيض تماماً من مواقفهم السابقة. فبعدما كانوا موالين أقحاح، انقلبوا رأساً على عقب، إلى موالين منافقين، كأنّ شيئاً لم يكُن من قبل، فالمكوّع يُسارع لمحو تاريخه السابق من دون تمهيد، فالوقت لا يتّسع للتدرُّج، ربّما حظي بمنصب ما، أو على الأقل نال فرصة التبرُّؤ من ماضيه.
يُلاحظ أن التكويع يتم بأنفة وكبرياء؛ حيث يظهر المكوّع تأييده للسلطة الجديدة، وكأنه يُسدي إليها معروفاً يجب أن يُكافأ عليه. هذا السلوك قد يحصل، حتى لو كانت يداه ملوّثتين بالدماء أو كان سبباً في أذى للغير، أو استغلال منصبه، ما سبب أضراراً، حقّقت له مكاسب شخصية كان فيها نهب للمال العام أو الخاص.
عموماً، يُمكن اعتبار التكويع بهذا الشكل دلالة على الانتهازية، مع أن الفعل في ظاهره يبدو “مقداماً”، إلّا أنه عند التدقيق نرى أن الهدف الحقيقي هو السعي إلى مكانة أو الحفاظ عليها، أو القفز عن تجاوزات خطيرة. المشكلة الكبرى تكمن في أن “التكويع” بات يحدث دونما إعلان عن اعتذار صريح بخصوص ما ارتكب من أخطاء خلال ممارسة وظيفة أدّت إلى جُنح وربما جرائم، أو لا تخفي جنوحاً غير أخلاقي.
إن غياب الاعتذار الواضح يُفقد “التكويع” مصداقيته؛ ففي الاعتذار اعتراف بالخطأ وطلب للمسامحة. إن المصالحة الوطنية كي تكون فعالة وحقيقية لا تتحقّق بلا مصارحة، من دونها تصبح مجرّد شكل من أشكال التحايُل، تحمل في طيّاتها احتمال تكرار جرائم الماضي في المستقبل.
ممارسة الاعتراف بشفافية مع الاعتذار، يُظهر امتلاك جرأة الانتفاض ضدّ سلوكيات منحرفة، لن يكون التسامح بالمقابل من السلطة، إلّا مؤشّراً على بُعد نظر النظام السياسي الجديد، ودليلاً على أن السياسة الصحيحة والناجحة قادرة على تنفيذ ما وعدت به خدمة للصالح العام.
أما إذا استصعبوا الاعتراف بما ارتكبوه من أخطاء واعتبروه مذلّاً، واستكثروا الاعتذار واعتبروه مهيناً لمشاعرهم وما احتلّوه من مناصب، عندما كانوا سادة الوطن، مع أن هذه السيادة أو السلطة التي تمتّعوا بها ليست إلا لأنهم كانوا رجال نظام مجرم يناصرونه ويتزلفون إليه، ويتمسحون به.
لا ريب، بالنظر إلى معاناة أبناء وطنهم في المعتقلات، عندما جرى التحقيق معهم تحت التعذيب اعترفوا بما لم يفعلوه، وذرفوا من الدموع والدماء بما يفوق أي اعتذار، وسُجنوا في زنازين لا تقلّ عن قبور لسنوات طويلة، أو أُرسلوا إلى المشانق. بالمقارنة معهم، ليس الاعتذار إلّا خطوة لا بدّ منها نحو المصالحة، وإذا كان الخجل أو الحفاظ على الكرامة يمنعهم، فلا إجبار على ما لا يطيقون. فالذين لا يريدون المصالحة، ليسوا في الحقيقة مطالبين بالاعتذار من السلطة الجديدة، بل من الشعب ذاته. فالشعب هو من عانى، وهو من سيغفر، ويستحقّ اعتذاراً واضحاً. فالضحايا ضحاياه.
الاعتراف الصريح، هو الحساب الحقيقي، ويتضمن بشكل جوهري محاسبة الضمير على ما اقتُرف خلال ماض لن يُطوى من دون اعتذار صادق، فالمسامحة ليست للآخر فقط، بل تشمل الذات، ومن دون تطهيرها، لن يزيدوا عن انتهازيين، يسعون إلى تبديل جلودهم، في حين أنها لصيقة بهم.
* روائي من سورية
العربي الجديد
—————————-
تحرَّر وطني…وجاء دَوري/ ميادة تيشوري
الخميس 2025/02/27
الحرية… كلمة تحمل في طياتها الكثير من المعاني، فهي الحلم الذي راودنا منذ الصغر، والتطلع الذي كبر معنا مع الأيام. لطالما أردت التحرر من القيود، لكني أدركت متأخرة أن أعظم أنواع الحرية هو تحرر العقل من الجهل والخوف.
كنا، نحن السوريين، نكبر على مفهوم الوطن باعتباره الحضن الدافئ، والانتماء الذي يمنحنا الأمان، لكننا واجهنا واقعًا مختلفًا، فحُرمنا من مذاق الحرية، ووجدنا أنفسنا في قيود فرضت علينا منذ الصغر. تعلمنا أن نحب الوطن، لكننا لم نشعر بأنه ملكٌ لنا. وكما كنت مقيدة في بيت أهلي، حيث كل شيء كان ممنوعًا، ثم في الحياة الزوجية، كذلك شعرت أن وطني نفسه كان مقيدًا، فتمنيت له الحرية كما تمنيتها لنفسي.
في بيت أهلي، كانت القوانين واضحة وصارمة: لا يُسمح لي بالخروج وحدي، لا يُسمح لي بارتداء ما أريد، كان رأيي مهمشًا، وقراراتي تُتخذ عني، فلم يكن يُنظر إلى أحلامي بجدية. كنت أريد دراسة الأدب، لكن عائلتي أصرت على تخصص “عملي”، لم أتمكن من الدفاع عن رغبتي، ولم أملك خياراً سوى الامتثال.
ثم تزوجت. ظننت أني سأجد مساحة أكبر من الحرية، لكني وجدت نفسي رهن أصفاد جديدة. لم يُسمح لي بالعمل، لأن “مكان المرأة في بيتها”. لم يُسمح لي باتخاذ قرارات تخص حياتي اليومية من دون استشارة زوجي، حتى زيارة عائلتي كانت تخضع لشروطه. شعرت أني أتحرك داخل دائرة مغلقة، حيث كل قرار يحتاج إلى إذن، وكل رغبة يجب أن تتناسب مع توقعات الآخرين. وحين جاء اليوم الذي أُعلن فيه تحرر وطني، لمحت أخيرًا بصيصًا من الأمل، لكني تساءلت: لماذا انتظرت كل هذا الوقت؟ لماذا ربطت حريتي بالعالم الخارجي؟ إن حريتي الحقيقية لم تكن يومًا هناك، بل كانت دائمًا بداخلي.
أعود بذاكرتي إلى البدايات. كنت فتاة صغيرة تكتب خواطرها سرًا، تخشى أن يراها أحد أو يحكم عليها. لكني وجدت الشجاعة في داخلي، وبدأت أعبر عن أفكاري، شيئًا فشيئًا، حتى وجدت صوتي. لم تكن رحلتي سهلة، فأنا امرأة حملت مسؤوليات كثيرة، كنت الأم والأب لأطفالي، السند والحضن الدافئ لهم في مراحل حياتهم كافة. عشت حياتي كعطاء مستمر، بين متطلبات الأسرة والطموحات الشخصية التي أجّلتها مرارًا.
لطالما حلمتُ بأن أصبح كاتبة، أن أُصدر كتابًا يحمل أفكاري، أن أدرس تخصصًا أحبه، أن أعمل وأحقق استقلالي المادي. لكني أخّرت ذلك كله بحجة الأولويات والمسؤوليات. حتى عندما سنحت لي الفرص، كنت أقيّد نفسي بنفسي: “ليس الوقت مناسبًا”، “أنا أمّ، ولا يمكنني التفكير في نفسي الآن”، “ماذا سيقول الناس؟”… وأدركت لاحقًا أن بعض سجني لم يكن مفروضاً عليّ، بل صنعته بيديّ.
أتذكر صباحاتي المبكرة مع ابنتي، أراجع معها دروسها وأطمئن إلى فهمها حتى تحقق أعلى الدرجات. يذهب الأولاد إلى المدرسة، وقلبي يبقى معهم حتى يعودوا. عشت في دوامة من الطلبات والمسؤوليات التي أنهكتني، حتى أني لم أكن أستمتع معهم بلحظات طفولتهم كما يجب. رأيت في نجاحهم انعكاسًا لتعبي وسهري، لكني لطالما فقدت لحظات ثمينة لا تعوّض. كم من مرة تمنيت لو أني استطيع التوقف قليلًا لألعب معهم؟ كم مرة وجدتني منشغلة بتحضير وجبات الطعام أو ترتيب المنزل، بدلًا من مشاركتهم ضحكاتهم؟ ينقضي يومي بسرعة، وأنا في سباق لا ينتهي.
كنت أستلقي بجانبهم قبل النوم، أروي لهم حكاية أو أغني لهم أغنية، لكن التعب يغلبني، فأغفو قبلهم أحيانًا. كنت أشعر بالأمان فقط عندما يكونون بين ذراعيّ، فالأم لا تشبع من رائحة أطفالها، تلك الرائحة التي ما زالت تعيش في داخلي، تمنحني السكينة والدفء حتى اليوم، عندما أغمض عيني أستطيع أن أسترجع شعور حضنهم الصغير ودفء براءتهم. وها هم قد كبروا لأرى نفسي في كل منهم، في حركاتهم، ضحكاتهم، وحتى في طريقة مشيهم. أصبحوا سندي ولو بكلمة أو ضحكة، وأدركت أن الزمن مضى أسرع مما كنت أتمنى. كم كنت أحب اللهو معهم، وكم كنت أتمنى أن يتوقف الوقت قليلاً لأعيش تلك اللحظات مجددًا. أدركت أن كل لحظة معهم كانت هدية، وكل ضحكة كانت جزءًا من رحلتي نحو النضج واكتشاف ذاتي.
تحرّر وطني وبدأ بناء نفسه من جديد، وأنا أيضًا أسعى لأن أتحرر. لكن هذه المرة، ليس من القيود الخارجية، بل من القيود التي وضعتها لنفسي. كيف سأتحرر؟ بالعمل، بتوسيع مداركي، بكتابة قصتي، بالتوقف عن البحث عن موافقة الآخرين على كل خطوة أخطوها. سأتحرر بأن أختار نفسي أخيرًا، بأن أعيش الحياة التي كنتُ أؤجلها. لم يعد الانتظار خيارًا، بل أصبحت الآن أبحث عن ذاتي وأحاول منح نفسي الحرية التي حرمتها منها لسنوات.
إنها رحلتي نحو الحرية التي بدأت أخيرًا، حرية أن أكون كما أريد، أن أعيش كما أحب، وأن أقدر كل لحظة بوعيٍ وسعادة.
المدن
——————————
عودة الظاهر بيبرس والزير سالم/ بثينة عوض
الثلاثاء 2025/03/04
كان يحضر أربع علب فارغة من حليب “النيدو”، يكدّسها فوق بعضها البعض، ويجلس أمامها متخيّلاً أنها تلفاز. يرفع يديه عالياً ويصرخ بحماس: “هدف! هدف!” ثم يصفق بحرارة، وكأنّه يرى أمامه مشهداً حيّاً من مباراة الكابتن ماجد، رغم أن شاشته لم تكن سوى بناء من علب معدنية فارغة.
لم يكن ذلك الطفل يملك تلفازاً، ولم تكن قريته تعجّ بالشاشات، لكن عينه أبصرت هدفاً حقيقياً ذات يوم، ليس في بيتهم، ولا حتى في بيت الجيران، بل في منزل رجل وحيد، كان الوحيد في القرية الذي يملك تلفازاً. ذلك الجهاز لم يكن مجرد أداة ترفيه، بل نافذة سحرية لا يمتلك مفتاحها سوى ذلك الرجل، الذي قيل إنه اشتراه…أو ربما صادره حين كان ضابطاً في فرقة سرايا الدفاع.
في ذلك المشهد الصغير، بين العلب الفارغة وتلفاز الرجل الوحيد، تجسّدت أسئلة وجودية أكبر من عمر الطفل: هل نرى الواقع كما هو، أم كما نتخيله؟ هل الحلم بديلٌ عن الحرمان، أم هو تمرين على إدراك الممكن؟ وهل التلفاز ملكية خاصة، أم نافذة يجب أن تكون مفتوحة للجميع؟
في قريتي، كانت المخيلة وسيلة للنجاة، وكان طفلٌ صغير يبتكر شاشةً من العدم، ليشاهد فيها ما حُرم منه، ويرسم ببراءته ملامح عالم أكثر عدلاً، حيث لا يحتكر أحدٌ الحلم.
كبر الطفل، لكنه لم يتخلَّ عن صناعة الأحلام. وكما كان يرتب علب “النيدو” فوق بعضها البعض ليبني شاشةً يتابع فيها خيالاته، ظلّ السوريون في العقود الماضية يكدّسون آمالهم، واحدًا فوق الآخر، في انتظار وطنٍ تتسع فيه حرية الكلمة، ويمنحهم حقّ الحلم من دون خوف. حلمنا جميعًا ببطلٍ يشبه الكابتن ماجد، يقفز فوق العقبات، ينقذنا من حرارة الصفيح الساخن تحت أقدامنا، يقودنا إلى انتصار مستحقّ، أو ربما… كنا نحن الراغبين في أن نكون أبطالاً.
لكن البطولة لم تكن تُمنح مجاناً، وكان على الحالمين أن يتركوا قراهم البسيطة، أن يخرجوا من ضيق المكان إلى اتساع الدهشة، من الحقول والأزقة الضيقة إلى صخب المدن. فكيف إذا كانت هذه المدينة دمشق؟ المدينة التي لا تشبه غيرها، المدينة التي تحمل الحلم بيدٍ، والمحنة باليد الأخرى، وتدعوك لخوض اختبارٍ صعب بينهما. دمشق ليست مجرد وجهة، بل هي امتحانٌ لكل من حلم يوماً بالبطولة. فهل كنّا مستعدّين لاجتيازه؟
خبز المُخبرين
لم أحب يوماً خبز الأفران، ذلك الرغيف الذي تخرجه الآلات باردة الروح، بلا حياة، بلا ذاكرة. ربما زاد كرهي له حين رأيت السوريين واقفين في طوابير طويلة، وجوههم متعبة، وكرامتهم تُختبر مع كل خطوة يقتربون بها من نافذة البيع. كان الرغيف هناك سلعة نادرة، ووسيلة إذلال قبل أن يكون طعاماً. وعلى النقيض من ذلك، كانت رائحة خبز التنور دائماً تملأني بالحياة. تلك الرائحة الحرّة، الممتزجة بدخان الحطب، برائحة الأرض حين تلامسها الأيادي الخشنة، بالأصالة التي لا تعرفها خطوط الإنتاج.
لكن دمشق، كعادتها، لا تكفّ عن إدهاشي. في شارع 29 أيار، أرى رجلاً يفترش الرصيف، يبيع خبزاً لم أره من قبل. أقترب منه بدافع الفضول، فيخبرني أنه “خبز رمضان”. أتذوقه… طعمه مختلف، له مذاق التاريخ والأيام التي لم أعشها. أحدثه عن خبز التنور، عن تشابه الحجم والروح بينهما، فيسألني عن قريتي، ثم يتعمّق أكثر، يسألني عن رأيي في ما يحدث في البلاد. أفتح فمي لأجيب، لكني فجأة، أشعر بيدٍ تشدّني بقوة. صديقي الدمشقي يهمس لي بتحذير: “إنه مخبر!”. تتملكني الدهشة من جديد. ألتفت لأرى الرجل يواصل البيع كأن شيئاً لم يكن، وصديقي يستفيض في الشرح: “معظم هؤلاء الباعة الذين يظهرون فجأة في شوارع دمشق خلال هذا الشهر… ليسوا مجرد بائعين”.
في دمشق، حتى الرغيف قد يكون فخاً، حتى الأسئلة البسيطة قد تحمل نوايا غير بريئة، وحتى الجوع… قد يكون أقلّ قسوة من الخوف. أيُّ عقلٍ مؤامراتي هذا؟ لم أعشه يوماً، ولم أرَه إلا في القصص والروايات. فأنا التي اعتدت الكلام بحرية بين أهل قريتي البسطاء، أتنقل في جبالها بلا قيود، أتنفس فضاءً مفتوحًا بلا خوف. والآن، أجد فمي مقيداً في مدينة عشقتها منذ لحظة وقعت عيناي عليها.
الخبز جارح الصائم
أكسر قطعةً من الرغيف، أضعها في فمي، أبتلعها بمرارة، لا لأن الخبز سيئ، بل لأن شيئاً ما في الهواء لم يعد كما كان. في الزحام، يبتسم لي أحدهم: “بالصحة والعافية”. أمدّ إليه الرغيف، يردّ بلطف: “أنا صائم”. أتمنى له صياماً مقبولاً، نمضي، كلٌّ في طريقه، وأنا لا أفكر سوى في لحظة العفوية تلك، في لقاءٍ عابر لم أكن أعلم أنه قد يحمل في طيّاته أكثر مما بدا عليه. لم أدرك وقتها أنني بلا قصد، كنت أجرح مشاعره، أو ربما مشاعر غيره. لم أفهم ذلك إلا اليوم، عندما قرأت تعميماً رسمياً يحذّر من “المجاهرة بالإفطار”، ويقرّ بمعاقبة من يفعل ذلك بتهمة “التعرض للآداب العامة”، بل وتوقيفه وتحريك دعوى ضده.
أتذكر حينها عصا الرمان في يد أستاذي في الصف الخامس، تلك العصا التي كان يلوّح بها مهدداً: “العصا لمن عصا!” وأتذكر وجه الرجل الذي ابتسم لي في الشارع، وقال بخفة: “أجري في الجنة زاد ضعفين بفضلك”. منذ تلك اللحظة، احترمت رد فعله، ولم آكل مجدداً في شهر الصيام. لم يكن خوفاً من القانون، بل احتراماً لذلك الشعور الذي قرأته في عينيه، ولدرسٍ لم أتعلمه من العصا، بل من ابتسامة.
حكواتي تنتحر قصصه بسيفه
الحكاية هي أصل كل شيء، فهي التي رسمت ملامح الوجود منذ البدء. ألم تبدأ الحياة بقصة؟ آدم، حواء، والتفاحة المحرمة. ومنذ ذلك الحين، لم يتوقف البشر عن خلق الحكايات، نسجها، وتناقلها عبر الزمن. لكن الحكاية ليست مجرد كلمات، بل كياناً حيّاً يحتاج إلى أركانه: حدثٌ قادح، تشويقٌ متصاعد، وراوٍ بارع يجيد فن السرد. وإلا، كيف كانت ستنجح في جمع أهل قريتي كل مساء حول امرأة حكّاءة، تسرد القصص بأسلوب يأسر العقول، وتتركها عند ذروة مشوقة، تدفعنا للانتظار بشغف حتى اليوم التالي؟
ما زلت أذكر كيف كنا نترقب مصير الرجل الذي واجه الضبع في الجبال، وكيف كنا نرتجف عند سماع قصة الجنية التي أحرقت طرف فستان فتاة من قريتنا ومنعتها من الزواج، وكيف كنا نحلم بملوك القلعة الأثرية في قريتنا، ونتساءل: هل سكنوها حقاً أم أنهم مجرد خيال نُسِج حول حجارتها العتيقة؟ الحكاية ليست مجرد ماضٍ نرويه، بل شريان حياة يمتد بين الأجيال، ينقل الخوف والحلم، الحقيقة والخيال، ويجعل من الراوي مرآةً لروح المكان. فكما كانت الحكاية تجمع أهل قريتي، تتجلى يوم في زوايا دمشق العتيقة، حيث ما زال الحكواتي يسرد قصصه في المقاهي، ينطق بالكلمات فتتراقص الأرواح، وكأن الزمن لم يسرق من الحكاية سحرها.
وفي تأصيل للحالة الأدبية في تاريخ منطقة الشام، تغدو حالة الحكواتي وفقاً لما روى لي صديقي الذي كان يصحبه جدّه الى مقهى النوفرة الشعبي، ظاهرة تحمل مقومات خاصة في نسيج المجتمعات المحلية لا سيما في رمضان.
عمّ كان يحدثكم؟ عن الظاهر بيبرس وعنترة بن شداد والزير سالم… يجتمع رجال دمشق القيمرية، والبزورية، والسنجقدار، والقباقبية وباب سريجة، ليسمعوا القصص وسط تفاعل كبير. أصرُّ على الذهاب والحنين يملأني لسماع القصص. يأتي رجل يحمل سيفاً ويرتدي طربوشاً ويبدأ بسرد الأمثال الشعبية والحكاية الكامنة وراء كل مثل، شاهراً سيفه. أُصاب بالملل في المقهى المجاور للجامع الأموي. لماذا يتلو مثلاً وراء الآخر. يقول صديقي: “هكذا أضمن”. أصاب بالحيرة.
صوت الحكواتي خلفية للمشهد الدرامي. “أضمن من شو؟”، ما المشكلة في قصص الظاهر بيبرس والزير سالم التي يعرفها الجميع؟ “الأسئلة المفخخة من قبل البعض”. وأعرف لاحقاً أنه اجتهاد شخصي من قبل الحكواتي ذاته. الرقابة التي نفرضها على أنفسنا نحن، قبل ان تفرضها علينا السلطة. أغادر المقهى حزينة على “الحكواتي” الذي لم يبق منه إلا السيف الذي يشهره في وجهه هو، قبل أن يشهره في وجوهنا. فهل تحرر هذا “الحكواتي” مع تحرر دمشق؟
خُضار تنافس اللحوم
في دمشق، عرفت طقوس رمضان من قرب، واكتشفت أن الموائد الرمضانية ليست مجرد تجمعات للطعام، بل مساحة للتواصل الاجتماعي، حيث يتسابق الصائمون لدعوة الضيوف، وكأن الكرم في هذا الشهر اختبار يومي. كنا نعمل كصحافيين في مجلة سورية، وكنا نجد أنفسنا كل يوم على مائدة جديدة، لكن أكثرها دفئاً لم تكن الأفخم، بل تلك التي دعتنا إليها إحدى العاملات البسيطات في المكان، التي رغم ضيق الحال، قدمت لنا ما تيسر بحبّ خالص.
لكن، شيئاً فشيئاً، بات ضيق الحال يفرض نفسه على كل الموائد، حيث أصبح سكان الشام يشكون وفرة المواد وقلة السيولة، في مفارقة تعكس واقعاً بائساً سُلّمت إليه البلاد بعد سنوات من الانهيار. واليوم، بات الحديث في شوارع دمشق يدور حول الارتفاع غير المسبوق في أسعار الخضار. الفاصولياء والخضار الورقية تنافس اللحوم في أسعارها، بينما يعيش الناس يومياتهم وسط حوادث أمنية خطيرة تتكرر باستمرار.
الساعة الآن الثانية عشرة ظهراً. دمشق بلا خبز رمضان، بلا مُخبرين، بلا رقيب ذاتي… حتى هذه اللحظة. عاد الحكواتي، عاد صوته، عادت حكايا الظاهر بيبرس والزير سالم، لكنه هذه المرة شهَر سيفه، ونحن نجلس ننتظر النهاية، علّها تكون سعيدة.
المدن
————————-
قانونيًا.. هل يمكن تسليم الأسد إلى سوريا؟/ هاني كرزي
تحديث 04 أذار 2025
مع سقوط النظام في سوريا تزايدت الدعوات لمحاكمة الأسد وكبار المسؤولين السابقين في سوريا، الذين ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق السوريين، لكن مسار المحاسبة يصطدم ببعض العقبات.
يطالب السوريون بضرورة تسليم بشار الأسد إلى دمشق بعد فراره إلى روسيا، ولا يكتفون بتغيير السلطة وطي صفحة الرئيس السابق السياسية، بل يطمحون إلى ما هو أبعد من ذلك، أي تحقيق العدالة أمام محاكم وطنية أو دولية.
حجج روسية لعدم تسليم الأسد
في 9 من كانون الأول 2024، نقلت وكالة “نوفوستي” عن الكرملين، أن روسيا منحت بشار الأسد حق اللجوء لاعتبارات إنسانية، ومع ذلك ليس من الواضح على أي أساس قانوني منحته حق اللجوء.
وحول احتمالات قيام روسيا بتسليم الأسد، قال نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، إن “روسيا ليست طرفًا في اتفاقية روما التي أسست المحكمة الجنائية الدولية”، في إشارة إلى عدم رغبتها بتسليم الأسد.
الصحفي المختص في حقوق الإنسان، منصور العمري، أعد دراسة قانونية نشرت في “مبادرة الإصلاح العربي” حول سبل تسليم مجرمي الأسد، ويرى أنه ووفقًا لـ”اتفاقية اللاجئين” لعام 1951، التي تعد روسيا طرفًا فيها، فإن أحكام الاتفاقية لا تنطبق على أي شخص توجد أسباب جدية للاشتباه في ارتكابه جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية.
ومع ذلك، يبقى القرار بيد النظام القانوني المسيّس في روسيا، لتحديد ما إذا كانت هناك أسباب جدية للاشتباه في ارتكاب الأسد، الحليف المقرب السابق لموسكو، لأي من هذه الجرائم.
وسواءً منحت روسيا الأسد وضع اللاجئ الكامل أو لجوءًا مؤقتًا لأسباب إنسانية، يبدو من غير المرجح أن تسلّم روسيا حليفها السابق إلى سوريا.
ويرى العمري في دراسته، وهو الحاصل على ماجستير في العدالة الانتقالية والصراع، أنه رغم أن أي قرار مستقبلي بشأن تسليم الأسد سيكون على الأرجح ذا طابع سياسي، يمكن لروسيا أن تستند إلى العديد من المعاهدات الدولية التي هي طرف فيها، ولاسيما اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، لتبرير تمنّعها عن تسليم الأسد أو غيره من كبار مسؤولي النظام إلى سوريا لأنهم قد يتعرضون لخطر التعذيب.
وتنص اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب في مادتها “3-1″، على أنه لا يجوز لأي دولة طرف أن تطرد أي شخص أو تعيده أو أن تسلمه إلى دولة أخرى، إذا توافرت لديها أسباب حقيقية تدعو إلى الاعتقاد بأنه سيكون في خطر التعرّض للتعذيب، إضافة إلى أن تسليم المجرمين إلى دول تطبق عقوبة الإعدام محظور في العديد من الدول، لاسيما في أوروبا.
ومع ذلك، فإن استحالة التسليم خوفًا من التعذيب لا يعني أن يكون ذلك بمثابة درع من الملاحقة القضائية، بحسب الدراسة.
وتدعو اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب نفسها الدول التي قد لا ترغب في تسليم مشتبه به متهم بارتكاب التعذيب إلى “عرض القضية على سلطاتها المختصة بغرض الملاحقة القضائية” (المادة 7-1).
رغم عدم رغبة روسيا بتسليم الأسد، فإن الحكومة السورية الجديدة تصرّ على ذلك، وكشفت وكالة “رويترز” تفاصيل جديدة عن اللقاء الذي جرى بين الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، ومبعوث الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في دمشق قبل أكثر شهر.
وقالت “رويترز”، في 2 من آذار، نقلًا عن ثمانية مصادر سورية وروسية ودبلوماسية، إن الشرع سعى خلال الاجتماع الذي عُقد في 29 من كانون الثاني الماضي في دمشق، إلى مطالبة روسيا بتسليم الأسد.
وقال أحد المصادر إن المسؤولين السوريين أثاروا خلال اللقاء الذي استمر ثلاث ساعات، مع نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، قضية تسليم الأسد إلى سوريا، ولكن بشكل عام فقط، مشيرين إلى أنها ليست عقبة كبيرة أمام إعادة بناء العلاقات.
ولفت مصدر روسي رفيع المستوى إلى أن روسيا لن توافق على تسليم الأسد، ولم يُطلب منها ذلك.
ويرى المحامي المختص في القانون الجنائي الدولي، المعتصم الكيلاني، أن روسيا ملزمة بتسليم الأسد وأعوانه، كونها وقعت على اتفاقية “الإنتربول” الدولي منذ عام 1990، مشيرًا إلى أنه سيكون هناك ضغط دولي على روسيا لتسليم الأسد، وفي حال عدم استجابتها ستكون هناك إجراءات عقابية من “الإنتربول” بحق روسيا.
وأضاف الكيلاني لعنب بلدي، أن حق اللجوء الذي منحته روسيا للأسد لا يحميه من المحاسبة، لأن اتفاقيات جنيف الخاصة باللاجئين، لا تمنح المتورطين بجرائم الحرب أي ميزات من اللجوء الإنساني أو السياسي أو أي حماية من الملاحقة.
الطريق مسدود نحو الجنائية الدولية
رغم سقوط النظام السوري، مازال الطريق مسدودًا نحو تسليم الأسد لمحاكمته في المحكمة الجنائية الدولية.
ويرى المحامي والخبير القانوني عبد الناصر حوشان، أن ملف جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لم يُحل إلى المحكمة الجنائية الدولية، لعدم توفر أي سبيل من سبل الإحالة، فلم يصدر قرار من مجلس الأمن بشأن إحالة الأسد.
كما أنه لم تقم أي دولة طرف في ميثاق روما الأساسي بطلب الإحالة، ولم يقم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بذلك أيضًا، وبالتالي لا يمكن للمحكمة فتح التحقيق بجرائم بشار وطلبها تسليمه من السلطات الروسية.
وأضاف حوشان، لعنب بلدي، أن سوريا غير موقعة على ميثاق روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي لا يمكنها طلب فتح تحقيق بجرائمه ما لم تطلب الانضمام إلى ميثاق المحكمة، وهذا ما لا يفيد السوريين في المرحلة الحالية، لأن الاختصاص الزماني للنظر بجرائم الحرب في سوريا من قبل محكمة الجنايات، يبدأ بعد نفاذ طلب الانضمام بـ 60 يومًا، وبالتالي لن يكون للجنائية الدولية صلاحية النظر في جرائم بشار الأسد وأعوانه.
خلال السنوات الماضية، حاول مجلس الأمن مرارًا إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية، لكنه فشل في ذلك، بسبب “الفيتو” الروسي- الصيني، ما دفع بعض الدول والمنظمات الحقوقية إلى الاتجاه لمحاسبة النظام عبر المحاكم الأوروبية التي يتاح لها بموجب الولاية القضائية العالمية محاسبة مجرمين خارج أراضيها، ارتكبوا انتهاكات بحق مواطنين لها يعيشون في سوريا.
كانت 108 دول وقعت عام 1998 على ميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية، وهناك العديد من الدول لم توقع على المعاهدة بما فيها سوريا والعراق، وبالتالي لا تتدخل المحكمة في قضايا على الأراضي السورية، بينما تستطيع المحكمة تلقائيًا ممارسة سلطة قضائية على الجرائم المرتكبة في أراضي أي دولة عضو أو المرتكبة من أشخاص ينتمون لأي دولة عضو.
قوانين تعرقل المحاسبة
السوريون لا يطالبون بتسليم بشار الأسد فحسب، بل كل مسؤولي النظام السابق الذين ارتكبوا جرائم ضد السوريين، وفروا إلى دول عربية أو غربية عقب سقوط الأسد.
وذكر منصور العمري في دراسته القانونية، أن قانون تسليم المجرمين في الجرائم الجنائية، ينظم شروط تسليم المجرمين من السويد أو ألمانيا إلى دولة خارج الاتحاد الأوروبي، حيث يتطلب هذا القانون من أي دولة تسعى لتسليم شخص ما، تقديم طلب رسمي إلى السلطة المركزية السويدية أو الألمانية، مرفقًا بتقرير التحقيق الذي يستند إليه طلب التسليم.
ويحدد القانون السويدي أو الألماني عددًا من الحالات التي لا يجوز فيها تسليم المجرمين، ومنها عدم جواز الحكم على الشخص الذي يتم تسليمه بعقوبة الإعدام بسبب الجريمة، وأن يكون الفعل الذي يُطلب التسليم من أجله مطابقًا لجريمة يعاقب عليها القانون السويدي أو الألماني بالسجن لمدة سنة أو أكثر.
عدم جواز الموافقة على التسليم في الجرائم العسكرية، أو إذا كان هناك سبب للخوف من أن يتعرض الشخص لخطر الاضطهاد، بسبب أصوله العرقية أو انتمائه إلى مجموعة اجتماعية معينة أو معتقداته الدينية أو السياسية.
تسليم الفارين إلى الدول العربية
يُشتبه في أن العديد من مسؤولي النظام السوري، فروا إلى لبنان أو عبروا منه، ويعتبر لبنان دولة طرفًا في اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية، وبموجب هاتين الاتفاقيتين، يُطلب من لبنان إما تسليم المشتبه بهم أو إحالة القضية إلى سلطاته المختصة لمحاكمتهم.
كما أبرم لبنان وسوريا العديد من الاتفاقيات الثنائية قد تكون ذات صلة بتسليم المشتبه بهم في الجرائم أو التحقيق معهم أو محاكمتهم، بما في ذلك الاتجار بالمخدرات، وتسليم المجرمين وتنفيذ الأحكام الجزائية التي تنظم تسليم المشتبه بهم بين سوريا ولبنان، بحسب الدراسة القانونية لمنصور العمري.
تنصّ “المادة 1” من اتفاقية تسليم المجرمين على أن يتم تسليم الأشخاص بين لبنان وسوريا وتنفيذ الأحكام الجزائية الصادرة عن السلطات القضائية، لأي من الدولتين في أراضي الدولة الأخرى وفقًا لأحكام هذا الفصل.
يجب أن يتم التسليم إذا توافرت الشروط التالية ومنها، إذا كان الشخص المطلوب ملاحقًا أو متهمًا أو محكومًا عليه في جريمة جنائية يعاقب عليها بموجب قانون الدولة الطالبة، أو ملاحقًا أو مشتبهًا في ارتكاب جنحة تستوجب بموجب قانون الدولة الطالبة، عقوبة الحرمان من الحرية لمدة تزيد على سنة، أو محكومًا عليه بالسجن لمدة لا تقل عن شهرين.
إذا كانت الجريمة الجنائية قد ارتُكبت في إقليم الدولة الطالبة، أو إذا كانت الجريمة، رغم أنها أرتكبت خارج إقليم كلتا الدولتين، يُعاقب عليها بموجب قانون كلتا الدولتين عند ارتكابها خارج إقليميهما.
سلم لبنان حكومة دمشق المؤقتة عشرات الجنود والضباط التابعين لنظام بشار الأسد، الذين فروا إلى لبنان بعد سقوط النظام.
ونقلت وكالة “رويترز” عن مصدر أمني، السبت 28 من كانون الأول 2024، أن لبنان أعاد 70 جنديًا وضابطًا بعد دخولهم أراضيه بطريقة غير قانونية عبر طرق التهريب.
أبرمت سوريا اتفاقيات ثنائية للتعاون القضائي بما في ذلك تسليم المتهمين مع عدة دول عربية أخرى، مثل تونس والإمارات العربية المتحدة، كما وقّع العراق وسوريا مؤخرًا مذكرة أمنية تضمنت تسليم المتهمين بين البلدين.
سوريا دولة طرف في اتفاقية تسليم المجرمين بين دول جامعة الدول العربية (1952)، التي تنظم تسليم المجرمين بين الدول العربية.
وبموجب هذه الاتفاقية تتعهد كل دولة من دول الجامعة العربية الموقعة على هذه الاتفاقية، تسليم المجرمين الذين تطلب إليها إحدى هذه الدول تسليمهم.
يكون التسليم واجبًا إذا كان الشخص المطلوب تسليمه ملاحقًا أو متهمًا أو محكومًا عليه في جريمة من الجرائم المنصوص عليها في المادة الثالثة، إذا ارتكب هذه الجريمة في ارض الدولة طالبة التسليم.
منافذ قانونية
في ظل وجود بعض العقبات التي قد تمتع محاسبة بشار الأسد وأعوانه من المسؤولين الذين ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا، فإن هناك بعض المنافذ القانونية للوصول نحو المحاسبة.
ويرى المحامي عبد الناصر حوشان، أن الحل نحو المحاسبة، هو العودة إلى قواعد الاختصاص القضائي، التي تقول إن الأصل بالنظر في هذه الجرائم، هو للقضاء الوطني السوري، وأن المحكمة الجنائية الدولية هي مسار تكميلي وكذلك المحاكم الأجنبية التي تأخذ بالولاية الشاملة.
ووفق الدراسة القانونية التي نشرها منصور العمري في “مبادرة الإصلاح العربي“، فإنه في ظل استحالة تسليم بعض الدول الأسد وأعوانه خوفًا من تعرضهم للتعذيب، لا يعني أن يكون ذلك بمثابة درع من الملاحقة القضائية.
وتدعو اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب نفسها الدول التي قد لا ترغب في تسليم مشتبه به متهم بارتكاب التعذيب، إلى عرض القضية على سلطاتها المختصة بغرض الملاحقة القضائية.
كما تؤكد الورقة القانونية، على أن الخطوة الأساسية في تعزيز المطالبة بتسليم المشتبه بهم إلى سوريا، هي ضمان تخلي النظام القضائي السوري الجديد عن التعذيب وتعزيز سيادة القانون.
يعاني النظام القضائي ونظام السجون في سوريا من عقود من الانتهاكات، فقد لجأت السلطات السورية في عهد الأسد إلى الاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري والتعذيب في التحقيقات، والاستجواب، والمحاكمة، والاحتجاز، إضافة إلى أن مرافق الاحتجاز في سوريا تتخلف بشكل كبير عن قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء.
علاوة على ذلك، فإن القوى الحاكمة الجديدة التي أطاحت بنظام الأسد، لها تاريخ من الانتهاكات المماثلة، ولم تحترم سجونها القواعد الدنيا لمعاملة السجناء، ولا يزال من غير الواضح كيف ستتطور العملية القضائية في ظل هذه القيادة الجديدة، وما إذا كانت ستلتزم بمعايير المحاكمة العادلة وتضمن عدم حدوث انتهاكات وتعذيب أثناء التحقيقات.
وفي ظل هذه الواقع تدعو الدراسة، الحكومة السورية الجديدة بأن تلتزم بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، بما في ذلك الحق في محاكمة عادلة وظروف احتجاز إنسانية.
وأحد الخيارات المحتملة لتحقيق ذلك، هو إنشاء آلية مختلطة للعدالة داخل سوريا، يقودها سوريون ولكن بدعم من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي وخبراء في العدالة في مرحلة ما بعد النزاع على مختلف المستويات، ويجب أن تكون هذه الآلية مقبولة للسوريين وتلتزم بالمعايير القانونية الدولية.
محاكمات في أوروبا
تقام في أوروبا العديد من المحاكمات التي تطال سوريين، بموجب الولاية القضائية، التي تتيح لتلك الدول محاكمة أشخاص من سوريا ارتكبوا انتهاكات بحق مواطنيها، كما حصل في قضية محاكمة الضابط السوري أنور رسلان في ألمانيا.
من المرجح أن تستمر محاكمات مجرمي النظام السوري في أوروبا، على الأقل حتى يستقر الوضع في سوريا ويتضح أن لديها نظامًا قضائيًا يحترم القانون الدولي ومعايير المحاكمة العادلة، قبل أن يتم تسليم المعتقلين في أوروبا إلى سوريا لمحاكمتهم.
وقال منصور العمري إنه، يمكن اتخاذ تدابير فورية لضمان مشاركة السوريين الذين لا يزالون في سوريا وإشراكهم في هذه المحاكمات، لا سيما من خلال ضمان بث هذه المحاكمات مباشرة عبر التلفزيون السوري.
ويمكن للبث المباشر أن يكون بمثابة أداة تثقيفية فعالة، حيث يتيح للجمهور، بالإضافة إلى المحامين والقضاة السوريين، الاطلاع على النظام القانوني العادل وحقوق المتهمين.
كما يمكن أن تصبح المحاكمات نموذجًا يحتذى به أو محفزًا للإصلاحات داخل النظام القضائي السوري، ويمكن أن توفر هذه المحاكمات أيضًا رؤى قيّمة حول المعايير الدولية للعدالة، والإجراءات العادلة، وملاحقة الجرائم الخطيرة، ومن خلال دراسة هذه المحاكمات، يمكن للمهنيين القانونيين السوريين أن يتعلموا مناهج وتقنيات جديدة يمكن تكييفها مع نظامهم القضائي السوري.
مذكرة توقيف بحق الأسد
في 21 من كانون الثاني الماضي، أصدرت محكمة فرنسية مذكرة توقيف جديدة ضد رئيس النظام السوري المخلوع، بشار الأسد، بتهمة التواطؤ بارتكاب جرائم حرب في سوريا.
قاضيتان فرنسيتان أصدرتا مذكرة التوقيف بحق بشار الأسد، تتعلق بقصف للنظام السابق وقع على درعا عام 2017، قُتل فيه المدني صلاح أبو نبوت (59 عامًا)، الذي يحمل الجنسيتين الفرنسية والسورية.
ومن المقرر أن يُنظر بمذكرة التوقيف الفرنسية بحق بشار الأسد من قبل محكمة النقض في استئناف النيابة العامة بباريس، في 26 من آذار المقبل.
مذكرة الاعتقال الفرنسية التي صدرت بحق بشار الأسد، تعتبر الثانية من نوعها.
كان قضاة التحقيق الجنائي في فرنسا أصدروا مذكرة توقيف بحق الأسد وشقيقه ماهر إضافة إلى اثنين من معاونيه، بتهمة استخدام الأسلحة الكيماوية في الغوطة الشرقية في آب 2013، وذلك عقب تحقيق جنائي أجرته الوحدة المتخصصة في الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التابعة للمحكمة القضائية في باريس.
عنب بلدي
—————————–
الطائفية عند العلويّين بين إشكالية التاريخ ومأزومية الواقع ودكتاتورية النظام/ جاد الله محمد
نشر في 3 آذار/مارس ,2025
تتناول هذه الدراسة تحليلًا شاملًا لمواقف الطائفة العلوية البارزة خلال الثورة السورية، مسلّطة الضوء على تأييدها الواسع للنظام السوري واستخدامها كأداة رئيسية لقمع المعارضة. وتقدّم تفسيرًا للطائفية كعامل مركزي، لكنها تتجاوز الإطار التقليدي لفهم الظاهرة، إذ تتساءل عن الأسباب العميقة وراء الطائفية: أهي مرتبطة بالبنية التاريخية للطائفة، أم بعوامل مجتمعية وسياسية، أم باستغلال طائفي ممنهج؟
تُبرز الدراسة رؤية جدلية بين الطوائف والمجتمع، حيث تسهم الطائفية في تفكك المجتمع، ومن ثم يعزّز المجتمع المتدهور الطائفية. على المستوى العَلوي، تُظهر الدراسة أن الطائفية ليست ظاهرة حصرية مرتبطة بالطائفة العلوية، بل ظاهرة مشتركة تتقاسمها أيضا الطوائف الأخرى في السياق السوري والعربي، وعلى المستوى المجتمعي السوري، فإن فشل النهضة الوطنية في سورية، مع استغلال الطائفية سياسيًا بعد انقلاب البعث، قد أدّى إلى شرذمة المجتمع وتعزيز هيمنة نظام الأسد.
وهذه الدراسة تسعى بشكل رئيس لتقديم رؤية بانورامية لتطورات وضع الطائفية العلوية، منذ أواخر الحكم العثماني حتى الثورة السورية.
مركز حرمون
——————————-
تحديات إعادة إعمار المناطق المدمرة في سورية/ إبراهيم خولاني
نشر في 2 آذار/مارس ,2025
خلال سنوات الثورة السورية، تعرّضت كثير من المدن والأرياف في السورية لأضرار كبيرة، في بنيتها التحتية ومرافقها الحيوية ومنازل سكانها، وأدّى ذلك إلى تشريد ملايين السوريين وتدمير قطاعات واسعة في الاقتصاد السوري. ومن بعد سقوط نظام الأسد الذي كان فاعلًا رئيسيًا في هذا التدمير، تبرز قضية إعادة الإعمار المادي، بوصفها أحد تحديات إعادة الإعمار الواسعة التي تواجه البلاد، إذ تحتاج هذه العملية إلى جهود كبيرة، تتضمن إعادة بناء مدن أو أحياء كاملة دُمّرت في سنوات الحرب، وتحقيق التنمية الاقتصادية لهذه المناطق، وعودة النازحين واللاجئين إلى منازلهم، وتفعيل مسار العدالة الانتقالية بالتزامن مع التنمية على أكثر من صعيد. لكنّ نجاح هذه العملية يعتمد على توفر عددٍ من المتطلبات، مثل التمويل الكافي، والخبرات الهندسية والتخطيطية، إضافة إلى توفر بيئة سياسية مستقرّة تعزز التنمية المستدامة وتخلق حالة أمنية تساعد في جذب الاستثمار ورؤوس الأموال، وتعترض هذه العملية عقبات عدة تعوق تقدّمها بسلاسة، من أبرزها مسألة حقوق الملكية والتكلفة الكبيرة لإعادة الإعمار ومسألة التعويضات وإعادة تخطيط المناطق المدمرة.
تحاول هذه الورقة إلقاء الضوء على حجم الدمار الذي خلّفته الحرب في سورية، وتشير إلى القوانين التي أصدرها نظام الأسد، في مجال حقوق الملكيات والمخططات التنظيمية، وحرم بموجبها كثيرًا من المواطنين من حقوقهم وأملاكهم، وتعرض التحديات التي تواجه عملية إعادة الإعمار المادي للمناطق التي تعرّضت للتدمير، جزئيًا أو كليًّا، وتقدّم جملة من التوصيات التي تسهم في معالجة هذه المشكلات.
أولًا: حجم الدمار في سورية
بلغ الدمار الذي خلفته الحرب في المدن السورية مستوًى مرتفعًا، وتوزع على مناطق واسعة في كثير من المدن والأرياف، مثل أحياء حمص، والمناطق المحيطة بالعاصمة دمشق، وأحياء حلب الشرقية، ومناطق عدة في دير الزور والرقة ودرعا، حيث دمّرت كثير من الأحياء، كليًا أو جزئيًا، ودمّرت فيها البنى التحتية بشكل واسع أيضًا. حتى المناطق التي لم تتعرض لعمليات التدمير، تهالكت فيها البنى التحتية بسبب الإهمال. وقد نشر معهد الأمم المتحدة للبحث والتدريب (UNITAR)، في عام 2019، تقريرًا بيّن فيه حجم الدمار الذي لحق بعدد من المدن السورية، وكان على النحو التالي[1]:
وقدّر البنك الدولي، في تقرير أصدره عام 2022، عدد الوحدات السكنية التي دُمّرت بنحو 210 آلاف وحدة[2]، وهذه الأرقام ارتفعت بعد الزلزال الذي ضرب تركيا وسورية، في 6 شباط/ فبراير 2023، وتأثرت به محافظات سورية عدة، وهي (حلب، إدلب، حماة، اللاذقية، حمص، طرطوس). وقد قدّر البنك الدولي نسبة الوحدات السكنية التي دمّرها الزلزال في محافظة إدلب بنحو 13.1% من مجموع مباني المحافظة، وفي محافظة حلب بنحو 4.1%[3]. وقدرت مصادر أخرى عدد الأبنية المتضررة في كل سورية آنذاك بنحو 12795 بناء، منها 2691 بناء تضرر بشكل كلي[4].
لا شك في أن هذه التقارير مفيدة لإحصاء الأحياء والأبنية المدمّرة، لكنها كانت مبنية على معطيات مقيدة، قبل سقوط النظام، أما الآن فقد أصبح المجال مفتوحًا بشكل أفضل لإجراء مثل هذه الإحصاءات كي تشمل كلّ المناطق، بشكل واقعي ميداني، يتجاوز النقص في التقارير السابقة، حيث بات من الممكن إجراء دراسات موسعة تتضمن بيانات أكثر دقة حول البنى التحتية التي تم تهديمها طوال 14 سنة. وينبغي للحكومة الانتقالية الحالية أن تستعين بالمنظمات الدولية لإجراء عمليات الإحصاء، في مختلف المواقع التي شملها الدمار في سورية.
ثانيًا: القرارات والقوانين التي أصدرها نظام الأسد
بعد عام 2011، أصدر نظام الأسد قرارات ومراسيم عدة، بذريعة تنظيم المناطق السكنية، لكن جوهرها كان من أجل شرعنة الاستيلاء على أملاك المعارضين أو حاضنتهم الشعبية، ولا سيما في المناطق التي خرجت فيها التظاهرات، وتحولت بعد ذلك إلى حراك مسلح؛ فأصدر، في عام 2012، المرسوم رقم 66 الذي تذرع بتنظيم مناطق السكن العشوائي في محيط دمشق[5]، وهي المناطق التي هجّر النظام جزءًا كبيرًا من سكانها، إما بعد ارتكابه المجازر الجماعية والحصار، مثل داريا ومخيم اليرموك والحجر الأسود، وإما بعد إخراج سكانها من دون أن تتطور الاحتجاجات فيها إلى صراع مسلح، وقد فعل ذلك في المناطق الملاصقة لدمشق، مثل أحياء بساتين الرازي، بهدف تغيير بنيتها الديموغرافية كي لا تشكل له أي تهديد مستقبلًا، وبدأ بالفعل بإنشاء بعض الأبراج في مشروع ماروتا سيتي. وبالنظر إلى مشكلات هذه المشاريع، نرى أن نظام الأسد كان قد أصدر المخططات التنظيمية لتلك المناطق، ووزع سندات التمليك من دون أن يستطيع جزء من الناس، ولا سيما المعارضين، إثبات ملكيتهم للعقارات في المناطق المراد تنظيمها. ويضاف إلى ذلك أن محافظة دمشق استملكت 50 مقسمًا من تلك المناطق، ثمّ باعت هذه الملكية لشركة “شام القابضة”[6]، مقابل وعود بإعطاء مساكن بديلة للسكان.
وفي سياق سرد القوانين والمراسيم التي صدرت في هذا الخصوص، نذكر المرسوم رقم 40 لعام 2012، الذي نص على إزالة الأبنية المخالفة[7]، ما سمح بهدم كثير من مناطق السكن العشوائي التي هُجّر أهلها بسبب الحرب، مثل المناطق المحيطة بداريا ومناطق مخيم اليرموك والحجر الأسود، من دون أن يستطيع أصحابها إثبات أنها كانت قائمة قبل صدور المرسوم. وفي عام 2012، صدر المرسوم رقم 63 الذي خوّل الضابطة العدلية الحجز الاحتياطي على عقارات المتهمين بالإرهاب[8]. وفي عام 2015، صدر القانون رقم 23، الذي أعطى الحق للوحدات الإدارية في الاقتطاع من العقارات في مناطق المخالفات، حيث حدد نسبة الاقتطاع من مساحة العقار بما لا يتجاوز 40 %، إذا كان العقار خارج مراكز المحافظات وفي الأرياف، و50 % إذا كان العقار ضمن مراكز المحافظات، وإذا كانت المساحة المقتطعة تزيد عن النسب السابقة، فلا خيار للمالك إلا أن يطالب بتعويضه عن المساحة الزائدة المقتطعة[9]. وفي عام 2017، صدر القانون رقم 33 الذي نص على إعادة تكوين الوثائق العقارية المتضررة[10]، وكانت خطورة هذا القانون في أنه يسمح بتشكيل الوثائق العقارية وفق لجان كانت تتبع لنظام الأسد نفسه. وفي العام نفسه، صدر القانون رقم 35 الذي أتاح الحجز الاحتياطي على الأموال المنقولة وغير المنقولة للمكلّفين الذين امتنعوا عن تسديد بدل فوات الخدمة العسكرية[11]. وفي عام 2018، صدر القانون رقم 3، الذي أعطى المحافظ الحق في تشميل بعض المناطق بهذا القانون لتصبح مناطق خالية من الأبنية، وهذا ما يسمح بإعادة تنظيمها من جديد. وصدر في العام نفسه القانون رقم 10 الذي نص على إمكانية إحداث منطقة تنظيمية ضمن المخطط التنظيمي[12]، وأصدر هذا القانون سعيًا لتمكين الاستيلاء على أملاك النازحين، كمحاولة استباقية للتحكم في شكل التنظيم وتوزيعه في عملية إعادة الإعمار مستقبلًا، ولتغيير شكل المجتمع أو تغيير النمط الذي كان يتسم به. وفي 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، أقر مجلس الشعب قانونًا يخوّل السلطة التنفيذية الحق في إدارة واستثمار الأموال المنقولة وغير المنقولة المصادرة بحكم قضائي مبرم[13].
ثالثًا: تحديات إعادة الإعمار
التكلفة الكبيرة
هناك مناطق واسعة في سورية باتت مدمّرة بشكل كامل، وإن إعادة إعمارها تتطلب مبالغ كبيرة، وقد قدرت الأمم المتحدة، في عام 2018، خسائر الحرب في سورية بنحو 400 مليار دولار[14]. ومن المرجح أن تلك التقديرات ازدادت اليوم، لكن الزيادة تتفاوت بين تقرير وآخر، من حيث الجوانب التي يغطيها كل تقرير؛ حيث هناك فرق بين تكلفة إعادة إعمار المناطق المدمرة وبين تكلفة الخسائر الأخرى للحرب على المستوى التنموي والاقتصادي، فقد قدرت منظمة (الإسكوا)، في عام 2019، قيمة الدمار المادي الذي لحق بسورية، خلال 8 سنوات من الحرب، بنحو 117.7 مليار دولار، وقدرت قيمة الخسارة في الناتج المحلي الإجمالي بنحو 324.5 مليار دولار، أي إن التكلفة الكلية للصراع، في ذلك العام، كانت تُقدر بنحو 442.2 مليار دولار[15]. ومثل هذه الأرقام لا تستطيع الدولة السورية أن تأمنها وحدها؛ لأنها تفوق قدراتها وتحتاج إلى عشرات السنوات. لذلك، هناك تعويل كبير على الدعم الخليجي والغربي الذي قد يتمثل بتبرعات لإعادة بناء البنى التحتية للمدن، أو بودائع مالية في خزينة الدولة لتصبح قادرة على تلبية حاجة مؤسساتها. وهناك تعويل أيضًا على الدعم التركي الذي قد يتمثل بالاستشارات أو بدخول شركات ذات خبرة في مجالات بناء البنية التحتية وتنظيم المدن الحديثة وإعادة الإعمار، وهذا يتوفر في بعض الشركات التركية، بسبب التطور العمراني الذي شهدته في السنوات الأخيرة، وبسبب الخبرة التي اكتسبتها الشركات هناك في إعادة إعمار مناطق الزلزال الذي ضرب تركيا وسورية في بداية عام 2023.
إن معالجة التكلفة المرتفعة التي تواجه عملية إعادة الإعمار تحتاج إلى جمع معلومات كاملة ودقيقة عن حجم الدمار، وتحتاج أيضًا إلى القدرة على جلب التمويل الدولي والإقليمي، وإلى عقد مؤتمرات للمانحين، وجذب الاستثمارات ورؤوس الأموال. وإن الوصول إلى ذلك يتطلب وجود استقرار أمني وسياسي لا يتحقق من دون وجود حكومة دستورية وتوافقية، تستطيع التواصل مع المجتمع الدولي وتنشئ صندوقًا لإعادة الإعمار وتشارك في مؤتمرات المانحين الدوليين، وتسنّ قرارات تتيح للمستثمرين ورجال الأعمال -ومن ضمنهم السوريون- وضع أموالهم واستثمارها في مشاريع متنوعة تسهم في العملية. وإن وجود هذا الاستقرار يمكن الحكومة أيضًا من إجراء مسح شامل للمناطق المدمرة، بالاستعانة بمنظمات دولية لديها الخبرة في تقدير الاحتياجات وفي إجراء مسوحات دقيقة عبر الأقمار الاصطناعية أو الطائرات المسيرة. ويضاف إلى تحدي التكلفة المرتفعة التي تواجه عملية إعادة الإعمار، ضرورة التوجه حاليًا إلى الحلول الإسعافية، مثل دعم قطاعات الغذاء والمياه والطاقة، وإصلاح شبكات المياه والكهرباء في المناطق التي دمرت تدميرًا جزئيًا.
ويمكن الاستفادة من تجارب الدول المجاورة في عملية إعادة الإعمار، مثل لبنان والعراق، ودراسة العقبات التي واجهتها، ففي العراق كان هناك أسباب عدة أضعفت سير العملية، منها إعطاء الأولوية إلى الشركات الأجنبية التي استحوذت على معظم المشاريع وأعاقت الشركات المحلية في منافستها، ومنها أيضًا تركيز الإنفاق على الأمن أكثر منه على التنمية، ما أدى إلى تهميش اجتماعي واقتصادي ظل فيه معظم العراقيين بعيدين عن الاستفادة المباشرة من مشاريع إعادة الإعمار. وفي لبنان أيضًا كانت العملية مشابهة لما كانت عليه في العراق، فضلًا عن أن الحكومة اللبنانية زادت اعتمادها على القروض ما أدى إلى أزمة اقتصادية خانقة، وأن الشركات الخاصة التي كانت مملوكة لسياسيين لبنانيين تدخلت في معظم مشاريع إعادة الإعمار، ما أدى إلى فشل في توزيع المكاسب الاقتصادية؛ إذ أخذت النخبة الجزء الأكبر من الفوائد الاقتصادية[17].
العقوبات الدولية
في سياق الحديث عن تحدي التكلفة المرتفعة في عملية إعادة الإعمار، تجدر الإشارة إلى مسألة مهمة جدًا هي العقوبات الغربية والأميركية المفروضة على سورية، ولا سيما قانون “قيصر”[18]، إذ تشكل عائقًا رئيسيًا أمام تدفق الاستثمارات ورؤوس الأموال إلى سورية، ومن دون إزالتها ستظلّ سورية دولة غير مستقرة، وسيبقى التعامل مع المصرف المركزي في سورية محظورًا، وبالتالي ستبقى عملية إعادة الإعمار معطلة، ولن تعقد مؤتمرات المانحين لدعمها. وإن إزالة هذه العقوبات تحتاج إلى جهود سياسية، وتوافق إقليمي على ضرورة إقناع الغرب بضرورة إزالتها، ويتطلب ذلك أيضًا وجود رغبة أميركية في ضرورة تنمية المنطقة واستقرارها، وقد يساعد تشكيلها مجموعات الضغط السورية الموجودة في الولايات المتحدة الأميركية، وذلك بالتزامن مع تعامل الحكومة الجديدة في سورية بحذر في ملفات عدة، من بينها ملف العلاقات مع روسيا وملف الأمن في المنطقة ولا سيما الأمن الإسرائيلي، وأن يكون تشكيل الحكومة الجديدة ممثلًا لكل السوريين.
التعويضات
تعد مسألة التعويضات جزءًا من برامج العدالة الانتقالية التي لا بدّ لسورية أن تتبعها في عملية إعادة بناء الدولة، وإعادة الثقة بينها وبين المجتمع، فالنظام السوري السابق خلق فجوة كبيرة بين الدولة والمجتمع، إذ كان ينتهج سياسة تدمير مناطق كاملة، انتقامًا من أهلها الذين أيدوا الاحتجاجات ضده. لذلك، فإن تعويض الناس الذين دمر النظام السابق مساكنهم باسم الدولة، يعدّ جزءًا مهمًا في عملية بناء الدولة السورية، فضلًا عن كونه حقًا معترفًا به في القانون الدولي[19]. ويمكن تقسيم التعويضات قسمين رئيسين:
تعويضات مباشرة: تكون عبر إعطاء أصحاب الملكيات التي دمرت بيوتهم مبالغ مالية بوصفها شكلًا من أشكال جبر الضرر أو حلًا إسعافيًا، ليستطيع صاحب المنزل المدمر أن يجد مأوى له ريثما يبدأ مسار إعادة الإعمار، وهنا قد تظهر مشكلة في مسألة من يستحق أخذ هذه التعويضات، هل صاحب المنزل أم المستأجر؟ وهل يكون التعويض لمن يملك أكثر من بيت هو ذاته التعويض لمن يملك بيتًا واحدًا؟ وهل يكون التعويض للمنازل فقط أم يشمل ذلك كل العقارات التي دمرت، مثل المحال التجارية والفلل التي كانت مخصصة للترفيه ولا يملكها كل الناس؟ وإن الإجابة على هذه الأسئلة تتطلب الموازنة بين تحقيق العدالة في التعويض، من حيث ضرورة أن تشمل جميع المتضررين، وبين التكلفة الكبيرة التي تصل إلى مليارات الدولارات، ولا يستطاع دفعها فورًا. لذلك، قد يكون من الأفضل الاعتماد على دفع الحد الأدنى من التعويضات، كي تشمل جميع المتضررين، وهي بطبيعة الحال تعويضات هدفها الرئيسي جبر الضرر، والمساعدة الإسعافية في السكن المؤقت.
تعويضات غير مباشرة: وتكون بإتاحة الفرصة للشركات المحلية الصغيرة والمتوسطة، وألا تكتفي الحكومة في عملية إعادة إعمار المناطق المدمرة بفتح المجال لشركات المقاولات الكبرى، لأن هذه الأخيرة تستطيع أن تبتلع السوق كله، وسيزيد ذلك من الفجوة بين المجتمع الدولة مرة أخرى. فلا بد من إشراك رؤوس الأموال الصغيرة والمتوسطة الموجودة في المجتمع المحلي، لأن ذلك سيحرك عجلة الاقتصاد المحلي ويشغله، وسيزيد من ثقة الناس بالدولة وقراراتها. وهنا تجدر الإشارة إلى أن عملية إعادة الإعمار بعد سنوات الحرب الطويلة يجب أن تكون عملية تنموية ومستدامة، وأن يكون من أهدافها أيضًا معالجة الأسباب الاقتصادية التي أدّت إلى الصراع في سورية، بدءًا من دعم الطبقة الوسطى والعمل على توسيعها وتنميتها علميًا واقتصاديًا وخدميًا، فهذا يخدم الدولة والمجتمع معًا، وهو جزء من التعويضات غير المباشرة.
لذلك، فإن تحدي دفع التعويضات ضمن عمليات إعادة الإعمار يُعدّ تحديًا كبيرًا، فمن جهة هو ضروري للدولة الجديدة في أثناء عملية إعادة بناء الثقة بينها وبين المواطنين، ومن جهة أخرى يحتاج دفع التعويضات لمستحقيها إلى مبالغ كبيرة لا تستطيع أن تقوم بها الدولة وحدها؛ فخزينتها قد أفرغها نظام الأسد على الحرب والفساد.
حقوق الملكية ومشكلاتها
تنقسم ملكية العقارات في سورية إلى خمسة أنواع أهمها سند التمليك (الطابو الأخضر)، وهو أقوى وثيقة رسمية تثبت الملكية، وهناك أيضًا ملكية حكم المحكمة، وهو قرار من محكمة سورية يؤكد حق فرد ما في العقار، ويصدر من المحكمة المختصة حيث تُحدّد الملكية بناءً على أحكام قضائية. وهناك نوع آخر هو الوكالة القانونية غير القابلة للعزل، حيث يأخذ الشاري من المالك وكالة تخوّله إجراء معاملة نقل ملكية عقار لنفسه أو لمن يريد. وهناك نوع آخر من الملكية وهو ملكية عقد البيع القطعي، وهو عبارة عن اتفاق بين طرفين أو أكثر، يوافق بموجبه المالك على نقل ملكية عقاره إلى الشاري الذي يوافق على دفع مبلغ معين من المال إلى المالك. وأخيرًا هناك ملكية مصدرها شراء حصة من عقار على الشيوع، وهذا يكون في حالة كون العقار عائدًا لعدة مالكين بحصص سهمية غير مفرزة، مثل نقل ملكية عقار ما إلى ورثة المالك بعد موته، من دون تحديد كل وارث بجزء معين من العقار[20].
بعد تحديد الفئات المستحقة للتعويضات، تبدأ مشكلة إثبات ملكية المستحق، وهي المشكلة التي يعاني منها جزء كبير من السوريين، ولا سيما في مناطق السكن العشوائي، ويضاف إلى ذلك أيضًا تلف جزء من السجلات العقارية أو تزويرها خلال السنوات الماضية. وإن البدء بحل المشكلات القانونية لسندات الملكية، ولا سيما في المناطق المراد إعادة إعمارها، يحتاج إلى فهم الوضع القانوني للعقارات في سورية قبل الحرب، ودراسة المشكلات التي كانت تواجه الناس في هذا المجال، ثم تضاف إليها دراسة المشكلات التي طرأت على الموضوع نفسه بعد بدء الحرب. وفي تحليل هذا الموضوع، نرى أن جزءًا كبيرًا من السوريين كانوا لا يملكون سندات قوية تثبت ملكيتهم لعقاراتهم، فقد كانوا يستعينون بأوراق أخرى، مثل عقود البيع أو الوثائق المصدقة من كاتب العدل أو فواتير الخدمات، وجزء منهم كان يملك على الشيوع من دون تحديد مكان السكن أو أوصافه، وقد ذكر تقرير للمكتب المركزي للإحصاء، صدر عام 2007، أن نسبة السكن العشوائي في المدن تُقدر بنحو 40%، ونحو 60% منها ليس لها قيود (طابو) نظامية[21]. ونرى أيضًا أن نظام الأسد أصدر بعد انطلاق الثورة السورية مجموعة من القوانين استولى عبرها على ملكيات معارضيه الذين شاركوا في الحراك ضده، مثل المرسوم 63 لعام 2012 الذي يمنح الضابطة العدلية الحق في تجميد أصول الأشخاص من دون أمر من المحكمة[22]، ويضاف إلى ذلك أن هناك حالات كثيرة كانت تباع فيها الملكيات بالإكراه لجهة متنفذين كانوا يتبعون له، أو لشخصيات غير سورية تتبع للميليشيات الإيرانية واللبنانية والعراقية[23]، ونرى أيضًا أن كثيرًا من أصحاب الملكيات غُيبوا أو فُقدوا في السنوات الماضية، وما زال مصيرهم مجهولًا، ولا يستطيع أهلهم إجراء عمليات حصر الإرث حتى يتبين مصيرهم. وتزداد ضرورة حل هذه المشكلات القانونية للملكيات مع عودة النازحين واللاجئين إلى بلادهم، فمن بقي بيته قائمًا يستطيع أن يقيم فيه، وأن يحل مشكلته القانونية لاحقًا. أما من دُمّر بيته ويريد أن يعيد بناءه كي يسكن به، فتواجهه مشكلة إثبات ملكيته من جهة، ومن جهة أخرى قد يكون عليه أن ينتظر قرار الجهات المعنية بإعادة إعمار المناطق المدمرة وتنظيمها، ولا سيما المناطق التي دمرت بشكل كامل، سواء على مستوى الأبنية السكنية أو البنى التحتية والخدمات الأساسية مثل أحياء حمص ودير الزور ومحيط العاصمة دمشق.
المخططات التنظيمية
قبل عام 2011، كان عدد السكان في سورية يزداد من دون أن يكون هناك خطط حقيقية لتوسيع المخططات التنظيمية في المدن، ما دفع كثيرًا من الناس إلى البحث عن بيوت في مناطق السكن العشوائي، وشجعهم على ذلك قربها من مراكز المدن، وانخفاض قيمتها، ووجود الخدمات الأساسية بالحد الأدنى، على الرغم من أنها مناطق مخالفات؛ فقد قررت اللجنة المركزية لحزب البعث، في عام 1982، تقديم الخدمات الأساسية لهذه المناطق بالحد الأدنى[24]، بدلًا من العمل على سنّ قوانين تتيح توسيع المخططات التنظيمية على أسس تراعي المصالح الاجتماعية والاقتصادية والبيئية للمدينة. وبعد بدء الثورة السورية وتدمير نظام الأسد المدن والأحياء التي انطلقت منها التظاهرات ضده، عمد إلى إعادة تشكيل بعض هذه الأحياء ورسم مخططات تنظيمية جديدة لها، وقد سنّ لذلك بعض القوانين التي تمكنه من استملاك ملكيات معارضيه، وبدأ بمحاولة إعادة إعمار بطيئة في بعض ضواحي دمشق، مثل مشروعي ماروتا سيتي وباسيليا سيتي[25]، وفي حلب أيضًا، حاول الترويج لمشروع “tomorrowland” على المحلّق الشمالي[26]، لكن تلك الإجراءات لم تكتمل بسبب العقوبات الاقتصادية عليه، والتكلفة العالية التي تحتاج إليها تلك الأحياء. وبالنظر إلى هذه المخططات التنظيمية، نجد أنها كانت جزءًا من عملية انتهاك واسعة لممتلكات السوريين بشكل رسمي، فضلًا عن الانتهاكات التي قامت بها شخصيات متنفذة تتبع للنظام عبر تزوير سندات الملكية أو شراء العقارات بالإكراه.
يتعين على الجهات المعنيّة بإعداد مخططات التنظيم الجديدة أن تنظر إلى حالة الانتهاكات التي وقعت على أصحاب الملكيات في المناطق المراد إعادة إعمارها، بحيث لا يُبدأ بتنفيذ تلك المخططات قبل إرجاع الحقوق إلى أصحابها، وحل القضايا المتعلقة بها. ومن جهة أخرى، في حال معالجة المشكلات القانونية للعقارات، يجب الأخذ بعين الحسبان إشراك المجتمع المحلي في عملية تخطيط المناطق وتنظيمها، سواء عبر عقد لقاءات مباشرة وورشات عمل مع المجتمعات المتضررة، أو عبر إشراك النقابات المعنية ومنظمات المجتمع المدني التي تعمل في مجال إعادة الإعمار المادي والمجتمعي والاقتصادي، لتحديد أولويات كل منطقة أو مدينة على حدة، فكل منطقة تختلف عن الأخرى، من حيث الثقافة والعادات والتقاليد، أو من حيث المهن التي يعمل بها سكانها، أو من حيث الموقع الجغرافي، وهذا يتطلب حضور الجزء الأكبر من سكان المنطقة بعد عودة اللاجئين السوريين إلى مدنهم، ويتطلب أيضًا البدء في مسارات العدالة الانتقالية، كما حصل في أماكن أخرى في العالم مثل راوندا، حيث تزامنت عملية إعادة الإعمار فيها مع مسار العدالة الانتقالية[27]، إذ لا بد من أن تسير خطوات التنمية وإعادة الإعمار مع خطوات في طريق العدالة الانتقالية، ومن ذلك العمل على تخليد ضحايا الانتهاكات والمجازر الجماعية التي ارتكبها نظام الأسد، بشكل يظهر في المخططات التنظيمية الجديدة كالنصب التذكارية أو المتاحف الوطنية التي توثق روايات الناس خلال سنوات الثورة.
وإلى جانب البدء بوضع المخططات التنظيمية، لا بد من الأخذ بالحسبان أن المخططات التنظيمية التي بدأ بها نظام الأسد في سنوات الثورة كانت بهدف تغيير الواقع الاجتماعي الذي انطلقت منه الاحتجاجات ضده في عام 2011، وتجاهل الأسباب الكامنة وراء تلك الاحتجاجات، مثل انخفاض مستوى التنمية وارتفاع مستوى البطالة وانخفاض مستوى دخل الفرد وسوء قطاعي الصحة والتعليم، وكان يعوّل على أن الجزء الأكبر من اللاجئين السوريين لن يعودوا إلى مناطقهم، وبالتالي يستطيع السيطرة على الجزء المتبقي والتحكم فيه، وفي الوقت نفسه يكون قد اقتطع أملاك معارضيه وحرمهم من الاستفادة منها، ومنع الجزء الذي لم يهاجر من التفكير بأن يعترض أو يقول لا في المستقبل. وبعد أن سقط هذا النظام وبدأ السوريون في العودة إلى مدنهم، من الجيد للحكومة الجديدة أن تضع في حسبانها، في أثناء إعادة تخطيط المناطق المدمرة، أن تتزامن عملية إعادة الإعمار مع التنمية الاقتصادية والتعليمية للسكان، وأن تكون هذه المخططات التنظيمية ملائمة لهذه التنمية، من حيث الحداثة وخصوصية المجتمعات أو العائلات، وأن تتضمن الأبنية المعاد إعمارها ملاجئ وحدائق ومساحات واسعة وأماكن آمنة للأطفال، ويضاف إلى ذلك أن يؤخذ بعين الحسبان ضرورة الاهتمام بالواقع الاقتصادي، سواء على مستوى الزراعة أو الصناعة أو التجارة لكل منطقة على حدة، وهذا يحدد بعد التواصل مع سكان المنطقة نفسها ومع منظمات المجتمع المدني المعنية بالعمل فيها.
وقد يواجه وضع المخططات التنظيمية أيضًا مشكلة توسّع السكن العشوائي التي عادت للظهور مجددًا في أكثر من منطقة، وقد انتشرت خلال الشهرين الماضيين في بعض ضواحي المدن، ومنها المناطق المحيطة بدمشق، حيث يقوم بعض الناس ببناء بيوت للسكن، ومنهم من يبني من أجل التجارة والترفيه، مثل الفلل والمنتجعات في المناطق الزراعية، وهذا يحدث بشكل مخالف، وقد يعوق عملية إعادة الإعمار أو إصدار مخططات تنظيمية لمناطق الريف تراعي وجود مساحات زراعية وأخرى سكنية. لذلك، ينبغي من الآن أن تلحظ الحكومة هذه المخالفات وأن تضبطها قبل أن تتفاقم مستقبلًا.
التوصيات والنتائج
التوجه إلى دعم الحلول الإسعافية، مثل دعم قطاعات الغذاء والمياه والطاقة، وإصلاح شبكات المياه والكهرباء في المناطق المدمّرة تدميرًا جزئيًا.
العمل على جلب التمويل الدولي والإقليمي، وجذب الاستثمارات ورؤوس الأموال، وهذا يتطلب وجود استقرار أمني وسياسي عبر وجود حكومة دستورية وتوافقية.
تضافر الجهود الحكومية مع جهود المنظمات الدولية في عملية المسح الواسع والدقيق للمناطق المدمّرة في سورية، لما تمتلكه من الأدوات المتقدمة والخبرة الواسعة في هذا المجال.
مراجعة القوانين والمراسيم التي أصدرها نظام الأسد خلال سنوات الثورة؛ فقد كان هدفها الاستيلاء على ممتلكات معارضيه، وحاضنتهم الشعبية.
معالجة مشكلات الملكية لدى السكان، ولا سيما في مناطق السكن العشوائي، وإشراك المجتمع المحلي والجمعيات الأهلية لحل هذه المشكلات قبل وصولها إلى دور القضاء.
إنشاء لجان خاصة للنظر في ملكيات الأجانب وتحديد الملكيات المغتصبة.
إشراك المجتمع في عملية التخطيط، حتى تعبّر المخططات التنظيمية الجديدة عن تطلعاته وخصوصيته الثقافية أو الاقتصادية، وذلك عبر المجالس الأهلية والنقابات.
إنشاء صندوق لإعادة الإعمار وعقد مؤتمرات للمانحين الدوليين للمساهمة فيه.
إشراك رؤوس الأموال الصغيرة والمتوسطة المحلية في عملية إعادة الإعمار، من أجل المساعدة على رفع مستويات التنمية في المجتمع، لأن ذلك سيحرك عجلة الاقتصاد المحلي، ويزيد من ثقة الناس بالدولة وقراراتها.
دعم مسارات التنمية الاقتصادية والتعليمية للسكان، في أثناء إعادة تخطيط المناطق المدمرة.
المراجع
SYRIAN CITIES DAMAGE ATLAS, Humanitarian library, Oct 2020: https://2u.pw/OOtBQfbs
Global Rapid Post-Disaster Damage Estimation (GRADE) Report : Mw 7.8 Türkiye-Syria Earthquake – Assessment of the Impact on Syria : Results as of February 20, 2023: https://2u.pw/DcW1W2ms
Syria Earthquake 2023 – Rapid Damage and Needs Assessment, WORLD BANK GROUP: https://2u.pw/osMRde5R
The Pinheiro Principles: United Nations Principles on Housing and Property Restitution for Refugees and Displaced Persons, reliefweb: https://2u.pw/MFTqIY8h
Syria – Joint Damage Assessment of Selected Cities WORLD BANK GROUP: https://2u.pw/yYwPW3ST
المركز السوري لبحوث السياسات، آثار الزلزال في سوريا المقاربة التنموية المفقودة في ظل النزاع: https://2u.pw/53yPDA1y
سامر عبود، مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، وجهات نظر مُقارَنة بشأن تحدّيات إعادة الإعمار في سورية: https://zt.ms/39U
المكتب المركزي للإحصاء، مناطق السكن العشوائي في سورية: http://cbssyr.sy/studies/st24.pdf
مازن عدي، الجمهورية، الحق في العشوائيات دفاعاً عن أحياء «المُخالفات» في سوريا: https://2u.pw/lvhGtpYs
[1] SYRIAN CITIES DAMAGE ATLAS, Humanitarian library, Oct 2020, link: https://2u.pw/OOtBQfbs
[2] Syria – Joint Damage Assessment of Selected Cities, 28 February 2023, link: https://2u.pw/yYwPW3ST
[3] Global Rapid Post-Disaster Damage Estimation (GRADE) Report : Mw 7.8 Türkiye-Syria Earthquake – Assessment of the Impact on Syria : Results as of February 20, 2023, 3 mart 2023, link: https://2u.pw/DcW1W2ms
[4] آثار الزلزال في سوريا المقاربة التنموية المفقودة في ظل النزاع، موقع المركز السوري لبحوث السياسات، نشر في 3 أيلول/ سبتمبر 2023، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2025، الرابط: https://2u.pw/53yPDA1y
[5]المرسوم التشريعي رقم 66 لعام 2012، موقع مجلس الشعب السوري، نشر 18 أيلول/ سبتمبر 2012، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2025، الرابط: https://2u.pw/MdURQ7
[6] ماروتا سيتي: ما هي شركة “دمشق الشام القابضة”؟، موقع المدن، نشر في 19 نيسان/ أبريل 2019، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2025، الرابط: https://2u.pw/zL3KktEz
[7] المرسوم التشريعي 40 لعام 2012، موقع مجلس الشعب السوري، نشر في 20 أيار/ مايو 2012، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2025، الرابط: https://2u.pw/ANwqmHql
[8] المرسوم التشريعي 63 لعام 2012، موقع مجلس الشعب السوري، نشر في 16 أيلول/ سبتمبر 2012، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2025، الرابط: https://2u.pw/7YJQXtIb
[9] القانون رقم /23/ لعام 2015 الخاص بتنفيذ التخطيط وعمران المدن، موقع مجلس الوزراء السوري، نشر في 18 كانون الأول/ ديسمبر 2015، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2025، الرابط: https://2u.pw/3bpMSr
[10] الرئيس بشار الأسد يصدر القانون رقم 33 الناظم لإعادة تكوين الوثيقة العقارية المفقودة أو التالفة، موقع وزارة الإدارة المحلية والبيئة، نشر في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 2017، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2025، الرابط: https://2u.pw/YUzJ0WN7
[11]القانون رقم /35/ لعام 2017 القاضي بتعديل قانون خدمة العلم الصادر بالمرسوم التشريعي رقم /30/ لعام /2007/، موقع مجلس الوزراء السوري، نشر في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2025، الرابط: https://2u.pw/w3LRTU3Z
[12] القانون رقم (10) لعام 2018 القاضي بجواز إحداث مناطق تنظيمية ضمن المخطط التنظيمي، موقع بوابة الحكومة الإلكترونية، نشر في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2025، الرابط: https://2u.pw/vBFeLTCj
[13] مجلس الشعب يقر مشروع القانون المتعلق بإدارة واستثمار الأموال المنقولة وغير المنقولة، موقع مجلس الشعب السوري، نشر في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2025، الرابط: https://2u.pw/eGSKnN2
[14] أرقام أممية جديدة بشأن تكلفة إعادة إعمار سوريا، موقع عنب بلدي، نشر في 9 آب/ أغسطس 2018، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2025، الرابط: https://2u.pw/sE2xdt8A
[15] Losses exceeding $442 billion and millions in need of humanitarian assistance: the catastrophic repercussions of 8 years of war in Syria, ESCWA, 23 Sep 2020, link: https://2u.pw/CckgCL27
[16] المصدر نفسه
[17] سامر عبود، وجهات نظر مُقارَنة بشأن تحدّيات إعادة الإعمار في سورية، مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، 30 كانون الأول/ ديسمبر 2014، شوهد في 14 شباط/ فبراير 2025، الرابط: https://zt.ms/39U
[18] Caesar Syria Civilian Protection Act, the U.S. Department of State, link: https://2u.pw/ZgI1yPQX
[19] The Pinheiro Principles: United Nations Principles on Housing and Property Restitution for Refugees and Displaced Persons, reliefweb, 1 Dec 2005, link: https://2u.pw/MFTqIY8h
[20] أنواع وثائق الملكية العقارية، موقع حقوق السكن والأراضي والممتلكات، نشر في 30 حزيران/ يونيو 2021، شوهد في 13 شباط/ فبراير 2025، الرابط: https://2u.pw/FlR7skmp
[21] مناطق السكن العشوائي في سورية، موقع المكتب المركزي للإحصاء، نشر في عام 2007، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2025، الرابط: http://cbssyr.sy/studies/st24.pdf
[22] المرسوم التشريعي 63 لعام 2012، موقع مجلس الشعب السوري، نشر في 16 أيلول/ سبتمبر 2012، شوهد في 12 شباط فبراير/ 2025، الرابط: https://2u.pw/7YJQXtIb
[23] عقارات الأجانب في سورية… ملف معقد أمام الإدارة الجديدة، موقع العربي الجديد، نشر في 14 كانون الثاني/ يناير 2025، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2025، الرابط: https://2u.pw/zem5oPni
[24]مازن عدي، الحق في العشوائيات دفاعاً عن أحياء «المُخالفات» في سوريا، موقع الجمهورية، نشر في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2025، الرابط: https://2u.pw/lvhGtpYs
[25] أربع سنوات على “باسيليا سيتي”.. ترسيخ النزوح باسم التطوير، موقع عنب بلدي، نشر في 26 آذار/ مارس 2022، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2025، الرابط: https://2u.pw/7s5kEPXb
[26] نظامُ الأسدِ يروّجُ لمشروعٍ سياحي إماراتي في حلبَ، موقع المحرر، نشر في 29 أيار/ مايو 2023، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2025، الرابط: https://2u.pw/oETNrq1L
[27] تجربة إعادة الإعمار بعد الصراع في رواندا: بين الدروس المستخلصة وسبل الوقاية، موقع Policy Center for the New South، نشر في 18 نيسان/ أبريل 2023، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2025، الرابط: https://2u.pw/fe7nKF4U
مركز حرمون
—————————–
الفيدرالية: مسار محتمل لإعادة إعمار سوريا/ فابريس بالونش
٣ مارس ٢٠٢٥
إذا أراد الشرع تجنب تكرار أخطاء الأسد، فقد يتعيّن عليه تطبيق اللامركزية في السلطة السياسية وإنشاء نظام فيدرالي حقيقي، رغم التحديات الجوهرية المتعلقة بعدالة توزيع الموارد.
هل يمكن للرئيس المؤقت أحمد الشرع أن يجمع شمل سوريا؟ حتى لو وضعنا جانباً المصالح المتضاربة التي غالباً ما تشدد عليها القوى الإقليمية والعالمية، فإن المشهد الداخلي للبلاد وحده يجعل هذا السؤال شديد التعقيد. فبعد حرب أهلية مدمرة استمرت أربعة عشر عاماً، أصبحت سوريا مُمزقة، إذ تفككت الدولة التي كانت موحدة ذات يوم إلى ولاءات قبلية وطائفية صارت المصدر الرئيسي للشرعية المحلية. ويمثل الشرع وجماعته “هيئة تحرير الشام” في المقام الأول العرب السنة، الذين يشكلون أكثر من ثلثي السكان. وبعد قيادته للحراك الذي أطاح ببشار الأسد، لا يزال الشرع يعارض فكرة إقامة نظام فيدرالي ويطمح بدلاً من ذلك إلى إنشاء نظام سياسي مركزي يستمد قوته من الدعم الشعبي ومع ذلك، قد يكون النهج الفيدرالي أكثر فعالية، بل وربما لا غنى عنه، في تعزيز المصالحة الوطنية وإعادة بناء البلاد.
سوريا المقسمة
كما تظهر الخريطة أدناه، تسيطر حكومة الشرع المؤقتة على مناطق محدودة نسبيًا في سوريا، بما في ذلك معظم المدن الغربية وأجزاء من الريف. أما في وادي الفرات، فلا يوجد تأكيد على ولاء العشائر السنية لـ”هيئة تحرير الشام “، بينما في درعا، تعارض القوات التي يسيطر عليها المتمرد السابق أحمد العودة، إلى جانب فصائل جنوبية أخرى، الاندماج في الجيش السوري الجديد. وفي الشمال الشرقي، تنخرط “قوات سوريا الديمقراطية” التي يقودها الأكراد في مناقشات مع الشرع لكنها لا تزال متحفظة إزاء نواياه.
وفي أماكن أخرى في الشمال، تحتفظ الميليشيات الموالية لتركيا التي تشكّل “الجيش الوطني السوري” بقبضتها على معاقلها الرئيسية في عفرين وجرابلس ومنطقة منفصلة بين تل أبيض ورأس العين. وفي 29 كانون الثاني/يناير، أرغمت تركيا رئيس هذه المجموعة، سيف أبو بكر، على السفر إلى دمشق لتهنئة الرئيس الجديد شخصيًا، لكن هذا هو التنازل الوحيد الذي قدمه للشرع حتى الآن. ويتقاسم الزعيمين تاريخًا طويلًا من العداء المتبادل، خاصة وأن العديد من مقاتلي الجيش الوطني السوري هم من قدامى المحاربين الذين خاضوا المعارك الدامية ضد “هيئة تحرير الشام ” للسيطرة على محافظة إدلب بين عامي 2017 و2020.
وتلقي هذه الأوضاع المحلية المتباينة بظلال من الشك على قدرة الشرع على إدماج جميع الفصائل والمجموعات العرقية بسلاسة في سوريا الجديدة. فالسكان العرب قد يجدون أنفسهم ميالين إلى التقارب مع دمشق، لكن يبدو أن الأكراد حريصون على الحفاظ على وضعهم المتمثل بالحكم الذاتي، في حين بسط الدروز سيطرتهم على محافظة السويداء ويمنعون قوات “هيئة تحرير الشام” من دخولها. ويندرج الأمر نفسه على المناطق التي يقطنها الدروز في ضواحي العاصمة، بما في ذلك جرمانا وصحنايا وجديدة عرطوز. أما في المنطقة الساحلية العلوية، فقد حظيت زيارة الشرع إلى اللاذقية وطرطوس في 16 شباط/فبراير باحتفالات اقتصرت على المجتمعات العربية السنية المحلية. أما العلويون – طائفة عائلة الأسد ونواة النظام السابق – فلم يشاركوا في الاحتفالات، بل آثروا الانعزال في أحيائهم وقراهم. كما أنشأ مسؤولو النظام السابق ميليشيات جديدة لإعادة إحياء الدور التاريخي للمنطقة بوصفها ملاذ جبلي محصن للعلويين.
باختصار، يتعارض مشروع الشرع السياسي القائم على مركزية السلطة مع الواقع الحالي على الأرض. فهو يرى أن الفيدرالية قد تؤدي إلى تفكيك “الأمة” – وهو تصور نابع جزئيًا من المشاعر المعادية لإسرائيل بين السوريين. إذ يعتقد كثيرون أن الولايات المتحدة فرضت الفيدرالية على العراق بعد سقوط صدام حسين بهدف إضعاف البلاد لصالح إسرائيل، ويخشون أن تسعى واشنطن إلى تنفيذ المخطط نفسه في سوريا ما بعد الأسد.
في الوقت الراهن، يتمثل الهدف الأساسي للشرع في توحيد مختلف الجماعات العربية السنية ضمن جيش وطني جديد عقب حل الجيش السابق. لكن في الاجتماع الذي عقده الثوار في 29 كانون الثاني/يناير في دمشق احتفالاً بتنصيبه رئيساً مؤقتاً للبلاد، اتضح أنه لم يحظَ سوى بدعم ائتلافه الأصلي. ويبدو أن هدفه التالي هو ترسيخ سلطته على المنظومة البيروقراطية في دمشق والمناطق المحيطة بها، محاكيًا النهج المركزي الصارم الذي اعتمده سابقًا في إدلب. كما أطلق الشرع عملية حوار وطني، إلا أن المحادثات الافتتاحية أثارت تساؤلات حول شرعيتها بسبب تنظيمها المتسرع واختتامها على عجل.
إدلب بوتقة المعارضة الوطنية
عندما بدأت الانتفاضة السورية عام 2011، كانت الجماعات المسلحة المتمردة وفصائل المعارضة السياسية متجذرة في المجتمعات المحلية. في البداية، لم تكن هناك معارضة وطنية موحدة داخل سوريا، إذ إن الهياكل التي سعت إلى تحقيق ذلك، مثل هيئة الأركان العامة للجيش السوري الحر والائتلاف الوطني السوري، كانت تتمركز خارج البلاد. وقد أعاق ذلك جهود المعارضة في وضع وتنفيذ استراتيجيات وطنية.
في المقابل، استقطبت “جبهة النصرة”، التي تحولت لاحقًا إلى هيئة تحرير الشام، مقاتلين من جميع أنحاء سوريا ممن نزحوا من المناطق التي سيطر عليها النظام، مثل درعا ودمشق والغوطة وحمص وشرق حلب. وعلى الرغم من تمركزها في إدلب، كانت “جبهة النصرة” الجماعة الوحيدة التي نشطت في مختلف أنحاء سوريا وشاركت في جميع التحالفات الثورية. ومع ذلك، فإن ارتباطها بتنظيم القاعدة قد جعلتها غير مؤهلة لأن تصبح قوة معارضة وطنية موحدة، خاصة بعد أن أدرجتها الولايات المتحدة ودول أخرى ضمن قائمة المنظمات الإرهابية في وقت مبكر من الحرب.
وتساهم الخلفية العسكرية الشاملة لـ”جبهة النصرة” في تفسير سبب انتماء أعضاء الحكومة المؤقتة الجديدة، برئاسة “هيئة تحرير الشام”، إلى مناطق مختلفة من البلاد رغم قضائهم سنوات في إدلب.” أما الشرع نفسه، فله جذور في دمشق، مما أكسبه قبولًا أوسع بين سكان العاصمة. فعائلته معروفة هناك، ولديه شبكات قائمة من الجيران والأصدقاء تُتيح له التواصل المباشر مع الأهالي ومع دائرته المقربة. وقد أسهم ذلك في تسهيل حل المشكلات في مرحلة ما بعد الأسد – على سبيل المثال، أخبر أحد رجال الأعمال كاتب المقال كيف ساعدته علاقاته الشخصية بعائلة الشرع في استعادة مصنعه بسرعة بعد أن استولى عليه أحد أبناء إخوة الأسد.
وينطبق الأمر نفسه على مناطق أخرى، حيث إن العديد من المحافظين وغيرهم من كبار المسؤولين الذين عيّنتهم الحكومة الجديدة ينحدرون أصلًا من المناطق التي أوكلت إليهم إدارتها. وهذا يمنحهم درجة من الإلمام بالأوضاع المحلية، مما يُسهّل انخراطهم في المجتمع ويساعد على تهدئة النزاعات المحتملة – بما في ذلك الجهود العاجلة لاستعادة المساكن المُحتلة بشكل غير قانوني والممتلكات المنهوبة. ومع ذلك، تظل قدرتهم على إدارة هذه المحافظات وإعادة إعمارها بفعالية محدودة بسبب نقص التمويل وضعف الكوادر المؤهلة.
آفاق الفيدرالية وتحدياتها
في الوقت الحالي، تستند الهياكل السياسية والعسكرية والبيروقراطية في سوريا إلى الولاءات الشخصية. ويدرك الشرع أهمية الاعتماد على مجموعة متماسكة من الموالين له شخصيًا داخل “هيئة تحرير الشام”، كما ظهر ذلك في إدلب، حيث أسس السكان المحليون كيانًا تضامنيًا (قائم على العصبية)، مكنهم من تولي مقاليد السلطة (المُلك). لكن في بلد يبلغ عدد سكانه 20 مليون نسمة – مع احتمال ارتفاعه إلى 28 مليونًا بعودة اللاجئين – فمن شبه المؤكد أن النهج الحالي، القائم على المركزية والمحسوبية، لن يكون فعالًا على المستوى الوطني.
وقد تعلم بشار الأسد هذا الدرس بالطريقة الصعبة. فرغم تبنيه سياسة اللامركزية، إلا أن تطبيقها اقتصر على الجوانب الإدارية، مما أدى في نهاية المطاف إلى إضعاف الدولة دون تحقيق أي من المزايا الحقيقية للامركزية حيث ساهم هذا الخلل في تسريع انزلاق البلاد إلى الحرب الأهلية. وإذا أراد الشرع تفادى تكرار أخطاء الأسد، فقد يتعين عليه أن يطبق اللامركزية الحقيقية في السلطة السياسية ويقيم نظاماً فيدرالياً. وقد أكدت الولايات المتحدة وأوروبا مرارًا وتكرارًا على أهمية إرساء الحكم الشامل للجميع في مرحلة ما بعد الأسد، ولكن كيف يمكن تحقيق هذه النتيجة في ظل نظام سياسي مركزي تحتكر فيه الهيئة السلطة المطلقة، بينما يتم تهمش الأقليات ؟
ولحل هذه المعضلة، ينبغي على القوى الأجنبية أن تربط رفع العقوبات والدعم المالي لسوريا باعتماد نظام فيدرالي. فالأكراد والعلويون والدروز يسيطرون بالفعل على مساحات واسعة يمكن أن تستوعب مناطق حكم ذاتي. ومن غير العملي تخصيص أقاليم منفصلة للمسيحيين والإسماعيليين والتركمان نظراً لمحدودية حجمهم وتوزيعهم الديمغرافي المبعثر. ومع ذلك، يمكن منحهم مناطق ذات وضع خاص، مثل وادي النصارى المسيحي في محافظة حمص، والمنطقة التركمانية الممتدة بين أعزاز وجرابلس.
وعلى الرغم من أن الفيدرالية قد تساعد في معالجة الانقسام الطائفي في سوريا وتعزيز توزيع أكثر عدالة للسلطة، إلا أنها قد تطرح تحدياً حاسماً أيضاً يتمثل في توزيع الموارد. فبالإضافة إلى السيطرة على النفط والغاز الطبيعي، سيتعين على المسؤولين اتخاذ قرارات صعبة بشأن حقوق استخدام إمدادات المياه والأراضي الصالحة للزراعة والوصول إلى البحر وما إلى ذلك. فعلى سبيل المثال، تتركز معظم المنشآت النفطية في سوريا ضمن الأراضي الخاضعة لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”. وإذا قرر الأكراد الاحتفاظ بسيطرتهم على هذا المورد بعد سقوط الأسد، فقد يواجهون خطر فقدان إمكانية الوصول إلى موارد استراتيجية أخرى، من بينها نهر الفرات. وبالمثل، قد تسعى المجتمعات الساحلية إلى فرض ضرائب على حركة البضائع عبر مرافئها، مما قد يؤدي إلى توترات داخلية.
لذلك، من الضروري تحقيق توازن دقيق. وقد أظهرت التجربة العراقية أن الموارد الهيدروكربونية لا تحتاج بالضرورة إلى أن تكون تحت سيطرة الحكومة المركزية – بل إن بغداد استخدمتها في أحيان كثيرة كأداة ضغط ضد إقليم كردستان. علاوةً على ذلك، يبدو أن الاحتياطيات النفطية السورية ليست كبيرة بما يكفي لتبرير محاولات احتكارها، فقد كان الإنتاج اليومي للنفط قبل النزاع يبلغ نحو 400 ألف برميل فقط، وهو رقم ضئيل مقارنةً بإنتاج العراق البالغ 6 ملايين برميل يوميًا. لذلك، ينبغي على السوريين دراسة أفضل السبل لتوزيع الموارد بين المناطق والحكومة المركزية، مع ضمان عدم احتكار دمشق لها.
وبالتالي، إذا تم تبني الفيدرالية، يجب أن تُطبق على جميع أنحاء سوريا، وألا تقتصر على الأقليات فقط . كما ينبغي أن يتمتع القادة الإقليميون في مختلف مناطق البلاد بدرجة من الاستقلالية عن البيروقراطية المركزية المثقلة بالأعباء، لضمان انتعاش سوريا السريع واستقرارها على المدى الطويل. وإلا، فقد تجد البلاد نفسها عالقة في دوامة لا تنتهي من الصراع.
فابريس بالونش، أستاذ مشارك ومدير الأبحاث في “جامعة ليون 2″، وزميل زائر في معهد واشنطن.
Fabrice Balanche
فابريس بالونش، أستاذ مشارك ومدير الأبحاث في “جامعة ليون 2″، وزميل زائر في معهد واشنطن.
معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى
—————————–
لماذا أصبحت سوريا بهذا القدر من الضعف خلال شهرٍ؟/ إياد الجعفري
الإثنين 2025/03/03
من المفارقات في “لحظتنا” التاريخية الراهنة، أننا لم نعد بحاجة للحديث عن “مؤامرات” تُحاك من وراء الكواليس، ضد بلادنا. فـ”المؤامرات” باتت تُنشر عبر وكالات الأنباء الدولية، أو تُعلن على ألسنة مسؤولي الدول التي تُعدُّها. بل إنّ الضغوط التفاوضية التي تمارسها قوى كبرى حيال قوى أضعف، باتت تُبث على الهواء مباشرةً.
في الحالة السورية، ينطبق ذلك على المعلومات التي نشرتها “رويترز”، مؤخراً، حول الحوار الإسرائيلي- الأميركي، بخصوص مستقبل سوريا. فإسرائيل ترغب في أن تبقى بلادنا، ضعيفة ومفكّكة -هكذا قِيل علناً- وإحدى رهاناتها في ذلك، الإبقاء على القواعد العسكرية الروسية في الساحل السوري.
بعد ساعات من نشر الخبر أعلاه، نقلت “رويترز” أيضاً، هذه المرة، عن مسؤول بشركة “ستروي ترانس غاز” الروسية، أنها لا تزال تواصل عملها كالمعتاد في مرفأ طرطوس، وأنها لم تتلق أي بلاغ حول إلغاء عقدها. وأضاف المسؤول الروسي أن ما يُقال عن إلغاء اتفاقية استثمار المرفأ، “مجرد كلام”، لأن إلغاء الاتفاقية يجب أن يمر عبر “البرلمان والرئيس”، وفق آلية إقرار الاتفاقية نفسها سابقاً. و”مجرد كلام”، تلك، كانت وصفاً لإعلان الإدارة السورية بدمشق إلغاء عقد استثمار المرفأ، في 22 كانون الثاني/يناير الفائت.
وكان يمكن للخبر الأخير أن يتحول إلى “ترند” يشغل السوريين، حول معناه وتوقيته، والإهانة التي يتضمنها للسلطات الحاكمة في العاصمة، لولا انشغالهم بتطورات المشهد بجرمانا، والدخول الإسرائيلي “الوقح” على خط التوتر الأمني المندلع هناك.
وفي تفكيك العلاقة بين التطورات المشار إليها، نذكّر برد الفعل الروسي بعيد إعلان السلطات في دمشق، إلغاء اتفاقية الاستثمار الروسية لمرفأ طرطوس. يومها، نقلت صحيفة “الشرق الأوسط” عن النائب الأول لرئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الدوما الروسي، قوله، إن سوريا ألغت الاتفاقية لأنه أصبح من الصعب على الشركة الروسية الوفاء بالتزاماتها. و”الالتزامات” التي قصدها البرلماني الروسي، هي الـ500 مليون دولار، التي كان يتوجب على الشركة الروسية استثمارها لتطوير البنى التحتية للمرفأ، بموجب العقد الموقّع مع نظام بشار الأسد عام 2019، والذي بموجبه، مُنحت الشركة الروسية استثمار المرفأ لـ49 عاماً. هذه “الالتزامات”، لم تتقيّد بها الشركة الروسية. إذ بقيت بنية المرفأ على حالها، الأمر الذي اعتمدت عليه سلطات دمشق الجديدة، لتبرير فسخ العقد.
وفي تقرير صحيفة “الشرق الأوسط”، المشار إليه، تحدث مصدر دبلوماسي روسي، معبّراً عن لامبالاة كبيرة من جانب السلطات الروسية حيال إلغاء عقد استثمار مرفأ طرطوس، كاشفاً للسوريين، لأول مرة، أن “مجموعة قاطرجي” المقرّبة من النظام السابق، كانت تمتلك 50% من أسهم استثمار المرفأ، و50% للجانب الروسي. واصفاً فسخ العقد بأنه “يعدّ تعاملاً منطقياً تجاه شركات خاصة لم تقم بتنفيذ التزاماتها وارتبطت بفساد النظام السابق”.
ومن ثم، زار نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، العاصمة دمشق، نهاية شهر كانون الثاني/يناير الفائت، والتقى الرئيس السوري أحمد الشرع، وعلّق يومها على إلغاء عقد استثمار مرفأ طرطوس، بأن “هذه قضية فنية تجارية تتعلق بعمل شركتنا في المرفأ، وفي كل الأحوال فإن طرطوس بحاجة إلى تحديث ويمكن التفاهم لتسوية كل المشكلات”. وكان الوفد الروسي يومها، يضم ممثلين عن الشركة الروسية المعنية، والتي أكدت للجانب السوري استعدادها لمواصلة العمل، وأشارت إلى الصعوبات التي واجهت عملها سابقاً.
وهكذا يمكن أن نلحظ كيف تطورت اللهجة الروسية حيال قضية استثمار مرفأ طرطوس، من لامبالاة إلى تفاوض مع السلطة الحالية بدمشق، وصولاً إلى الحديث عن استحالة إنهاء الاتفاقية من جانب واحد (الجانب السوري)، وأن أحداً “لم يخطرنا” بذلك -أي بقرار إلغاء الاتفاقية- وفق ما نقلت “رويترز” عن الرئيس التنفيذي لشركة “ستروي ترانس غاز” الروسية، يوم السبت. التصريح الأخير أعقب تداول الأنباء عن الطلب الإسرائيلي الموجّه لواشنطن بإبقاء القواعد العسكرية الروسية في سوريا.
وحتى ساعة كتابة هذه السطور، لم يصدر أي رد أو توضيح من جانب السلطات بدمشق، حيال اللبس الذي حملته تصريحات الروس الأخيرة. وعدم صدور أي توضيح يبرر هذه “الاستهانة” الروسية المُستَجَدة، بعد شهر فقط، من تعامل روسيّ ندّي مع السلطات الجديدة، يعني أننا أمام مشهد ضعف خطير في مناعة الممسكين بزمام الأمور بالعاصمة، ضد التدخل الخارجي المباشر والعلني أيضاً. ضعف مناعة لا يظهر فقط في الجنوب السوري، أو حتى وصولاً إلى خاصرة دمشق الشرقية، بل يظهر في بقاع كثيرة من التراب السوري.
ويمكن استسهال تبرير ذلك، بإلقاء اللوم على “الأقليات” التي لا تريد الانتظام بمشروع الدولة الوليدة. كذلك، يمكن الحديث عن فلول النظام، في كل بقعة تعجز فيها السلطات عن تقديم تبرير لإخفاقات أمنية أو مجتمعية. وعلى الضفة الأخرى، هناك استسهال مضاد في التبرير، من قبيل إسباغ السمة “الدينية المتطرفة” على عموم السلطة الحالية وجمهورها الكبير من “الأكثرية”. هذا الاستسهال في توصيفنا لأسباب ضعفنا، هو تحديداً، الأمر المرغوب من جانب إسرائيل، الهادفة إلى إبقاء سوريا، ضعيفة ومفكّكة. ضعف ازداد بشدة ملحوظة خلال الشهر الأخير تحديداً.
فما الذي تغيّر خلال هذا الشهر؟ يمكن استسهال تقديم إجابة أيضاً، بالإشارة إلى الإسرائيلي، بوصفه العنصر المستجد في المشهد. وهذا التوصيف غير دقيق، فالدخول الإسرائيلي على المشهد السوري بصورة فاقعة وعلنية، تفاقم تحديداً، بالتزامن مع إرهاصات عقد مؤتمر الحوار الوطني. وذاك المؤتمر الذي من المفترض أن يحدد مستقبل سوريا، تم التحضير له خلال ثلاثة أسابيع، وتم عقده خلال يومين، كان الحوار فيهما، لمجرد ساعات فقط. وخلا المؤتمر من أي تمثيل مُرضٍ للأكراد والدروز، ومكوّنات مجتمعية أخرى. واستهدف منظموه تحييد كثيرٍ من الشخصيات غير المرغوب بها من السلطات، عبر دعوات اللحظة الأخيرة لمن هم خارج البلاد. وهكذا خلقت طريقة الإخراج السيئة قناعةً لدى شريحة واسعة من السوريين، بأن عقد المؤتمر كان إجراءً شكلياً، هدفه منح تفويض داخلي للشرع، لتعزيز سلطته. فكانت النتيجة عكسية، حسب المؤشرات الأولية، حتى الآن.
لكن ما الحلول المتاحة لإنقاذ سوريا من منزلق الضعف الذي ذهبت باتجاهه؟ إما حكومة تعيد رفع سقف تطلعات السوريين المُنتَظرة من العهد الجديد، تشاركية بكفاءات من خارج “اللون الواحد” الممسك بزمام السلطة العسكرية والأمنية، وبصلاحيات مرتفعة، أو إعادة إنتاج مؤتمر الحوار الوطني بصيغة جديدة تشمل كل مكونات الطيف السوري، وبطريقة جدّية هذه المرة. أما الخيارات الأخرى، من قبيل توسيع دائرة العنف، بذريعة احتكار القوة بيد “الدولة”، لن تكون إلا وصفة للذهاب بسوريا إلى هاوية مُرتقبة بشغف، لدى “الجار” المترقِّب بجنوب غرب البلاد.
المدن
—————————–
إرث ثقيل من الخوف والألم.. كيف نرمم ندوبنا النفسية بعد سقوط نظام الأسد؟/ فاطمة عمراني
3 مارس 2025
على مدار سنوات، كانت الحرب في سوريا تُلتقط بعدسات الكاميرات: مدن مدمرة، أطفال مشرّدون، وشعب يعيش تحت القصف والدمار. لكن خلف هذه المشاهد، هناك جبهة أخرى لم تحظَ بنفس القدر من التغطية: الصحة النفسية للسوريين بعد أكثر من عقد من الصراع.
مع محاولات إعادة بناء المدن، لا تزال هناك معركة خفية تُخاض يوميًا، معركة مع اضطرابات نفسية متجذرة، تبدأ بالقلق ولا تنتهي بالاكتئاب الذي أصبح جزءًا من الواقع اليومي للكثيرين. الخوف لم يعد شعورًا عابرًا، بل صار جزءًا من الذاكرة الجماعية، يتوارثه الأفراد دون وعي، ليشكّل صدمة جماعية تلاحقهم حتى بعد مرور الزمن.
لكن هل يمكن للمجتمع السوري أن يعيد بناء ذاته نفسيًا بعد كل هذا القمع والعنف؟ كيف يمكن للناجين أن يرمموا أرواحهم بعد أن نجت أجسادهم بالكاد؟ وكيف يمكننا تجاوز هذا الإرث الثقيل من الخوف؟
إرث الخوف: كيف أعاد القمع تشكيل الوعي الجمعي للسوريين؟
لم يقتصر القمع الذي امتد على مدار عقود من حكم عائلة الأسد على السجون والمعتقلات، بل طال الحياة اليومية، مما جعل النجاة تعني الصمت والابتعاد عن المواجهة. أثّر ذلك على علاقة الأفراد بالدولة، حيث باتت المؤسسات مصدر خوف بدلًا من الحماية. تقول أخصائية الصحة النفسية خلال الحروب والأزمات، آية مهنا: “سوريا اليوم تعاني من فقدان ثقة عميق بين المواطن والدولة، وبين الأفراد أنفسهم، إذ نشأ الجميع في بيئات مختلفة لكل منها روايتها الخاصة عن الأحداث”.
تتابع مهنا في حديثها لـ “ألترا صوت”: “أصبح السوري يسأل نفسه: هل يمكن إعادة بناء البلاد؟ هل يمكن محاربة الفساد أصلًا؟ حين يشعر الفرد أن القانون لا يحميه، وأن احترام القانون لا يعود عليه بأي فائدة، فإنه لا يرى نفسه ملزمًا باتباعه”.
اكتئاب، قلق.. والآن: اضطراب ما بعد الصدمة
مع تصاعد العنف، لم تعد الاضطرابات النفسية مجرد ردود فعل مؤقتة، بل تحولت إلى حالات مزمنة. وفقًا لدراسات أجرتها منظمة الصحة العالمية، فإن ما يقارب 50% من السوريين يعانون من اضطرابات نفسية حادة، أبرزها الاكتئاب، والقلق المزمن.
تضيف مهنا: “السوريون عانوا من ضغوط نفسية هائلة خلال حكم النظام، وانعكس ذلك في انتشار اضطرابات القلق المزمن والاكتئاب. لم تعد هذه الحالات مجرد ردود فعل فردية، بل أصبحت جزءًا من الحياة اليومية”.
توضح خبيرة الصحة النفسية: “مع اندلاع الحرب، تضاعفت هذه المعاناة، خاصة مع استمرار القمع، والضغوط الاقتصادية، وانعدام الأمان. رأينا اضطرابات ما بعد الصدمة تظهر بشكل أكبر بين أولئك الذين فقدوا أحبّاءهم أو تعرضوا للاعتقال والتعذيب”.
أما الأطفال، فكانوا الأكثر تأثرًا. فقد أظهرت تقارير اليونيسيف أن 80% من الأطفال السوريين تعرضوا لمواقف عنيفة بشكل مباشر، مما أدى إلى تغيرات سلوكية حادة، مثل اضطرابات النوم، وصعوبات التركيز، والانعزال الاجتماعي.
كان الأطفال الأكثر تأثرًا، إذ أظهرت تقارير اليونيسيف أن 80% منهم شهدوا العنف مباشرة، ما أدى إلى اضطرابات في النوم، وصعوبات في التركيز، وعزلة اجتماعية. وتضيف مهنا: “الكثيرون يشعرون أنهم غير قادرين على بناء حياة جديدة، وكأن كل شيء محكوم عليه بالدمار مسبقًا”.
لماذا نرى الآخرين تهديدًا لنا؟
المشكلات النفسية لم تعد فردية، بل أثرت على التفاعل المجتمعي، حيث زاد التوتر والانقسام السياسي والاجتماعي. تقول مهنا: “عندما يكون الناس تحت ضغط نفسي دائم، يصبحون أكثر اندفاعًا في قراراتهم، وأقل قدرة على التفاهم مع من يخالفونهم الرأي حيث يزداد التشدد والانقسام، ويتراجع الحوار العقلاني”.
تلفت أخصائية الصحة النفسية: “هذه المشكلات النفسية تؤثر بشكل مباشر على التفاعل بين الأفراد في المجتمع، وتزيد من التوترات الاجتماعية. إذا لم نستطع أن نواجه أنفسنا ونتفهم تجاربنا بشكل صحيح، فسنظل عالقين في دوامة من اللوم والتشويش، مما يصعب علينا التعايش مع الآخرين، وخاصة أولئك الذين لا يشبهوننا في أفكارهم أو طرق حياتهم. هذا التشتت يجعل التعايش أكثر صعوبة، خاصة عندما لا نرى في الآخرين سوى انعكاسًا لمخاوفنا أو تهديدًا لنا. ومع مرور الوقت، يعمّق الانقسامات ويزيد من فقدان الثقة في المستقبل”.
ثلاثة أجيال.. وثلاثة تحديات
لم يكن تأثير الصدمة النفسية موحدًا بين جميع السوريين، بل اختلف وفقًا للمرحلة العمرية والتجارب التي مر بها كل جيل.
جيل ما قبل الثورة عاش في قمع نفسي متوارث قبل عام 2011 وتعلم أن أفضل وسيلة للنجاة هي الصمت، ونشأ في بيئة تم فيها قمع المشاعر منذ الصغر، وأصبح الخوف من التعبير جزءًا من تكوينه النفسي. أما الجيل الذي عايش الثورة والحرب، فكان تعامله مختلفًا تمامًا. لقد نشأ هؤلاء في بيئة عنف مستمر، حيث أصبح القلق والتوتر المزمن جزءًا من حياتهم اليومية. بعضهم يعاني من فرط الحركة أو صعوبات التركيز، بينما يعاني آخرون من الانسحاب الاجتماعي وعدم القدرة على تكوين علاقات مستقرة.
أما الجيل الذي سيولد بعد سقوط النظام، فسوف يعيش في بيئة مليئة بالفوضى والتغيرات. ورغم أنهم لن يختبروا القمع المباشر، إلا أنهم سيرثون ندوب الأجيال السابقة.
هل سقوط النظام يعني التعافي النفسي؟
رغم أن سقوط النظام قد يبدو وكأنه نهاية القمع، إلا أن الصدمات النفسية المتراكمة لا تختفي بمجرد تغير الوضع السياسي. تلفت مهنا: “حتى بعد سقوط النظام، لن يكون التعافي سهلًا. الصدمات الجماعية تحتاج إلى وقت طويل حتى يتم تجاوزها، خاصة عندما تكون الجراح عميقة، فالأفراد الذين فقدوا أحبّاءهم أو تعرضوا للتعذيب لن يتمكنوا من المضي قدمًا دون محاسبة حقيقية وعدالة انتقالية”.
تجارب دول مثل جنوب إفريقيا وإيرلندا الشمالية أظهرت أن المجتمعات التي مرت بصراعات طويلة لم تتمكن من تجاوز ماضيها إلا عندما أتيحت لها فرصة الاعتراف الجماعي بالألم والتعامل معه بشفافية.
كيف نبدأ طريق التعافي في ظل انهيار قطاع الصحة النفسية؟
يعاني قطاع الصحة النفسية في سوريا من شبه انهيار كامل، حيث يوجد نقص حاد في الأطباء والمعالجين النفسيين، بالإضافة إلى غياب مراكز التأهيل والدعم. ومع ذلك، ترى مهنا أن هناك بدائل يمكن تبنيها للمساعدة في التعافي.
تشير الأخصائية النفسية: “أحد أهم الحلول هو إنشاء مبادرات مجتمعية توفر بيئة آمنة حيث يستطيع الأفراد التعبير عن مشاعرهم بحرية. الدعم النفسي لا يجب أن يكون حصرًا على العيادات والمراكز، بل يمكن أن يأتي من المحيط الاجتماعي أيضاً، تساهم المجموعات المجتمعية، مثل مجموعات الدعم النفسي، والأنشطة الجماعية، في تخفيف الشعور بالعزلة وتعزيز الشعور بالانتماء.
وتبين مهنا أنه يمكن للفنون والإعلام أن يلعبا دورًا مهمًا في كسر الصمت حول القضايا النفسية. عندما يتم سرد قصص حقيقية في الأفلام أو الأدب، فإنها تمنح الناس شعورًا بأنهم ليسوا وحدهم في معاناتهم. والأمثلة على ذلك عديدة، فقد لعبت السينما والمسرح دورًا رئيسيًا في دعم التعافي النفسي بعد الحروب في دول مثل البوسنة ورواندا.
الوعي الذاتي هو المفتاح
في ظل ندرة المراكز المختصة، يصبح التعافي الذاتي أمرًا ضروريًا. توضح مهنا أن أول خطوة في هذا الاتجاه هي الوعي الذاتي، أي أن يدرك الشخص مشاعره وأفكاره دون إنكارها، وتشمل الممارسات التي يمكن أن تساعد في التخفيف من الضغوط النفسية التأمل وتمارين التنفس، التمارين البدنية، الكتابة أو الحديث مع شخص موثوق.
ليس فقط تجاوز الألم.. بل بناء هوية نفسية جديدة
التعافي النفسي لا يعني فقط تجاوز الألم، بل أيضًا بناء هوية جديدة لا يكون الخوف جزءًا منها. تقول مهنا: “بالنسبة للسوريين، يمكن أن تتشكل لديهم هوية نفسية جديدة بعد التحرير، ولكن هذا يتطلب وقتًا طويلًا ودعمًا قويًا. من المهم أن يتوفر لهم مكان آمن للتعبير عن أنفسهم ومشاركة مشاعرهم وأفكارهم دون خوف من الرقابة أو القمع. لا يمكن أن نتوقع تحسنًا فوريًا، بل يتطلب الأمر جهودًا مستمرة على المدى البعيد لبناء الثقة بالنفس وإعادة التأهيل الاجتماعي. كما أن توفير برامج اجتماعية تركز على التعافي الجماعي أمر أساسي، لأن ذلك يساعد الأفراد على إعادة بناء هويتهم النفسية بشكل صحي ومتوازن”.
هل يمكن للمجتمع المدني أن يكون أداة للشفاء؟
في غياب المؤسسات الحكومية الفعالة، يمكن للمجتمع المدني أن يكون المحرك الرئيسي في عملية التعافي النفسي. “عندما يعمل المجتمع المدني على دعم العدالة الاجتماعية، وتوفير الدعم النفسي، فإنه لا يساعد الأفراد فقط، بل يساهم في إعادة بناء المجتمع بأكمله”، تؤكد مهنا.
“رغم كل هذا، هناك نافذة أمل”، تقول الأخصائية مهنا، وتتابع: “الأجيال الجديدة بدأت في تفكيك هذه الصدمة الجماعية، في فتح الملفات المغلقة التي طالما طُمِست. هذه العملية ليست سهلة، ففتح الصندوق المغلق منذ عقود يكشف عن جراح وألم، لكنه أيضًا السبيل الوحيد نحو التعافي. الاعتراف بالماضي والتعامل معه بشفافية هو الطريق الوحيد لبناء مجتمع قادر على التحرر من إرث الخوف والبدء في إعادة تشكيل ذاته. الشفاء الجماعي يبدأ عندما نقرر أن نكسر الصمت”.
الترا سوريا
———————-
ما الذي يمكن أن تتخيّله امرأة مثلي في دمشق؟/ هند الشيخ علي
الثلاثاء 4 مارس 2025
يُنشر هذا النصّ ضمن “لنتخيّل”، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.
حين جلستُ أفكر في ما يمكن لفتاة في أواخر العشرينات من عمرها، لم تغادر دمشق قطّ إلا صوب شقيقاتها الأكثر بؤساً، أن تتخيله، لم أستطع أن أتخيّل عوالم بعيدة المنال، أو غير حقيقية، أكثر من الحياة العادية نفسها. وهذا ليس عيباً في مخيّلتي، بل عيب في الواقع نفسه الذي نعيشه عندما يؤطّر حدود الخيال بأشياء من هذا النوع.
ما الذي يمكن أن يتخيّله المقيم في دمشق، أو في أيّ مدينة سورية أخرى، إن لم تكن عودة فقيد أو ميت؟ سأقول لكم: سيتخيّل أنّ بإمكانه شراء شقّة صغيرة بعد أكثر من عشر سنوات من العمل المُهلك، أو أقلّ الإيمان، سيارة صغيرة “بالتقسيط المريح”، أو ربما سيكون لديه من الجرأة ما يجعله يتخيّل نفسه من دون “دين شهري”، لأنّ راتبه الشهري يكفيه وزيادة. بعبارة أخرى: سيتخيّل حياةً عاديةً، لا تخلو من المشقّات أو المنغّصات بالطبع، ولكن هذه الأخيرة لا تصبح الحياة نفسها، ولا يكون الاستثناء فيها تحوّلها إلى مصائب وكوارث.
ولأنّ هذا الخيال ليس خيالي وحدي، بل خيال الآلاف من أبناء جيلي، ستدور هذه القصة المتخيلة حول حياة عادية متخيّلة لعائلة سورية صغيرة. الزوجة صحافية، مثلي، تعيش بعض المنغّصات في أحد أيام عطلتها الرسمية، وزوجها يعمل في شركة خاصة، يبدو أنها ناجحة. وفي ما يلي تفاصيل من يوم واحد من حياتهما، في مذكرة متخيَّلة للزوجة المتخيِّلة، عن أحداث متخيَّلة.
“خلّينا نحكي المسا”
“اليوم أحسم هذه المسألة نهائياً. سنغيّر مكان إقامتنا. هاتفتُ زوجي لأعلمه بذلك، فضحك قائلاً: “منحكي المسا بس أرجع عالبيت”. ولكنني أؤكد له أنّ هذه ليست مزحةً، وأن لا رجعة لي عن هذا القرار. فيقول وقد استمرّ في الضحك: “ماشي ماشي، بس خلّينا نحكي المسا، هلأ مشغول شوي”.
كل يوم جمعة، وهو يوم عطلتي الرسمية الوحيد، يحدث هذا. يحبّ جيراني تنظيم “الصبحيات” منذ السابعة صباحاً. أسمعهم على الشرفة المجاورة لغرفة نومي، وهم يتحدّثون عن رجال أعمال أجانب لقوا حتفهم في قاع المحيط خلال رحلة ترفيهية، ويناقشون “البيتكوين”، ناهيك عن صوت ارتطام الأطباق والكؤوس.
إلهي، لماذا عليّ أن أخوض معهم في هذا كله؟
ثمة مشكلة كبيرة في معظم أحياء دمشق وأبنيتها السكنية: استمرار نهج “عيرني كتفك”. فمثلاً، إذا خرجتَ لتجلس في الشرفة، أصبح وجهك ملاصقاً لوجه جارك، وإذا نشب خلاف في منزلك، سمع به ساكنو البيت الذي بجوارك كلهم. وإذا جاءك ضيف، عرف كل من في المنازل المحيطة متى دخل هذا الضيف، ومتى خرج. وهكذا، أنت لا تسكن في منزلك وحدك، جيرانك كلهم يسكنون معك، والمصيبة أنك تسكن معهم أيضاً!
وأنا، ليس لديّ سوى يوم عطلة واحد لأنام كيفما يحلو لي. ولكن هذه “بعيدة عن أسناني”.
على طاولة العشاء، نقرر أنا وزوجي الاستعانة بمكتب عقاري، وقد اتفقنا: سننتقل إلى حيّ سكنيّ جديد، وستكون فيه الشقق بعيدةً عن بعضها. يخبرني عن يومه في العمل، فيقول إنّ حجم المبيعات ارتفع هذا الأسبوع بشكل كبير في الشركة، وسينال كل موظف مكافأةً ماديةً قيّمةً. أسأله إن كانت هذه المكافأة تكفي لتبديل الأرائك واستبدالها بأرائك جديدة؟ فيطمئنني بأنها تكفي حتى لتبديل الستائر وأسرّة الأولاد.
قطّ يسرق أساور ذهبيةً
لقد كان اليوم ماطراً وبارداً جداً، ولهذا لم أغادر المنزل. ولأنني استيقظت، أو أُوقِظت، باكراً جداً، أمضيت النهار كله في القراءة. المنازل في دمشق دافئة حتى في أشدّ أيام البرد. الحمد لله أننا لا نعيش في كندا، أو السويد. لديّ صديقتان تعيشان هناك منذ سنوات، وقد أكدتا لي أنّ الحياة مستحيلة في هذين البلدين الباردين الموحشين.
يا إلهي، ما الذي يدفع الإنسان إلى استبدال كل هذا الدفء والحميمية في دمشق، بصقيع أمريكي أو أوروبي باهت؟
نشرات الأخبار على التلفزيون مملّة. على الرغم من أنني أعمل في مجال الصحافة المحلية منذ أكثر من عشرة أعوام، إلا أنّ كل ما نفعله هو كتابة الأخبار عن زيارات الحكومة واجتماعاتها، والصادرات والواردات، وعن تدمر وبصرى ومعلولا. الحدث الأكثر إثارةً الذي غطّيته في إحدى المرات، كان عن قطّ اقتحم منزل سيّدة مسنّة في منطقة باب شرقي، وسرق مصاغها. صوّره جارها بهاتفه المحمول، قبل أن يقبضوا عليه متلبّساً وهو يشدّ مجموعة أساور ذهبية بين أسنانه. نشرت الوسيلة الإعلامية التي أعمل فيها، التقرير الذي أعددته عن الحادثة على منصة “إنستغرام”، وانتشر حتى أستراليا. نعم، هذا صحيح، نقلته عنّا العديد من المنصات الأجنبية، وشاهده في إحدى المرات أكثر من 10 ملايين شخص. المفاجئ أنّ الكثير من الناس لا يعرفون ما هي سوريا!
لجيراني محاسن أيضاً
عاد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة مجدداً. لم يتحدث عن المنطقة العربية كثيراً. لديه خطط واعدة في أن تسهم الولايات المتحدة في حلّ أزمات اللاجئين خلال السنوات الخمس المقبلة، ولا سيما أولئك الذين يعيشون في ظروف إنسانية صعبة. لقد سمعت كثيراً عن أولئك الآسيويين الذين يعيشون ظروفاً صعبةً في أيسلندا، عن طريق كتاب قرأته مؤخراً. تتعامل معهم الشعوب الأصلية على نحو عنصري، ويتم اضطهادهم ولفظهم من المجتمع… ما الذي يدفعهم إلى ترك أوطانهم؟ الحمد لله أنني من دمشق، وأعيش في دمشق. فعلى الرغم من إزعاجات جيراني المتكررة، إلا أنّ لهم أيضاً محاسن أخرى عديدةً، فمثلاً هم يذكرون طفليَّ بـ”زبادي محلاية”، ويكونون أول المهنئين بالعيد، وأول المساندين في أوقات الأزمات. ما زلتُ أذكر أنه عندما توفي والد زوجي، في بيتنا قبل عام، اضطررنا إلى إسعافه قبل ذلك إلى المستشفى. بقي معنا أحد الجيران حتى وقت متأخر من الليل، في حين أمضى طفلاي ليلتهما عند جيران آخرين.
صفقة غير رسمية
ولكن قرار تغيير السكن لا بدّ منه. لقد تزوّجنا في هذا البيت وأنجبنا طفلينا فيه، وبعد أن أصبح عملنا مريحاً ومربحاً نوعاً ما، بات من الممكن الانتقال إلى شقّة أوسع. سنطلب من الوكيل العقاري أن يعثر لنا على شقّة في حيّ قريب من العمل، فيه مدارس جيدة أيضاً. المدارس؟ أوه، المدارس لم تعد كما كانت على أيامنا، فالمدارس الحكومية اليوم تعلّم الإنكليزية والفرنسية بدءاً من الصفّ الابتدائي الأوّل. ولكن عموماً، هذه قفزة مهمة في مسار تطوّر التعليم في بلادنا، وثقيلة على كتفَي أمّ عاملة ومربية في وقت واحد. لا بدّ من إلحاقهم بمعاهد أو الإتيان بأساتذة متخصصين إلى المنزل! سأناقش هذا مع زوجي لاحقاً.
تشغلني مسائل الأطفال دوماً، أشعر بأن زوجي قد ترك لي هذه المهمة في صفقة غير رسمية. لعلّ هذا شأن معظم الأسر في سوريا، فالآباء مشغولون دوماً، والأمهات، عاملات أم مربّيات، يتحمّلن وحدهنّ تدبير أمور أطفالهنّ. هل أستطيع أن أحصي كم مرةً اضطررت فيها إلى ترك العمل لتدبير أمر من أمورهم الطارئة؟ ليس هذا فحسب، فعندما يحدث هذا، عادةً ما أضطر إلى العودة إلى العمل مجدداً، ومن ثم يأتي دور الطبخ، ونشر الغسيل، وكيّ الثياب، ومسح الغبار، واستقبال ضيف… إلخ.
أحتاج إلى مأزق!
تتشابه الأيام على نحو مقلق في حياتي. صحيح أننا نرتّب المشاوير في نهاية كل أسبوع، وأننا نسافر خارج البلاد في أغلب العطل الطويلة، وصحيح أنه ما زال في مقدوري التفرغ لتعلّم مهارات جديدة والقراءة، ولكن لا شيء مثيراً يحدث حقاً. أشعر بأنني بحاجة إلى تحدٍّ من نوع يثير في حياتي حاجةً إلى الركض غير نوع الركض في البيت أو خلف الأطفال. ركض يبتعد عن أروقة المكاتب الحكومية والدوائر الحكومية والأصوات الحكومية التي لا تقول إلا ما تقوله في كل يوم. أشعر بأنني بحاجة إلى ثورة هائلة تضعني في مأزق، مشكلة… يمكنني فيها أن أتعرّف على نفسي في الأوقات غير العادية، في أوضاع وظروف غير آمنة… كيف سأتصرف؟ ماذا سأفعل؟ هل ستخرج مني نسخة عن امرأة أخرى؟ كيف سأكون تحت التهديد وفي المصاعب؟ وفي بلاد باردة غير بلادي؟ وفي شقّة بعيدة عن صبحيات جيراني وزبادي المحلاية خاصتهم؟ كيف سأكون في حال كنت مهاجرةً آسيويةً عند الأيسلنديين؟ ماذا سأكتب لوسيلتي المحلية حينها؟ هل أحتاج إلى ثورة تخصّني حتى أخرج من “الأيام العادية”، أو إلى ثورة من نوع آخر؟
ثورة على الرتابة الآمنة
لا أعرف. وقد بدأت أشعر بالنعاس بالفعل الآن. غداً هو يوم السبت، أبلغني رئيس التحرير قبل أيام بأنّ عليّ تغطية مؤتمر سيحضره ممثلون عن دول أجنبية وعربية، ناشطون في مجال البيئة والمناخ. سيناقشون ربما احتمالية استضافة دمشق مؤتمر الأمم المتحدة للتغيّر المناخي 30 COP…
ربّاه! سيثير هذا المؤتمر جنون ناشطي المناخ في سوريا، لقد خاضوا معارك كبيرةً خلال السنوات الماضية مع الحكومة وشركات النفط في البلاد، وتظاهروا عشرات المرات ضدّها… غطّيتُ بنفسي احتجاجَين، ولكن الحكومة حينها حلّت الإشكالية بحنكتها. في المقابل، هاجم حزب معارض أولئك الناشطين، قائلاً إنهم يغضّون الطرف عن مآزق أكبر في البلاد، على رأسها حقيقة أن أكثر من 30% من خرّيجي الجامعات بلا عمل، وأن أزمة كساد تلوح في الأفق. لقد كتبتُ عن هذه القضايا أكثر من أربعة تحقيقات صحافية، ولكنني لا أعرف لماذا تخوض الأحزاب مثل هذا النوع من المعارك؟ أليس لكل حزب شأنه وقضيته؟ هل يكمّم ناشطو البيئة أفواههم عن الكوارث التي تحدث لأنّ ثمة أولويات أكثر إلحاحاً الآن للحديث عنها؟ عجيب أمرهم.
وحتى هذا النوع من المعارك، أصبح عادياً، يملّه القرّاء السوريون، يملّون أيامهم العادية، مثلي، ويحتاجون إلى ثورة تغيّرهم. ثورة تحرّكهم من مناطق الراحة التي يعيشون فيها… ثورة على الرتابة الآمنة التي تنهش أحذيتهم الرياضية، وعضلات سيقانهم، وتزيد أرطال الدهون في أفخاذهم وبطونهم…
رصيف 22
———————————————————
القضاء السوري ما بعد إسقاط الأسد… ما الذي “يعيق” استعادته استقلاليته؟/ مرح زياد الحصني
الاثنين 3 مارس 2025
لطالما كان القضاء السوري مرآةً تعكس واقع السلطة في البلاد، فقد شكّل لعقود طويلة أداةً بيد النظام، تخضع لتوجّهاته السياسية وتتأثّر بتدخّلاته المباشرة. قبل إسقاط نظام بشار الأسد، كانت المحاكم تعمل ضمن إطار يحدّده الحزب الحاكم، حيث ظلّ القضاء مسيّساً إلى حد كبير، ويفتقر إلى الاستقلالية الحقيقية. وعقب انهيار هذا النظام، وجد القضاء نفسه أمام مرحلة مفصليّة، يتأرجح فيها بين محاولات الاستمرار وفق الآليات القديمة، ومساعي إعادة تشكيله بما يتناسب مع واقع سياسي جديد لم تتضح ملامحه بشكلٍ كاملٍ بعد.
وبينما يحاول القضاء السوري استعادة دوره، وسط تحدّيات سياسية وإدارية وقانونية معقّدة، تتباين آراء القضاة والمحامين وحتّى المواطنين، حول واقع هذا القطاع الحيوي، ومستقبله. فهناك من يرى في التغييرات الجارية، خطوةً نحو استقلالية القضاء، بينما يحذّر آخرون من أنّ القضاء لا يزال مكبّلاً بقيود السلطة التنفيذية، وإن اختلفت كليّاً هذه السلطة عن سابقتها، عادّين أنّ الإصلاحات الحالية قد تكون شكليّةً.
في هذا التقرير، نستعرض واقع المحاكم السورية بين الأمس واليوم، ونناقش آراء المعنيين حول مستقبل “العدالة” في البلاد.
فساد ما قبل إسقاط النظام وما بعده
لفهم واقع القضاء والمحاكم في سوريا قبل إسقاط بشار الأسد، يشرح المحامي مصطفى كليب من دمشق، لرصيف22، تفاصيل دقيقةً عمّا كان يجري داخل أروقة المحاكم، قائلاً إنّ المؤسسة القضائية في سوريا كانت غارقةً في الفساد إلى حدٍّ كبير، إلى درجة أنّ العمل بنزاهة أو من دون رشاوى كان أمراً نادراً، وربما مستحيلاً. يقول المحامي السوري، إنّ الذي كان يرفض الرضوخ لهذه الممارسات، كان يُنظر إليه من قِبَل بعض الموكّلين على أنه “محامٍ لا يعرف كيف يعمل”، في إشارة إلى أنّ النجاح في المحاكم كان مرهوناً بأساليب أخرى غير الكفاءة القانونية.
لكن المشكلة لم تكن مقتصرةً على الرشوة فحسب، إذ يشير كليب، إلى أنّ بعض القضاة، وإن لم يكونوا فاسدين بشكل مباشر، كانوا يتعاملون مع القضايا بـ”مزاجية بحتة”. فمجرد عدم إعجاب القاضي بمحامٍ معيّن، قد يكون كفيلاً بتأخير القضية و/ أو منع صاحبها من الوصول إلى حقّه لوقت طويل.
وبرغم هذا الواقع، إلا أنّ “كليب”، لا يُنكر وجود قضاة نزيهين يتمتّعون بالكفاءة والاستقامة، وهم “ليسوا قلّة”.
القضاء الجزائي… “المفتاح” لمن يدفع أكثر
لكن الفساد كان أشدّ وضوحاً في القضاء الجزائي المختص بالجرائم، مثل المخالفات والجنح والجنايات. كان النفوذ المالي والعلاقات يلعبان الدور الحاسم، إلى درجة أنّ مصطلح “المفتاح” كان شائعاً داخل المحاكم، حيث يُعرّف بعض الأشخاص بأنهم “مفتاح القاضي فلان”، أي أنهم قادرون على التأثير في قراراته لقاء المال أو الخدمات، بحسب كليب.
نتيجةً لذلك، تحوّلت المحاكم في معظمها إلى ما يشبه “الدكاكين”، تُباع فيها حقوق الناس وتُشترى، وأصبح العدل متاحاً لمن يستطيع دفع الثمن، بينما كان المواطن العادي يجد نفسه عاجزاً أمام هذه المنظومة، وفق المحامي السوري.
البيروقراطية أيضاً
ومن ناحية آليات التقاضي، لم يكن الفساد المشكلة الوحيدة، إذ كانت البيروقراطية تسم عمل المحاكم كما في العديد من الدوائر الرسمية الأخرى في سوريا الأسد، ما جعل الإجراءات القانونية تستغرق وقتاً أطول مما يجب. ومع ذلك، يشير كليب، إلى أنّ هناك نوعاً من التنظيم في العمل، ولو شكلياً، حيث كانت المحاكم تسير وفق أنظمة محدّدة، خاصةً في القضايا التي كانت تستند إلى مضبوطات المخابرات والأفرع الأمنية، مثل فرع الخطيب. يقول كليب، إنّ القضاة كانوا يتعاملون مع الاتهامات الأمنية في هذه التقارير وكأنها “حقيقة مطلقة”، دون الأخذ بعين الاعتبار إمكانية انتزاع الاعترافات تحت التعذيب، وهو أمر كان شائعاً في تلك الفترة، ما أدّى إلى ظلم الكثيرين دون أن يكون هناك سبيل إلى الطعن في هذه الأدلّة.
“إذاعات البحث” والاعترافات القسرية
من بين المشكلات البارزة الأخرى التي كانت تُمارَس في القطاع القضائي، يشير كليب، إلى قضية “إذاعات البحث”، وهو إجراء كانت الأفرع الأمنية، خاصةً أفرع المخدّرات، تستخدمه لخلق دائرة لا تنتهي من الاعترافات القسرية.
ويشرح أنّ كل مُحتجز في أفرع مكافحة المخدرات، على سبيل المثال، كان يُجبَر على الاعتراف على خمسة أشخاص آخرين بتهمة التعاطي أو الاتّجار، بغض النظر عما إذا كان يعرفهم أو لا. وتحت وطأة التعذيب، كان البعض يذكر أسماءً عشوائيةً، ليجد هؤلاء الأشخاص أنفسهم بدورهم معتقلين، ومجبرين على الاعتراف على آخرين، وهكذا تستمر السلسلة.
وبرغم وجود تعميم صادر عن وزير الداخلية في النظام السابق يقضي بضرورة التحقق من صحة هذه الاعترافات قبل إصدار مذكرات البحث، إلا أنّ هذا التعميم لم يُطبّق على أرض الواقع.
إلى ذلك، لم يكن الفساد حكراً على القضاء الجزائي، فقد امتدّ أيضاً إلى القضاء المدني وحتّى المحاكم الشرعية. يشير كليب، إلى أنّ الفساد في هذه المحاكم كان أقلّ وضوحاً، لكنه كان موجوداً. ويدلّل على ذلك بعزل قضاة شرعيين مؤخراً، بسبب حالات فساد ومخالفات جسيمة.
الضغوط السياسية على القضاء
التدخّلات السياسية والضغوط التي تُمارس على بعض القضاة كانت عاملاً مؤثّراً بقوّة أيضاً. يوضّح كليب، أنّ هذه الضغوط كانت تأتي أحياناً من وزير العدل نفسه، أو حتّى من جهات أمنية مختلفة.
وفي كثير من الأحيان، لم تكن قرارات نقل القضاة تتم بناءً على ضرورات العمل، بل كانت تُستخدم كوسيلة لمعاقبة القضاة الذين لم يلتزموا بتوجيهات معيّنة أو رفضوا تنفيذ أوامر غير قانونية. هذه التنقلات المتكررة أثّرت سلباً على استقرار المحاكم، وجعلت من عملية التقاضي عمليةً غير مستقرّة ومليئة بالمفاجآت، وفق كليب.
بعد إسقاط النظام… اضطراب فعودة تدريجية
بعد انهيار نظام الأسد، تعطّل المرفق القضائي لفترة، وتوقّفت العديد من المديريات عن العمل، قبل أن تعود الإجراءات تدريجياً إلى صيرورتها المعتادة بمرور الوقت. يذكر كليب، أنّ إحدى أبرز المشكلات التي واجهها القضاء بعد “تحرير سوريا”، هي غياب أقسام الشرطة، التي تتضمن مسؤولياتها تنظيم المضبوطات وتبليغ المذكرات الصادرة عن المحاكم.
كما توقّفت بعض المديريات الحكومية عن العمل، مثل مديريات المالية، ومديريات النقل، ومديريات المصالح العقارية، ما أثّر على إمكانية تسجيل بعض الدعاوى التي تحتاج إلى بيانات رسمية من هذه الجهات. لكن هذه المؤسسات بدأت تستعيد نشاطها شيئاً فشيئاً، ما سمح بعودة التقاضي إلى مساره الطبيعي.
لكن استئناف القطاع القضائي مهامه، كان محفوفاً بالكثير من المخاوف، وأحياناً التساؤلات حول واقع هذا القطاع المهم ومستقبله، ولا سيّما في ظلّ المشكلات الراسخة التي ورثها من عقود حكم النظام الساقط، فضلاً عن ظهور إشكاليات جديدة عدة متّصلة بعمل القضاء، مثل استحداث مناصب جديدة كرئيس العدلية، دون أن تكون هناك رؤية واضحة حول طبيعة مهامه واختصاصاته.
بالإضافة إلى ذلك، يشير كليب، إلى مشكلة تتعلّق بالجرائم التي يرتكبها أكثر من شخص، حيث يتم القبض على أحدهم، بينما يبقى الآخرون فارّين، ولم تعد هناك آلية فعّالة لملاحقتهم أو إدراجهم على لوائح البحث الجنائي، ما زاد من صعوبة التعامل مع هذه القضايا.
كما أنّ هناك نقصاً في الخبرة لدى بعض المسؤولين الجدد، ولا سيّما في شأن إجراءات التبليغ. وكذا غياب الخبرة الفنية في التعامل مع بعض الجرائم، مثل قضايا تزوير العملات والمخدرات، حيث يتم القبض على شخص بحيازته عملات مزوّرة أو مخدرات، دون أن يكون هناك تقرير فني يحدّد طبيعة هذه المواد كأدلة إدانة.
القضاء تحت الوصاية السياسية
بدوره، يسلّط المحامي السوري رامي جلبوط، في حديثه إلى رصيف22، الضوء على شكل المنظومة القضائية اليوم في ظل التغيّرات السياسية والإدارية التي تشهدها البلاد، موضحاً أنّه بالرغم من بعض محاولات إعادة هيكلة القضاء، إلا أنّ التحدّيات القانونية والمؤسساتية لا تزال تعرقل استقلالية القضاء السوري، بما ينعكس بشكل مباشر على حياة المواطنين ومعاملاتهم اليومية.
يضيف جلبوط، أنّ القضاء في سوريا يمرّ بحالة خطيرة من التعطيل، نتيجة الخلل الذي أصاب أجهزة الدولة والأوضاع المعيشية المتردّية للمواطنين، شارحاً أنّ القضاء، الذي يُفترض أن يكون سلطةً مستقلّةً، يُدار حالياً بإشراف مباشر من وزارة العدل، وتحت وصاية كاملة من الإدارة السياسية الجديدة. ويستدرك قائلاً إنه برغم أنّ القرارات القضائية بدأت تأخذ طابعاً أكثر انتظاماً بعد فترة من التخبّط، إلا أنّ الوصاية السياسية لا تزال قائمةً، ما يجعل استقلال القضاء أمراً بعيد المنال ما لم يتم اعتماد دستور جديد أو إصدار نصوص واضحة وصريحة تضمن استقلاليته في الإعلان الدستوري المنتظر.
وعن العوامل الإضافية التي تعرقل عمل القضاء، يلفت جلبوط، إلى أنّ أبرزها توقّف معظم أعمال السجل العقاري والسجلات المشابهة، ما أدّى إلى “شلل شبه كامل” في سوق العقارات، وهو قطاع يشكّل دعامةً أساسيةً للاقتصاد السوري، على حدّ قوله. بالإضافة إلى ذلك، تعاني أجهزة الضبطية القضائية، مثل الأمن الجنائي والشرطة “الانحلال”، ما أثّر على عمليات التبليغ وتنظيم المضبوطات الخاصة بالجرائم والوقائع الحيوية.
وفي حين أنّ المحاكم السورية لا تزال تعمل وتتلقى الدعاوى من الناحية النظرية، إلا أنّ الواقع العملي يكشف عن معوقات عديدة، مثل عدم القدرة على تسجيل إشارات الدعوى أو تبليغ مذكرات الدعوة، فضلاً عن تعطيل دوائر النقل، بما يمنع المواطنين من إتمام عمليات نقل الملكية سواء للعقارات أو المركبات. كما أنّ تدخّل وزارة العدل في قرارات القضاة، حدّ من قدرتهم على الفصل في الدعاوى باستقلالية، بحسب جلبوط.
كذلك، يحذّر جلبوط، من أنّ هذا التعطيل القضائي دفع مواطنين إلى اللجوء إلى ما يصفه بـ”مغامرات قانونية خطيرة”، لحفظ حقوقهم، حيث أصبحت عمليات البيع والشراء تتم بعقود غير موثّقة، ما يتوقّع أن ترافقه زيادة في حالات التزوير والاحتيال التي تهدّد بضياع الحقوق في ظل غياب الضمانات القانونية اللازمة.
نقابة المحامين بين إعادة الهيكلة والوصاية السياسية
في إطار المنظومة القضائية، يشير جلبوط، إلى أنّ نقابة المحامين، التي يوضح أنها منظمة شعبية تخصّصية وليست دائرةً حكوميةً، فرضت عليها الإدارة السياسية للبلاد، مجلساً جديداً بعد حلّ المجلس المنتخب سابقاً، والذي كان خاضعاً لهيمنة حزب البعث.
وبرغم تجاوز المحامين بعض الأخطاء التي ظهرت في عمل المجلس الجديد، تفاجأ الجميع مؤخراً بقرارات جديدة صدرت عن مجلس النقابة، تقضي بحلّ مجالس الفروع المنتخبة وتعيين مجالس جديدة، دون توضيح معايير الاختيار أو الأسس التي استند إليها هذا القرار. ويرى جلبوط، أنّ هذه الخطوة أثارت انقساماً في صفوف المحامين، بين مؤيّد لفرض الوصاية السياسية حتّى على النقابة، وبين متمسك باستقلاليتها وفقاً لنصوص القانون، بما يتيح تجاوز إرث السيطرة البعثية على العمل النقابي.
استمرار عمل المحاكم برغم التحديات
فضلاً عمّا سبق، يرى جلبوط، أنّ القضاء لا يزال يعاني من التعطيل والوصاية السياسية. لكن يختلف معه القاضي محمد طارق رمضان، وهو قاضٍ في النيابة العامة في محكمة دمشق، حيث يؤكد لرصيف22، أنّ المحاكم استعادت نشاطها بشكل كبير بعد “التحرير”، وأنّ القضاء مستمر في أداء دوره برغم التحديات.
في حديثه، يسلّط القاضي رمضان، الضوء على عودة العمل القضائي، والتدابير المتخذة لضمان سير العدالة، وكيفية التعامل مع المرحلة الانتقالية، عادّاً أنّ الفراغ التشريعي لا يعني بالضرورة حالةً من الفوضى، بل هو جزء من عملية إعادة بناء المؤسسات وفق نهج مدروس.
يتحدث رمضان، عن قضايا عدة، ويؤكد لرصيف22، أنّ المحاكم السورية لم تتوقّف عن العمل إلا لفترات قصيرة في بداية الأحداث، لكنها اليوم استعادت نحو 80% من نشاطها، مع عودة 90% من العمل القضائي إلى ما كان عليه قبل إسقاط النظام السابق. ويشدّد على أنّ القضاء مستمر برغم التحديات، حيث يحرص القضاة على حماية المحاكم من أي تخريب أو تعطيل لضمان استمرارية العدالة. كما يشير إلى أنّ المحاكم اليوم فعّالة، وتستقبل القضايا المتعلّقة بتسجيل عقود الزواج، وتثبيت الملكيات، وحلّ النزاعات، ما يضمن استمرار الحياة القانونية وفق القوانين النافذة، إلى حين تعديلها بما يتناسب مع المرحلة الجديدة.
حاجة إلى إصلاحات تشريعية ومخاوف من الفراغ الدستوري
لكن برغم هذا التقدّم، يرى رمضان، أنّ القضاء لا يزال بحاجة إلى إصلاحات تشريعية لمواكبة الواقع الجديد، خاصةً في ما يتعلق بالقوانين المالية والتشريعات الخاصة بالتعاملات الاقتصادية، التي فُرضت خلال المرحلة السابقة، وجرى تعليق بعضها مؤقتاً. ويوضح أنّ هذه الإصلاحات ضرورية لضمان مرونة القضاء واستقلاليته في ظلّ المتغيرات السياسية والاقتصادية.
أما في ما يخصّ مسألة “الفراغ الدستوري”، الذي يتخوّف منه البعض، فيرفض القاضي رمضان، الربط بينه وبين الفوضى الأمنية، مؤكداً أنّ الدولة لم تنهَر، وهناك رئيس جمهورية يعمل وحكومة كذلك الأمر، وما ينقصها فقط هو مجلس تشريعي دائم. ويضيف أنّ تشكيل مجلس تشريعي مؤقت، يمثّل خطوّةً نحو سدّ هذا النقص إلى حين وضع دستور جديد وإجراء انتخابات، ما يضمن انتقالاً سياسياً منظّماً دون خلق حالة من الفوضى.
وبشأن الانتقال السياسي، يحذّر رمضان، من “الاستعجال” في إجراء الانتخابات قبل تأمين البنية التحتية والاقتصادية والاجتماعية اللازمة، مشيراً إلى أنّ تنظيم انتخابات في ظلّ أزمات معيشية حادّة قد يؤدي إلى نتائج عكسية. ويؤكد أنّ العملية الانتقالية تتطلّب عملاً متدرجاً يضمن استقرار البلاد، ويتيح لجميع مكونات المجتمع المشاركة الفاعلة في صياغة مستقبل سوريا، ما يفسر إعلان الرئيس عن تشكيل مجلس تشريعي مؤقت كخطوة ضرورية قبل الوصول إلى دستور دائم وانتخابات مستقرّة.
وفي ظلّ الجدل الدائر حول وضع القضاء واستقلاليته، وبين تأكيد القاضي طارق رمضان على استعادة المحاكم نشاطها، وتحذير المحامي رامي جلبوط من استمرار الوصاية السياسية على المؤسسة القضائية، تبرز قضية أخرى لا تقلّ أهميةً عن أداء القضاء نفسه، وهي قرارات عزل القضاة والتغييرات التي طالت نقابة المحامين. هذه التحوّلات أثارت ردود فعل واسعةً في الأوساط القانونية، حيث ترى المحامية لمى الجمل، في تصريح لرصيف22، أنّ هذه الإجراءات، برغم أنها قد تحمل بُعداً إصلاحياً، إلا أنّها تطرح تساؤلات جدّيةً حول تأثيرها على سير العدالة واستقلال المؤسسات القضائية والمهنية.
وتقسّم الجمل، واقع المحاكم السورية الراهن إلى:
أولاً القضاء قيد التغيير، وتأثير قرارات استبعاد القضاة على سير المحاكم. وفي هذا الشأن ترى الجمل، أنّ قرارات عزل عدد من القضاة الذين كانوا مرتبطين بحزب البعث ومجلس الشعب، تشكّل سابقةً في المشهد القانوني السوري، حيث إنها المرة الأولى التي يتم فيها اتخاذ مثل هذه الإجراءات مباشرةً من وزارة العدل، دون أن يصدر لها مرسوم رئاسي كما كان الحال في السابق. وتوضح الجمل، أنّ هذه القرارات قد تكون لها تداعيات مهمة على النظام القضائي، من أبرزها: الفراغ القانوني الناتج عن استبعاد عدد كبير من القضاة دفعةً واحدةً، وتالياً نقص الكوادر المؤهَّلة، ما يتسبّب في تأخير البت بالقضايا وتراكمها، خاصةً مع غياب خطة واضحة لتعويض هذا النقص. وأيضاً التأثير على استقلالية القضاء، لأنه إذا كانت هذه القرارات نابعةً من دوافع سياسيّة أكثر من كونها إصلاحات قانونيةً، فقد تؤدّي إلى تعزيز تدخّل السلطة التنفيذية في القضاء، وهو ما يتعارض مع مبدأ الفصل بين السلطات.
ثانياً، الضغط على نقابة المحامين وما قد يسفر عنه من احتجاجات ومخاوف قانونية. وهنا تشير الجمل إلى أنّ قرار مجلس النقابة، حلّ مجالس الفروع في المحافظات، أثار اعتراضات واسعةً في الأوساط القانونية، خاصّةً أنه جاء بتكليف مباشر من الإدارة السياسيّة للمجلس المركزي، وليس وفقاً للنظام الداخلي للنقابة. وتوضح أنّ هذا القرار يطرح إشكاليات قانونيةً عدة، منها: التدخّل السياسي المباشر حيث يُنظر إلى هذه الخطوة على أنها محاولة من السلطة التنفيذية للسيطرة على النقابة، وهو ما يتعارض مع مبدأ استقلالية المنظمات المهنية، والطعن في المشروعية حيث يفتقر القرار إلى أساس قانوني واضح، إذ لم يستند إلى نصوص قانون تنظيم المهنة، ما يجعله عرضةً للطعن القانوني من قبل المتضررين.
واقع القضاء وثقة المواطنين
إلى ذلك، تشدّد الجمل، على أن هذه التغييرات لا تؤثّر على المحامين والقضاة فحسب، بل تمتد إلى المواطنين وثقتهم بالنظام القضائي عموماً. فمن جهة، قد يؤدّي نقص القضاة إلى تأخير القضايا وتفاوت الأحكام بسبب تعيين قضاة جدد دون خبرة كافية، ومن جهة أخرى، فإنّ التدخّلات السياسية المتزايدة قد تدفع المواطنين إلى العزوف عن اللجوء إلى القضاء، خوفاً من غياب النزاهة والعدالة في الأحكام.
وترى الجمل، أنّ هذه التحولات، وإن كان بعضها ضرورياً لضمان أن يصبح النظام القضائي مواكباً لواقع سوريا اليوم، إلا أنّها تفتقر إلى آليات واضحة تضمن عدم استخدامها لأغراض سياسية، ما قد يهدّد استقلالية القضاء والنقابات المهنية على المدى البعيد.
ختاماً، يقف القضاء في سوريا اليوم، عند مفترق طرق، حيث تسعى الجهات المعنية إلى إعادة تنظيمه فيما يواجه تحدّيات كبيرةً.
في الأثناء، يبقى السؤال الملحّ: هل تسفر هذه التطورات عن إصلاح حقيقي؟ أو يعاد تشكيل القضاء كأداة بيد السلطة الجديدة؟ هذا ما ستكشفه الفترة المقبلة.
رصيف 22
————————
حين فقدت المنظّمات الإنسانية “شهيّتها” لدعم النازحين في سوريا/ بشار الفارس
الاثنين 3 مارس 2025
“لم تكن معاناتي تتلخص في عدم توافر المستلزمات لطفلتي ومنزلي فقط، فأنا أرعى أطفال أختي الأيتام الذين أشعر بالتقصير تجاههم مهما بذلت. في أيامنا هذه، أصبح الوضع المعيشي سيئاً جداً، وفوق هذا خسرت عملي ولديّ مسؤوليات كبيرة”.
هكذا تصف أمّ علي، حال عائلتها، متناسيةً نفسها، وكل همّها تأمين حياة كريمة لأطفالها، بعد أن فقدت سبل العيش.
حرق النفايات للتدفئة
يتسبب انقطاع المساعدات الإنسانية عن السوريين في معاناة كبيرة، فكثيرة هي العائلات السورية التي تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، والعاجزة عن تأمين مستلزماتها الغذائية، في ظلّ الأزمة الاقتصادية، وتقلّص الدعم الإنساني لسوريا.
أم علي (40 عاماً)، سيدة سورية نازحة، تعيش في مخيم الريّان شمالي حلب، وهي أمّ لطفلة مريضة بالسرطان، وترعى أولاد أختها الأيتام. مؤخراً، فقدت أم علي عملها، وتفاجأت بعد ذلك بانقطاع المساعدات عن المخيم.
تقول لرصيف22: “احتياجاتي كبيرة، خاصةً أنني أعيش في مخيم، ولديّ طفلة مريضة بالسرطان. تبدأ معاناتي بضرورة توفير احتياجات الطفلة من أدوية وعلاج، وتوفير الأكل والشرب للبيت. واليوم، أصبحنا نعاني بسبب توقف الدعم عن المخيم. بالإضافة إلى ذلك، توقف عملي الذي كان مصدر رزقي، والدعم الذي كنت أتلقّاه من المخيم”.
وتضيف: “اختلفت هذه الأيام عليّ؛ حين كنت أعمل، وكان هناك دعم للمخيم أحصل عليه، كانت أوضاع منزلي جيدةً. أما اليوم، فحتى مياه الشرب انقطعت عن المخيمات، وليست لديّ خطط للمستقبل”.
الأيتام في كل مكان
مشهد المعاناة السورية يزداد قسوةً كل عام، وفي كل شتاء، حيث تتفاقم أزمة الاحتياجات لتصل إلى انعدام وسائل التدفئة وغلائها، ما يجعل بعض العوائل غير قادرة على تشغيل المدفأة. أما البديل، فالاعتماد على بعض المواد التالفة والبلاستيك، لتشغيل المدفأة لبضع ساعات.
يقول محمد خليف (44 عاماً)، ويعمل مديراً لأحد مخيمات اللاجئين في ريف إدلب: “يختلف الأمر اليوم عن كل الأيام، فوضع المخيم مأساوي جداً، وهناك عوائل مؤلفة من عشرة أفراد، يلتحفون البطانيات من شدّة البرد، لعدم قدرتهم على شراء الحطب أو البيرين الخاص بالتدفئة”.
ويضيف في حديثه إلى رصيف22: “اليوم أصبحت كل مستلزمات المنزل، بما فيها الخبز، تؤخذ بالدين من المحال، ونحن غير قادرين على العودة إلى منازلنا بسبب عدم قدرتنا على سداد الديون، وفوق هذا لم يحصل المخيم منذ سنة ونصف على أي شكل من أشكال الدعم من المياه وغيرها”.
وأمّا أم حسن (45 عاماً)، وهي نازحة من ريف حلب الجنوبي وتقطن في مخيم سيف الله، فتروي لرصيف22، عن أحوالهم قائلةً: “وضعنا الآن مأساويّ. أنا مسؤولة عن أربعة أيتام. نذهب إلى مكبّ النفايات لكي نأتي بوقود للمدفأة لنعدّ الطعام عليها، والجميع يعرف الأسعار اليوم؛ أقلّ وجبة تكلّف 300 ليرة تركية، أي ما يقارب 9 دولارات أمريكية، ولا فرش في منازلنا ولا تدفئة ولا غذاء. لا يوجد لدينا شيء في هذا المخيم”.
أوجاع خاصة بالخيام
تتشابه المناطق السورية التي كانت تحت سيطرة النظام السابق مع واقع المخيمات في شمال غرب سوريا، إلا أنّ تلك المناطق تواجه فروقاً كبيرةً في الأسعار مقابل تقاضي الرواتب بالليرة السورية، حيث يصل راتب الموظف إلى 300 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل 10 دولارات أمريكية، بالإضافة إلى عدم وجود مساعدات إنسانية، وانقطاع الرواتب منذ أشهر عن الموظفين.
تقول علياء (40 عاماً)، لرصيف22، وهي موظفة من ريف درعا: “بالنسبة لنا، لم يختلف الوضع كثيراً عن السابق، باستثناء بعض الأمور. فسابقاً كانت الأسعار مرتفعةً وكان هناك غلاء، ولكن كانت الحركة في الأسواق مقبولةً برغم أنّ الرواتب قليلة. أما اليوم، فهناك الكثير من الموظفين الذين لم يقبضوا رواتبهم في ظلّ ارتفاع الأسعار”.
وتوضح: “بعض المواد الغذائية انخفضت أسعارها، وفي المقابل هناك سلع ارتفعت أسعارها، ومنها الخبز، وهو الشيء الأساسي الذي لا يمكن الاستغناء عنه. سعر ربطة الخبز اليوم 4،000 ليرة سورية، وعائلتي تحتاج إلى ربطتين يومياً”.
وتضيف علياء: “لا توجد لديّ خطط مستقبلية، وآمل أن يتحسن الوضع في البلد وأن يتوفر العمل، وأن يتحسن سعر الصرف وتعود رواتبنا إلى الارتفاع، وألا تبقى في حدود 300 ألف ليرة سورية في الشهر، الرقم الذي لا يمثل شيئاً مقارنةً بتكاليف الحياة”.
وتؤكد أنّهم حتى اليوم لم يحصلوا على أي دعم: “هناك وعود بالدعم والمساعدات فحسب، وتم إجراء إحصائيات، ولكن لا يوجد شيء على أرض الواقع باستثناء فئة قليلة حصلت على مساعدات صغيرة”.
المنظمات تشتكي من قلّة الداعم أيضاً
في الفترة الماضية، بدأت المنظمات العاملة في الشؤون الإنسانية، بمواجهة النقص والتقلّص في التمويل المقدّم لها من الجهات المانحة، بالإضافة إلى توقّف بعضها.
منسّق برنامج المأوى والمواد غير الغذائية في “منظومة وطن” العاملة في سوريا، محمد صادق، يقول عن هذا الأمر: “يوجد العديد من أوجه الدعم من قبل المنظمات العاملة في المجال الإنساني، تتوزع على أنواع عدة من المشاريع، أهمها مشاريع المأوى المتمثلة في ترميم المنازل والسلال الغذائية، تضاف إليها مشاريع البنى التحتية المستدامة، من خلال إنشاء منظومات الطاقة الشمسية للآبار ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي، أيضاً المشاريع المتعلقة بالأمن الغذائي والمعنية به، والتي توزّع السلال الغذائية والقسائم الشرائية على المحتاجين، وهناك مشاريع عدة أخرى قامت المنظمات بتقديمها مثل مشاريع سبل العيش ودعم القطاعين الصحي والتعليمي”.
ويضيف لرصيف22: “بعد أن تحررت سوريا، أصبح على رأس الأولويات تأمين العودة الكريمة للعائلات من مناطق النزوح إلى القرى والمدن المدمرة من خلال تأهيل المنازل والبنية التحتية فيها”.
ويُعدّ نقص التمويل، أحد أبرز التحديات التي تواجه المنظمات، خاصةً بعد توقّف المنح الأمريكية التي أدت إلى توقف العديد من المنظمات والمشاريع المقررة. وهنا يناشد الصادق، المجتمع الدولي والمنظمات الدولية ووكالات الأمم المتحدة، لزيادة الدعم المقدّم لسوريا لتعويض الفجوة والنقص، ولتعزيز الاستقرار للمجتمع السوري.
مع استمرار الأزمة الاقتصادية والإنسانية التي أدّت إلى غياب المساعدات الشتوية، تتحول معاناة السوريين إلى كارثة إنسانية، ما يهدد حياة السكان، خاصةً الأطفال والنساء منهم. بالإضافة إلى ذلك، تفتقر المخيمات إلى الحدّ الأدنى من مقوّمات الحياة.
رصيف 22
———————-
==================
عن نداء الله “الكردي” “عبدلله أوجلان” بإلقاء السلاح -مقالات وتحليلات–
==================
تحديث 04 أذار 2025
———————————-
احتكار السلاح وسيلة أم غاية؟/ سميرة المسالمة
03 مارس 2025
أحد المبادئ الأساسية التي تُعزّز سيادة الدول، احتكار السلاح بيدها، لأنه يعزّز قدرتها على فرض القانون وحماية السلم الأهلي. وهو معيار لا غنى عنه لتحقيق الاستقرارين، السياسي والاجتماعي، وهو ما يمكن أن نستخلصه من التجارب التاريخية والدروس المستفادة من نزاعات مختلفة امتدّت عشرات السنين في أنحاء ودول كثيرة في العصر الحديث، ومنها كولومبيا على سبيل المثال. فبعد 50 عاماً من النزاع المسلّح، الذي أودى بحياة الآلاف، وقّعت الحكومة الكولومبية في عام 2016 اتفاق سلام تاريخي مع حركة التمرّد المسلحة، تضمّن تسليم الأسلحة تحت إشراف الأمم المتحدة، وتحويل القوات المسلّحة الثورية الكولومبية (FARC) حزباً سياسياً شرعياً، إلا أن الأقرب إلينا، بحكم تأثيرها المباشر في ما يجري في سورية، تجربة حزب العمّال الكردستاني في تركيا.
لقد شكّلت رسالة زعيم الحزب، عبد الله أوجلان، إلى الأكراد، بعد 30 سنة من الاعتقال، ودعا فيها إلى إلقاء السلاح واعتماد الطرائق السياسية، نقطة تحوّل مهمّة، عبّرت عنها استجابة الحزب لهذه الدعوة، رغم تقييدها بشروط لا تبدو تعجيزية، بل واقعية وممكنة، وقد تكون الحكومة التركية قد تجاوزتها قبل السماح لتداول الرسالة علناً، وبخاصّة أن الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان على أبواب مباحثات شاملة مع الجانب الأميركي بشأن المنطقة عموماً. ويوضح وضع السلاح أن للتفاوض بين الأطراف المحلية بشأن الحقوق والمطالب المشروعة وسائل أكثر فاعلية في زمن التحالفات الدولية، ولا يتطلّب بالضرورة اللجوء إلى العنف. الوصول إلى المكاسب الوطنية والسلم الأهلي غالباً ما يتطلّب التضحية بالعنجهيّة السياسية لحساب الحكمة والعقلانية، ولعلّ هذا ما يمكن أن يكون الحامل الأساس لمضمون التفاوض الذي أنتج تلك الرسالة السلمية، التي تؤسّس لمسار جديد لم يختبره الطرفان سابقاً. وتُظهر هذه التجربة أن الضمان الحقيقي لحقوق المواطنة المتساوية، على المستويين الفردي والجمعي، يجب أن يكون عبر دستور عادل يُحافظ على حقوق الجميع، مع تأكيد المشاركة الشعبية في السلطة بوصفها ضمانة حقيقية للتمثيل العادل لمختلف المكوّنات، رغم أن الدستور التركي الحالي يُعتبَر نموذجاً ديمقراطياً متقدّماً في المنطقة، إلا أن ذلك لم يمنع من الحاجة إلى طلب الضمانات القانونية والتعديلات الدستورية لتحقيق السلم الأهلي الدائم وحماية الأمن القومي.
وبإسقاط هذه الدروس على الوضع السوري، نجد أن تحرير قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من تبعيّتها لحزب العمّال الكردستاني خطوة استراتيجية مهمة، فقد كان الارتباط بين قضيتي الأكراد السوريين والأكراد الأتراك، بالإضافة إلى التداخل في العمل المسلح، يزيد من تعقيد المشهد، ويُعرّض “قسد” لاتهامات تركية بالإرهاب. وبهذا الفصل العملياتي، يمكن القول إن من شأن الدخول في تفاهماتٍ جادّة مع الحكومة السورية أن يُحدِث مساراً مختصراً لتجنّب العقود الطويلة من الصراع غير المجدي، والكارثي على الأطراف كلّها، كما حدث في الحالة التركية، وصولاً إلى مشهد إعلان الحزب القبول بإرادة رئيسه، والذهاب نحو التفاوض السلمي على حقوق مواطنة متساوية، وطيّ ملف الصراع المسلّح.
يمنح هذا الفصل بين القضيتين “قسد” مساحةً أوسع في المفاوضات مع الحكومة السورية، ويُخفّف عنها عبء الدفاع عن قضايا خارج إمكاناتها، ما يُتيح لها التركيز في علاقتها مع محيطها السوري. وعليه، يُصبح من الضروري أن تتحوّل “قسد” حاملاً اجتماعياً غير مسلّح للأكراد في سورية، فتُقدّم نموذجاً للشراكة الوطنية التي تضمن الحقوق والواجبات بالتساوي. ويفترض هذا خطوات متبادلة تقدّمها حكومة الرئيس أحمد الشرع للأكراد السوريين، وفق مبدأ المواطنة، والفرص المتساوية مع مكوّنات المجتمع السوري، إضافة إلى إعلان واضح أن الجيش السوري مؤسّسٌ وفقاً لمواد دستورية تنظّم عمله ودوره، فالولاء للوطن، وليس لأيّ جهة سياسية أو حزبية.
في هذا السياق، يُصبح النقاش بشأن اللامركزية الإدارية في سورية جزءاً من تأكيد وحدة البلاد، وليس مؤشّراً على تقسيمها. ما يُعزِّز المخاوف من التقسيم، بقاء السلاح خارج سيطرة الدولة، إذ يتحوّل كلّ حديث عن اللامركزية شبهةَ تقسيم محتمل. لكن في حال إزالة السلاح وتحرير الأكراد (والدروز والعلويين) من أعبائه، ستُصبح المفاوضات أسهل وأكثر شمولاً مع مكوّنات الشعب السوري كلّها، لأنها ستنطلق من إطار وطني عام يشمل جميع المناطق السورية.
وهكذا، عندما تكون الدولة الجهة الوحيدة التي تحتكر السلاح، يُصبح الحوار في المطالب الشعبية والدستورية أكثر واقعيةً وقابليةً للتنفيذ، فالهدف يجب أن يكون دولة المؤسّسات التي تُحقّق حقوق المواطنة الكاملة والمشاركة الشعبية في السلطة، بما يضمن الاستقرار، ويُعزّز من فرص التعافي الوطني بعد سنوات طويلة من الصراع. لهذا، استمرار الصراع المسلّح، سواء كان من أفراد خارجين عن القانون أو فصائل غير مندمجة مع السلطة، لأسبابٍ طائفيةٍ أو عرقية، وفي ظلّ الظروف الاقتصادية الصعبة التي خلّفها نظام الأسد القاتل والفاسد، يعرقل مسيرة توطيد الأمن في البلاد، ويمكن أن يُنسَب إليه أيضاً، عرقلة توفير مستلزمات الحياة الضرورية، التي يأتي في مقدّمتها تحفيز اقتصاد سورية لاستعادة دوران العجلة فيه، وهذا لن يتحقّق ما لم يُكبَح جماح النزاعات المسلّحة. وبكل صراحة، أيّ استمرار في الاقتتال هو عملية تجويع للسوريين كلّهم، وعلى اختلاف مواقعهم الجغرافية من شرق وغرب وشمال وجنوب، فمن يُقدّم سلاحه على التفاوض، فعليه أن يفهم أيضاً أنه يموّله من لقمة السوريين وعلى حساب أمانهم.
العربي الجديد
———————————–
سورية الجديدة في خطر/ غازي دحمان
03 مارس 2025
تأتي تصريحات رئيس حكومة إسرائيل، بنيامين نتنياهو، عن سورية في سياق أوضاع غير طبيعية، إذ يحضّر من فاعلين إقليميين ومحلّيين، لتغيير البيئة الإستراتيجية لسورية مقدّمةً لتغيير الواقع في الشرق الأوسط، في ظروف إقليمية هشّة، تزيدها هشاشةً محاولةُ إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تحويل إسرائيل محوراً للنظام الإقليمي الجديد، ومنحها مساحةً للتحرّك لتحقيق هذا الهدف.
لا تسير الأوضاع في سورية صوب الوحدة والاستقرار، ولا يبدو أن مخرجات هذه المرحلة ستؤدّي إلى إخراج سورية من دوّامة الفوضى والضياع، وليس من الصعب أن يكتشف المراقب تحت سطح الأحداث ألعاباً ومخاطرَ يجري التحضير لها، وليست تصريحات نتنياهو بخصوص جنوب سورية (ثم الدروز في ضاحية جرمانا في دمشق)، التي تنقل الأطماع الإسرائيلية إلى طور التنفيذ العملي مقطوعة من السياق الحاصل في سورية.
بات واضحاً أن هناك عملية تأثيث لمشروع خطير يجري العمل فيه بمشاركة فاعلين محلّيين، تصريحات مسؤولي الحكومة الإسرائيلية جاءت في سياق إجراءات يقوم بها، إذ تجمع إسرائيل بيانات من أهالي القرى التي تحتلّها في القنيطرة وجنوب غربي درعا، تشمل حاجة هذه القرى للخدمات والمدارس والأوضاع الاقتصادية للسكّان. وتحدّثت مصادر إسرائيلية لصحيفة إسرائيل هيوم عن مقترح يمنح السكّان السوريين في المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل أو تقع ضمن نطاق سيطرتها الأمنية تصاريح عمل لدخول الأراضي الفلسطينية المحتلّة للعمل صباحاً والعودة مساءً، في ظلّ حاجة إسرائيل إلى العمالة بعد منع فلسطينيي غزّة والضفة الغربية من العمل فيها، والواضح أن السبب الأكثر أهميةً ربط سكّان المناطق السورية مصلحياً واقتصادياً بإسرائيل، لتأمين بيئة مؤيّدة للوجود الإسرائيلي الدائم.
ما طلبه نتنياهو من إخلاء جنوبي سورية من القوات العسكرية للنظام الجديد، ومنع الجيش السوري الجديد من دخول المناطق الواقعة جنوبي دمشق، بمثابة إعلان منطقة محرّمة، مثل المناطق التي فرضتها الولايات المتحدة على الجيش العراقي بعد حرب الكويت، مع فارق مهمّ يتعلّق بالمسافة، إذ لا تبعد القوات الإسرائيلية أكثر من بضع عشرات الكيلومترات من دمشق، كما أنها باتت تتحكّم بقمّة جبل الشيخ، التي ترصد المنطقة جنوبي دمشق بشكل كامل، بما يتيح لها نيرانياً استهداف كلّ تحرّكات القوات السورية، وفرض حصار عليها داخل دمشق.
يريد نتنياهو من ذلك استمرار حالة الفراغ في جنوب سورية، وتحويل القوى المحلّية الموجودة في جنوبي سورية إلى قوى أمر واقع، يسهل ابتزازها وتطويعها، وإعادة تجربة جيش لحد في جنوب لبنان، لتشكيل عازل عما يعتقده نتنياهو مصادر خطر آتية من دمشق المتحالفة مع أنقرة، التي تعتبرها إسرائيل عدوّها الحقيقي في المرحلة المقبلة، وهو ما يتقاطع مع طموحات ومخاوف فاعلين في جنوبي سورية، وليس صدفةً تزامن هذه التصريحات مع إعلان بعض فصائل السويداء تأسيس مجلس عسكري، وتأكيد مصادر من قيادة المجلس التنسيق مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شرقي سورية (صحيفة النهار).
ويبدو أن تصريحات نتنياهو جاءت بعد تواتر أنباء عن احتمال سحب القوات الأميركية من شرقي سورية، الأمر الذي يضع الإدارة المحلّية الكردية تحت ضغط تفاوضي، ويدفعها لتقديم تنازلات كبيرة تخصّ التراجع عن مشروع الحكم الذاتي، وهو أمر لا يتساوق مع تصوّرات إسرائيل لشكل سورية المستقبلي، والتي تتمحور حول تقسيمها بين خمسة كيانات (كما أُعلِن في الإعلام الإسرائيلي)، في الجنوب والشرق والغرب والشمال، تقوم على أسس طائفية وعرقية.
والواضح أن نتنياهو لا يرغب في التوصّل إلى توافقاتٍ في سورية واستتباب الأمر لحكومة دمشق، ويرغب في تصريحاته وإجراءاته بمنح بعض الفاعلين المحلّيين الزخم للسير في مشاريع تقسيم سورية، أو على الأقلّ بإعطائهم أوراق تفاوض قوية في مواجهة حكومة دمشق تدفعها إلى القبول بالحلّ اللامركزي، وواضحٌ أن مناورات الفاعلين المحلّيين، ورفضهم الاندماج ضمن هياكل الجيش السوري، ليست سوى محاولة لإنضاج الأوضاع لمصلحتهم إلى حين يصبحون في موقف أقوى يمكّنهم من خلاله من تحقيق طموحاتهم في الانفصال، دع عنك ما تقوله هذه الأطراف عن رفضها الانفصال، وإنها تنتظر حتى تصبح سورية دولة مدنية كي تندمج ضمن هياكلها وأطرها، هذه ليست سوى عملية شراء للوقت باتت مكشوفة.
من جهة ثانية، تتكئ جميع الأطراف التي ترفض (حتى اللحظة) الانخراط في الدولة السورية الجديدة، ولديها قابلية للانخراط في مشاريع جيوسياسية مؤذية لسورية، على سوء إدارة النظام السوري للوضع الداخلي، فتسعى الإدارة السورية، عبر تحكّم دائرة صغيرة، إلى تصميم نظام ديكتاتوري عبر حصر سلطة القرار بيد فئة محدّدة، والتحكّم بمخرجات المرحلة الانتقالية، وتصميم سورية المستقبلية وفق رؤى وتصوّرات محدّدة، ومن يطّلع على وقائع إجراء مؤتمر الحوار الوطني وطريقة الإعداد له ونوعية المدعوين، ثمّ دور هذا المؤتمر وفاعليته، يكتشف ببساطة حقيقة ما يجري في سورية من عبث سياسي وإداري.
دخل الوضع في سورية مرحلة الخطر الجدّي وبات يتطلّب من الإدارة الجديدة تصميم مقاربة أكثر وعياً وإدراكاً للبيئة الاستراتيجية والخروج من منطق الإدارة بالعواطف التي يغلب عليها طابع السذاجة، والفرح الطفولي بالدعوات والاستقبالات الخارجية، فيما يجري التحضير لطبخة خبيثة، إن حصلت، لن يكون مجرد الحديث عن مؤامرة خارجية كافياً، كما لن ينفع التلطي خلف هذا المبرّر حينها.
العربي الجديد
—————————-
هل يجد نداء أوجلان آذاناً صاغية في سورية؟/ عمر كوش
03 مارس 2025
وجّه الزعيم الكردي عبد الله أوجلان رسالةً تضمّنت نداءً تاريخياً إلى حزب العمّال الكردستاني بحلّ نفسه، ومطالبة المجموعات المسلّحة برمي السلاح. وأعلن الحزب، في بيان أصدرته لجنته التنفيذية، وقف إطلاق النار مع تركيا، اعتباراً من الأول من شهر مارس/ آذار الجاري، لكن السؤال الذي يُطرح بعد هذه المبادرة الجريئة يطاول مدى استجابة المجموعات المسلّحة المؤلفة، سواء من مقاتلي حزب العمّال أم المجموعات المليشياوية التي تفرّعت منه في دول المنطقة، خاصّة في سورية، إذ يوجد فيها حزب الاتحاد الديمقراطي، الذراع السورية لحزب العمّال الكردستاني، وذراعه العسكرية “وحدات حماية الشعب”، التي تشكّل المكوّن الأساس لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال شرقي سورية.
جاءت رسالة أوجلان بعد ترقّب وانتظار من الأوساط السياسية والشعبية في تركيا، إضافةً إلى أوساط كردية في سورية والعراق، وقدّم فيها ما يشبه جردة حساب لعقود طويلة من عمل الحزب، تطرّق فيها إلى ظروف القرن العشرين، التي شكّل فيها هذا الحزب في عام 1978، في فترة كانت “الأكثر عنفاً في التاريخ”، إذ شهدت حربَين عالميتَين، إضافة إلى الحرب الباردة، وإنكار الهُويَّة الكردية في تركيا. واعتبر أن “العمّال الكردستاني” استكمل دوره، وبالتالي بات حلّه، كغيره من الحركات المشابهة، ضرورياً بالنظر إلى تأثّره أيديولوجياً واستراتيجياً بالنظام الاشتراكي، الذي انهار دراماتيكياً في تسعينيّات القرن الماضي، إضافة إلى أن التطوّرات الحاصلة في حرّية التعبير أفقدت هذا الحزب معناه، وراح يكرّر مواقفه بإفراط.
إذاً، الحزب الذي كان تشكيله ضرورةً في نظر مؤسّسه فيما مضى من السنوات، بات حلّه ضرورةً أيضاً في نظر مؤسّسه نفسه، ولا تخفي هذه الضرورة القاضية بحلّ هذا الحزب أن مبادرة أوجلان جاءت استجابةً لدعوة وجّهها الزعيم التركي القومي دولت بهتشلي في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي (2024)، وقوبلت بمواقف إيجابية من مختلف الأحزاب التركية، فيما تولّى حزب المساواة وديمقراطية الشعب مهمّة الوساطة والاجتماع مع أوجلان في سجنه، وذلك بناء على الرضا الإيجابي الذي أبداه الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، الأمر الذي دفع أوجلان إلى توجيه رسالة تاريخية، طلب فيها (في سابقة هي الأولى من نوعها) حلّ الحزب الذي شكّله، إضافة إلى رفضه دعوات الانفصال القومي، ومعها مختلف دعوات الحكم الذاتي والفيدرالية، على خلفية اعتبارها “حلولاً ثقافوية لا تلبي متطلّبات الحقوق الاجتماعية التاريخية” للمجتمع التركي، بينما أبرز ضرورة اتحاد الأكراد والأتراك في مجتمع ديمقراطي، ينهض على “احترام الهُويَّة، وحرّية التعبير، والممارسة الديمقراطية، وبناء هياكل اجتماعية واقتصادية وسياسية لمكوّنات الشعب كلّها، وفقاً لأسسها الخاصّة”.
يأمل المسؤولون الأتراك، ومعهم أحزاب المعارضة وقطاعات واسعة من الشعب التركي، أن تُفضي مبادرة أوجلان إلى فتح باب تسوية تاريخية، تنهي صراعاً دامياً، امتدّ أكثر من خمسة عقود في تركيا، وحصد أرواح عشرات آلاف الضحايا، فضلاً عن إرهاصاته وامتداداته في الداخل التركي ودول الجوار. ولعلّ نداء أوجلان يمكنه أن يشكّل فرصةً حقيقيةً لإنهاء العنف، وفتح الباب أمام إيجاد تسوية سلمية للمسألة الكردية في تركيا، ويفسح المجال أمام انعكاساتها الإيجابية على الأوضاع في دول المنطقة، خاصّة سورية، إذ تسيطر مخرجات الذراع السورية لحزب العمّال الكردستاني على مناطق شمال شرقي الفرات، وتعتبرها تركيا مصدر قلق أمني لأمنها القومي.
يبدو أن نداء أوجلان قد يلقى آذاناً صاغية لدى بعض مقاتلي حزب العمّال في تركيا، لكن الأمر مختلفٌ بالنسبة إلى معظم قيادات الحزب في جبال قنديل المهيمنة على أذرعه في سورية والعراق، فيُستبعَد أن يستجيب فرعه السوري للنداء، بالنظر إلى أن مخرجاته العسكرية، وخاصّة “قسد”، التي تشعر أنها في وضع قوي، لأنها تسيطر على ثلث مساحة سورية تقريباً، وتحظى بدعم قوات التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الأمر الذي يفسّر مسارعة قائد مليشيا “قسد”، مظلوم عبدي، إلى التذرّع بأن نداء أوجلان موجّه فقط إلى حزب العمّال الكردستاني في تركيا، ولا يشمل أذرعه في سورية والعراق، ولا علاقة لمليشياته بمطالبة أوجلان.
تركيا معنية أساساً بنداء أوجلان، وتترقّب خطوات “العمّال الكردستاني” اللاحقة، لكن المشكلة أن أطرافاً إقليمية ودولية عديدة تدعم الحزب، وهناك تقارير عن تزايد الدعم الإيراني في الآونة الأخيرة لهذا الحزب وللمليشيات المسيطرة في مناطق شمال شرقي سورية. ولذلك كان لافتاً أن يحذّر وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إيرانَ من تداعيات أيّ دعم تقدّمه لـ”قسد” أو أيّ أطراف أخرى في سورية، بغية إثارة الاضطرابات، وطالب إيران بضرورة تخلّيها عن سياساتها، واعتبر بلغة لا تخلو من التهديد أن أيّ محاولة لإثارة الفوضى في بلد آخر، قد تؤدّي إلى ردّات فعل مماثلة من طرف بلد آخر.
تعوّل تركيا على استجابة مقاتلي حزب العمّال الكردستاني لنداء أوجلان، وانتقالهم إلى العمل السياسي في تركيا من خلال الأحزاب السياسية، مثل المساواة وديمقراطية الشعوب، المؤيّد لحقوق الأكراد، بما يُفضي إلى إنهاء القضية الكردية في تركيا، وإزالة النهج الأمني المميّز لعلاقاتها مع مناطق في شمالي العراق وسورية، بغية تحسين وضعها الاقتصادي، وتعزيز سلمها الاجتماعي. في المقابل، من المرجّح أن تتّخذ القيادة التركية سلسلةً من الخطوات باتجاه البدء بعملية سلام داخلي، من خلال تبنّي سياسة شاملة لمعالجة القضية الكردية، وإصدار عفو تشريعي عن أعضاء حزب العمّال الكردستاني الذين يلقون سلاحهم، إضافة إلى اعتماد المادّة الثالثة من الاتفاق الأوروبي لحقوق الإنسان، التي تعرف باسم “الحقّ في الأمل”، وتحدّد أحكام السجن بخمسة وعشرين عاماً، والاستناد إليها من أجل إطلاق سراح أوجلان من السجن.
العربي الجديد
—————————–
وماذا بعد بيان أوجلان؟/ عبد الباسط سيدا
04 مارس 2025
وأخيراً، أدلى عبد الله أوجلان ببيانه المتوقّع من سجنه في جزيرة إمرالي (جنوب بحر مرمرة قرب إسطنبول)، في حضور وفد من البرلمانيين من أعضاء حزب الديمقراطية ومستقبل الشعوب، ليتسلّم منه هؤلاء نصّ البيان، ويعلنوه على الملأ ضمن لقاء عام في إسطنبول، نُقِلت وقائعه عبر الشاشات إلى الساحات في جملة من المدن في كردستان تركيا، إلى جانب بثّ البيان عبر مختلف وسائل الإعلام المحلّية والعربية والدولية. أمّا مضمون البيان، فقد تمثّل في الدعوة إلى التخلّي عن السلاح من مجموعات عديدة مرتبطة بحزب العمّال الكردستاني، إلى جانب الدعوة إلى حلّ الأخير في مؤتمر عام له. وجدير بالذكر أن هذا البيان جاء بعد سلسلة من التصريحات واللقاءات بين الوفد المشار إليه، الذي عرف باسم وفد إمرالي، والأحزاب التركية المُمثَّلة في البرلمان، إلى جانب اتصالات بين مسؤولين في الأجهزة التركية وأوجلان نفسه. وقبل ذلك، كانت مبادرة زعيم حزب الحركة القومية التركي دولت بهتشلي، والتي طالب من خلالها بالسماح لأوجلان بالقدوم إلى البرلمان ليدلي بالبيان المعني أمام الكتلة البرلمانية لحزب الديمقراطية ومستقبل الشعوب، الذي يُعدّ واقعياً الواجهة السياسية العلنية لحزب العمّال، على أن يحصل أوجلان في مقابل ذلك على حقّ الحياة والحرّية، ومن ثمّ كانت إشادة الرئيس التركي أردوغان بالخطوة من دون أن يقدّم مبادرة سياسية واضحة بخصوص تصوّره لملامح حلٍّ للمسألة الكردية في تركيا ضمن إطار وحدة الشعب والوطن.
لافت في السياق حرص وفد إمرالي على السفر إلى إقليم كردستان العراق، واللقاء بالمسؤولين فيه، ولا سيّما الرئيس مسعود بارزاني، الذي لم يعد يُنظر إليه كردياً بوصفه رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني أو الرئيس السابق لإقليم كردستان العراق، وإنما زعيم الشعب الكردي بصورة عامّة، وذلك بعد مسيرة نضالية حافلة بالإنجازات السياسية والعسكرية، وعلاقاته المتوازنة مع مختلف الأطراف الكردية والعراقية والإقليمية والدولية. وقبل ذلك كان الرجل قد استقبل قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مظلوم عبدي، ضمن جهودٍ تبذل بالتنسيق مع التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سورية، ومع تركيا، في سبيل إيجاد حلّ مقبول لمسألة اندماج الكرد في سورية سياسياً وعسكرياً، ضمن مشروع إعادة هيكلة الدولة السورية وبنائها بمؤسّساتها المختلفة. وجدير بالذكر هنا أن هذه المبادرة السلمية من أوجلان لا تُعدّ الأولى، وإنما هي واحدة من عدة مبادرات سبقتها، تحوّل بعضها مادّةً للحوارات والمناقشات بين ممثّلين عن الحكومة التركية والحزب المذكور، ولكنّها أخفقت، وكانت حصيلة الإخفاق تجدّد العمليات القتالية بين الطرفَين. ولكن ما يضفي أهميةً خاصّة على مبادرة أوجلان هذه المرّة أنها تأتي في ظروف بالغة الدقّة تمرّ بها المنطقة منذ هجوم إسرائيل على غزّة بعد “طوفان الأقصى”، وبعد إنهاء قوة تأثير حزب الله في لبنان عبر قتل معظم قياداته وكوادره من الصفّ الأول من المدنيين والعسكريين، ومن ثم انهيار حكم بشّار الأسد في سورية، وتلاشي الوجود العسكري الإيراني وأذرعه من المليشيات في سورية (العلني على الأقلّ). هذا إلى جانب الأوضاع المتشنجة في العراق، والمساعي الأميركية الإسرائيلية من أجل تحجيم التأثير الإيراني إلى أقصى حدّ ممكن.
فاليوم، هناك من جهة مساع أميركية، وغربية على وجه العموم، لإيجاد حلّ لموضوع كيفية دمج قوات “قسد” مع الجيش السوري الجديد، الذي لم تكتمل ملامحه النهائية بعد، وهي جهود تنسجم مع رغبة واضحة من التحالف الدولي لمحاربة “داعش” في البقاء إلى إشعار آخر في المنطقة الشمالية الشرقية من سورية، ربّما بهدف الاحتفاظ بأوراق الضغط في الداخل السوري، والبقاء، في الوقت نفسه، بالقرب من العراق، وحتى من الجنوب السوري عبر قاعدة التنف، استعداداً للمتغيّرات التي قد تشهدها المنطقة في مختلف المستويات.
هذا إلى جانب حقيقة أن الوضع التركي الداخلي يفرض هو الآخر على الحكومة التركية الحالية، التي يقودها حزب العدالة والتنمية بالتحالف مع الحركة القومية (المتطرّفة)، مقاربة القضية الكردية بصيغة أكثر مرونة، فهناك تراجع في شعبية الائتلاف الحاكم لأسباب عدّة، في مقدّمتها الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها تركيا منذ سنوات، وهي أزمة تُنهك أصحاب الدخل المحدود، وحتى قسماً من الفئات الوسطى التركية، وهو الأمر الذي يستغلّه حزب الشعب الجمهوري عبر ماكينته الإعلامية، ويوظّفها ضمن إطار استعداداته للانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة. لذلك، يريد الائتلاف الحاكم من خلال الانفتاح البراغماتي على حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب، إعطاء وعود تبشّر بحلّ عائم غير ملموس.
تجاوب أوجلان في بيانه أخيراً مع مبادرة سلمية، حتى ولو كانت ناقصة، طرحتها الحكومة التركية بخصوص القضية الكردية، تحدّثت عن حقّ الحياة أو الحرّية لأوجلان، وعن الأخوّة الكردية التركية، ولكن لا يوجد أي ذكر للحقوق التي يمكن أن يحصل عليها الأكراد، رغم أن الحكومة التركية بادرت في السنوات المنصرمة إلى خطوات عدّة، كان مجرّد التفكير فيها يعد سابقاً من الأحلام المحفوفة بالمخاطر. ومنها افتتاح محطّة تلفزيونية كردية رسمية، إلى جانب السماح بتأسيس مراكز النشر الكردية لطباعة الكتب الكردية وتوزيعها في مختلف الاختصاصات، فضلاً عن افتتاح الأقسام الكردية في جامعات في جنوب شرقي تركيا، وهي المناطق التي تدخل ضمن إطار كردستان تركيا، وقد شكّلت تلك الخطوات وغيرها تحوّلات نوعية في العقلية السياسية التركية تجاه المسألة الكردية في البلاد، المسألة التي يمكن أن تكون جسراً للتواصل بين تركيا ودول المنطقة، التي فيها وجود كردي لافت على صعيدي الأرض والشعب، عوضاً عن النظر إليها مشكلة تستوجب التعاون بين دول المنطقة المعنية في سبيل الحدّ من تبعاتها، ومحاولة التخلّص منها قدر الإمكان.
ولعلّه من الكلام المُكرّر، إذا أشير إلى أن انفتاح تركيا على أكرادها، وحلّ قضيتهم على أساس عادل، وهي قضية تخصّ وفق التخمينات بين 20 إلى 25 مليون إنسان، سيكون في صالح تركيا أولاً، ولصالح كردها، ولصالح تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة بأسرها. كما أن مثل هذا الحلّ سيمكّن تركيا من تطوير علاقاتها مع دول أوروبا الغربية، ومع الولايات المتحدة أيضاً. هل ستتجاوب قيادة جبال قنديل (القريبة من إيران)، مع دعوة أوجلان، وتعلن قبولها التخلّي عن العمل المسلّح، بل تذهب إلى حدّ حل حزب العمّال الكردستاني، للانتقال إلى مرحلة جديدة تشهد الانتقال إلى اعتماد العمل السياسي السلمي، والقطع مع العمل المسلّح؟ … هذا هو السؤال الأهم الذي يطرحه اليوم المؤيّدون والمعارضون لمبادرة أوجلان، أو وبكلام دقيق لدعوة أوجلان، التي لا تتضمّن أيَّ مطالب، ولا تقدّم خريطة طريق مع تحديد السقف الزمني. وإنما ما هناك كلّه مطالبة غير تفصيلية بإلقاء السلاح من دون أيّ توضيح للجهات أو المجموعات التي يشملها هذا المطلب، ولعلّ هذا ما يُفسّر التصريح الذي أدلى به مظلوم عبدي، الذي أشاد فيه بنداء أوجلان “التاريخي”، على حدّ قوله، ولكنّه بيّن أنه نداء لا يقصدهم أو يعنيهم، خاصّة أنه قد سبق له أن صرّح بأنهم ليسوا تابعين تنظيمياً لحزب العمّال الكردستاني. هل يقصد أوجلان بدعوته الوحدات العسكرية التي شكّلها حزب العمّال في منطقة سنجار بالتنسيق مع وحدات الحشد الشعبي، التي تحصل على السلاح والأموال من ميزانية وزارة الدفاع العراقية، بينما هي تتبع في واقع الأمر التعليمات والأوامر الإيرانية؟ أم يقصد قوات حزب العمّال بصورة عامة، ولا سيّما المتمركزة في قنديل، وفي مناطق عدّة في إقليم كردستان العراق، وربّما حتى في الداخل التركي؟ والسؤال الآخر الذي يُطرح بإلحاح في السياق ذاته: هل هناك مبادرة جادّة من الائتلاف الحاكم في تركيا، ومن حزب العدالة والتنمية على وجه التخصيص، لمعالجة الموضوع الكردي بغية التوصّل إلى صيغة حلّ عادل يكون في صالح الجميع، أم أن الموضوع لا يعدو كونه مجرّد صفقة بين أوجلان والأجهزة التركية، لكي يتمكّن أوجلان من الحصول على حرّيته، أو على الأقلّ استبدال الإقامة الجبْرية بالسجن؟
السؤال الأكثر إشكالية: هل سيرضى النظام الإيراني الذي استثمر كثيراً، بالتنسيق مع سلطة آل الأسد في عهدي الأب والابن، بالتخلّي عن ورقة حزب العمّال، ممثلاً في قيادة قنديل، ويسمح بفتح الطريق أمام تركيا لتتصالح مع كردها، الأمر سيجعلها في موقع تستطيع بفعله ممارسة التأثير في المجتمعات الكردية التي ظلمتها مصالح الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، وكانت الحصيلة تقسيم الكرد بين دول ذات ثقافات وتوجّهات واستراتيجيات متباينة؟
هذه الأسئلة (وغيرها) تفرض نفسها على المتابعين لأبعاد وخلفيات بيان أوجلان، وهو البيان الذي ينتظر جواب الحكومة التركية، المفترض أن يكون في صيغة مشروع حلّ يُجسّد وجهة نظرها بشأن القضية المعنية، ليغدو هذا المشروع موضوعاً للنقاش بين مجمل القوى السياسية في تركيا حتى يتم التوافق على حلّ مقبول يكون في مصلحة الجميع في تركيا نفسها، وفي الإقليم برمته.
العربي الجديد
—————————-
دعوة أوجلان إلى السلام ومصير الصراع/ فاطمة ياسين
02 مارس 2025
قبل نهاية القرن الماضي بقليل، نشبت أزمة بين تركيا وسورية بسبب وجود زعيم حزب العمّال الكردستاني، عبد الله أوجلان، في دمشق. كان حافظ الأسد قد احتضنه، وأمّن له مراكزَ تدريب في سورية ولبنان، ليستخدمه ورقةً في وجه تركيا، وكان هذا أسلوباً مفضّلاً عند الأسد الأب، يستعمله على الدوام للضغط، أو لكسب النقاط، ما دام أن ذلك كان متاحاً. ولكن تركيا التي عانت سلوك حزب العمّال الإرهابي كانت تعرف مكان أوجلان وقواعده ومناطق انطلاق عملياته على الحدود المباشرة معها، فقرّرت أن تستأصل هذا الخطر، وأبدت استعدادها لدفع تكلفة ذلك، فحشدت قواتها في الحدود السورية التركية، وخرج الرئيس التركي حينها، سليمان ديميريل، مع وزير خارجيته، بتهديدات جدّية ومهينة لسورية.
تركيا التي عرفت أين يختبئ عدوّها، عرفت كيف يدير النظام في سورية اللعبة، فقرّرت أن تتكلّم باللهجة التي يفهمها لدفعه إلى الاستجابة. وقد أثمر هذا الأسلوب بالفعل، فلم يمضِ وقت طويل حتى خرج أوجلان من دمشق بلا عودة، وبعد أقل من عام استطاعت تركيا القبض عليه وسوْقه إلى إسطنبول، فشاهده العالم كلّه مكبّلاً، وبقي قابعاً في السجن منذ عام 1999.
تخبّط حزب العمّال قليلاً بعد القبض على قائده، ثمّ وجد له ملاذاً في جبال قنديل العراقية، على مقربة من الحدود التركية الإيرانية، بعد سقوط نظام صدّام حسين، وأصبح ينسّق هجماته من هناك نحو الأراضي التركية، ثمّ كان انحسار سيطرة النظام السوري على كثير من الأراضي بعد الثورة عليه عام 2011، خاصّة شرق الفرات، فرصةً مؤاتيةً للحزب أن يوجد له موطئ قدم في سورية على مقربة من الحدود التركية، بعد عمليات تحالف واندماج مع المكوّنات المحلّية، خاصّة وحدات حماية الشعب، وهي المليشيا المسلّحة الرئيسة في شرقي سورية، التي أعلنت حكمها لمنطقة أطلقت عليها اسم “روج آفا”، كان حزب العمّال عنصراً رئيساً في تشكيلها العسكري بمسمّيات مختلفة، الأمر الذي أتاح له نقل جبهاته إلى الأمام قليلاً، وأحسّت تركيا بخطورة الموقف، فنفّذت (في دفعات) ثلاث عمليات في عفرين والباب وعين العرب، سيطرت فيها على المنطقة بواسطة تجمّعات عسكرية محلّية تدعمها مباشرة.
تمتّع أوجلان بهالة كبيرة في أوساط حزبه، جعلت أنصاره في أوروبا ينظّمون مظاهرات ضخمة بعد اعتقاله، وحاول أشخاص حرق أنفسهم اعتراضاً على اعتقاله، وفكّرت تركيا في أن تستغلّ وجود صاحب هذه المكانة الاعتبارية في سجونها لتتفاوض معه، وتقنعه بحثّ حزبه على إلقاء السلاح، والانخراط كلّياً في المجتمع السياسي التركي، ولكن مَن تحرّك بشكل فعلي هو شريك الرئيس أردوغان، القومي دولت بهتشلي، فدعا إلى إطلاق سراح أوجلان في مقابل إلقاء سلاح الحزب. في اليوم التالي من هذه الدعوة، نفّذ حزب العمّال هجوماً إرهابياً على مجمّع صناعي في أنقرة، أسفر عن مقتل خمسة أشخاص، في إشارة إلى أن دعوة أوجلان لن تردع أطرافاً من الحزب عن عملياتهم، ولكن التفاوض الذي أطلقه بهتشلي لم ينقص زخمه، وتعاون أوجلان الذي بلغ السابعة والسبعين بقوله “أريد أن أرى السلام قبل أن أموت”.
لم تقدّم تركيا الكثير، فعرضها يتلخّص بالإفراج عن أوجلان في مقابل دعوته لحزبه بإلقاء السلاح، وعلى الحزب هنا أن يقرّر عمق وجود أوجلان في ضمير أفراده وعقيدتهم العسكرية، ومدى قدرتهم بالفعل على الاندماج في الدولة، وخوض معترك السياسة، بعد أن قضوا حوالي نصف قرن في الجبال. هجوم أنقرة (25 /10/ 2024)، الذي تبنّاه حزب العمال إنذار سيئ تمّ تجاهله، لكنّه يعكس رغبة أطراف من الحزب بالاستمرار في القتال، وفي هذه الحالة عليها أن تقاتل من دون رأس الحزب الأيديولوجي، ما سيحوّلها مجرّد عصابة مسلّحة لا تملك أي عمق معنوي.
العربي الجديد
—————————–
سوريا وحقل الألغام/ عالية منصور
آخر تحديث 01 مارس 2025
لطالما كانت عبارة “ظروف استثنائية” تُستعمل من قبل الأنظمة العسكرية والديكتاتورية لإحكام قبضتها على البلاد والعباد، ولذلك نرى العبارة في سوريا مستفزة لكثيرين، وخصوصا ممن دفعوا أعمارهم وحياة أبنائهم من أجل انتصار ثورة الشعب السوري وإسقاط نظام الأسد وصولا إلى الحرية والديمقراطية والعدالة.
والحقيقة أن عبارة “ظروف استثنائية” لا تصف الواقع السوري اليوم بشكل دقيق، ولا كلمة تحديات أيضا. ففي صباح الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 سقط النظام السوري وهرب بشار الأسد إلى موسكو ووصل أحمد الشرع إلى قصر الشعب، ومنذ تلك اللحظة بدأ الواقع السوري يتكشف أمام الجميع أكثر وأكثر، فرغم الانتصار العظيم والاحتفالات وعودة سوريا إلى أهلها وعودتهم إليها، كان ثمة دمار هائل أكبر بكثير مما كان أي متابع للشأن السوري يدركه.
دمار الحجر، مدن بأكملها مدمرة، ملايين المهجرين، عشرات المقابر الجماعية، عشرات آلاف العائلات التي انتظرت مصير أبنائها المعتقلين ولم يتكشف حتى اليوم، وضع اقتصادي لا تعطيه صفة “سيئ” حقه، مؤسسات لا تشبه المؤسسات، يصح وصف الدولة السورية بالدولة المهترئة.
ومنذ لحظة هروب الأسد لم تتوقف إسرائيل عن شن غاراتها على مخازن ومستودعات سلاح الجيش السوري، ومع الوقت بدأت بالتوغل داخل الأراضي السورية.
تُدرك إسرائيل أن السلطات السورية اليوم غير قادرة على التصدي، ولا هي راغبة بالدخول في أي حروب، ولذلك تستمر بالضغط على السلطات السورية الجديدة لتحقيق مكاسب أكبر، فقد أعلنت إسرائيل انهيار اتفاقية “فك الاشتباك” الموقعة بين البلدين في عام 1974 لحظة انهيار نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، وقالت إن مجلس الوزراء قرر احتلال منطقة جبل الشيخ الحدودية السورية المحاذية للجولان المحتلة.
وصرح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بأن “الجنود السوريين تخلوا عن مواقعهم”، وأنه لن يسمح لأية قوى معادية بالتموضع قرب الحدود بين البلدين، وأن الجيش الإسرائيلي سيكون “القوة التنفيذية” في المنطقة.
لم تكتفِ إسرائيل بالتوغل البري وشن العمليات العسكرية على سوريا، بل بدأت تلعب اللعبة التي تتقنها وسبق وأن لعبتها في لبنان إبان اجتياحها لبيروت عام 1982، وهي زرع الفتنة بين “مكونات” الشعب. خرج نتنياهو قبل أيام مطالبا بإخلاء جنوب سوريا من القوات العسكرية للنظام الجديد بشكل كامل، وقال: “لن نسمح لقوات (هيئة تحرير الشام) أو الجيش السوري الجديد بالدخول إلى المناطق الواقعة جنوب دمشق”، وشدد على أن إسرائيل “ملتزمة بحماية الدروز في جنوب سوريا ولن تتسامح مع أي تهديد لهم”.
لاقت تصريحاته رفضا واسعا من جميع السوريين بما فيهم أغلبية أبناء طائفة الموحدين الدروز، ولا أظن أن شخصا عاقلا يصدق أن نتنياهو يكترث أساسا لسلامة الموحدين أو غيرهم، ولكنه أراد إزكاء فتنة ليستمر في ضغطه على السلطة السورية، وإن كان البعض يلمح إلى رغبته في الاستقواء بنتنياهو لتنفيذ أجنداته السياسية.
يضاف إلى الضغط العسكري والضغط على الداخل السوري، ضغط تمارسه إسرائيل لعدم رفع العقوبات الأميركية عن سوريا، وتناغم واضح بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونتنياهو، ما يزيد من حجم التحديات الهائلة على الوضع الاقتصادي والمعيشي هناك. وإذا ما أضفنا الوضع الأمني الذي لم يستتب بعد في البلاد، حيث يكاد لا يمر يوم دون أن تشن فلول النظام في قرى الساحل السوري عمليات عسكرية على قوى الأمن أو تحاول بث أخبار كاذبة وتتبنى خطابا طائفيا وتدعو لـ”انفصال” الساحل السوري عن سوريا، كما لا يخفى على أحد محاولات إيران للضغط في سوريا، إن كان من خلال الفلول أو من خلال بقايا ميليشيا “حزب الله” على الحدود السورية اللبنانية.
مشكلة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لم تجد طريقها للحل بعد، والتوتر بين “قسد” من جهة والعشائر كما بقية الأفرقاء الكرد من جهة تتصاعد.
خطر “داعش” لا يزال موجودا، وقد أطل برأسه مرات عديدة منذ إسقاط النظام، إضافة إلى السلاح الموجود خارج إطار الشرعية والفصائل التي لا زالت تتمنع عن الانضواء تحت لواء الجيش الجديد.
لا يمكن أن نُطلق على كل ذلك وصف “تحديات” بل حقل ألغام يكاد ينفجر فينا جميعا إن لم نستطع تفكيكه.
وبين كل هذه الألغام، انعقد في قصر الشعب في العاصمة دمشق مؤتمر الحوار الوطني، المؤتمر الذي كنا نتمنى أن يكون أكثر شمولا وأن يدعو إلى مؤتمر وطني تنبثق عنه هيئة تأسيسية ذات صلاحيات ملزمة، ومع ذلك يمكن القول إنه كان أقل من طموحاتنا وأكثر مما توقعنا.
عجلة العملية الانتقالية يجب أن تنطلق، وتفكيك كل هذه الألغام يحتاج إلى حكومة انتقالية من أصحاب الاختصاص، ولكن أيضا ممثلة لجميع السوريين بمختلف توجهاتهم السياسية، لا نملك في سوريا ترف الوقت، ولا “رفاهية” الاستفراد، وعلى السلطة القائمة اليوم كما على من هم خارجها أن يدركوا أن المركب إن غرق سيغرق بالجميع، فبشار الأسد ترك لنا دولة مهترئة متآكلة، والانتقال من سوريا الأسد الى سوريا دولة المواطنة (كما ذكر البيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني) عملية شاقة وتحتاج إلى الجميع.
المجلة
—————–
تحطيم مشاريع تقسيم سوريا يبدأ من شمالها/ محمود علوش
2025.03.03
في الوقت الذي تشق فيه سوريا طريقاً وعراً للعبور نحو الدولة الجديدة، تبرز التحركات العدوانية الإسرائيلية كخطر كبير يُهدد تفكيك سوريا. إن حديث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن جنوب سوريا كمنطقة منزوعة السلاح ومنع الجيش السوري الجديد من الانتشار فيها وعدم تسامح إسرائيل مع أي تهديد لدروز سوريا، ثم حديث وزير خارجيته عن تهديدات تواجه بعض المكونات السورية الأخرى مثل العلويين والأكراد، تُشير إلى أن دوافع التحركات العدوانية الإسرائيلية في سوريا تتجاوز مواجهة التهديد الأمني المزعوم لها إلى تفكيك الكيان السو
في الوقت الذي تشق فيه سوريا طريقاً وعراً للعبور نحو الدولة الجديدة، تبرز التحركات العدوانية الإسرائيلية كخطر كبير يُهدد تفكيك سوريا. إن حديث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن جنوبي سوريا كمنطقة منزوعة السلاح ومنع الجيش السوري الجديد من الانتشار فيها وعدم تسامح إسرائيل مع أي تهديد لدروز سوريا، ثم حديث وزير خارجيته عن تهديدات تواجه بعض المكونات السورية الأخرى مثل العلويين والأكراد، تُشير إلى أن دوافع التحركات العدوانية الإسرائيلية في سوريا تتجاوز مواجهة التهديد الأمني المزعوم لها إلى تفكيك الكيان السوري والعمل على إبقاء سوريا دولة ضعيفة وغير قادرة على بسط سيادتها على جميع أراضيها. ولا يجد المسؤولون الإسرائيليون حرجاً في التعبير عن هذه الأهداف.
في الثامن والعشرين من فبراير شباط الماضي، كشفت وكالة رويترز أن إسرائيل تضغط على الولايات المتحدة لإبقاء سوريا ضعيفة وبلا قوة مركزية من خلال السماح لروسيا بالاحتفاظ بقاعدتيها العسكريتين هناك لمواجهة النفوذ التركي المتزايد في البلاد. لا يُخفى أن إسرائيل ترى في سوريا الضعيفة والتي تنهشها النزعات الانفصالية على الأطراف أكثر فائدة لها من سوريا موحدة وقادرة على استعادة عافيتها من الحرب. مع ذلك، هناك حقيقتان ينبغي أخذهما بعين الاعتبار عند تقييم حجم الخطر الإسرائيلي على سوريا. الأولى، أن إسرائيل يُمكن أن تُضفي مزيداً من التحديات على التحول وتستطيع الاحتفاظ باحتلالها لأجزاء جديدة من سوريا بعد الإطاحة بنظام الأسد ومواصلة ضرب ما تبقى من أصول عسكرية سورية، لكنّها غير قادرة على فعل أكثر من ذلك. والحقيقة الثانية أن طموحات إسرائيل لتفكيك الكيان السوري تستمد قوتها بدرجة أساسية من حالة قسد في الشمال.
حقيقة أن معالجة ملف قسد لا يُمكن أن تتم في إطار سوري بحت بالنظر إلى ارتباط هذه المسألة بصراع تركيا مع حزب العمال الكردستاني وبالوجود العسكري الأميركي الذي يُشكل حماية لمشروع الإدارة الذاتية في مناطق الجزيرة السورية، فإن المعالجة مُعقدة وقد تستغرق بعض الوقت. مع ذلك، هناك ضوء ظهر في النفق مؤخرا مع اكتساب عملية السلام الجديدة بين تركيا وحزب العمال الكردستاني زخماً قوياً بدعوة عبد الله أوجلان للتنظيم إلى حل نفسه والتخلي عن السلاح والأطروحات الراديكالية. لقد سارع مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية إلى الترحيب بهذه العملية لكنّه نأى بقسد عن دعوة أوجلان لإلقاء السلاح. ويبدو هذا النأي مفهوماً بالنظر إلى أن قبول الدعوة يعني اعترافاً صريحاً من عبدي بأن الوحدات الكردية ذراع سوري لحزب العمال الكردستاني ولتجنب أي التزام بالتخلي عن السلاح لعدم إضعاف وقف الوحدات التفاوضي بخصوص مستقبل وضعها بعد التحول السوري.
من المعلوم أن هناك مفاوضات تجريها قسد مع الإدارة السورية الجديدة للتوصل إلى تسوية لوضعها. وهي تجري بالتوازي مع سياقين، الأول التنسيق التركي السوري والثاني مفاوضات تركية أميركية. ويُعطي توقيت دعوة أوجلان مؤشراً على جدية المسار التفاوضي بخصوص قسد. وإذا تحلى مظلوم عبدي بواقعية أوجلان في قراءة الحالة الكردية الإقليمية والظروف الإقليمية المتحولة المؤثرة عليها، وتخلى عن رهانات أثبتت التجربة أنها خاسرة، فإن فرص التوصل إلى تسوية لملف قسد ستُصبح كبيرة.
مع ذلك، لا يبدو عبدي في وضع يسمح له التفكير في الكيفية التي يُمكن فيها أن يُحقق أقصى قدراً من المكاسب وفرض شروطه على الإدارة السورية. فالولايات المتحدة في ظل إدارة الرئيس دونالد ترمب تُظهر اهتماماً أقل بالحفاظ على علاقاتها بالوحدات الكردية وتميل إلى إبرام تسوية مع تركيا بخصوص ملف قسد. كما أن إدارة الرئيس أحمد الشرع أصبحت أكثر تمكناً في الداخل وتُعزز بشكل متزايد القبول الدولي لها.
إن التسوية السياسية لملف قسد هو الخيار الأفضل والأقل كلفة على سوريا وتركيا وعلى أكراد سوريا كذلك. لكنّه بعد إعلان نتنياهو عن رؤية إسرائيل لسوريا الجديدة كدولة ضعيفة تنهشها المشاريع الانفصالية، فإن حسم ملف قسد أصبح حاجة أمن قومي لسوريا لأن استمرار هذه المسألة لفترة أطول لن يؤدي سوى إلى رفع مخاطر تفكيك الكيان السوري. على الرغم من أن قدرة إسرائيل على تفكيك سوريا ضعيفة للغاية بالنظر إلى أن تأجيج النزعة الانفصالية في الجنوب لا يحظى بقبول بين الدروز، إلاّ أن المشروع الإسرائيلي يستمد قوته بدرجة رئيسية من حالة قسد في الشمال لأن تمكن مشروع الوحدات الكردية سيُظهر ضعف قدرة سوريا في استعادة سيادتها على جميع أراضيها وسيُشكل مُحفزاً قوياً للأطراف الساعية إلى تفكيك سوريا على نطاق أوسع. إن معالجة التهديدات التي تواجه وحدة سوريا والتعامل مع المشروع الإسرائيلي يبدآن من استعادة السيادة الوطنية على مناطق الجزيرة السورية. وحتى في الوقت الذي تُعزز فيه عملية السلام الجديدة بين تركيا وحزب العمال الكردستاني من فرص التسوية السياسية لملف قسد، فإن الرسالة التي سيتعين على دمشق وأنقرة إيصالها إلى قسد أن التسوية السياسية أفضل الخيارات ولكنها ليست الخيار الوحيد.
تلفزيون سوريا
—————-
بين السياسة والميدان.. هل تلتزم “قسد” بدعوة أوجلان؟/ علي تمي
2025.03.02
منذ تأسيسها عام 2017 بدعم وإشراف التحالف الدولي، كان الهدف الأساسي لـ (قسد) هو محاربة تنظيم الدولة وطرده من المناطق التي يسيطر عليها داخل سوريا. اعتمد التحالف الدولي على قسد نظرًا لخبرتها القتالية، خاصة في أساليب الحرب داخل الأنفاق والجبال. ومع نهاية التهديد العسكري المباشر لتنظيم الدولة، وجدت قسد نفسها أمام تحدٍّ جديد: مواجهة الجيش التركي والتحول من قوة عسكرية تحارب الإرهاب إلى أداة بيد أطراف دولية أخرى، أبرزها فرنسا، لتصفية حساباتها مع أنقرة.
لماذا لن تنجح مبادرة أوجلان داخل سوريا؟
قبل سقوط نظام بشار الأسد، كانت قسد تُستخدم أحيانًا كوسيلة ضغط على تركيا لإجبارها على تقديم تنازلات ميدانية أو الدخول في مفاوضات سياسية وخاصة حول إدلب. كما تستغل إيران وجودها داخل حزب العمال الكردستاني لتمرير أجنداتها داخل سوريا، ولكن من دون أن تصل هذه التوظيفات إلى مواجهة مباشرة. بالمقابل، كانت أنقرة تتبع سياسة ديناميكية، تراقب بهدوء، وعينها دائمًا على دمشق. بعد انهيار النظام المخلوع ، تفاجأ الجميع بدخول تحالف إسرائيلي-فرنسي مشترك على الخط لدعم قسد، حيث تم تزويدها بمعدات تجسس وصواريخ محمولة على الكتف، بالإضافة إلى أكثر من 50 طائرة مسيرة.
كما تم افتتاح مركز خاص في الرقة لتدريب مقاتليها على استخدام هذه الأسلحة الحديثة. ونتيجة لهذا الدعم، تمكنت قسد من تحقيق نجاحات ميدانية محدودة، أبرزها خلال معارك سد تشرين وجسر قرقوزاك، حيث أسقطت عددًا من المسيرات التركية، ما كشف لأنقرة حجم الدول الداعمة لهذا التنظيم.
في المقابل، اختارت واشنطن موقف المتفرج، لكنها في الوقت ذاته حثّت باريس على عدم التورط بعمق في هذا المسار، خشية أن يؤدي إلى مواجهة إقليمية واسعة لا تُحمد عقباها.
لماذا لن تلتزم قسد بدعوة أوجلان للسلام؟
بات قرار السلم والحرب اليوم بيد باريس، التي تقود ملف شرق الفرات انطلاقًا من انزعاجها من التمدد التركي في أفريقيا، حيث أصبحت أنقرة لاعبًا رئيسيًا يمتلك أكثر من تسع قواعد عسكرية فيها، من بينها في ليبيا وقطر. نتيجة لذلك، تحولت قسد من أداة لمحاربة تنظيم الدولة إلى ورقة ضغط بيد باريس وتل أبيب، ولم يعد بمقدورها الخروج من هذه الدائرة، حيث أصبح مصيرها مرتبطًا بمصالح القوى التي تدعمها.
توقيت دعوة أوجلان
بعد دعوة زعيم العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، حزبه إلى إنهاء الصراع والتخلي عن السلاح، لم يمر يومان حتى أعلنت قيادة الحزب في قنديل وقف إطلاق النار مع الجيش التركي، في خطوة تهدف إلى إنهاء نزاع استمر أكثر من أربعة عقود.
وفي تعليق على هذه المبادرة، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: “بدأنا مرحلة جديدة، وهذه فرصة تاريخية لتعزيز الأخوّة الممتدة لألف عام”.
لكن السؤال المطروح: هل تمتلك قسد اليوم قرارها بحل نفسها والتخلي عن السلاح؟ الجواب بالطبع لا.
فكل المعطيات تشير إلى أن حزب العدالة والتنمية التركي نجح في ضرب (عصفورين بحجر واحد)؛ فمن جهة، كشف حقيقة قسد أمام الجمهور الكردي في تركيا وسوريا وسوء نوايا منظومة قنديل حيال القضية الكردية، ومن جهة أخرى، ألقى الكرة في ملعب خصومه، مدركًا أن قسد باتت أداة بيد باريس وتل أبيب ولا تستطيع الالتزام بأي مبادرة حول السلام.
تشير المعلومات إلى أن واشنطن تدعم هذه المبادرة بقوة، وفي حال فشلها، قد تمنح أنقرة الضوء الأخضر لتصفية قسد عسكريًا وإنشاء منطقة آمنة على طول حدودها داخل سوريا.
وهذا ما يفسر تردد قيادة حزب العمال الكردستاني في التعاطي الإيجابي مع دعوة أوجلان، خوفًا من خسارة الدعم الشعبي الكردي، وفي الوقت ذاته، الحرص على عدم فقدان التمويل والتسليح الأجنبي لهذا وجدت نفسها بين خيارين أحلاهما مر. من جهتها، وضعت أنقرة حزب العمال الكردستاني، بجميع تفرعاته داخل سوريا والعراق، في موقف لا يحسد عليه.
وعلى قسد وتجنباً للوقوع في الفخ المنصوب لها عليها أن تختار بين أمرين: إما أن تواصل تنفيذ أجندات باريس، ما يعني خروجها عن هدفها الأصلي في سوريا، أو أن تتجاوب بشجاعة مع مبادرة أوجلان، وتنتزع مكاسب سياسية من أنقرة. وربما تكون هذه الفرصة الأخيرة، لأن البديل هو الحرب ولا مفر منه.
من وجهة نظري، لن يتمكن الحزب من الالتزام بمبادرات السلام كما في 2013، فقد أصبح جزءًا من صراعات إقليمية ودولية، وأصبح أكثر ارتهانًا لأجندات خارجية. والأخطر من ذلك، أن رفض قسد لهذه المبادرة قد يضعها في مواجهة مباشرة مع الشعب السوري وحكومته الجديدة في دمشق، كما سيؤدي إلى عزلة جماهيرية داخل الأوساط الكردية، حيث يوجد توجه كردي عام في سوريا والعراق وإيران وتركيا يدعم السلام ويرفض استمرار النزاع والحرب.
بالمحصلة، تمثل هذه الفرصة لحظة حاسمة قد لا تتكرر. يجب على قسد أن تقوم بجرد حساباتها بدقة قبل فوات الأوان، لتجنب جر المنطقة إلى حرب شاملة داخل سوريا والعراق فالتاريخ لا يرحم المغفلين.
كما أن قضايا الشعوب لا تُحل دائماً بفوهة البندقية ولا بالهرولة وراء الأجندات الخارجية. ما يحدث اليوم في أوكرانيا، وما حدث قبل ذلك في أفغانستان، هما دروس عسكرية وسياسية يجب أن نتعلم منها، حتى لا نقع في الفخ الذي نصبته لنا القوى العظمى وبالتالي دفع المنطقة نحو مزيد من الفوضى والانقسام على أساس الطائفي والعرقي، في نهاية المطاف هو الهدف المنشود لهذه الدول في الشرق الأوسط.
تلفزيون سوريا
—————————
هل يمهد حل حزب العمال الكردستاني لتطبيق “اتفاقية سنجار” في العراق؟/ محمد عماد
04 مارس 2025
رغم مرور نحو خمس سنوات على توقيع اتفاقية تطبيع الأوضاع في مدينة سنجار، شمالي العراق، التي تقضي بانسحاب الفصائل المسلحة منها وإعادة أهلها النازحين والبدء بحملة إعمار واسعة فيها، إلا أن الاتفاق لم ير النور لغاية الآن بسبب رفض الجماعات المسلحة، وأبرزها حزب العمال الكردستاني التركي، صاحب النفوذ الأقوى والأكبر بالمدينة الحدودية مع محافظة الحسكة السورية.
وينص اتفاق سنجار، الذي وقّعته حكومتا بغداد وأربيل، برعاية الأمم المتحدة، عام 2020، على إنهاء وجود حزب العمال الكردستاني، وإخراج الفصائل المسلحة، وتسليم الملف الأمني في محيط المدينة للقوات العراقية من الجيش والشرطة الاتحادية، وفي مركز سنجار لقوات الشرطة المحلية والأمن الوطني التي يتكون منتسبوها من أبناء المدينة.
كما ينص على تشكيل إدارة محلية مشتركة بين بغداد وأربيل تتولى مهمة إعمار سنجار وإعادة النازحين، حيث لا يزال أكثر من 300 ألف من أهالي المدينة يعيشون بمخيمات خارجها، وهم من الأكراد الأيزيديين والعرب، على الرغم من مرور أكثر من تسع سنوات على تحرير المدينة وطرد تنظيم “داعش” منها.
وأعادت تطورات الأيام الماضية، بدعوة مؤسس حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان إلى إلقاء السلاح وحل الحزب، وتجاوب قيادة الحزب الميدانية مع الدعوة، الأمل في تغيير الأوضاع بمدينة سنجار التي تتبع إداريا لمدينة الموصل، عاصمة محافظة نينوى. والأحد، قال حيدر ششو، قائد جماعة “حماية إيزيدخان”، وهي من ضمن ست جماعات مسلحة تنشط في سنجار، وتختلف في ما بينها في التوجهات والانتماءات، إن “قرار مؤسس حزب العمال الكردستاني التركي عبد الله أوجلان سيكون له أثر على اتفاقية سنجار، وخاصة أن المجموعات القريبة من حزب العمال الكردستاني في سنجار يجب أن تستمع إلى هذا النداء”، مضيفا في تصريحات للصحافيين، أن “هناك حوالي 1500 مقاتل في سنجار ينشطون باسم أوجلان وتحت شعار حزب العمال الكردستاني، ويجب على هؤلاء أن يضعوا مصالح سنجار فوق كل اعتبار، ولا يجعلوها ضحية لمصالح شخصية”.
النائب عن الحزب الديمقراطي الكردستاني محما خليل قال لـ”العربي الجديد”، إن “الحكومة العراقية أخفقت في تنفيذ اتفاقية سنجار بسبب سيطرة الفصائل المسلحة متمثلة بحزب العمال الكردستاني والفصائل التابعة له والتي ينضوي بعضها تحت الحشد الشعبي”. وأضاف خليل: “نأمل أن يكون قرار حل حزب العمال الكردستاني له أثر إيجابي على سنجار ويكون دافعا حقيقيا لتطبيق الاتفاقية الموقعة منذ سنة 2020″، لافتا إلى أن الاتفاقية يجب أن تنفذ بكل بنودها وليس وفق الأهواء والمصالح السياسية لبعض الأطراف المتنفذة في بغداد.
وشدد النائب العراقي على أن “هناك ضرورة أمنية ومجتمعية لإخراج كل الفصائل المسلحة من قضاء سنجار وإدارته من قبل أبناء المدينة، سواء بالملف الأمني أو الإداري والخدمي، وهذا ما سنعمل عليه خلال المرحلة المقبلة”. لكن الباحث في الشأن الأمني سيف رعد اعتبر في حديث لـ”العربي الجديد”، أن قرار حل حزب العمال الكردستاني “لن يكون له أثر إيجابي كبير على أوضاع سنجار”، عازيا سبب ذلك إلى أن “الفصائل المسلحة التابعة لحزب العمال بعضها بات لديه غطاء قانوني عبر الحشد الشعبي وغيره من الفصائل، ولهذا المدينة لن تتأثر كثيرا بقرار حل الحزب”.
رفع صورة لأوجلان في ديابكر جنوبي تركيا بعد إطلاق دعوته، 27 فبراير 2025 (فرانس برس)
وبين رعد أن “عدم تنفيذ اتفاقية سنجار رغم مرور خمس سنوات، يعود لوجود رغبة سياسية بذلك من قبل بعض الأطراف السياسية والمسلحة في بغداد، إضافة الى رغبة خارجية، ولهذا فالوضع في سنجار لن يتغير كثيراً”، وأشار إلى أن فصائل حزب العمال الكردستاني ستبقى متنفذة حتى ولو تم حل الحزب بشكل فعلي، مضيفا أن “معلومات وتقارير مؤكدة كشفت أن الحزب جند المئات من أهالي قضاء سنجار، وهؤلاء سيبقون ينفذون أجندة الحزب وكذلك الجماعات المسلحة التابعة له”.
ويفرض “العمال الكردستاني” والمليشيات الموالية له السيطرة على أجزاء من قضاء سنجار، الذي يعد من المناطق المتنازع عليها بين حكومتي بغداد وأربيل. كما تنتشر في القضاء فصائل عراقية في “الحشد الشعبي” عُرفت بولائها لإيران، واتُهمت بعرقلة تنفيذ الاتفاق، الذي أبرمته الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان في أكتوبر/تشرين الأول 2020.
العربي الجديد
————————————-
مراجعة الخطاب السياسي الكردي في سوريا ضرورة استراتيجية في المرحلة الانتقالية/ اكرم حسين
تحديث 04 أذار 2025
بعد أكثر من عقد على اندلاع الثورة السورية، وما خلَّفته من تحوُّلات جذرية أعادت تشكيل الخريطة السياسية للبلاد، تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة تقييم الخطاب السياسي الكردي السوري، لا سيما في ظلّ الواقع الجديد الذي فرضه انهيار سلطة النظام الاسدي ، وصعود فواعل سياسية وعسكرية جديدة . فالتحديّات الاستثنائيّة التي تواجهها الحركة السياسية الكردية اليوم – من انقسامات داخلية إلى تعقيدات المشهد الإقليمي – تتطلَّب نقلة نوعية في الرؤية والأداء، تنتقل بها من التركيز على المطالب القومية “المحدودة” إلى الانخراط الفاعل في بناء دولة المواطنة الديمقراطية، بما يضمن حقوق جميع السوريين ويرسي أسس العدالة والشراكة الوطنية .
لطالما ارتكز الخطاب السياسي الكردي – عبر عقود من القمع الأسدي – على المطالبة بالحقوق القومية الأساسية، كالاعتراف الدستوري بالهوية الكردية، وإنهاء التمييز والمشاريع الشوفينية …الخ . ورغم شرعية هذه المطالب وعدالتها ، إلا أن المرحلة الانتقالية تفرض منطقاً جديداً . فسقوط نظام الأسد كسلطة ديكتاتورية ، وتشكيل مؤسسات حكم انتقالية (كالمجلس التشريعي والحكومة الانتقالية)، يقتضيان تحوُّلاً في الاستراتيجية الكردية من “خطاب المطالبة” إلى “خطاب المشاركة”. فالكرد – كشريك تاريخي في النسيج السوري – مطالبون اليوم بالانتقال من دور المطالب بحقوقهم إلى دور الفاعل في مؤسسات الدولة عبر صياغة عقد اجتماعي جديد، يقوم على ضمانات دستورية تكرِّس التعددية، وتحوِل سوريا من دولة الأغلبية والأقلية إلى دولة المواطنة المتساوية.
لا يمكن أن تختزل القضية الكردية في بعدها الاثني فقط ؛ بل هي اختبار حقيقي لإمكانية تحقيق الديمقراطية السورية. فالتجارب العالمية – من البلقان إلى الشرق الأوسط – تثبت أن إهمال حقوق المكونات يغذّي الصراعات والنزاعات ، ويعطّل سبل الاستقرار ، وفي السياق السوري، لا يمكن تصوُّر نظام ديمقراطي مستدام دون حلّ عادل للقضية الكردية، يدمج الحقوق القومية في إطار مشروع وطني جامع. لان الديمقراطية لا تعني حكم الأغلبية فحسب، بل أيضاً حماية حقوق المكونات كافة عبر آليات دستورية وقانونية بحيث تمنع الاستبداد ، سواء أتى باسم القومية أم الدين .
الان ، تواجه الحركة السياسية الكردية مشكلات مصيرية، فمن جهة، تعاني ما تعانيه من انقسام يضعف قدرتها على التمثيل الموحَّد، ومن جهة أخرى، تواجه بتشكيك بعض الأطراف السورية في “الخصوصية الكردية”، وسط صعود خطابات شعبوية تستغلُّ الانقسام ، وفي مواجهة هذا التعقيد، لا بدَّ من مراجعة جذرية تشمل بناء التحالفات وتعزيز العلاقة مع القوى الديمقراطية السورية التي تشترك في النضال من أجل قيم مشتركة كالديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتأسيس دولة مدنية ،تعددية مما يكسب المطالب الكردية شرعية أوسع.
لم يعد مقبولاً للحركة السياسية الكردية أن تظلَّ رهينة الخطاب التقليدي، أو أن تراهن على دعم خارجي متقلّب. فالمستقبل يبنى بالانخراط الجاد في المعترك الوطني، وبالقدرة على تقديم نموذج يوحِّد السوريين حول قيم الحرية والكرامة والمساواة . إن المراجعة الفكرية والسياسية ليست خيار فحسب، بل شرط لبقاء الكرد كطرف فاعل في معادلة سوريا الجديدة. فإمَّا أن تقدّم الحركة الكردية نفسها كرافعة للديمقراطية الجامعة، أو ستجد نفسها – مع الوقت – على هامش التاريخ.
————————-
أسئلة اليوم التالي تؤرق أكراد تركيا بعد نداء أوجلان/ رستم محمود
العملية شديدة التأثر بتحولات المشهد الإقليمي
آخر تحديث 02 مارس 2025
بعد واحد وأربعين عاما من الكفاح المسلح، وجه زعيم ومؤسس”حزب العمال الكردستاني” عبدالله أوجلان نداء تاريخيا إلى مقاتلي الحزب، مطالبا إياهم بإلقاء السلاح وحل تنظيمهم العسكري والسياسي، مُقدما في بيان مُقتضب قرأه قياديون من “حزب الشعوب الديمقراطية”، وهو الحزب التركي الداعم لحقوق الأكراد نيابة عنه، جملة من الأسباب والحجج التي دفعته لطلب ذلك، متوقعا أن يكون ذلك لصالح تركيا والأكراد فيها، وللعودة إلى ما أسماها “روح الأخوة التركية الكردية” من جديد.
النداء الذي من المتوقع أن يفتح صفحة جديدة من “حكاية ومسيرة الصراع الكردي مع الدولة التركية” من أجل نيل الحقوق القومية، كان قد بدأ عبر مبادرة استثنائية توجه بها زعيم “حزب الحركة القومية التركية” (المتطرفة) دولت بهجلي، والذي يُعتبر ممثلا لـ”الدولة العميقة” في تركيا ضمن المشهد السياسي في البلاد، توجه بها إلى كتلة “حزب الشعوب الديمقراطية” في البرلمان التركي، مطالبا أوجلان عبرهم بتوجيه نداء إلى تنظيمه العسكري، بغية إنهاء الصراع المسلح، ومنح البرلمان التركي، فرصة تاريخية لمعالجة كل قضايا البلاد.
قلق الدولة العميقة
توجهت “المجلة” بالسؤال إلى عضو البرلمان والكاتب التركي البارز جنكيز تشاندار، مستفسرة منه عن الأسباب التي دفعت بهجلي إلى تقديم مبادرته السياسية؟ ومدى إمكانية تحقق السلام السياسي في تركيا بعد نداء أوجلان؟
تشاندار الذي كان قبل ثُلث قرن مستشارا للرئيس التركي الأسبق تورغوت أوزال، وشاهدا على أولى مبادرات “حل المسألة الكردية” التي أطلقها الرئيس أوزال في أوائل التسعينات من القرن المنصرم- وثمة شُبهات كثيرة بأنها كانت سببا في إنهاء حياته من قِبل مركز القوة في الدولة التركية- يشرح الظرف الحالي قائلا: “ثمة قدرة استشعارية هائلة لدى النواة السياسية الصلبة في الدولة، وهي راقبت المشهد الإقليمي بتمعن وقلق شديد طوال العام الماضي، ووجدت كيف أن محورا إقليميا كاملا تهاوى فجأة، وصارت تنظيماته المسلحة ودوله تتساقط بالتتالي، وكيف أن إسرائيل، ومعها الكثير من القوى والدول الحليفة، قادرة فعليا على اقتلاع وإعادة تشكيل منظومة الدول، وحتى مجالات السيادة في هذه المنطقة، وبذلك ليس هناك مانع لأن يكون الأكراد وقضيتهم جزءا من تفكير صُناع القرار في هذه الدول، وتاليا وضع تركيا في المنطقة الأكثر حرجا وأذية لها، وفي المستقبل القريب”.
ويتزامن ذلك، بحسب تشاندار، مع شعور مستجد لدى تركيا بتفكك دول الطوق حولها، سوريا والعراق، وربما إيران في المستقبل، هذه الدول التي كانت تاريخيا مركزية للغاية، ومستجيبة تماما للاستراتيجية التركية في ضبط المسألة الكردية و(حزب العمال الكردستاني)، لم تعد قادرة على فعل ذلك راهنا”.
ويضيف: “استباقا لذلك، يفكر أصحاب القرار السيادي في تركيا بإمكانية تحقيق التفاف ما، عبر جذب الأكراد وإغلاق ملفهم تماما، بالتعاطي الإيجابي مع بعض مطالبهم، التي يُمكن قبولها من المجتمع والمخيلة الجمعية التركية، القومية للغاية بعمومها، تجنبا لأي خسائر جيوسياسية مستقبلية”.
لا يميل المستشار والكاتب السياسي التركي جنكيز تشاندار إلى التفاؤل بإمكانية تحقيق تحول سياسي نوعي في المستقبل القريب، معللا الأمر بـنوعية العلاقة السلبية والقاسية، بين الدولة والمجتمع التركيين و”حزب العمال الكردستاني”. يفضل تشاندار عوضا عن ذلك “مراقبة عملية مزاحمة مستدامة، قد تطول لسنوات، إلى أن يتمكن الطرفان من التوصل إلى قرارات وحلول مرضية لهما”. لكنه مع ذلك يبدي ثقته في قدرة الدولة العميقة في تركيا وممثليها السياسيين والأمنيين والعسكريين على فرض حلول واضحة على الحكومة والبرلمان، والأحزاب السياسية التركية، فيما لو رغبت هذه النواة في ذلك، وهو ما يظهر بشكل إيجابي حتى الآن.
أسئلة كردية محيرة
سياسيا، لا يشكل نداء أوجلان نهاية حتمية وواضحة للكفاح الكردي المسلح على أرض الواقع. فتحقيق ذلك يحتاج إلى مناخات موضوعية، لا تعابير عن “حُسن النوايا” أو “تحليل سياسي منطقي”، كما جاء في نداء أوجلان. ففي تعليقه الأول على نداء أوجلان، قال القيادي العسكري البارز في “حزب العمال الكردستاني” مراد قره يلان: “تعداد مقاتلي العمال الكردستاني يزيد على عشرات الآلاف من المقاتلين، من الذين بذلوا كل حياتهم في سبيل تحقيق غاية سياسية بذاتها، وهُم ليسوا عبارة عن مقاتلين محترفين بأجور مالية، بل مجموعة من المقاتلين المتمركزين حول عقيدة سياسية وأيديولوجية، لا يُمكن إقناعهم بالتخلي عن الكفاح المسلح، فقط لأن نداء ما صدر لهم بذلك، بل يحتاجون إلى عملية إقناع طويلة الأمد، يتأكدون خلالها من أفضلية ونجاعة ترك السلاح لصالح قضيتهم”، ويثبت هذا التعليق الصعوبات التي قد تواجه هذه العملية في مسارها الطويل.
أوجلان نفسه قبل عدة أسابيع، كان قد أخبر زواره بأنه يعاني من صعوبة واضحة في إقناع جناح واحد من أصل أربعة أجنحة، ضمن “العمال الكردستاني” بتوجهه السياسي الجديد، قاصدا المقاتلين المنتشرين في السلاسل الجبلية بين تركيا والعراق. فأوجلان كان واضحا في تأكيد نفوذه على تنظيمات الحزب في الداخل التركي، ودول الجوار والقارة الأوروبية، لكنه كان حذرا في التكفل بإقناع مقاتلي الحزب بسهولة.
لا يبدو الأمر بعيدا عن المنطق، فالمقاتلون الذين صرفوا جل أعمارهم في أقسى ظروف العيش في سلاسل الجبال الوعرة بين تركيا والعراق، ودفعوا أثمانا لا تُقدر من حياتهم وحياة زملائهم في هذا الصراع العسكري، لا يُمكن لهم أن يقبلوا بمخارج سياسية، لا تمنحهم الاعتبار والمكانة الرمزية، التي يعتبرون أنفسهم جديرين بها. فالعقل السياسي الباطني للمقاتلين الأكراد يقول إن الأمر لو كان توافقا وصُلحا سياسيا، فإنه ثمة مجموعة من الالتزامات، التي على الدولة التركية الالتزام بها، مثلما فعل “العمال الكردستاني” وأجرى مراجعة سياسية وأيديولوجية واضحة لنفسه عبر هذا البيان، وهو ما لم تفعله الدولة التركية. أما لو كان الأمر غلبة سياسية، فإن مقاتلي “الكردستاني” لم ينهزموا على أرض الواقع، وتاليا لا يُمكن لوضع السلاح وحل الحزب أن يكون أولى الخطوات.
أمر شبيه بذلك يطغى على الأفكار والمشاعر العامة، التي تسود الفضاء المجتمعي والثقافي الكردي في تركيا. فصفحات التواصل الاجتماعي الكردية في تركيا زاخرة بأسئلة من نوع “لكن ماذا ستفعل الدولة للكُرد في اليوم التالي؟”، و”ما مصير عشرات آلاف المقاتلين الأكراد بعد أن يضعوا السلاح؟”، و”ما الذي سيحصل عليه الكرد في الدستور الجديد؟”.
كل تلك الأسئلة ترى القواعد الاجتماعية الكردية ضرورة في الإجابة عليها، وبوضوح وشفافية، من قِبل القائمين على هذا المشروع السياسي، وهُم لم يعثروا على إجابة واضحة على أي منها طوال الشهور الماضية. فمجموع ما حصل هو عبارة عن مجموعة من اللقاءات السرية، بين مجموعة من قادة “حزب الشعوب الديمقراطية” وأوجلان والقادة السياسيين في تركيا، دون أي توضيح شفاف لما تم الاتفاق عليه.
فمنذ تأسيسه عام 1978، شكل “حزب العمال الكردستاني” المنصة والتنظيم السياسي الأكثر تعبيرا عن الكُرد في تركيا، فقد بقي طوال هذه السنوات التيار الأكثر شعبية ورمزية ونفوذا ضمن مختلف الأوساط الكُردية، والجسم التنظيمي الذي عبر دوما عن قضيتهم وتطلعاتهم المستقبلية. إذ لم تنجح جميع محاولات الدولة والقوى السياسية التركية في إحداث حاجز وعزل بينه وبين المجتمع الكردي. لأجل ذلك، فإن تحولا سياسيا مثل هذا، لا يُمكن له أن يحدث دون اطلاع وقبول المجتمع الكردي بمضامينه، ولا تبدو حتى رمزية ومكانة أوجلان ذاته قادرة على تحقيق ذلك دون تلك المقبولية من المجتمع الكردي.
مثل باقي القضايا السياسية المستدامة، يبدو الملف الكردي في تركيا راهنا، متأثرا تماما بالمشهد الإقليمي، المحيط بتركيا تحديدا. هذا المشهد الذي منه انبلجت العملية السياسية الجديدة بين “العمال الكردستاني” والدولة التركية، سيضيف تأثيرات واضحة على مسار هذه العملية، وذلك على ثلاثة مستويات.
فمستقبل المواجهة الإسرائيلية-الإيرانية بُعد أساسي في ذلك. لأن الإطاحة بالنظام الإيراني، أو العكس، ليست مجرد تفصيل سياسي في المنطقة، بل تحول جوهري في أصل عالم السياسة في منطقة الشرق الأوسط. يضاف لذلك طبيعة ما سيحصل عليه الكُرد في إيران (نحو 8 ملايين نسمة) من حقوق ومكانة سياسية، خلال المرحلة التي ستلي هذه المواجهة.
المسألة الأخرى تتعلق بنوعية النظام السياسي الذي ستستقر عليه سوريا في الأفق المنظور. فهل ستتمكن النخبة الحاكمة راهنا من تثبيت أركان حُكمها، والسيطرة على البلاد أمنيا وسياسيا، مع إنكار ورفض تام للشراكة مع القوى الكردية، وبخاصة “قوات سوريا الديمقراطية” المقربة من “حزب العمال الكردستاني”، أم لا؟ وحسب ذلك ستتأثر هذه العملية السياسية في تركيا، ولو نسبيا، بسبب التداخل السياسي الكبير بين سوريا وتركيا، على الأقل في المرحلة الراهنة.
أخيرا، ماذا ستكون استراتيجية الرئيس الأميركي دونالد ترمب تجاه منطقة الشرق الأوسط، بعد بدئه بإغلاق ملف أوكرانيا؟ تحديدا من حيث مدى توكيله لتركيا بالكثير من القضايا الإقليمية، وبخاصة في سوريا والعمق الآسيوي. فالحذر الأولي من المشهد الإقليمي والدولي، والذي دفع تركيا لفتح هذا الباب أمام أوجلان في هذه العملية، يُمكن أن يتحول إلى العكس تماما، فيما لو أصبحت استراتيجية الإدارة الأميركية الجديدة أكثر وضوحا.
المجلة
—————————-
==============================
عن التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة، ملف تناول “شهية إسرائيلية لتفتيت سوريا” -ملف متجدد يوميا–
تحديث 04 أذار 2025
==============================
——————————
القيادة السورية وامتحان الفتنة: قطع الطريق على إسرائيل.. وإيران/ منير الربيع
الإثنين 2025/03/03
أخطر ما يمكن أن تواجهه سوريا الجديدة، هو الغرق في مستنقع حرب طائفية، أو مصادرة السياسة وحصر القرار والتأثير بفئة واحدة، متناسقة ومنسجمة مع بعضها البعض. وأخطر ما يمكن أن تواجهه سوريا هو ما يكشف عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، من خلال إشهاره لمشروع إضعاف سوريا، وتقسيمها إلى كيانات أو دويلات طائفية ومذهبية، عبر اللعب على ورقة التناقضات. كل ذلك يسهم في تضييق الأفق أمام سوريا والسوريين. وكأن من أصبح اليوم في السلطة، أو يتحلق حولها تأييداً، يعيد تكرار تجربة “صراع المعارضات السورية” التي لم تنتح مشروعاً موحداً، ولا تزال إلى اليوم في حالة تجاذب وتصارع. مسؤولية ذلك تتوزع على أجزاء متعددة، أولها القيادة الجديدة، ثانيها المؤيدون لها، ثالثها النخب التي قضت عمرها في النضال المعارض ضد نظام الأسد، وتجد نفسها اليوم مطوقة أو منكفئة، ورابعها مختلف الفئات الشعبية التي لا يمكنها الاتجاه نحو تقديس الجديد، أو الاتجاه نحو المعارضة الجذرية معه، انطلاقاً من موقف ديني أو طائفي او مذهبي أو حتى سياسي.
اللعب الإسرائيلي
بمقدار ما يمكن للقيادة الجديدة أن تستقطب شرائح سياسية، اجتماعية، ثقافية، شعبية، بمقدار ما يتسع الأفق أمامها، وتقطع الكثير من الطرقات أو الزواريب التي يمكن للخارج الساعي إلى تدمير هذه التجربة، كما هو الحال بالنسبة إلى الإسرائيليين، الذين يمارسون اللعب على التناقضات الدينية أو الطائفية أو القومية أو العرقية، لجعل سوريا أرضاً للقلاقل والاهتزاز وانعدام الاستقرار، فلا يستقر حكم، ولا يتحقق أي تطور سياسي. هنا ليست إسرائيل وحدها التي ستكون مستفيدة من ذلك، ولا هي وحدها الساعية إلى زرع الشقاق والصراع وإعادة سوريا إلى ما يشبه المسار الفرنسي الذي سلكه الجنرال غورو، عندما قرر تقسيمها إلى دويلات طائفية ومذهبية.
أي توسيع لهامش المشاركة السياسية، وإن كان لفئات لا تلتقي مع هيئة تحرير الشام على المبدأ نفسه أو الاتجاه أو النزعة، يبقى فرصة يمكن للهيئة أو الإدارة الجديدة أن تستفيد منها، على قاعدة دياليكتية تتصل بأنه لا يمكن لأحد أن يلغي أحداً، بينما التفاعل وإن بين متناقضات يمكنه أن ينتج تنوعاً ضمن الوحدة، وضمن المشروع الواحد الذي يُفترض أن يبقي سوريا موحدة، بدلاً من دخولها في شرذمات متناثرة. لا سيما أن سلطة الرئيس أحمد الشرع اليوم لا تبدو مطلقة ولا كاملة، بينما هو يفرض سلطته في دمشق وبعض مناطق الشمال، إلا أن هناك الكثير من المناطق الاستراتيجية التي تبدو خارجة عن سيطرته، وهو لا يمكنه فرض تلك السيطرة عسكرياً، بل الطريق الوحيد إلى فرضها تبقى من خلال المشاركة السياسية والتفاهم، والالتقاء على مبدأ وثوابت، وإن لم يكن الالتقاء قائماً على كل التفاصيل.
الجنوب والشمال الشرقي
استمرار هذا التشتت، سيؤدي إلى إضعاف سوريا أكثر، وإضعاف سلطتها المركزية، خصوصاً أن الجنوب يبقى منطقة مفتوحة أمام الإسرائيليين وأمام جهات وفصائل متعددة ذات توجه يتناقض مع توجه الشرع، وذات حسابات ومشاريع مختلفة كلياً. في شمال شرق سوريا لا تزال “القنبلة” مع الأكراد قابلة للانفجار. في الوسط وتحديداً في حمص، هناك انعدام للاستقرار وحوادث يومية من عمليات القتل أو الثأر على خلفيات طائفية ومذهبية، والأمر نفسه بالنسبة إلى الساحل. هذه الوقائع، تسمح للإسرائيليين بالإشهار عن مشروعهم الخطر الذي يهدد سوريا ودول المنطقة ككل، وهم الذين يستعجلون فرض رؤيتهم السياسية ووقائعهم، بالاستناد إلى قوتهم العسكرية وتوغلهم، وبالارتكاز على التلاعب بالتناقضات الاجتماعية والسياسية السورية.
يستعجل الإسرائيليون التحرك، لإجبار الشرع على الحديث معهم، وفتح خطوط التواصل على وسعها. يشير ذلك إلى حجم التوتر الإسرائيلي من النظام الجديد في سوريا. ويظهر ذلك حجم تضرره من تغيير نظام الأسد، خصوصاً أنه اعتاد على مدى 50 سنة على آلية عمل نظام الأسد وعلى استقرار واضح. لكن الأكيد أن المشروع الذي يتحدث عنه الإسرائيليون ليس فيه أي نضج، فحتى الدروز غير جاهزين ولا مستعدين ولا مقتنعين بمشروع الانفصال أو الكيان الذاتي، بغض النظر عن بعض الآراء والاختراقات الإسرائيلية. لذلك فإن كل الادعاءات الإسرائيلية عن حماية الدروز تهدف إلى الضغط على دمشق لتطويعها وانتزاع ضمانات كثيرة منها، ولذلك يتحدثون دوماً عن عدم الثقة بالإدارة الجديدة لاستدراجها إلى تقديم المزيد من التنازل. وهو ما لا يمكن مواجهته إلا من خلال التركيز على الوحدة الوطنية السورية، وحماية التنوع والحرص عليه وهو أحد أهم الأهداف الاستراتيجية الذي يجب أن يكون لدى الإدارة الجديدة.
التقاطع مع إيران
وفي حال كانت إسرائيل تنظر إلى الفوضى في سوريا باعتبارها تصب في مصلحتها، فذلك يعني تقاطعاً للمصالح بينها وبين إيران، التي أيضاً من مصلحتها إشاعة الفوضى ومنع الشرع من تثبيت سلطته ووضعيته، لا سيما أن الفوضى ستمنح إيران فرصة لإعادة الدخول، فيعمل على تسجيل خروقات جديدة سعياً وراء إعادة فتح طرقاته ما بين العراق وسوريا، وما بين سوريا ولبنان. وهو سيركز حتماً على فتح قنوات اتصال مع فصائل مسلحة كثيرة، سواء كانت موالية له أو حتى معارضة، لكنه يعمل على إغرائها بالمال او السلاح، أو يعمل معها على قاعدة استغلال التناقضات.
الفوضى تسمح للإسرائيليين بمواصلة عمليات التوغل والقضم، كما هو الحال بالنسبة إلى لبنان، ومن الواضح أن تل أبيب تعمل على تكريس قواعد جديدة على حدود إسرائيل، مع غزة، في الضفة، ومع لبنان وسوريا، وهذه القواعد هي التمتع الدائم والمستمر بحرية التحرك. هو نموذج حدودي متحرك، يعطي اسرائيل هامشاً واسعاً من التحرك العسكري أو الأمني. لكنه سيعطي الآخرين مجالاً للتدخل والتوغل والتسلل مجدداً، ومثل هذا المشروع لا يمكنه أن يقف عند حدود سوريا فقط، بل سيطال دولاً أخرى من بينها لبنان، القابل لأن تتجدد الاشتباكات والمواجهات على الحدود بين البلدين.
المدن
—————————
ما هو ثمن إعادة توحيد سوريا؟/ عمر قدور
الثلاثاء 2025/03/04
هدأت الأوضاع في “جرمانا” الواقعة في جنوب دمشق، والتي تغلب عليها في الأصل الصبغة الدرزية، وتتواجد فيها السلطة إلى جانب فصائل محلية تتولى فعلياً ضبط الأمن منذ سقوط الأسد. بالتوازي مع الهدوء، أعلِن عن أسماء اللجنة المناط بها صياغة الإعلان الدستوري، ولم يكد المهتمون بالخبر يبحثون عن معلومات خاصة بتلك الأسماء، حتى تداولت وسائل الإعلام فقرات من الإعلان المنتظر صدوره لاحقاً، ما يعزز الانطباع بأن الإعلان العتيد مُعَدٌّ سلفاً، أقله ببنوده الأساسية وخطوطه العامة.
نظرياً، لا رابط بين الخبرين أعلاه، أما واقعياً فيجوز القول إن إطفاء فتيل أزمة ظهرت جرمانا، تلاه مباشرة تصرّف من المحتمل جداً أن يتسبب بأزمة أكبر على قاعدة الريبة إزاء نوايا السلطة، حتى إذا لم تتخذ أزمة الثقة على الفور مظهراً أمنياً كالذي حدث في جرمانا. لكننا لا نستطيع استبعاد الربط بين الوضع الأمني وما يحدث على الصعيد السياسي، فمن الملاحَظ كثرة الحوادث الأمنية منذ الإعلان عن لجنة مؤتمر الحوار الوطني، ثم انعقاده عملياً لساعات قليلة ثم الخروج بمقررات بدا أنها مُعدَّة سلفاً، فوق استثنائه عملياً المشاركة الكردية المُعترَف بها، ولا يُستبعد أن تكون مشاركة السويداء غير مُرضية لكتل وازنة فيها.
كانت كلمة الرئيس الشرع الافتتاحية في المؤتمر واضحة وحازمة فيما يخص احتكار السلاح من قبل الدولة، وهي رسالة موجَّهة إلى قسد في الشمال الشرقي، وإلى الفصائل المحلية في السويداء، بل أتت مقررات المؤتمر بمثابة تجريم لتلك الفصائل بإعلانها خارجة على القانون. هذا الحزم، المترافق بما يُنظر إليه كتهميش وإقصاء لبعض المجموعات السورية، فتح الباب أمام نتنياهو كي يطالب قبل عشرة أيام بنزع تام للسلاح بدءاً من جنوب دمشق، والقول أنه لن يسمح لقوات السلطة الجديدة بالتواجد جنوب دمشق.
ولم يكن مستغرباً أن يعود الجانب الإسرائيلي للّعب على تناقضات داخلية، لمناسبة التصعيد الذي حدث في جرمانا، فينشر بياناً مفاده أن نتنياهو ووزير دفاعه أوعزا للجيش الإسرائيلي بالاستعداد لحماية جرمانا. في المرتين صمتت السلطة عن التدخل الإسرائيلي الفظ، وبما يطعن على نحو صارخ بالكلام الخاص باحتكار السلاح (الذي صدر عن مؤتمر الجوار الوطني).
من المفهوم طبعاً عدم وجود إمكانية لمواجهة التصريحات والنوايا الإسرائيلية، لكن حال الضعف إزاء الخارج لا يجب أن ينقلب استقواءً على الداخل، فمثل هذه الوضعية للسلطة اختبرها السوريون من قبل، ولا تريد غالبيتهم الساحقة تكرارها. ولا يريد معظم السوريين أيضاً أن تُرضي السلطةُ الخارجَ كي يأذن لها بالتسلط على الداخل، فهذه أيضاً وصفة مجرَّبة، ورغم كونها مغرية بنجاحها على المدى القريب (وربما المتوسط) إلا أن مآلاتها كانت كارثية في كل البلدان التي اختبرتها.
اليوم، سيكون من التسرّع أن تنطلق السلطة (والسوريون عموماً) من أن وحدة سوريا بديهية وناجزة، بصرف النظر عمّن يحكمها وكيف سيحكمها. قبل ثلاثة شهور فقط كان الحديث عن خمس سوريات منفصلات، وما حدث منذ الثامن من كانون الأول المنصرم أن ثلاثاً منها صارت خاضعة للمركز في دمشق. الافتراض القائم على أن سقوط الأسد سيؤدي تلقائياً إلى إعادة توحيد البلد ليس هناك ما يؤيّده واقعياً، فمطالب قسد والإدارة الذاتية (السابقة على السقوط) هي ذاتها لم تتغير، ومطالب كتل وازنة في السويداء أيضاً لم تتغير عمّا كانت عليه قبل سقوط الأسد. بمعنى أن أيّاً منهما لم يُضف مطالب جديدة موجّهة إلى السلطة الحالية حصراً، أو على سبيل معاداتها، ويُستحسن مناقشة تلك المطالب بروحية تلحظ ذلك.
حتى الآن لا يوجد ما يدعم التكهنات حول تقسيم مستدام لسوريا، لكن إبقاءها فعلياً منقسمة بإرادة خارجية ممكن بسهولة. بقاء القوات الأميركية كفيل بتدعيم موقع قسد، وتل أبيب قادرة على استهداف أية قوات تتقدم في المنطقة “العازلة” التي تقرر حدودها. من السهل بناءً على ذلك تصوّر الحل بإرضاء قوى الخارج، أو اعتبار ذلك خياراً لا مهرب منه، وبالتالي لماذا تُقدَّم التنازلات خارجياً وداخلياً؟
مشكلة التساؤل (الذي يبدو منطقياً) أعلاه أنه يُقرّ سلفاً بانفصال السلطة وجعلها طرفاً في مواجهة المجتمع ككل، أو في مواجهة جزء أو أجزاء منه. أي أن السلطة بموجب ذلك تفقد طبيعتها التمثيلية، بوصفها سلطة جامعة، ولا يكون مطلوباً منها السعي إلى إرضاء الداخل أولاً وقبل أي اعتبار. هذا الإقرار بانفصال السلطة لا يلحظ حقيقة اندلاع الثورة على الأسد الذي كان أفضل نموذج له، والذين قاموا بالثورة (أو استفادوا من اندلاعها) لم يطرح أحد منهم تقسيم سوريا، بل الاختلاف هو على طبيعة الحكم فيها.
تخوين أية جماعة سورية على قاعدة الاختلاف هو أسوأ ما يمكن فعله لتعميق الخلافات أولاً، ولإعطاء فرصة أفضل للخارج كي يستقوي ويفرض شروطه. ومن المؤسف أن موالين للسلطة الحالية لم يقصّروا في تخوين أهالي السويداء ثم جرمانا، وبكلام منسوخ عن موالي الأسد عندما كانوا يتهمون المعارضة بالعمالة لإسرائيل. هذا سلوك يؤذي السلطة التي احتوت الأحداث الأخيرة بأفضل مما يريد أصحاب الرؤوس الحامية، لكن من الجيد لو أنها لا تكتفي فقط بدور الإطفائي عند الضرورة، ولو أنها تستبق الحرائق أو لا تسمح بإشعالها.
استفادت السلطة في الأسابيع الأولى من زاوية مقارنتها مع أسوأ سلف، ومع المتخيَّل عن سلطة إسلامية متزمتة، ونجاحها في ذلك لا يعفيها من استحقاق إدارة البلد، الاستحقاق الذي يُقاس النجاح والفشل فيه بمعايير مختلفة تماماً. وحتى الآن لم تقدّم السلطة نموذجاً يجتذب أولئك الذين لا يعيشون تحت سيطرتها، وإذا كان جزء من الفشل في إدارة الملف المعيشي يرجع إلى الانهيار الاقتصادي والمالي السابق فإن نوايا السلطة المتعلقة بالمستقبل، والتي ظهرت طلائعها بمؤتمر الحوار، ثم بتعيين لجنة صياغة الإعلان الدستوري، وما تسرب عن الأخير؛ هذه جميعاً إشارات غير مشجِّعة للمطالبين بحقوق مواطنة كاملة متساوية للجميع، وبنظام ديموقراطي تداولي، سواء كانوا مقيمين تحت سيطرة المركز أو خارجه.
لعل السير بالنموذج الديموقراطي للمواطنة هو الأساس الواقعي الوحيد لتوحيد البلد، إذا لم تنعقد النية على توحيدها بالقوة التي تتطلب موافقة الخارج وإرضاءه. وسيكون مضيعةً للوقت الدخولُ في جدال غير مثمر حول أولوية التوحيد على ما عداه، خصوصاً مع الاستعجال الذي تدير به السلطة العديد من الملفات العامة الحساسة، والتي لا تنتظر لأجلها توحيد البلد. إن ثمن التوحيد يُدفع للخارج فقط، وتحصين الداخل بالمواطنة والمشاركة ليس ثمناً، وليس مطلوباً لمقارعة الخارج، بل هو مطلوب أصلاً لذاته، ومن أجل عموم السوريين. لعل أفضل سبيل لاحتكار الدولة السلاح هو ألا تحتكر السياسة.
المدن
————————-
وصفة انتحار سورية بقنبلة طائفية/ سميرة المسالمة
الإثنين 2025/03/03
الشعور بالتفوق الطائفي يتنافى تمامًا مع تحقيق السلم الأهلي، وهو ما أكده الرئيس أحمد الشرع منذ اليوم الأول لبدء عملية ردع العدوان. فحقن الدماء وتسليم السلطة بأقل الخسائر، كان نتيجة طبيعية لسياسة التحرير المتبعة من حلب إلى دمشق. ولو أن سياستها اعتمدت على التفوق الطائفي أو العرقي خلال مسيرتها إلى دمشق عبر القرى والمدن والمناطق المترامية، لكانت سوريا غارقة في دماء أبنائها.
ومع ذلك، رغم تكرار الحديث عن السلم الأهلي من قبل الرئيس، فإن هذه الرسائل لم تصل إلى جميع السوريين، سواء من العاملين تحت إمرة الحكومة السورية أو من معارضيها، وبالرغم من محدودية المناطق التي تشهد اشتباكات (تحت مسمى طائفي) بين الجهتين، وتصوير الأمر على أنه نتيجة تصاعد الحس الطائفي لدى بعض الأفراد غير المنضبطين، سواء من العلويين أو السنّة، واختلاف الروايات وأسبابها، إلا أنه يبقى تهديدًا حقيقيًا للسلم الأهلي. ولذا، فإن إبقاء الوضع من دون معالجة جذرية يجعل الطائفية قنبلة مؤقتة قابلة للانفجار في أي لحظة.
إنّ استمرار المناوشات المسلحة في سوريا من دون معالجة حقيقية يعكس خللاً عميقًا في بنية المجتمع والسياسات المتبعة. علاوة على ذلك، فإن إضفاء صبغة طائفية على الاشتباكات ليس مجرد تداعٍ جانبي للصراع، بل هو جزء من الأدوات المستخدمة في النزاع، سواء عن قصد أو بحكم الظروف. لذلك، عندما يُحاسب المجرم بصفته فردًا وليس ممثلًا لطائفته، تنهار أولى حجج الخطاب الطائفي. إذ أن عدم وضع آلية واضحة للمحاسبة وتطبيقها بعدالة، يترك البلاد في حالة من الترقب الدائم لاحتمالية اشتعال فتيل الفتنة، مما يهدد أي جهود لإرساء الاستقرار وبناء مجتمع متماسك.
علاوة على ذلك، لا يكمن الحل فقط في ضبط الأفراد المنفلتين أو معاقبة مرتكبي الجرائم أو حتى في التنديد الخطابي بمخاطر الطائفية، بل يتطلب الأمر التزامًا واضحًا بمبادئ العدالة والمساءلة. وعلى وجه الخصوص، فإن من يحسب نفسه على السلطة السورية أو مؤيدًا لها، يجب أن يلتزم بما أقرته الدولة من قوانين بهذا الشأن، وتسليم أمر العدالة إليها، بدلًا من أن يحاول استبدال سلطة قمعية بأخرى تستخدم ذات الأدوات.
ومن ناحية أخرى، فإن النشاط على وسائل التواصل الاجتماعي قد يبدو عملًا فرديًا، لكنه، في حال تجاوزه حدود الرأي إلى التحريض الطائفي، لا يقل خطورة عن العمل المسلح، بل قد يكون هو الدافع الرئيسي له. على سبيل المثال، فإن الدعوات الشعبوية غير البريئة لاستخدام العنف ضد أي فئة مجتمعية، مثل المطالبات باستخدام الكيماوي ضد (العلويين)، ردًا على استخدام بشار الأسد للكيماوي ضد أهلنا في الغوطة ومناطق أخرى، تمثل خطرًا جسيمًا. إذ تساوي بين سلطة جاءت بانتصار ثورة قدّم الشعب السوري في سبيلها تضحيات جسام، وبين سلطة الأسد التي مارست القمع والقتل.
مثل هذه الطروحات المشبوهة تخدم النظام المخلوع وعملاءه، وليست سوى وصفة انتحار بقنبلة طائفية.
إضافة إلى ذلك، ومع وجود جيوب خارج سيطرة الدولة، سواء لأسباب قومية أو دينية أو بسبب محاولات التفاوض على تقاسم السلطة، فإن إنكار العامل الخارجي في تأجيج الصراع يعد ضربًا من السذاجة. فمن غير الممكن إغفال دور القوى الإقليمية والدولية في تغذية النزاع، إذ أن بعض الجماعات المتمردة لا تتحرك بدوافع مذهبية أو دينية فقط، بل تتداخل المصالح الخارجية مع الديناميكيات الداخلية، مما يجعل أي جهود محلية من جهة الدولة فقط لحل الأزمة غير كافية، إذ لا بد من وجود إرادة وطنية حقيقية لدى كل الأطراف في الجنوب من فصائل حوران، وفي السويداء من الفصائل الدرزية، وفي الساحل من العلويين، وفي الشمال الشرقي من الأكراد، ترفض أي تدخلات تعزز الانقسام وتُكرّس الفرقة بين أبناء الوطن، ومن دون ذلك فإن يد الحكومة وحدها لن تصفق للسلام المنشود.
ومن هذا المنطلق، تبرز أهمية السرعة في إعادة صياغة العقد الاجتماعي السوري على أسس المواطنة المتساوية، بحيث يكون الانتماء الوطني هو الرابط الأساسي بين أبناء المجتمع، وليس الهوية الطائفية أو العرقية. وهذا الأمر يستدعي بالضرورة إصلاحًا سياسيًا جادًا يتمثل في إعلان دستوري واضح وتشكيل حكومة شاملة تضمن مشاركة جميع المكونات من دون تمييز، فضلًا عن إعادة بناء المؤسسات لتكون محايدة وعادلة في تعاملها مع جميع المواطنين.
في النهاية، لا تقتصر محاربة الطائفية على مسؤولية جهة واحدة، بل هي مسؤولية المجتمع بأسره. كما أنه لا يمكن القضاء عليها بالقوة فقط، بل يجب أن يكون ذلك من خلال الفكر، والإعلام، والقانون، والتربية. وعندما يشعر جميع المواطنين أن القانون يحميهم، فلن يكونوا بحاجة إلى طوائفهم لحمايتهم. ما يعني أن تقوم المحاسبة على أساس الجريمة لا الهوية. فالطائفية لا تنمو إلا عندما تجد من يروج لها، ولذلك، يجب أن تخضع وسائل الإعلام والخطاب الديني والسياسة لضوابط صارمة تمنع التحريض الطائفي، فالتساهل مع هذا الخطاب يعني أن الفتنة ستجد طريقها إلى العقول التائهة والمستَفزَة.
ولعل خير مثال على ذلك ما حدث في ألمانيا، حيث أدى تجريم الخطاب العنصري بعد الحرب العالمية الثانية إلى تحجيم الفكر النازي ومنع تكرار الكارثة. وعلى غرار ذلك، فإن تحقيق السلم الأهلي في سوريا يتطلب خطوات جريئة على كافة المستويات، تبدأ بالاعتراف بالمشكلة، مرورًا بوضع حلول عملية وعادلة وسريعة، وليس انتهاءً ببناء ثقافة وطنية جامعة تتجاوز الانقسامات الضيقة.
وحده هذا النهج يمكن أن يضمن مستقبلاً مستقرًا للأجيال القادمة، ويمنع إعادة إنتاج دوامة العنف والانقسام التي يراهن عليها النظام السابق، كما تراهن عليها قوى إقليمية ودولية تسعى لإطالة أمد النزاع لتحقيق مصالحها، وتلك المصالح التي قد تكون المسافة إليها، أقرب إلينا من حبل الوريد.
المدن
————————-
إسرائيل تستثمر في أحداث جرمانا لإضعاف الدولة السورية/ محمد أمين
03 مارس 2025
منذ سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، باتت سورية ساحة أساسية لتدخلات الاحتلال الإسرائيلي، الذي استهدف بعمليات قصف عنيف ترسانة الجيش السوري العسكرية بهدف منع قيام جيش قوي في المستقبل، بالتوازي مع التدخّل بشكل مباشر في الجنوب السوري. ولم يكتف الاحتلال بذلك، بل يعمل على استغلال مسألة الأقليات المذهبية والعرقية في سورية في محاولة لتقويض الإدارة الجديدة في البلاد، والدفع نحو تقسيم سورية تحت مبرر حماية الأقليات وتحديداً الدروز منهم. حماية لم يطلبها أي طرف سوري، بل إن الاحتلال هو من يروّجها في سياق مخططه لتفتيت سورية وإضعاف قيام دولة قوية قد تكون نداً له في المستقبل. وفي هذا الإطار، استغل الاحتلال أحداث جرمانا خلال اليومين الماضيين ليهدد بالتدخل حال “المساس بالدروز في جرمانا”.
وشكّلت أحداث جرمانا والتوترات في المدينة الواقعة على الأطراف الجنوبية الشرقية لدمشق فرصة لإسرائيل لمزيد من التدخل في الوضع السوري، عبر التحرك بادعاء حماية الدروز، وهو أمر تؤكد المرجعيات الدرزية رفضه، مع تحركها لاحتواء الوضع وعدم ترك أي مبرر للاحتلال لاستغلال الظروف القائمة. وتبذل الإدارة السورية الجديدة وفعاليات أهلية وعسكرية ومجتمعية من محافظة السويداء، جنوبي البلاد، جهوداً لاحتواء أحداث جرمانا عقب اشتباكات بين عدد من “الخارجين عن القانون” وقوى الأمن التابعة لوزارة الداخلية. وتسعى هذه الفعاليات إلى قطع الطريق نهائياً أمام إسرائيل التي تحاول اللعب على وتر الأقليات في سورية واتخاذ أي توتر في الجنوب السوري لمواصلة التدخل في هذا الجنوب.
فقد احتل الجيش الإسرائيلي، منذ سقوط الأسد، مواقع استراتيجية في المنطقة العازلة بعد نسف اتفاقية “فك الاشتباك” (1974) التي ظلت سارية خمسين عاماً، في مسعى لتحويل الجنوب السوري كله إلى منطقة عازلة منزوعة السلاح، خالية من أي وجود للجيش السوري الجديد، وهو ما أعلنه رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بصراحة في كلمة الثلاثاء الماضي. وقال إن الجيش الإسرائيلي سيبقى في جنوب سورية “في المستقبل المنظور”، و”لن نسمح بوجود تنظيم هيئة تحرير الشام أو أي جيش سوري جديد في المنطقة الواقعة جنوب دمشق”، مضيفاً: “ستكون جنوب سورية منطقة منزوعة السلاح”. كما بدأت إسرائيل أخيراً في الترويج الإعلامي لمخطط يحمل اسم “ممر داود”، يقوم على اقتطاع شريط على طول الحدود السورية الجنوبية والشرقية وصولاً إلى مناطق يسيطر عليها مسلحون أكراد في شمال شرق سورية.
وكانت وكالة رويترز قد نقلت قبل أيام عن أربعة مصادر مطلعة أن إسرائيل تضغط على الولايات المتحدة لإبقاء سورية ضعيفة ومفككة من خلال السماح لروسيا بالاحتفاظ بقاعدتيها العسكريتين في طرطوس وحميميم باللاذقية لمواجهة النفوذ التركي المتزايد في البلاد. وذكرت ثلاثة مصادر أميركية وشخص آخر مطلع على الاتصالات، وفق “رويترز”، أن إسرائيل نقلت وجهات نظرها إلى كبار المسؤولين الأميركيين خلال اجتماعات في واشنطن في فبراير/شباط الماضي، واجتماعات لاحقة في إسرائيل مع ممثلين في الكونغرس الأميركي. وقالت المصادر إن مسؤولين إسرائيليين عبّروا لمسؤولين أميركيين عن قلقهم من أن الحكومة الجديدة قد تشكل تهديداً خطيراً وأن الجيش السوري الجديد قد يهاجم إسرائيل في المستقبل.
أحداث جرمانا
ساد مدينة جرمانا، صباح أمس الأحد، هدوء حذر بعد يومين من التوتر الذي تخللته اشتباكات بين من وُصفوا بـ”الخارجين عن القانون” وعناصر من إدارة الأمن العام في وزارة الداخلية، أدت إلى مقتل وإصابة عدد من الأشخاص بينهم مدنيون. واستدعت الأحداث في المدينة تدخّل وفد ضم قيادات من الفصائل المحلية في محافظة السويداء قدم إلى جرمانا بهدف احتواء التوتر، والتوصل إلى تهدئة مع الإدارة في دمشق. وكانت أحداث جرمانا قد تصاعدت، منذ مساء الجمعة الماضي، عقب شجار في ساحة السيوف بين عدد من الأشخاص أدى إلى إصابة شخص من عائلة قبلان في المدينة، جرى نقله إلى مستشفى في العاصمة، وحدوث احتكاك مع عناصر من الأمن العام هناك.
أدى انتشار الشائعات وحملات التحريض على وسائل التواصل الاجتماعي إلى محاصرة مجموعة أهلية أخرى مخفر المدينة، الذي جرى تفعيله حديثاً من قِبل وزارة الداخلية بموافقة الفعاليات الاجتماعية والدينية في المدينة، وفق شبكات محلية أشارت إلى هذه المجموعة طردت عناصر المخفر بعد تجريدهم من أسلحتهم. وبحسب مصادر محلية، فقد اعتدت مجموعة مسلحة تطلق على نفسها اسم “لواء درع جرمانا” على عناصر من الجيش السوري، أول من أمس السبت، ومنعتهم من دخول المدينة بأسلحتهم. ووفق ما نقلته وكالة الأنباء السورية “سانا” عن مدير مديرية أمن ريف دمشق المقدم حسام الطحان، فإنه “أثناء دخول عناصر تابعين لوزارة الدفاع إلى جرمانا بهدف زيارة أقاربهم، جرى إيقافهم عند حاجز يتبع لما يُعرف بدرع جرمانا ومنعهم من الدخول بسلاحهم”. وأضاف الطحان أنه “بعد تسليم عناصر وزارة الدفاع أسلحتهم، تعرضوا للضرب والشتائم من قبل عناصر الحاجز، قبل أن تُستهدف سيارتهم بإطلاق نار مباشر. وعلى خلفية حادثة إطلاق النار من حاجز في جرمانا، قتل أحد العناصر على الفور، فيما أصيب آخر وأسره عناصر الحاجز”.
في سياق تطورات أحداث جرمانا نقلت “سانا”، مساء أمس، عن الطحان قوله إن “قواتنا بدأت الانتشار داخل مدينة جرمانا، وذلك بعد رفض المتورطين في اغتيال الشهيد أحمد الخطيب، العامل في وزارة الدفاع، تسليم أنفسهم”، مضيفاً: “سنعمل على إلقاء القبض عليهم لتقديمهم للقضاء العادل”. وشدد على أن القوات “ستعمل على إنهاء حالة الفوضى والحواجز غير الشرعية التي تقوم بها مجموعات خارجة عن القانون امتهنت عمليات الخطف والقتل والسطو بقوة السلاح”، لافتاً إلى أن “المسلحين الخارجين عن سلطة الدولة رفضوا جميع الوساطات والاتفاقات، ونحن بدورنا أكدنا أنه لن تبقى بقعة جغرافية سورية خارج سيطرة مؤسسات الدولة”. وتابع: “لمسنا من أهالي مدينة جرمانا تعاوناً كبيراً في هذا الشأن”.
وأعلن شيوخ ووجهاء مدينة جرمانا، في بيان أول من أمس، رفع الغطاء عمن وصفوهم بـ”الخارجين عن القانون”. وقال شيخ مدينة جرمانا أبو عهد هيثم كاتبة، خلال لقائه وفداً جاء من محافظة السويداء، إن “جرمانا جزء لا يتجزأ من سورية الأم، ودمشق ستبقى قبلتنا”، مشدداً على أن أهالي جرمانا متفقون على ضرورة محاسبة المسؤولين عن الحوادث الأخيرة. كما أكد مشايخ وأهالي جرمانا، في بيان في اليوم نفسه، أنهم قرروا “رفع الغطاء عن جميع المسيئين والخارجين عن القانون”، و”العمل على إعادة تفعيل مركز ناحية جرمانا وبأسرع وقت وبكفاءات قادرة على إدارة الواقع بحكمة واقتدار”. كما شددوا على أن “جرمانا وعبر تاريخها لم تكن يوماً إلا جزءاً من غوطة دمشق، ولن يكون لها يوماً عمق آخر غير العمق الدمشقي والسوري”، مضيفين أن “جرمانا، التي طالما تغنت بأنها سورية الصغرى ومدينة السلم الأهلي والعيش المشترك، لن تدخر فعالياتها الاجتماعية والروحية وعقلائها جهداً في الحفاظ على هذه الصورة بجميع الوسائل المتاحة”.
استغلال إسرائيلي
جاءت تلك البيانات رداً على محاولة الجانب الإسرائيلي استغلال أحداث جرمانا لمزيد من التدخل في الشأن الداخلي السوري تحت مزاعم “حماية الدروز”، التي يتخذ منها مدخلاً لاحتلال أراض سورية وفرض واقع جديد في جنوب سورية. وتعد جرمانا بلدة متنوعة ديمغرافياً، إذ تضم اليوم نسيجاً سكانياً من أغلب المحافظات السورية، إلا أنها مركز للدروز في محيط دمشق إضافة إلى بلدة صحنايا. وجاء في بيان لديوان نتنياهو أن رئيس الحكومة ووزير الأمن يسرائيل كاتس أصدرا تعليمات للجيش بحماية سكان جرمانا، التي تقع على بُعد حوالي 60 كيلومتراً من الحدود الإسرائيلية. وأضاف البيان، مساء أول من أمس، أن “الجيش الإسرائيلي سيضرب السلطات السورية في حال مساسه بالدروز في جرمانا”، مضيفاً أن “إسرائيل لن تسمح للنظام الإسلامي المتطرف في سورية بالمساس بالدروز”، على حد وصف البيان. من جهته، هدّد كاتس، مساء السبت، بالتدخل عسكرياً في سورية ضد قوات دمشق “إذا أقدمت السلطات على المساس بالدروز”.
جهود لاحتواء التوتر
تتعامل الإدارة السورية الجديدة بـ”هدوء” وحذر مع ملف الجنوب السوري نظراً إلى تعقيدات الموقف. وبحسب مصدر مقرب من الإدارة تحدث لـ”العربي الجديد”، تبذل هذه الإدارة جهوداً حثيثة لـ”احتواء التوتر في جرمانا والسويداء وعدم منح أطراف خارجية أي ذريعة للتدخل في الشأن السوري”. وأشار إلى أن الإدارة السورية “حريصة على التعامل مع هذه المواقف بكل سعة صدر من منطلق الحرص على الوحدة الوطنية واحترام التنوع الموجود في البلاد”، مضيفاً أن “الإدارة بصدد تفعيل حوار للخروج من الحالة الطائفية إلى الحالة الوطنية”. تعليقاً على أحداث جرمانا الأخيرة، رأى الأكاديمي السوري المنحدر من محافظة السويداء يحيى العريضي، في حديث مع “العربي الجديد”، أن احتواء الموقف يتطلب “تحكيم العقل والحكمة باتقاء ما يُبثّ في وسائل التواصل الاجتماعي من معلومات مغلوطة وغير صحيحة تعكس تشوّه الوعي والمواقف الرعاعية”. كما دعا العريضي إلى “عدم الانسياق وراء تصريحات المحتل (إسرائيل) الذي يعنيه دمار البلد بعد أن خسر منظومة الأسد العميلة”، مضيفاً: “السوريون ليسوا مسؤولين عن تصريحات نتنياهو أو غيره”.
واعتبر العريضي أن “المستجدات في المنطقة الجنوبية وفي جرمانا ليست مسؤولية محلية، بل مسؤولية وطنية”، مشدداً على أنه “عوضاً عن مطالبة المجتمع الأهلي بمواقف رسمية، يجب النظر في غياب موقف واضح من الحكومة المؤقتة، والقلق من عدم تحملها مسؤوليتها باتخاذ الموقف السياسي المناسب”.من جهته، رأى الباحث السياسي حازم نهار، في حديث لـ”العربي الجديد”، أنه “لا توجد مشكلة خاصة بالدروز في سورية”، وعلى ذلك، فهو لا يتفق مع استخدام مصطلح “الملف الدرزي”، منبهاً إلى “خطورة استخدام مثل هذا التعبير أو ما يماثله”.
وأضاف أن هناك “استحقاقات سياسية مطلوبة على مستوى الوطن السوري كله، وهذه الاستحقاقات تحتاج إلى حل سياسي”، موضحاً أن “الحلول العسكرية والأمنية قاصرة وخطرة، ولن يكتب لها النجاح في حصر السلاح بيد الدولة والحفاظ على السلم الأهلي”. وبرأي نهار، فإن “الحل المطلوب هو حل سياسي، وهذا بيد السلطة بشكل أساسي”، مشيراً إلى أن “المؤتمر الوطني السوري (اختتم الثلاثاء الماضي) كان فرصة مهمة لإنتاج هذا الحل لكنها ضاعت”. لذلك فباعتقاد نهار، “يفترض أن يقدم الإعلان الدستوري أساسيات هذا الحل السياسي: التعهد ببناء نظام سياسي ديمقراطي لا مركزي، التعهد ببناء جيش وطني سوري لا يتدخل في الحياة السياسية، إنشاء الهيئة السورية للعدالة الانتقالية، التعهد بأن يصاغ الدستور المقبل من قبل جمعية سورية تأسيسية منتخبة”.
العربي الجديد
———————————-
سورية الجديدة في خطر/ غازي دحمان
03 مارس 2025
تأتي تصريحات رئيس حكومة إسرائيل، بنيامين نتنياهو، عن سورية في سياق أوضاع غير طبيعية، إذ يحضّر من فاعلين إقليميين ومحلّيين، لتغيير البيئة الإستراتيجية لسورية مقدّمةً لتغيير الواقع في الشرق الأوسط، في ظروف إقليمية هشّة، تزيدها هشاشةً محاولةُ إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تحويل إسرائيل محوراً للنظام الإقليمي الجديد، ومنحها مساحةً للتحرّك لتحقيق هذا الهدف.
لا تسير الأوضاع في سورية صوب الوحدة والاستقرار، ولا يبدو أن مخرجات هذه المرحلة ستؤدّي إلى إخراج سورية من دوّامة الفوضى والضياع، وليس من الصعب أن يكتشف المراقب تحت سطح الأحداث ألعاباً ومخاطرَ يجري التحضير لها، وليست تصريحات نتنياهو بخصوص جنوب سورية (ثم الدروز في ضاحية جرمانا في دمشق)، التي تنقل الأطماع الإسرائيلية إلى طور التنفيذ العملي مقطوعة من السياق الحاصل في سورية.
بات واضحاً أن هناك عملية تأثيث لمشروع خطير يجري العمل فيه بمشاركة فاعلين محلّيين، تصريحات مسؤولي الحكومة الإسرائيلية جاءت في سياق إجراءات يقوم بها، إذ تجمع إسرائيل بيانات من أهالي القرى التي تحتلّها في القنيطرة وجنوب غربي درعا، تشمل حاجة هذه القرى للخدمات والمدارس والأوضاع الاقتصادية للسكّان. وتحدّثت مصادر إسرائيلية لصحيفة إسرائيل هيوم عن مقترح يمنح السكّان السوريين في المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل أو تقع ضمن نطاق سيطرتها الأمنية تصاريح عمل لدخول الأراضي الفلسطينية المحتلّة للعمل صباحاً والعودة مساءً، في ظلّ حاجة إسرائيل إلى العمالة بعد منع فلسطينيي غزّة والضفة الغربية من العمل فيها، والواضح أن السبب الأكثر أهميةً ربط سكّان المناطق السورية مصلحياً واقتصادياً بإسرائيل، لتأمين بيئة مؤيّدة للوجود الإسرائيلي الدائم.
ما طلبه نتنياهو من إخلاء جنوبي سورية من القوات العسكرية للنظام الجديد، ومنع الجيش السوري الجديد من دخول المناطق الواقعة جنوبي دمشق، بمثابة إعلان منطقة محرّمة، مثل المناطق التي فرضتها الولايات المتحدة على الجيش العراقي بعد حرب الكويت، مع فارق مهمّ يتعلّق بالمسافة، إذ لا تبعد القوات الإسرائيلية أكثر من بضع عشرات الكيلومترات من دمشق، كما أنها باتت تتحكّم بقمّة جبل الشيخ، التي ترصد المنطقة جنوبي دمشق بشكل كامل، بما يتيح لها نيرانياً استهداف كلّ تحرّكات القوات السورية، وفرض حصار عليها داخل دمشق.
يريد نتنياهو من ذلك استمرار حالة الفراغ في جنوب سورية، وتحويل القوى المحلّية الموجودة في جنوبي سورية إلى قوى أمر واقع، يسهل ابتزازها وتطويعها، وإعادة تجربة جيش لحد في جنوب لبنان، لتشكيل عازل عما يعتقده نتنياهو مصادر خطر آتية من دمشق المتحالفة مع أنقرة، التي تعتبرها إسرائيل عدوّها الحقيقي في المرحلة المقبلة، وهو ما يتقاطع مع طموحات ومخاوف فاعلين في جنوبي سورية، وليس صدفةً تزامن هذه التصريحات مع إعلان بعض فصائل السويداء تأسيس مجلس عسكري، وتأكيد مصادر من قيادة المجلس التنسيق مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شرقي سورية (صحيفة النهار).
ويبدو أن تصريحات نتنياهو جاءت بعد تواتر أنباء عن احتمال سحب القوات الأميركية من شرقي سورية، الأمر الذي يضع الإدارة المحلّية الكردية تحت ضغط تفاوضي، ويدفعها لتقديم تنازلات كبيرة تخصّ التراجع عن مشروع الحكم الذاتي، وهو أمر لا يتساوق مع تصوّرات إسرائيل لشكل سورية المستقبلي، والتي تتمحور حول تقسيمها بين خمسة كيانات (كما أُعلِن في الإعلام الإسرائيلي)، في الجنوب والشرق والغرب والشمال، تقوم على أسس طائفية وعرقية.
والواضح أن نتنياهو لا يرغب في التوصّل إلى توافقاتٍ في سورية واستتباب الأمر لحكومة دمشق، ويرغب في تصريحاته وإجراءاته بمنح بعض الفاعلين المحلّيين الزخم للسير في مشاريع تقسيم سورية، أو على الأقلّ بإعطائهم أوراق تفاوض قوية في مواجهة حكومة دمشق تدفعها إلى القبول بالحلّ اللامركزي، وواضحٌ أن مناورات الفاعلين المحلّيين، ورفضهم الاندماج ضمن هياكل الجيش السوري، ليست سوى محاولة لإنضاج الأوضاع لمصلحتهم إلى حين يصبحون في موقف أقوى يمكّنهم من خلاله من تحقيق طموحاتهم في الانفصال، دع عنك ما تقوله هذه الأطراف عن رفضها الانفصال، وإنها تنتظر حتى تصبح سورية دولة مدنية كي تندمج ضمن هياكلها وأطرها، هذه ليست سوى عملية شراء للوقت باتت مكشوفة.
من جهة ثانية، تتكئ جميع الأطراف التي ترفض (حتى اللحظة) الانخراط في الدولة السورية الجديدة، ولديها قابلية للانخراط في مشاريع جيوسياسية مؤذية لسورية، على سوء إدارة النظام السوري للوضع الداخلي، فتسعى الإدارة السورية، عبر تحكّم دائرة صغيرة، إلى تصميم نظام ديكتاتوري عبر حصر سلطة القرار بيد فئة محدّدة، والتحكّم بمخرجات المرحلة الانتقالية، وتصميم سورية المستقبلية وفق رؤى وتصوّرات محدّدة، ومن يطّلع على وقائع إجراء مؤتمر الحوار الوطني وطريقة الإعداد له ونوعية المدعوين، ثمّ دور هذا المؤتمر وفاعليته، يكتشف ببساطة حقيقة ما يجري في سورية من عبث سياسي وإداري.
دخل الوضع في سورية مرحلة الخطر الجدّي وبات يتطلّب من الإدارة الجديدة تصميم مقاربة أكثر وعياً وإدراكاً للبيئة الاستراتيجية والخروج من منطق الإدارة بالعواطف التي يغلب عليها طابع السذاجة، والفرح الطفولي بالدعوات والاستقبالات الخارجية، فيما يجري التحضير لطبخة خبيثة، إن حصلت، لن يكون مجرد الحديث عن مؤامرة خارجية كافياً، كما لن ينفع التلطي خلف هذا المبرّر حينها.
العربي الجديد
—————————-
سورية أمام بناء الدولة… ابتزاز أميركي وتهديد إسرائيلي/ لميس أندوني
02 مارس 2025
فيما تستمرّ تهديدات إسرائيل بإعادة تشكيل خريطة المنطقة العربية، يبشّر المبعوث الخاص للبيت الأبيض إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، بأن الظرف أصبح ملائماً لأن تنضمّ سورية ولبنان إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، التي أبرمتها إسرائيل مع الإمارات، وتبعتها البحرين، ثمّ المغرب والسودان في عام 2020. وذلك فيما تتحدّثان، واشنطن وتل أبيب، وكأنّ توغل الجيش الإسرائيلي في الأراضي السورية، وضمّ هضبة الجولان المحتلّة إلى الدولة الصهيونية، وتدمير جنوب لبنان، كانت رسائلَ سلام ووئام. وتؤكّد تصريحات ويتكوف غير المستغربة أن عدم مبالاة واشنطن بالقصف والانتهاكات الإسرائيلية للأراضي السورية، واستمرار توسّع الجيش الصهيوني في لبنان، خلافاً لاتفاق وقف إطلاق النار، تكمّل بعضها. فأميركا تستثمر القوة الإسرائيلية لتملي شروط التطبيع على سورية ولبنان، مستفيدةً من اندحار النفوذ الإيراني، والضربة القاسية التي تلقّاها حزب الله. وإسرائيل تعرف جيّداً أنّ لا لبنان ولا سورية يشكّلان تهديداً لها، لكنّها فرصة للتمدّد وبسط الهيمنة بدعم أميركا.
لا أحد ينتظر من الإدارة الجديدة في دمشق الدخول في مواجهة عسكرية مع إسرائيل، ولا من لبنان إعلان حرب على من عاث بأراضيه وجنوبه خراباً ودماراً بفعل أسلحة التدمير الأميركية. لكن، لا بدّ من موقف عربي وأممي داعم للبلدَين، أو على الأقلّ ألا تستقوي دول عربية على البلدَين للضغط عليهما لقبول ما سيكون تطبيعاً وقبولاً للهيمنة الإسرائيلية والاحتلال، أو وجود الجيش الإسرائيلي في أجزاء من أراضيهما. أكثر ما يخيف دخول دول عربية على الخطّ بحجّة إعادة بناء ما دُمّر في البلدَين في مقابل الدخول في العلاقات التطبيعية مع إسرائيل. في الحالة السورية بشكل خاص، يحاول البلد النهوض وتضميد الجراح، وآخر ما يفكّر فيه السوريون التورّط في حرب، وإسرائيل تعرف هذا، لكنّها تصرّ على التدخّل وإطلاق التهديدات، في ابتزاز واضح بدعم من أميركا، التي خفّفت من العقوبات على سورية، وإن لم ترفعها جميعاً، بحجّة الحرص على ضمان حقوق الأقليات، لكنّها (العقوبات) سلاح تستطيع توظيفه لفرض اتفاقية “سلام”، هدفها تشريع الاحتلال الإسرائيلي للجولان، وأراضٍ أخرى قد تختارها إسرائيل.
لا يمكن تجاهل ما يقوله ويتكوف، إذ إنه تكملة لما بدأه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايته الأولى من توسيع للتطبيع العربي الإسرائيلي، بعد أن نجح في تحقيق الاتفاق الإبراهيمي، الذي هدف (ويهدف) إلى نقل “اتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية”، إلى حالة قبولٍ عربيٍّ بالاحتلال الإسرائيلي وبالمشروع الصهيوني الاستيطاني، إلى أن يصبح جزءاً من الثقافة الشعبية العربية، في انقلاب على التاريخ وعلى حقوق الشعب الفلسطيني، بل وشعوب المنطقة بأسرها. تدرك أميركا أن سورية مشغولة ببناء نظام سياسي جديد، وأن جلّ هم السوريين، إضافة إلى تأمين الغذاء ودخولٍ تؤمّن مستقبلهم، هو ألا يجد الشعب السوري نفسه تحت حكم فئة متنفّذة تحرمهم من حقوق المواطنة والمشاركة السياسية، التي حُرِّمت عليهم عقوداً، وإضافةً إلى الخوف من تشرذم وحدة الأراضي السورية. أي أنها فترة مخاض عسير تبرز فيه الاختلافات والخلافات، وهذه أجواء إذا لم يتم حفظ حرّية الرأي والتعددية ستشكّل ثغرةً يمكن لأميركا وإسرائيل الدخول منها لمنع نهوض سورية، فكلٌّ من القوّتَين تريد أن ترهن تقدّم سورية بالرضوخ لشروط كلٍّ منهما. لذا، ما يدور من خلافات وانتقادات حيال مؤتمر الحوار السوري، الذي عقد أخيراً في دمشق، في غاية الأهمية. إذ لا سبيل غير الحوار والالتزام بالحرّيات لإرساء أسس نظام سياسي ديمقراطي وتعدّدي، على أساس دستور يضمن المساواة والعدالة والحدّ الأدنى من العدالة الاجتماعية، فلا يمكن الإكمال من دون الالتفات إلى المطالب والرؤى، وإتاحة المجال للنقد وأخذه بجدّية، فهي عملية بناء جمعية، ولا تقوم على أفراد أو فئة موجودة في رأس الحكم.
عليه، من الضروري الموازنة بين عملية البناء والحفاظ على السيادة السورية، فلا يمكن الفصل بين المسارين. إذ إن الحفاظ على الوحدة الداخلية هو ضمانة للحفاظ على الاستقلال والسيادة، وفقدان السيادة تحت الضغط والامتثال إلى ما ترمي إليه واشنطن من جرّ دمشق للانضمام إلى الاتفاق الإبراهيمي، مقدمّة لتدخّل وانتهاك أميركي إسرائيلي في السيادة السورية. فاتفاقيات التطبيع مع إسرائيل، كما رأينا في الأردن ومصر، ليست سياسية فحسب، وإنما خطورتها تكمن فيما يسمّى التعاون الاقتصادي، وبخاصّة في مجال الطاقة، خصوصاً أن سورية غنية بمصادر الطاقة والمياه، فحين تتحدّث إسرائيل عن التشارك في المصادر، فذلك يعني أن تأخذ هي حصّة الأسد، معتمدة على ضغط جبروتها العسكري.
لذلك، لا بدّ من الاهتمام بالمخاطر التي تمثلها إسرائيل وواشنطن في مرحلة إعادة التكوين، والتنبه إليها والوعي بها وبأهميتها، لأن واشنطن وتلّ أبيب لا تهملانها، ولا تمهلان الآخرين للإعداد والتحضير، إذ إنهما تجدان أن هذه هي اللحظة المناسبة للانقضاض لفرض ما تريدان.
واشنطن وتل أبيب تدركان جيّداً مغزى القاعدة الاستراتيجية القائلة إنه “لا حرب من دون مصر ولا سلام من دون سورية” في المنطقة ككل. لذلك تسعيان إلى فرض اتفاق تطبيع مرّة واحدة، وإلى الأبد، على سورية. كانت الولايات المتحدة تعتقد أن السلام مع السعودية هو مفتاح السلام مع سورية، وأن التطبيع السعودي سيُضعف موقف الجميع. لكنها الآن تحاول أن يكون “تكويع” سورية هو المفتاح لتطبيع شامل. غير أن ذلك لا يعني تشتيت النظر عن عملية بناء نظام جديد يكون للشعب صوت وإسهام حقيقي في تشكيله والحفاظ على حقوقه، لكن عدم إهمال الخطر الإسرائيلي والاستخفاف به، والمساهمة في اتخاذ موقف قوي مستند إلى القانون الدولي، جزء من بناء دولة القانون، والحفاظ على وحدة سورية وثرواتها ومقدراتها. من السهل الانشغال المفهوم بعملية البناء والاعتراض المشروع على أيّ إجراء يؤسّس للانفراد بالحكم، ولا بدّ من الاشتغال بهذه الأمور الأساسية، كلّها، غير أنه لا يمكن تغييب المخاطر الخارجية، وكأنها غير موجودة.
يقع العبء الأكبر على من يتولى سدّة الحكم، وعلى الدول العربية، فمشاركة سورية في القمّة العربية المزمعة في القاهرة هي فرصة (أقولها وأنا كلّي شكوك) لدعم عملية بناء سورية وتحصينها من أي ضعف تجد فيه إسرائيل منفذاً لتفكيك بلد عربي، مؤهّل لاستئناف دور قيادي في العالم العربي. لا يعني ذلك إغفال تثبيت الحرّيات باسم مواجهة إسرائيل، فتلك حجّة مضلّلة، فانعدام الحرّيات والتعدّدية هو أحد أهم أسباب الرضوخ لإسرائيل، أولوية الشعب السوري ببناء دولته ونظامه محقة، وإن كان لا يمكن إهمال عدوٍّ متربّصٍ، والأساس هو الوعي، فهو شرط لمشاركة قوية في صنع القرار.
العربي الجديد
————————————
سورية ودرس جرمانا/ مالك ونوس
04 مارس 2025
تختلف حادثة جرمانا في ريف دمشق عن الحوادث الأمنية المشابهة التي سبقتها، من ناحية دخول العامل الدولي في خطّ التأثير المباشر، والذي لا يمكن منعه بسبب الضعف العسكري والأمني الذي أصبحت عليه سورية، بعد تدمير الاحتلال الإسرائيلي قدراتها العسكرية، وبعد تسريح عناصر الشرطة التي كانت على معرفةٍ بدقائق الحياة اليومية لمدن البلاد وأحيائها، وبأسماء الخارجين على القانون فيها. أمّا الاختلاف الثاني، فيتعلّق بنضوج رأي عام تتنازعه أبواقٌ تحاول إثارة الفتنة عبر بثّ أخبار كاذبة، وتهويل حوادث أمنية، مستغلّةً الثغرة في المصداقية التي خلّفها غياب الإعلام الحكومي السوري، مع استمرار إغلاق الصحف وقنوات التلفزة. ومستغلةً أيضاً الضائقة المادّية التي يمرّ بها السوريون منذ سقوط النظام، وتردّي واقعهم المعيشي، وخطر انزلاق الشباب إلى الأعمال الإجرامية واضطراره، في مراحل متقدّمة من الفقر المدقع، للعمل لدى مثيري الشغب من أجل بعض المال.
وقد كاد الأمر أن يفلت في مدينة جرمانا التي تبعد ثلاثة كيلومترات من دمشق، وأن يؤدّي إلى اشتباكات واسعة وفتنة، وربّما تدخّل عسكري إسرائيلي في المدينة، لولا الوساطات التي عملت على إنهاء حالة التوتّر. وعلى الرغم من أن الواقعة بدأت على خلفية شجار بين طرفَين من سكّان المدينة، مساء يوم الجمعة الماضي (28 فبراير/ شباط)، تصاعد فأدّى إلى إصابة شخصٍ نقل إلى أحد المشافي، إلا أن التوتّر الذي حصل في المستشفى بين مرافقي المصاب وأفراد من الأمن العام هو الذي أجج الموقف، عندما وصلت أخباره إلى سكّان المدينة، وعلموا بخبر توقيف المرافقين، ونقلهم إلى أحد أقسام الشرطة. عندها تصاعد التوتّر من جديد، وأعاد بعضهم نشر الحواجز في أحد مداخلها، وحين وصلت سيارة للأمن العام إلى الحاجز، حصل خلاف بين عناصرها وعناصر الحاجز تطوّر إطلاق نار، وأسفر عن مقتل عنصر من الأمن العام، وجرى بعدها محاصرة مخفر المدينة وطرد عناصره.
ومثل كّل حادثة مشابهة، سارع مطلقو الشائعات إلى مطابخهم لتفعيل الشائعات المُغرِضة، وبثّ الكراهية وإثارة النعرات الطائفية، وحضّ المتأثّرين بالواقعة على المطالبة بالتدخّل الدولي لحماية الأقلّيات، وهي شائعاتٌ كان لها دور في تصعيد الموقف، غير أن تدخّل وجهاء من المدينة، وآخرين من محافظة السويداء، واتصالاتهم مع مسؤولي الأمن العام، أدّى إلى تخفيف التوتّر، وانتشار قوات الأمن العام داخل جرمانا، مع استمرارهم في البحث عن المتورّطين في قتل عنصر الأمن العام لاعتقالهم، خصوصاً بعد رفع شيوخ المدينة الغطاء عنهم، وصنّفوهم “خارجين عن القانون”، وفق بيان أصدروه.
هل يمكن ردّ هذه الحادثة إلى أخطاء اقترفتها السلطة الجديدة فور سقوط نظام الرئيس المخلوع بشّار الأسد، وتولّيها السيطرة على البلاد؟ لا جديد في القول إن السلطة الجديدة اقترفت عدّة أخطاء قاتلة، وكان يعوّل على قدرتها في تغيير الواقع السياسي والمعيشي من أجل تجاوز تلك الأخطاء، وعلى الوعود الصريحة التي قطعتها أمام الشعب السوري، وليس اعتماداً على آمال مجرّدة. ومن الأخطاء التي اقتُرفِت وأدّت إلى الفوضى فتح السجون، وخروج المظلومين والظالمين منها قبل التدقيق في ملفّاتهم لفرز المعتقلين السياسيين عن المعتقلين لأسباب جرمية، والذين يمكن إعادة محاكمتهم على خلفية عدم الثقة في محاكم النظام البائد، فأصبحوا خلايا نائمةً تستغلّ الثغرات الأمنية لتمارس أعمالها الإجرامية.
أمّا احتمال جرّ آخرين إلى صفوفهم، فقد جعلت سياسة الحكم الجديد الأرضية جاهزة لهذا الأمر، بسبب الفقر المدقع، الذي تسبّبت به زيادة أسعار الخبر وتحرير سعر المازوت المخصّص للنقل العام، ما أدّى إلى استنزاف الموارد المالية الشحيحة أصلاً لدى المواطنين، حين بات مرتّبهم الشهري، الذي لا يتجاوز 35 دولاراً، غير كافٍ لدفع بدل المواصلات، فما بالك بتأمين متطلّبات الحياة. كذلك، مسارعة الحكم إلى تسريح جزء كبير من العاملين في القطاع العام، في تجاوزٍ إداري وقانوني، وهي خطوة قيل إنها تهدف إلى إبطال حالة الفساد التي رافقت تعيين جزء كبير منهم، مع عدم أخذها في الحسبان العناصر الضرورية لاستمرار سير العمل، أو عامل الأقدمية، إذ ساوت بين من أمضى 25 سنة خدمة، وبين من لم يكمل سنتين أو ثلاثا في منصبه. كما لم تراعِ الحالة الاجتماعية أو عدد أولاد المعيل، ما رمى هؤلاء في الشارع، وجعل حياتهم في مهبّ الرياح. وهي في مجملها أخطاء أدّت إلى إحداث إحباط سريع لدى من عوّلوا على الحُكم الجديد، بأن يقطع مع ممارسات النظام البائد، الذي اعتمد التفقير وزرع اليأس في نفوس السوريين، لشلّ حركة المجتمع ومنع أي قدرة على الاحتجاج أو الفعل التغييري. كما تسبّبت هذه السياسة في خشية الناس على لقمة عيشها، وأدّت إلى دخول كثيرين في حالة من الكآبة لعجزهم عن تأمين ثمن ربطة الخبز لأبنائهم، وهذا سيجعل بعضهم لقمةً سائغةً لمن يريد افتعال قلاقل. وتزامنت حادثة جرمانا مع مضي الموعد الذي ضربه الحُكم الجديد للشعب السوري وللأسرة الدولية من أجل تشكيل الحكومة الانتقالية، التي تُعلَّق عليها الآمال في تسيير شؤون البلاد وإقلاع العجلة الاقتصادية المتوقّفة.
وتضاعفت خطورة الحادثة بعدما كُشِفت نيّات الإسرائيليين في التدخّل بشؤون البلاد، وإمكانية استغلالهم أيّ حادثة شبيهة للتدخّل الفوري. فقد تبيّن أن الإسرائيليين لا يتربّصون بسورية فقط، بل هم أعلنوا جهاراً أنهم على أهبة الاستعداد للتدخّل في البلاد لحماية الأقلّيات من السلطة، التي قالوا إنهم سيعملون على إضعافها. وفي هذا الإطار، سارع رئيس مجلس الحرب الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن، يسرائيل كاتس، إلى إصدار أوامرَ وتوجيهات للجيش الإسرائيلي بالاستعداد للدفاع عن مدينة جرمانا السورية. كما صرّح كاتس بأن كيانه لن يسمح للنظام في دمشق باستهداف الدروز في سورية، وأنهم سيستهدفونه إن استهدف الدروز، من دون توضيح معايير الاستهداف التي يتحدّثون عنها وحجمه.
وتأتي هذه التصريحات بعد أيام من تصريحات نتنياهو ووزير خارجيته جدعون ساعر حول إقامة منطقة منزوعة السلاح في سورية، وهي المنطقة التي بدأوا عملياً في إقامتها بعد توغّلهم في أراضي البلاد فور سقوط النظام. كما تأتي بعد المعلومات عن أن دولة الاحتلال تسعى لدى واشنطن من أجل إبقاء سورية ضعيفةً، ومنع تركيا من زيادة نفوذها في البلاد، وإقامة قواعد عسكرية فيها، ومنعها من عقد اتفاقات مع الحكم الجديد تساعد في تعافي البلاد. فهل يتحينون الفرصة لدخول دمشق؟ إنها الخطّة الواضحة التي تدفعهم إلى هذه التصريحات، وذلك إذا أخذنا في اعتبارنا أن جرمانا هي ضاحية من دمشق.
على الرغم من كشفه ما تحضّر له دولة الاحتلال لزعزعة أمن سورية، واحتمال تدخّلها العسكري المباشر فيها، إلا أن درس جرمانا لا يتعلّق بالواقع الأمني في البلاد فحسب، بل يتعداه إلى تأثير الواقع المعيشي في الواقع الأمني. كما يشير إلى ضرورة المسارعة في تشكيل الحكومة، وتنفيذ الحُكم الجديد وعودَه بالقطع مع ممارسات الحكم البائد، من أجل سيادة القانون واعتماد التشاركية والشفافية في حكم البلاد. وكذلك الإسراع في تنفيذ وعود قطعها للمواطنين بتحسين مستوى المعيشة، مع الأخذ بالاعتبار الآمال الكبيرة التي وضعها عليه السوريون وفرحوا به.
العربي الجديد
—————————
إسرائيل ودروز سورية… الخروج من “الفيلا”/ حسام أبو حامد
04 مارس 2025
صكّ إيهود باراك، وزير الخارجية في العام 1996، شعار “الفيلا في الغابة”، بما يحمله من ثقافة استعمارية استعلائية، واستراتيجيةً أمنية، وبعد 20 سنة (2016)، أكّد بنيامين نتنياهو هذه العقلية، فشدّد على أنه سيكون لدولة إسرائيل “سياج يحيط بها”، دفاعاً عن “الفيلا” ضدّ “المفترسين”. يدفع السقوط غير المتوقّع لنظام بشّار الأسد في سورية إسرائيل إلى تغييرات في استراتيجيتها الأمنية، وعدم التردّد في مراجعة عقلية “الفيلا في الغابة”، باتجاه مشاركة نشطة في الفضاء خارج الحدود، كغيرها من قوى إقليمية ودولية (تركيا وإيران مثلاً). وقد شكلّ سقوط نظام الأسد ضربة قاسية لإيران وحزب الله، مع عديد من فوائد محتملة لمصالح إسرائيل، لكن الأخيرة تدرك أن الاكتفاء بالتلذّذ بمشاهد سوريين ينهبون سفارة إيرانية في دمشق محفوف بالمخاطر، وللإيرانيين مهارات في استغلال الفراغ السياسي الداخلي والاحتياجات الاقتصادية، وقد تؤول الأوضاع في سورية إلى تعميقهما. سيّارات الدفع الرباعي المدنية والدرّاجات النارية، التي اعتلاها “إسلاميون متشدّدون” في “ردع العدوان”، تعلوها أسراب الطائرات المسيّرة، تذكّر الإسرائيليين بمشهد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، الفصل المشؤوم في الذاكرة الإسرائيلية، والجارح لـ”الوجدان الإسرائيلي”. كما أن تموضع حركتي حماس والجهاد الإسلامي في فضاء دولة مركزية إسلامية سُنّية عند الحدود، أخطر من التحالف مع إيران الشيعية البعيدة، وقد تتحوّل ترسانة النظام أسلحةً ضدّ إسرائيل.
اكتفت إسرائيل، إلى حينه، برفع أسوار “الفيلّا”، منطقة عازلة جديدة، وتدمير قدرات هجومية للجيش السوري، ونزع سلاح المجتمعات السورية عند الحدود. لكن السؤال إسرائيلياً: هل ينبغي التدخّل في تشكيل النظام الناشئ في سورية بدل البقاء داخل “الفيلّا”؟… قد تسعى إسرائيل بتوغلها في سورية إلى تحقيق مزايا عملياتية للتفاوض على إجراءات “أمنية محسّنة”، لكنّ طول أمد هذا الوجود سيثير العمل ضدّه (من قوات محلية تحاول تحرير الأرض، أو لاعبين دوليين يمارسون مزيداً من الضغوط السياسية، أو كليهما)، والقيادة في دمشق ليست مستعدّةً لتقديم تنازلات تنزع منها شرعية التحرير. تدرك إسرائيل أنها مطالبة بنهج أكثر استباقية، وتفضل سيناريو التقسيم في سورية، وتتحضر لمنافسة إقليمية ودولية، تميّز نفسها خلالها لاعباً مهماً. وتحت شعار “حماية الأقليات”، تسعى إلى التوغّل في المجتمعين الدرزي في الجنوب والكردي في الشمال الشرقي، ما يعني خروجها من “الفيلا” نحو “الغابة”. القرب من الحدود والتداخل الديمغرافي يجعلان من دروز سورية أولوية. كرّرت إسرائيلُ تحذيرها الإدارةَ السورية من إيذاء دروز سورية، وتظن أنها للتوغل في مجتمعهم ليس عليها أن تبدأ من الصفر، فالروابط مع المجتمع الدرزي داخل دولة الاحتلال قوية، وقد تردد أن تنظيم رجال الكرامة تلقّى تمويلاً من مجتمعهم هناك لشراء أسلحة في أثناء الصراع مع الجهاديين في السويداء، وقد تستأنف إسرائيل تقديم مساعدات “إنسانية” مستوحاة من مبادرة “حسن الجوار” (2012)، التي انتهت بعد استعادة النظام السوري السيطرة في الجنوب (2018)، وأعلنت إسرائيل برنامجاً تجريبياً يسمح لدروز السوريين بالعمل في الجولان المحتل.
تبرّأت المرجعيات الدرزية في سورية من بيان أعيان من قرية حضر يدعو إلى الاندماج في دولة الاحتلال، أمّا إعلان “المجلس العسكري” في السويداء، الذي تزامن مع مطالبة نتنياهو بإخلاء الجنوب من قوات سلطة دمشق، فقوبل بانتقادات درزية شديدة. محاولات إسرائيل هذه تصطدم بقضية الوحدة السياسية التي تشكّل أهمّيةً قصوى في سورية، لكن المسار يبدو معقداً أمام المجتمع الدرزي الذي يسعى للحفاظ على استقلاليته حذراً من صدمات الماضي. فرغم خطاب وطني يشدّد على الوحدة، فإن المخاوف عميقة، فلا يزال في الذاكرة ما خلّفته الاشتباكات مع جبهة النصرة (سلف هيئة تحرير الشام) من صدمةٍ جماعيةٍ عميقة، وعانى جزء من دروز سورية تحت حكم “الهيئة” في إدلب، خاصّة في جبل السُّمَّاق، منذ 2014. صحيح أن مليشيات درزية رئيسة أعلنت استعدادها للاندماج في جيش موحّد، لكن لا يبدو أن دروز سورية تخلّوا نهائياً عن مطلب اللامركزية، فالثقة في العملية الجارية في دمشق عموماً لا تزال هشّة، وتشكّل جرمانا حالياً بوتقة اختبار للسلم الأهلي المستدام.
العربي الجديد
—————————-
في دلالات ما يحدث بمدينة جرمانا السورية/ علي قاسم
سعي إسرائيل لاستمالة الدروز لم ينجح، فأبناء الطائفة ووجهاؤها سارعوا إلى رفض الوصاية الزائفة ولم يخف عليهم أن إسرائيل تحاول استغلال الوضع في سوريا لتحقيق أهداف شريرة بعيدة المدى.
الثلاثاء 2025/03/04
لم يكن أصحاب أكثر السيناريوهات تفاؤلا يتصورون أن تمر المرحلة الانتقالية في سوريا بمثل هذا الهدوء، وبأقل حجم من الخسائر وردود الفعل.
في بلد طالما نظر إليه العالم على أنه بقعة متفجرة لما يحتويه من طوائف وأقليات، العيون كلها اتجهت إلى منطقة الساحل السوري حيث التواجد المكثف للطائفة العلوية. ما حدث هناك كان مفاجأة للجميع. الحوادث القليلة التي جرت سارع وجهاء الطائفة العلوية وشيوخها إلى تطويقها مندّدين بمن يقفون خلفها، مؤكدين دعمهم للحكومة الانتقالية.
ما حدث مؤخرا في مدينة جرمانا ذات الأغلبية الدرزية وأدى إلى مقتل شخص وإصابة تسعة أشخاص آخرين، لا يختلف في دلالاته عن حوادث مشابهة جرت في الساحل السوري وتم تطويقها. الاختلاف كان في تدخل إسرائيل على الخط، معلنة أنها ستوفر الحماية للطائفة الدرزية.
دموع التماسيح وسعي إسرائيل لاستمالة الدروز في سوريا، لم ينجح. أبناء الطائفة ووجهاؤها سارعوا إلى رفض الوصاية الزائفة. لم يخف عليهم أن إسرائيل تحاول استغلال الوضع الحالي في سوريا لتحقيق أهداف شريرة بعيدة المدى، وأعلنوا بوضوح أنهم قادرون على إدارة شؤونهم وحل مشاكلهم ولا يريدون أيّ تدخل خارجي في الشأن السوري.
قبل الحديث عن الأهداف المخفية لإسرائيل من وراء إصرارها على “حماية” الدروز، قد يكون مفيدا التعريف بالمدينة التي تقع على أطراف الجنوب الشرقي للعاصمة دمشق وتبعد عنها مسافة خمسة كيلومترات؛ “جرمانا”، وهي كلمة آرامية تعني “الرجال الأشداء”، أتي على ذكرها ياقوت الحموي في “معجم البلدان” وابن بطوطة في رحلاته وداود الظاهري في كتابه “الإيضاح”.
لم يتجاوز عدد سكان جرمانا عام 1959 أربعة آلاف نسمة، من طائفة الدروز، وتزايد العدد مع بدء هجرة مكثفة إليها من السويداء، وبشكل أقل من باقي المحافظات السورية، ليصل عدد سكانها الآن إلى أكثر من 650 ألف نسمة، أغلبهم من الدروز والمسيحيين. واستضافت المدينة خلال الحرب في العراق جالية عراقية كبيرة، وتحولت خلال سنوات الأزمة السورية بعد عام 2011 إلى جنة يحتمي بها السوريون، وكان النظام السوري السابق يكتفي بالمراقبة عن بعد، تلافيا لمواجهة غضب “الرجال الأشداء”.
رغم الإرث الوطني البطولي لأبناء الطائفة الدرزية، طالب رئيس الوزراء الإسرائيلي بتيامين نتنياهو في وقت سابق بجعل المنطقة التي يتواجد فيها الدروز، إلى الجنوب من دمشق، منزوعة السلاح، قائلا “لن نسمح للجيش السوري الجديد بالانتشار في هذه المنطقة، ولن نقبل بأيّ تهديد لأبناء الطائفة الدرزية في جنوب سوريا.”
كلام نتنياهو جوبه بمظاهرات في درعا والسويداء، وردد المشاركون فيها هتافات مناوئة، من قبيل: “حوران (المنطقة الجنوبية من سوريا) حرة حرة، نتنياهو اطلع برة”، و”نتنياهو يا طماع، سوريا ما رح تنباع”، و”اللي بقسم بلده خاين”.
تهديدات مثل هذه لم تكن تطلق ضد إسرائيل أيام حكم الأسد الاب والابن لسبب بسيط، أن إسرائيل لم تكن تشعر بالخطر خلال حكمهما. في الحقيقة، إسرائيل كانت تعتبر نظام بشار الأسد، رغم عداوته المعلنة وحديثه الدائم عن محور المقاومة، أكثر استقرارا، ويمكن التنبؤ بتصرفاته مقارنة بالوضع الحالي مع حكومة أحمد الشرع.
شكل سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024 مفاجأة أربكت إسرائيل وفضحت أطماعها في سوريا، حيث سارع جيش الاحتلال الإسرائيلي للتوغل في القنيطرة واحتلال قمة جبل الشيخ السوري.
ولم يخف نتنياهو مخاوفه عندما قال بوضوح إن سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر الماضي لم يكن في “صالح إسرائيل،” وفي اجتماع أسبوعي لحكومته قال بأسى “لم نحصل على الزهور عند سقوط نظام بشار الأسد، لكن لا مشكلة (…) لم نسمح باستخدام الأراضي السورية لمهاجمتنا.” وزعم أن دولة الاحتلال الإسرائيلي أوقفت محاولات إيران لدعم نظام بشار الأسد، واعترف أن هذا السقوط أدى إلى تغيير خريطة الشرق الأوسط.
ضمان أمن إسرائيل، وألاّ تعود سوريا لتشكل تهديدا لها، ترجمته إسرائيل إلى مئات الغارات التي شنتها على مواقع عسكرية في العاصمة دمشق والعديد من المدن الأخرى، ملحقة تدميرا واسعا في البنية العسكرية للنظام السابق.
إسرائيل ترى أن حكومة أحمد الشرع غير مستقرة وتواجه تحديات كبيرة في إدارة التعددية والتنوع في سوريا، وهو ما أكده وصف وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر لحكومة الشرع قائلا إنها “جماعة إرهابية إسلامية من إدلب استولت على دمشق بالقوة،” مؤكدا أن إسرائيل لن تتنازل عن أمنها على الحدود.
براغماتية أحمد الشرع وموقفه المسالم ورغبته في عدم الاصطدام مع الداخل ودول الجوار لم تقنع اليمين الإسرائيلي، الذي فضل التعامل معه بناء على نواياه غير المعلنة، والتي افترضت إسرائيل أنها لن تكون في صالحها في نهاية الأمر.
إسرائيل لا تريد أن تنسى أن أحمد الشرع هو أبومحمد الجولاني، قائد هيئة تحرير الشام، الذي شهدت سوريا خلال فترة قيادته صراعات معقدة وصفتها بالدموية، وتقول إن الشرع يتبنى اليوم، مكرها، نهجا براغماتيا يسعى من خلاله لتحقيق أهدافه السياسية دون الدخول في صراعات غير ضرورية، وأن هذا النهج ساعد الشرع على كسب دعم محلي ودولي لتحقيق الاستقرار في سوريا، إلا أنه لن يضمن أمن دولة إسرائيل وسلامتها.
بناء على هذا التحليل، ومن وجهة نظر نتنياهو وحكومته، تشعر إسرائيل بتهديد أكبر بوجود حكومة أحمد الشرع مقارنة بنظام بشار الأسد، وتعزو ذلك إلى ما قالت إنه عدم استقرار داخل سوريا وإلى التحديات الأمنية الجديدة التي تواجهها الحكومة الانتقالية في المنطقة، وهي ترى أن موقفه المسالم مجرد سياسة تكتيكية مؤقتة تتيح له تحقيق أهداف سياسية وتنموية.
بالطبع، من الناحية القانونية والأخلاقية، لا ينبغي لأيّ دولة أن تتعامل مع الأفراد أو الدول الأخرى بناء على افتراضات ونوايا غير مؤكدة. العلاقات الدولية والسياسات الخارجية يجب أن تستند إلى أدلة وحقائق موثوقة، وليس إلى شكوك وتخمينات وظنون.
لكن، ما يحدث في الواقع السياسي شيء مخالف تماما، الدول غالبا ما تتخذ قراراتها بناء على تقييمات المخاطر والتهديدات المحتملة. إسرائيل، مثل أيّ دولة أخرى، تتخذ إجراءات احترازية بناء على تاريخ الأفراد وسجلّهم السابق، حتى لو لم يكن هناك دليل قاطع على سوء نواياهم الحالية.
واضح أن إسرائيل تفضل التعامل مع أعداء ضعفاء لا يمكن التنبؤ بردود أفعالهم، على التعامل مع أصدقاء عاقلين ولكن أقوياء.
لإكمال فصول المسرحية، تحاول حكومة تل أبيب الضغط بكامل قوتها وتعمل – عكس ما هو متوقع منها – على إقناع الولايات المتحدة بقبول استمرار بقاء قاعدتين عسكريتين لروسيا في مطار حميميم وميناء طرطوس على الساحل السوري، فهذا يمنحها مبررات للإبقاء على التوتر على الحدود، وإبقاء سوريا معزولة عن الدول العربية التي لا ترحب بوجود قواعد عسكرية روسية في المنطقة.
ما تريده الدولة العبرية هو إقناع العالم بوجود مخاطر جدية تهدد وجودها وتبرّر بالتالي ترسانتها العسكرية وتكسبها التعاطف.
كاتب سوري مقيم في تونس
العرب
————————————
سوريا وحقل الألغام/ عالية منصور
آخر تحديث 01 مارس 2025
لطالما كانت عبارة “ظروف استثنائية” تُستعمل من قبل الأنظمة العسكرية والديكتاتورية لإحكام قبضتها على البلاد والعباد، ولذلك نرى العبارة في سوريا مستفزة لكثيرين، وخصوصا ممن دفعوا أعمارهم وحياة أبنائهم من أجل انتصار ثورة الشعب السوري وإسقاط نظام الأسد وصولا إلى الحرية والديمقراطية والعدالة.
والحقيقة أن عبارة “ظروف استثنائية” لا تصف الواقع السوري اليوم بشكل دقيق، ولا كلمة تحديات أيضا. ففي صباح الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 سقط النظام السوري وهرب بشار الأسد إلى موسكو ووصل أحمد الشرع إلى قصر الشعب، ومنذ تلك اللحظة بدأ الواقع السوري يتكشف أمام الجميع أكثر وأكثر، فرغم الانتصار العظيم والاحتفالات وعودة سوريا إلى أهلها وعودتهم إليها، كان ثمة دمار هائل أكبر بكثير مما كان أي متابع للشأن السوري يدركه.
دمار الحجر، مدن بأكملها مدمرة، ملايين المهجرين، عشرات المقابر الجماعية، عشرات آلاف العائلات التي انتظرت مصير أبنائها المعتقلين ولم يتكشف حتى اليوم، وضع اقتصادي لا تعطيه صفة “سيئ” حقه، مؤسسات لا تشبه المؤسسات، يصح وصف الدولة السورية بالدولة المهترئة.
ومنذ لحظة هروب الأسد لم تتوقف إسرائيل عن شن غاراتها على مخازن ومستودعات سلاح الجيش السوري، ومع الوقت بدأت بالتوغل داخل الأراضي السورية.
تُدرك إسرائيل أن السلطات السورية اليوم غير قادرة على التصدي، ولا هي راغبة بالدخول في أي حروب، ولذلك تستمر بالضغط على السلطات السورية الجديدة لتحقيق مكاسب أكبر، فقد أعلنت إسرائيل انهيار اتفاقية “فك الاشتباك” الموقعة بين البلدين في عام 1974 لحظة انهيار نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، وقالت إن مجلس الوزراء قرر احتلال منطقة جبل الشيخ الحدودية السورية المحاذية للجولان المحتلة.
وصرح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بأن “الجنود السوريين تخلوا عن مواقعهم”، وأنه لن يسمح لأية قوى معادية بالتموضع قرب الحدود بين البلدين، وأن الجيش الإسرائيلي سيكون “القوة التنفيذية” في المنطقة.
لم تكتفِ إسرائيل بالتوغل البري وشن العمليات العسكرية على سوريا، بل بدأت تلعب اللعبة التي تتقنها وسبق وأن لعبتها في لبنان إبان اجتياحها لبيروت عام 1982، وهي زرع الفتنة بين “مكونات” الشعب. خرج نتنياهو قبل أيام مطالبا بإخلاء جنوب سوريا من القوات العسكرية للنظام الجديد بشكل كامل، وقال: “لن نسمح لقوات (هيئة تحرير الشام) أو الجيش السوري الجديد بالدخول إلى المناطق الواقعة جنوب دمشق”، وشدد على أن إسرائيل “ملتزمة بحماية الدروز في جنوب سوريا ولن تتسامح مع أي تهديد لهم”.
لاقت تصريحاته رفضا واسعا من جميع السوريين بما فيهم أغلبية أبناء طائفة الموحدين الدروز، ولا أظن أن شخصا عاقلا يصدق أن نتنياهو يكترث أساسا لسلامة الموحدين أو غيرهم، ولكنه أراد إزكاء فتنة ليستمر في ضغطه على السلطة السورية، وإن كان البعض يلمح إلى رغبته في الاستقواء بنتنياهو لتنفيذ أجنداته السياسية.
يضاف إلى الضغط العسكري والضغط على الداخل السوري، ضغط تمارسه إسرائيل لعدم رفع العقوبات الأميركية عن سوريا، وتناغم واضح بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونتنياهو، ما يزيد من حجم التحديات الهائلة على الوضع الاقتصادي والمعيشي هناك. وإذا ما أضفنا الوضع الأمني الذي لم يستتب بعد في البلاد، حيث يكاد لا يمر يوم دون أن تشن فلول النظام في قرى الساحل السوري عمليات عسكرية على قوى الأمن أو تحاول بث أخبار كاذبة وتتبنى خطابا طائفيا وتدعو لـ”انفصال” الساحل السوري عن سوريا، كما لا يخفى على أحد محاولات إيران للضغط في سوريا، إن كان من خلال الفلول أو من خلال بقايا ميليشيا “حزب الله” على الحدود السورية اللبنانية.
مشكلة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لم تجد طريقها للحل بعد، والتوتر بين “قسد” من جهة والعشائر كما بقية الأفرقاء الكرد من جهة تتصاعد.
خطر “داعش” لا يزال موجودا، وقد أطل برأسه مرات عديدة منذ إسقاط النظام، إضافة إلى السلاح الموجود خارج إطار الشرعية والفصائل التي لا زالت تتمنع عن الانضواء تحت لواء الجيش الجديد.
لا يمكن أن نُطلق على كل ذلك وصف “تحديات” بل حقل ألغام يكاد ينفجر فينا جميعا إن لم نستطع تفكيكه.
وبين كل هذه الألغام، انعقد في قصر الشعب في العاصمة دمشق مؤتمر الحوار الوطني، المؤتمر الذي كنا نتمنى أن يكون أكثر شمولا وأن يدعو إلى مؤتمر وطني تنبثق عنه هيئة تأسيسية ذات صلاحيات ملزمة، ومع ذلك يمكن القول إنه كان أقل من طموحاتنا وأكثر مما توقعنا.
عجلة العملية الانتقالية يجب أن تنطلق، وتفكيك كل هذه الألغام يحتاج إلى حكومة انتقالية من أصحاب الاختصاص، ولكن أيضا ممثلة لجميع السوريين بمختلف توجهاتهم السياسية، لا نملك في سوريا ترف الوقت، ولا “رفاهية” الاستفراد، وعلى السلطة القائمة اليوم كما على من هم خارجها أن يدركوا أن المركب إن غرق سيغرق بالجميع، فبشار الأسد ترك لنا دولة مهترئة متآكلة، والانتقال من سوريا الأسد الى سوريا دولة المواطنة (كما ذكر البيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني) عملية شاقة وتحتاج إلى الجميع.
المجلة
————————–
ليس مطلوباً من طائفة إثبات وطنيتها بعد تهديدات نتنياهو/ رشا النداف
الدولة الجامعة والتمثيل السياسي لتحصين سوريا
03-03-2025
انفتحت سوريا منذ لحظة سقوط نظام الأسد على النقاش السياسي، واختلفنا على كثيرٍ من التفاصيل، آخرها كان مؤتمر الحوار الوطني وآلية انعقاده ومخرجاته؛ أي تحديداً في اليوم الذي صرّح فيه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عن «رغبته بجنوبٍ سوري منزوع السلاح». قبل هذا التصريح، كانت معظم خلافاتنا ذات طبيعة داخلية، لكن لحظة وصول خطر إقليمي متمثّلاً بدخول إسرائيل إلى المعادلة بوضوح، كان يجدر بها أن تكون لحظةً جامعةً.
منذ انتشار تصريحات نتنياهو علت أصواتٌ تطالب أهالي السويداء بإعلان موقفهم منها، معتبرةً أنها لحظتهم المفصلية لـ«إثبات وطنيّتهم وانتمائهم لسوريا». على مدى أربعة عشر عاماً، يجد أهالي السويداء أنفسهم أمام هذه المعضلة؛ معضلة إثبات الوطنية، رغم أن مشاركتهم في الثورة السورية، على اختلاف مراحلها، لا تقل عن أي محافظةٍ أخرى نسبةً إلى عدد سكانها واستراتيجية نظام الأسد في التعامل معها: خرجت السويداء في مظاهرات لا تقل حشداً عن بقية المحافظات إلا بما يتناسب مع عدد سكانها، ومن أهلها شهداء ومعتقلون ومنشقون، وأُسّست فيها كتيبة تابعة للجيش الحر قاتلت النظام بما استطاعت.
اليوم، ورغم أن أحمد الشرع عُيّن رئيساً لسوريا عبر مؤتمر مغلق بحضور عسكري فقط، واستُثنيت منه فصائل السويداء، بقيت أصوات أهلها رافضةً لأيِّ خطاب داخلي طائفي وانفصالي، وطالبت السلطة السورية الجديدة في عدة وقفات الإسراعَ في عملية تشكيل جيش وطني يضم كافة الفصائل، وأوضحوا رفضَهم للمؤسسة الدينية التي تجاوزت دورها الدينيّ منذ سنوات لتلعب دوراً سياسياً مُعزّزاً بالسلاح، وصارت تفرض على أبناء المحافظة قراراتها وتحتكر تمثيلهم. كما طالب المدنيون الفصائلَ بتسليم سلاحها للدولة، والحذر من أي نفَس فرداني قد يجر البلد إلى اقتتال داخلي.
وبعد تصريحات نتنياهو، نظّم أبناء المدينة مظاهرات واحتجاجات، أسوةً بجيرانهم في الجنوب السوري في درعا والقنيطرة، موضحين أنهم لا يهدفون للحصول على «شهادةِ وطنية» أو إثبات سوريتهم أمام بقية السوريين، بل إن مظاهراتهم موجّهةٌ للاحتلال الإسرائيلي.
كذلك لا يوجد في تصريحات الشيخ حكمت الهجري، الذي تُعامله السلطة وليس جميع أبناء السويداء، كممثل سياسيٍّ لهم حين خاطَبته دوناً عن كافة القوى المدنية والسياسية في المحافظة، أي جملة أو حتى إيحاء بطلب التدخل الإسرائيلي لحماية الطائفة الدرزية. أبرز ما قاله الهجري، والذي أُسيء تفُسيره، هو حديثه عن الاستبعاد الذي حدث في المؤتمر الوطني، مُعبّراً عن استياءٍ يشاركه فيه الملايين من السوريين من تحضيرات المؤتمر وآلية انعقاده، مطالباً برقابة دولية تضمن إجراء حوار شامل يُفضي إلى دولة مدنية ويضمن فصل السلطات في سوريا. ثم أكد الهجري في خطابٍ وجهه للسوريين-ات على «البوصلة الوطنية السليمة»، وحذّر من تركة النظام البائد في خلق الفتن واجترار الضغائن بين السوريين.
من أوحى لإسرائيل أن دروز سوريا في خطر؟
لم تقترب هيئة تحرير الشام من الدروز ومناطقهم بسوء منذ لحظة وصولها إلى القصر الجمهوري. وبعد أن حُلّت الهيئة وتشكلت حكومة البشير المؤقتة، لم تَفرِض عناصرَها العسكريةَ على المناطق ذات الغالبية الدرزية، بل على العكس، تحدّث أحمد الشرع في عدة مناسبات على أن فصائل السويداء شاركت في عملية ردع العدوان، وأنها تدير شؤونها الداخلية عسكرياً وأمنياً إلى حين تشكيل جيش وطني. في المقابل، أعربت عدة فصائل رئيسية في المحافظة عن استعدادها لتسليم السلاح والانضواء في الجيش الوطني لحظة تشكيله؛ ولكن هل تشكّل جيشٌ وطني حتى الآن؟ ما جرى كان حالة من تفكيك الجيش والأجهزة الأمنية وإعادة تشكيلهما من فصائل عسكرية محددة بشكلٍ أدّى إلى شعور قطاعات واسعة بأنها تُستبعد من المؤسسات العسكرية. رغم ذلك، ما زالت فصائل السويداء تنتظر تشكيل الحكومة الانتقالية وتعيين وزير دفاع، آملين بأن يتشكّل جيشٌ وطني، والمؤشر على ذلك أن تلك الفصائل لم تتوقف عن التنسيق والتعاون مع السلطة، إذ زار سليمان عبد الباقي وليث البلعوس ومؤنس أبو حلا، كممثلين عن فصائل السويداء، الرئيس الشرع لنقاش التطورات المتسارعة مع إسرائيل والتأكيد على تمسّك أبناء الجبل بوحدة الأراضي السورية ورفض أي تدخل خارجي، كما أكدوا على رفضهم للمحاصصة الطائفية وعلى السعي نحو بناء دولة «ديمقراطية».
الخطر الفعلي ليس على دروز سوريا، بل على سوريا، التي تتجاهل فيها الحكومة الحالية أن قوات سوريا الديمقراطية ما زالت تسيطر على نحو ثلث الأراضي السورية، فاستسهلت إقصاءها من الحوار الوطني بعد أن قاربت المفاوضات على الوصول إلى نتيجة مرضية. كما بقيت السلطة متعنّتةً أمام أصوات المجتمع الدرزي المطالب بمؤتمر وطني يضمُّ القوى السياسية والمدنية عبر آليات وهياكل جمهورية ديمقراطية.
حتى الآن لا تبدو الحكومة معنيةً بالمطالبات، أو ربما غير مدركةً لأهميتها، وهو ما تستغلّه إسرائيل حتماً لتمارس البلطجة على دولة عاجزة عسكرياً واقتصادياً، وتقودها سلطتها إلى عجزٍ سياسي عبر رفضها المشاركة السياسية الجامعة.
مسؤولية الحكومة قبل المسؤولية الاجتماعية
ينتقد كثيرٌ من السوريين والسوريات السلطةَ الجديدة بحذر الراغب في إنجاح التجربة والخائف على ضياع البلد وانزلاقها نحو اقتتالٍ أهلي، متفهمين بما استطاعوا من ترجيح العقل حداثة عهدها وظروف البلاد المُحطَّمة، والتي لا تُحسد سلطةٌ على مهمة إدارتها وإصلاح ما أفسده الأسد فيها. وهنا لن ينفع «التخوين» واستعراضه، بل قد يرفع من كلفة التفاهم مرةً أخرى، لتصل إلى اقتتال أهلي داخلي يطول زمنه ولا يقصر. إن الدعوة للالتفاف حول الدولة اليوم لا يجب أن تتعارض مع نقد سلوكياتها، فلا بدّ من وعيٍّ يؤسّس لكون الشعب يجب أن يبقى دائماً رقيباً على السلطة.
أخطر ما يمكن أن يحدث الآن هو أن تتحول العلاقات السياسية والاجتماعية التي يجب أن تُصاغ ضمن عقد اجتماعي، إلى «علاقة مكونات» و«تطمينات» و«توازنات» و«هدن بين قوى عسكرية»، ولا مبرر للتأخير في مرحلة انتقالية حقيقية، بدلاً من السياسة الفوقية القائمة على الإملاء والتوجيه من السلطة التنفيذية.
لقد أسّس نظام الأسد لجذور شِقاق عميقة في البنية السورية، وتجاهُل ذلك على أسس حالمة بأن لا طائفية في سوريا و«طول عمرنا عايشين مع بعض» قد يفاقم هذا الشِقاق، ويؤسس هذا التجاهل اليوم لسلطوية جديدة تفرض تمثيلها على كل السوريين. قد لا يكون مُصيباً السعي لتمثيلنا كـ«مكونات» في المؤتمر الوطني، سواء كنا دروزاً أم علويين أم كُرداً أم غير ذلك، لكن لا يمكن أيضاً السكوت عن استعمال لغة تخوينية حيال عدم الانصياع لما تمليه السلطة، وطلب الرضوخ الأعمى والاكتفاء بالـ«التطمينات»، خاصة وإن كانت خارج حدود الديمقراطية، الكلمة التي تفادت السلطة استعمالها ما استطاعت. ليس من المنطقي أن تفترض السلطة أننا مجتمع متشابه، متجاهلةً التوترات الطائفية والقومية، ومعتبرةً أن الكتلة البشرية الأكبر من سكان البلاد متماهيةً مع ذلك. وبوضوح أكثر، لا يمكن أيضاً أن تعامل السلطة السكان السنة أنفسهم على أنهم كتلة مصمتة متفقة ومتماشية مع إرادتها، وكأنهم ليسوا أيضاً موزعين بين ديمقراطيين وليبراليين وإسلاميين وعلمانيين وملحدين وخلائط من هذه التوجهات، ناهيك عن السنة الراضين بشكل السلطة دوناً عن أدواتها.
سوريا اليوم أضعف اقتصادياً وعسكرياً من أن تكون قادرة على مواجهة التحديات الخارجية والداخلية، والطريق الوحيد للبدء بمرحلة بناء الدولة، ولتفادي مزيدٍ من العدوان الإسرائيلي، هو عبر التخلص من العجز السياسي أولاً. إن التحالف الطبيعي والمنطقي للسوريين هو مع السوريين أنفسهم، وعلى الحكومة أن تقود المرحلة بهذا الاتجاه عبر مشروع وطني جامع، يعترف بتعقيدات المسألة الكردية، ويضمن بخطوات عملية عدم تكرار ماضي الكرد مع نظام الأسد من قمع وترهيب وحرمان من أبسط حقوق المواطنة؛ ويمنع الأحداث الانتقامية التي تكررت في الساحل وحمص عبر وضع مسار عدالة انتقالية واضح؛ ويستمع للأصوات والقوى المدنية والسياسية في السويداء، وغيرها، والقيام بإجراءات تعترف بتنوع السوريين واختلافهم، وتضمن التمثيل السياسي والتعددية والمشاركة السياسية وتطبيق آليات عدالة تجبر ضرر الضحايا وتفتح الباب لطرد الأحقاد.
موقع الجمهورية
—————————-
مخططات نتنياهو في السويداء وجرمانا… محاولة لإجهاض الدولة السورية/ أحمد زكريا
2025.03.04
بعد سنواتٍ من الحرب والدمار، استطاع الشعب السوري أن يفتح صفحةً جديدةً بإسقاط النظام البائد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، لتبدأ رحلة بناء دولةٍ وليدةٍ تسعى لاستعادة عافيتها واستقرارها.
لكن هذا الانتصار لم يَرق للكيان الصهيوني، الذي بدأ يَحوك مخططاته لتقويض هذه الدولة الناشئة بشتى الوسائل، سواء عسكرياً أو سياسياً أو إعلامياً، فما الذي يدفع الاحتلال الإسرائيلي إلى اتخاذ هذا الموقف العدائي؟ وكيف يواجه الشعب السوري هذه التحديات؟
منذ اللحظة الأولى لسقوط نظام الأسد السابق، سارعت إسرائيل إلى قصف مئات الأهداف العسكرية السورية، بما في ذلك مخزونات الأسلحة الاستراتيجية التي كانت تابعةً للجيش السابق، وكان الهدف واضحاً: منع السلطة الجديدة من السيطرة على هذه الأسلحة واستخدامها لتأمين الحدود وضبط الأمن الداخلي.
هذا التدخل العسكري لم يكن مجرد ردّ فعلٍ عشوائي، بل جزءاً من استراتيجيةٍ مدروسةٍ لإبقاء سورية ضعيفةً عسكرياً، عاجزةً عن مواجهة التهديدات الخارجية أو حتى فرض سيادتها على أراضيها. واحتلالُ إسرائيل للمنطقة العازلة السورية، مُعلِنةً انهيار اتفاقية فضّ الاشتباك لعام 1974، يعزّز هذا التوجّه، مما يثير تساؤلاتٍ حول نواياها الحقيقية.
على الصعيد السياسي والإعلامي، لجأت إسرائيل إلى أسلوبها المعتاد في استغلال التنوع العرقي والديني لسورية كمدخلٍ للفتنة، فتصريحات رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الحرب يسرائيل كاتس بشأن “حماية الأقلية الدرزية” في حال تعرضها للخطر لم تكن سوى ذريعةٍ للتدخل في الشؤون الداخلية السورية.
بل إن إعلان نتنياهو أن الجيش الإسرائيلي سيحمي سكان جرمانا بريف دمشق، متوعداً بضرب أي قوةٍ أمنيةٍ سورية تحاول فرض السيطرة هناك، يكشف عن محاولةٍ لفرض وصايةٍ على مناطق محددة بحجة “الحماية”.
بلا شك، فإن هذه التصريحات أثارت غضب أهالي السويداء، الذين خرجوا في مظاهراتٍ رافضةٍ للتدخل الصهيوني، مؤكدين على وحدة التراب السوري ورفضهم لأي وصايةٍ خارجية.
يبدو أن الإعلام الصهيوني يلعب دوراً موازياً في تضخيم هذه الرواية، محذراً من السماح لأي قوةٍ عسكريةٍ سورية بالاقتراب من مناطق الدروز، وهو ما يعكس سعياً واضحاً لخلق انقساماتٍ داخلية، لكن الشعب السوري، بوعيه المتزايد، أدرك أن هذه التصريحات ليست سوى محاولةٍ لجرّ سوريا إلى “حربٍ أهلية”، خاصةً بعد أن أثبتت المظاهرات في دمشق والسويداء تماسك المكونات السورية في مواجهة هذا التهديد.
لم تكتفِ إسرائيل بالتدخل العسكري والسياسي، بل عمدت إلى دعم حركات التمرد داخل سوريا لخلق حالةٍ من الفوضى، فإعلان دعمها للأكراد في شمال شرق الفرات، على سبيل المثال، يهدف إلى إضعاف سلطة الدولة الجديدة على كامل أراضيها. وهذا الدعم ليس جديداً، بل يندرج ضمن استراتيجيةٍ طويلة الأمد تهدف إلى تقسيم سوريا وإبقائها دولةً فاشلةً، عاجزةً عن تشكيل أي تهديدٍ للكيان الصهيوني، فكما يؤمن اليمين الإسرائيلي، وفق نظرية المستشار السابق لشارون عوديد ينون، فإن قوة إسرائيل تكمن في ضعف جيرانها.
هذا النهج يتقاطع مع مشاريع تقسيمية غربية-إسرائيلية، مثل خطة برنارد لويس التي رسمت خرائط لتفتيت الدول العربية بناءً على التجمعات العرقية والمذهبية، وبالتالي فإن الدعوات “الدرزية” التي تروّج لها إسرائيل ليست سوى جزءٍ من هذا المخطط، الذي يسعى إلى تفكيك النسيج الاجتماعي السوري وإضعاف الدولة الوليدة.
ورغم هذه التحديات، أظهر الشعب السوري تماسكاً لافتاً. المظاهرات في السويداء ودمشق لم تكن مجرد ردّ فعلٍ عابر، بل تعبيراً عن وعيٍ شعبيٍّ بأهمية الوحدة الوطنية، فقائد حركة “رجال الكرامة” في السويداء أكّد رفضَ أيّ وصايةٍ خارجية، مشدداً على أن سورية موحّدةً هي الهدف الأسمى، وهذا الوعي يمتدّ إلى جميع المكوّنات، التي رفضت الوقوع في فخّ الفتنة الصهيونية، مدركةً أن استقرار الدولة وإعادة إعمارها هما الردّ الأقوى على هذه المخططات.
وعلى الصعيد السياسي، تحرّكت الحكومة الجديدة بحنكةٍ لكسب الاعتراف الدولي، وهو ما أثار استياء إسرائيل، وهذا النجاح الدبلوماسي، الذي يمهّد لدعمٍ اقتصاديٍ لإعادة الإعمار، يعزّز شرعية الدولة الوليدة ويجعل التدخل العسكري الصهيوني المباشر أمراً مستبعداً، خاصةً مع تماسك الشعب السوري للدفاع عن وطنه.
بعض الأصوات ترى أن الحلّ يكمن في المشروع الكردي الذي تدعمه “قسد”، معتبرةً أن له حقاً تاريخياً في المناطق الغنية اقتصادياً بشرق الفرات، لكن هذا الطرح يتناقض مع واقع الدولة السورية الموحّدة، التي تؤكد السلطات الجديدة على حقوق جميع الطوائف في إطارها، فأيّ انفصالٍ أو تقسيمٍ سيخدم فقط أجندة إسرائيل والغرب، ولن يحقّق الاستقرار المنشود.
إسرائيل، بقيادة نتنياهو، لن تتجاوز حدود التصريحات والتدخلات المحدودة، لأنها تعلم أن الشعب السوري المتكاتف قادرٌ على إفشال مخطّطاتها، والدولة السورية الجديدة، التي حظيت بقبول غالبية المجتمع الدولي، تملك اليوم فرصةً تاريخيةً لإعادة بناء نفسها، شريطة أن يظلّ شعبها متمسكاً بوحدته وواعياً للمؤامرات التي تحاك ضدّه، ففي النهاية، لن تكون القوة العسكرية أو الدعم الخارجي وحدهما كفيلين بالانتصار، بل إرادةُ شعبٍ يرفض التقسيم ويسعى لاستعادة كرامته وسيادته.
عندما ننظر إلى مساعي بنيامين نتنياهو تجاه الدروز في سوريا، يتبادر إلى الذهن سؤالٌ مشروع: هل يسعى نتنياهو فعلاً لحماية الدروز، أم أن الأمر مجرد لعبةٍ سياسيةٍ تهدف إلى توريطهم، واستغلالهم، وحتى تدميرهم معنوياً لتحقيق أهدافٍ أكبر؟ لنكن صريحين، فالتاريخ يعلّمنا أن الدول، وإسرائيل ليست استثناءً، لا تتحرك عادةً بدافع الإنسانية، بل بدافع المصلحة، والمصلحة هنا تبدو واضحةً: إضعافُ سوريا عبر دقّ الأسافين بين مكوّنات شعبها، وفق مبدأ “فرّق تسد” الذي أثبت فعاليته عبر العصور.
لطالما راهنت إسرائيل على مشاريع تفكيك سوريا، وكان أبرزها في السابق الرهان على الوحدات الكردية كقوةٍ قادرةٍ على تقطيع أوصال البلاد، لكن مع تراجع هذا الرهان لأسبابٍ سياسيةٍ وعسكرية، تحوّلت الأنظار نحو مدخلٍ جديد: الدروز.
إن تردد الدروز في حسم موقفهم تجاه التغيرات الأخيرة في سوريا، سواءٌ بالانضمام إلى الإدارة الجديدة أو مواجهتها، يمنح إسرائيل هامشاً ذهبياً للتلاعب بهذا الواقع.
لنطرح السؤال بصراحة: متى كانت الدول، وبالأخصّ إسرائيل، تتعامل بمبدأ الإنسانية؟ وما الضيم الكبير الذي وقع على أهل السويداء حتى يُقال إن هناك حاجةً لـ”حمايتهم”؟ الحقيقة أن القصة أعمق من مجرد شعارات، فأهل السويداء، بوطنيتهم التي لا تُنكَر، يقفون اليوم على محكّ اختبارٍ وطنيٍ حقيقي، فهم ليسوا بحاجةٍ إلى “حماية” خارجيةٍ بقدر ما هم بحاجةٍ إلى وحدةٍ داخليةٍ تحميهم من الوقوع في فخّ الاستغلال.
سوريا الموحّدة، بكل مكوّناتها، تشكل خطراً وجودياً على إسرائيل، وهذا ليس افتراضاً بل حقيقةٌ تاريخية، ولهذا لا يمكن قراءة مساعي نتنياهو تجاه الدروز إلا كجزءٍ من استراتيجيةٍ أوسع تهدف إلى تأجيج الانقسامات الداخلية في سوريا، ليس فقط لإضعافها بل لإبعادها عن أي مواجهةٍ محتملةٍ مع إسرائيل.
الدروز هنا ليسوا هدفاً للتدمير المباشر، بل أداةٌ يمكن تطويعها لخدمة المصالح الإسرائيلية، كما حدث مع دروز فلسطين الذين جُنّدوا تاريخياً ليكونوا جزءاً من النسيج السياسي والعسكري للدولة العبرية.
في النهاية، دعمُ إسرائيلَ للدروز في سوريا ليس سوى ورقةَ ضغطٍ ودعايةٍ سياسيةٍ تُدار بعناية، أي أن نتنياهو لا يريد “حماية” الدروز بقدر ما يريد استغلالهم لتعزيز الفوضى وتقويض وحدة سوريا، والسؤال الذي يبقى معلّقاً: هل سينجح في ذلك، أم أن وعيَ أهل السويداء وتمسّكهم بوطنيتهم سيفشل هذه اللعبة؟ الجواب يعتمد على الدروز أنفسهم، لا على نتنياهو ونواياه.
تلفزيون سوريا
—————————-
تحطيم مشاريع تقسيم سوريا يبدأ من شمالها/ محمود علوش
2025.03.03
في الوقت الذي تشق فيه سوريا طريقاً وعراً للعبور نحو الدولة الجديدة، تبرز التحركات العدوانية الإسرائيلية كخطر كبير يُهدد تفكيك سوريا. إن حديث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن جنوب سوريا كمنطقة منزوعة السلاح ومنع الجيش السوري الجديد من الانتشار فيها وعدم تسامح إسرائيل مع أي تهديد لدروز سوريا، ثم حديث وزير خارجيته عن تهديدات تواجه بعض المكونات السورية الأخرى مثل العلويين والأكراد، تُشير إلى أن دوافع التحركات العدوانية الإسرائيلية في سوريا تتجاوز مواجهة التهديد الأمني المزعوم لها إلى تفكيك الكيان السو
في الوقت الذي تشق فيه سوريا طريقاً وعراً للعبور نحو الدولة الجديدة، تبرز التحركات العدوانية الإسرائيلية كخطر كبير يُهدد تفكيك سوريا. إن حديث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن جنوبي سوريا كمنطقة منزوعة السلاح ومنع الجيش السوري الجديد من الانتشار فيها وعدم تسامح إسرائيل مع أي تهديد لدروز سوريا، ثم حديث وزير خارجيته عن تهديدات تواجه بعض المكونات السورية الأخرى مثل العلويين والأكراد، تُشير إلى أن دوافع التحركات العدوانية الإسرائيلية في سوريا تتجاوز مواجهة التهديد الأمني المزعوم لها إلى تفكيك الكيان السوري والعمل على إبقاء سوريا دولة ضعيفة وغير قادرة على بسط سيادتها على جميع أراضيها. ولا يجد المسؤولون الإسرائيليون حرجاً في التعبير عن هذه الأهداف.
في الثامن والعشرين من فبراير شباط الماضي، كشفت وكالة رويترز أن إسرائيل تضغط على الولايات المتحدة لإبقاء سوريا ضعيفة وبلا قوة مركزية من خلال السماح لروسيا بالاحتفاظ بقاعدتيها العسكريتين هناك لمواجهة النفوذ التركي المتزايد في البلاد. لا يُخفى أن إسرائيل ترى في سوريا الضعيفة والتي تنهشها النزعات الانفصالية على الأطراف أكثر فائدة لها من سوريا موحدة وقادرة على استعادة عافيتها من الحرب. مع ذلك، هناك حقيقتان ينبغي أخذهما بعين الاعتبار عند تقييم حجم الخطر الإسرائيلي على سوريا. الأولى، أن إسرائيل يُمكن أن تُضفي مزيداً من التحديات على التحول وتستطيع الاحتفاظ باحتلالها لأجزاء جديدة من سوريا بعد الإطاحة بنظام الأسد ومواصلة ضرب ما تبقى من أصول عسكرية سورية، لكنّها غير قادرة على فعل أكثر من ذلك. والحقيقة الثانية أن طموحات إسرائيل لتفكيك الكيان السوري تستمد قوتها بدرجة أساسية من حالة قسد في الشمال.
حقيقة أن معالجة ملف قسد لا يُمكن أن تتم في إطار سوري بحت بالنظر إلى ارتباط هذه المسألة بصراع تركيا مع حزب العمال الكردستاني وبالوجود العسكري الأميركي الذي يُشكل حماية لمشروع الإدارة الذاتية في مناطق الجزيرة السورية، فإن المعالجة مُعقدة وقد تستغرق بعض الوقت. مع ذلك، هناك ضوء ظهر في النفق مؤخرا مع اكتساب عملية السلام الجديدة بين تركيا وحزب العمال الكردستاني زخماً قوياً بدعوة عبد الله أوجلان للتنظيم إلى حل نفسه والتخلي عن السلاح والأطروحات الراديكالية. لقد سارع مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية إلى الترحيب بهذه العملية لكنّه نأى بقسد عن دعوة أوجلان لإلقاء السلاح. ويبدو هذا النأي مفهوماً بالنظر إلى أن قبول الدعوة يعني اعترافاً صريحاً من عبدي بأن الوحدات الكردية ذراع سوري لحزب العمال الكردستاني ولتجنب أي التزام بالتخلي عن السلاح لعدم إضعاف وقف الوحدات التفاوضي بخصوص مستقبل وضعها بعد التحول السوري.
من المعلوم أن هناك مفاوضات تجريها قسد مع الإدارة السورية الجديدة للتوصل إلى تسوية لوضعها. وهي تجري بالتوازي مع سياقين، الأول التنسيق التركي السوري والثاني مفاوضات تركية أميركية. ويُعطي توقيت دعوة أوجلان مؤشراً على جدية المسار التفاوضي بخصوص قسد. وإذا تحلى مظلوم عبدي بواقعية أوجلان في قراءة الحالة الكردية الإقليمية والظروف الإقليمية المتحولة المؤثرة عليها، وتخلى عن رهانات أثبتت التجربة أنها خاسرة، فإن فرص التوصل إلى تسوية لملف قسد ستُصبح كبيرة.
مع ذلك، لا يبدو عبدي في وضع يسمح له التفكير في الكيفية التي يُمكن فيها أن يُحقق أقصى قدراً من المكاسب وفرض شروطه على الإدارة السورية. فالولايات المتحدة في ظل إدارة الرئيس دونالد ترمب تُظهر اهتماماً أقل بالحفاظ على علاقاتها بالوحدات الكردية وتميل إلى إبرام تسوية مع تركيا بخصوص ملف قسد. كما أن إدارة الرئيس أحمد الشرع أصبحت أكثر تمكناً في الداخل وتُعزز بشكل متزايد القبول الدولي لها.
إن التسوية السياسية لملف قسد هو الخيار الأفضل والأقل كلفة على سوريا وتركيا وعلى أكراد سوريا كذلك. لكنّه بعد إعلان نتنياهو عن رؤية إسرائيل لسوريا الجديدة كدولة ضعيفة تنهشها المشاريع الانفصالية، فإن حسم ملف قسد أصبح حاجة أمن قومي لسوريا لأن استمرار هذه المسألة لفترة أطول لن يؤدي سوى إلى رفع مخاطر تفكيك الكيان السوري. على الرغم من أن قدرة إسرائيل على تفكيك سوريا ضعيفة للغاية بالنظر إلى أن تأجيج النزعة الانفصالية في الجنوب لا يحظى بقبول بين الدروز، إلاّ أن المشروع الإسرائيلي يستمد قوته بدرجة رئيسية من حالة قسد في الشمال لأن تمكن مشروع الوحدات الكردية سيُظهر ضعف قدرة سوريا في استعادة سيادتها على جميع أراضيها وسيُشكل مُحفزاً قوياً للأطراف الساعية إلى تفكيك سوريا على نطاق أوسع. إن معالجة التهديدات التي تواجه وحدة سوريا والتعامل مع المشروع الإسرائيلي يبدآن من استعادة السيادة الوطنية على مناطق الجزيرة السورية. وحتى في الوقت الذي تُعزز فيه عملية السلام الجديدة بين تركيا وحزب العمال الكردستاني من فرص التسوية السياسية لملف قسد، فإن الرسالة التي سيتعين على دمشق وأنقرة إيصالها إلى قسد أن التسوية السياسية أفضل الخيارات ولكنها ليست الخيار الوحيد.
تلفزيون سوريا
—————-
سياقات التصعيد الإسرائيلي بسوريا وخيارات الإدارة الجديدة/ فراس فحام
4/3/2025
في أواخر فبراير/شباط الماضي، ارتفع التصعيد الإسرائيلي تجاه سوريا بشكل غير مسبوق، حيث توغلت قوات إسرائيلية في الجنوب السوري تزامنا مع تنفيذ غارات جوية استهدفت مواقع متعددة في درعا وريف دمشق.
ووصلت عشرات الآليات الإسرائيلية إلى بلدة البكار في ريف درعا الغربي وفجّرت ثكنة عسكرية، إضافة إلى اقتحامها بلدة جبا بريف القنيطرة. كما قصفت طائرات إسرائيلية ثكنة عسكرية أقامتها وزارة الدفاع السورية في تل الحارة بريف محافظة درعا.
وفي مطلع مارس/آذار الجاري، نفذت الطائرات الإسرائيلية غارات جديدة استهدفت ثكنات عسكرية سورية في محافظتي طرطوس واللاذقية، توازيا مع توغل جديد في ريفي درعا والقنيطرة بعمق يصل إلى 12 كيلومتراً.
وفي سياق متصل، قالت إذاعة الجيش الإسرائيلي، إن إسرائيل أقامت بهدوء شديد منطقة أمنية داخل الأراضي السورية، مشددة على أن الوجود الإسرائيلي في سوريا لم يعد مؤقتا، حيث يتم بناء 9 مواقع عسكرية بالمنطقة الأمنية.
وأضافت أن 3 ألوية تعمل هناك مقارنة بكتيبة ونصف الكتيبة قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأكدت أن الجيش يخطط للبقاء بسوريا طيلة عام 2025.
أثار هذا التصعيد الإسرائيلي المخاوف من وجود نية لتوغل أوسع في الجنوب السوري، خاصة وأن هذه الخطوات سبقها مطالبة واضحة من الحكومة الإسرائيلية للإدارة السورية بالانسحاب من كامل جنوب سوريا.
سياقات التصعيد
جاء هذا التصعيد ضد سوريا في وقت يستعد فيه رئيسها أحمد الشرع للمشاركة في القمة العربية الطارئة في القاهرة، والمخصصة لمناقشة اتخاذ موقف عربي موحد من الخطة التي طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتعلقة بتهجير سكان غزة إلى إحدى البلدان العربية.
من جهة أخرى، فإن التوغل الإسرائيلي والقصف الجوي الواسع انطلق بعد ساعات فقط من الإعلان عن مخرجات الحوار الوطني السوري الذي شكل خطوة مهمة لمنح الشرعية الداخلية للإدارة السورية بمشاركة مختلف أطياف الشعب السوري، والتوافق على جملة من المخرجات.
لكن يبدو أن إسرائيل لا ترغب في استقرار الأمر للإدارة الحالية لتخوفها من التغير الذي طرأ على علاقات سوريا الإقليمية، وهذا ما كشفته تسريبات نشرتها وكالة رويترز في 28 فبراير/شباط الماضي.
ونقلت عن مصادر بأن إسرائيل تضغط على الولايات المتحدة من أجل إبقاء القواعد الروسية في سوريا لمنع استمرار تمدد تركيا في ظل العلاقة المتوترة بين تركيا وتل أبيب بعد حرب غزة.
وتقف تركيا وإسرائيل على طرفي نقيض في الملف السوري، حيث تتمسك أنقرة بوحدة الأراضي السورية وهذا ما تكرره في تصريحات المسؤولين الأتراك الرسمية، في حين تدعم إسرائيل فكرة سوريا الفدرالية.
وفي حين تسعى الإدارة السورية لإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية من جديد، تستهدف الهجمات الإسرائيلية مواقع تتبع وزارة الدفاع السورية الجديدة.
وتستعد إسرائيل لصدام مباشر قد يكون مع تركيا -وفق الخبير العسكري العميد إلياس حنا- الذي قال إن تل أبيب تخشى اتفاقا تركيا سوريا في مجال الدفاع يتيح تسليح الجيش السوري الجديد وإنشاء قواعد عسكرية تركية داخل سوريا، “لذلك إسرائيل تريد استباق ذلك وخلق واقع جديد”.
هروب إلى الأمام
ومن ناحية أخرى على صعيد الداخل الإسرائيلي، يتعرض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لاتهامات من معارضيه -أمثال يائير غولان زعيم حزب الديمقراطيين- بأنه يتهرب من الدخول في المرحلة الثانية لاتفاق غزة لأنه لا يريد إنهاء الحروب، وهو ما قد يعني أنه يسعى إلى توجيه الأنظار إلى الساحة السورية.
وقد أثارت تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول جنوب سوريا جدلاً واسعاً، حيث اعتبرها محللون خطوة إستراتيجية لإعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة، مستغلّة حالة الفوضى وعدم الاستقرار في سوريا، وبدعم مباشر من واشنطن.
وفي خطوة لافتة، بدأت إسرائيل استقبال عمال سوريين في الجولان المحتل، مما أثار غضباً شعبياً داخل سوريا، تُرجم في احتجاجات غاضبة ضد هذه التحركات.
إضعاف السلطة المركزية
سلط الإعلام الرسمي الإسرائيلي بعيد سقوط نظام الأسد الضوء على العلاقات بين تل أبيب وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تسيطر على مناطق عدة في محافظات الجزيرة السورية، كما أطلق وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر تصريحات عدة أكد فيها رغبة تل أبيب في دعم الأقليات في سوريا.
وقبل التصعيد الإسرائيلي الأخير بأيام قليلة، شدد نتنياهو على أن إسرائيل لن تسمح بأي تهديدات للطائفة الدرزية في سوريا، وبعد هذا التصريح بساعات أعلنت مجموعة محلية في بلدة الغارية بمحافظة السويداء عن تشكيل مجلس عسكري يقوده ضابط يدعى طارق الشوفي.
وجاء في بيان الإعلان تأكيد تبني اللامركزية، ويبدو أنها خطوات متلاحقة لإضعاف السلطة السورية المركزية، وهذا ما أكدته التسريبات التي نقلتها وكالة رويترز، حيث أشارت مصادرها إلى أن إسرائيل تسعى لدى ترامب للإبقاء على سوريا ضعيفة وبلا قوة مركزية.
وقد تجلت مساعي إسرائيل لإضعاف الحكومة السورية أيضاً، فيما نقلت تقارير غربية عن محاولة وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر إقناع قرابة 20 دولة أوروبية بعدم رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا.
كما أن الوزير ذاته أدلى بتصريحات، وصف فيها الحكومة الحالية السورية بأنها “إسلامية إرهابية من محافظة إدلب”، مشدداً على أن سوريا لا يمكن إلا أن تكون فدرالية.
وحذرت صحيفة ميدل إيست آي البريطانية من احتمالية أن تكون ما وصفتها “المغامرة الإسرائيلية” تهدف إلى إقامة دولة على امتداد الحدود مع مرتفعات الجولان، إلى جانب دولة أخرى شمال شرقي سوريا الخاضع لسيطرة الأكراد، مما يعني انتهاء الأمر بالرئيس السوري إلى إعلان حكومة في وقت لا يسيطر فيها على أجزاء عدة من البلاد.
تحذيرات من نهج إسرائيلي إستراتيجي
تؤكد إسرائيل أن تحركاتها في سوريا مؤقتة إلى أن يتم ترتيب الأوضاع الأمنية مع الحكومة السورية الجديدة، وسلوك الأخيرة هو ما سيحدد، ما إذا كانت إسرائيل ستستمر في تصعيدها أم لا، كما أكد نتنياهو في وقت سابق، أن بلاده مستعدة لإقامة علاقات طيبة مع السلطات الجديدة في سوريا بشرط أن تمنع النشاط العسكري الإيراني في سوريا.
وناقض ساعر تصريحات رئيس حكومته، مؤكداً أن التفكير في دولة سورية واحدة مع سيطرة فعّالة وسيادة على كل مساحتها أمر غير واقعي، واعتبر أن المنطق هو السعي لحكم ذاتي للأقليات في سوريا وربما مع حكم فدرالي.
وفي مطلع مارس/آذار الجاري، بدأت إسرائيل بالسماح لشحنات مساعدات غذائية بالتوجه إلى القرى والبلدات الدرزية عبر معبري عين التين ومجدل شمس قرب بلدة حضر بريف القنيطرة، وسبقها إعلان السماح للدروز السوريين بالعمل داخل الأراضي الخاضعة لسيطرة إسرائيل.
وفي تماهٍ مع الطرح الإسرائيلي، أكد قائد قسد مظلوم عبدي أثناء ظهوره على قناة (بي بي سي) أواخر الشهر الماضي، رغبتهم في تأسيس دولة لا مركزية تضمن حقوق الكرد، مؤكداً وجود خلافات مع حكومة دمشق.
وكرر عبدي الوصف ذاته، الذي تطلقه إسرائيل على الحكومة السورية الجديدة بأنها “قوة سلفية جهادية”، كما رحب بكل من يقدم الدعم لهم بما فيها إسرائيل التي لها تأثير على أميركا والغرب.
ومن جانبه، يرى الباحث العراقي لقاء مكي أن إستراتيجية إسرائيل تركز على العراق وسوريا باعتبارهما تهديدين محتملين، لأنهما كانا دوماً عمقاً للقضية الفلسطينية، معتبراً أن ما تقوم به تل أبيب من تشجيع لانفصال الدروز والأكراد ليس حرباً نفسية لإشغال الحكم الجديد، بل هو مسعى حقيقي للتقسيم.
واعتبر الباحث في التحليل الذي نشره بشأن التصعيد الإسرائيلي، أن تل أبيب لن تركع لوضع سوريا الراهن، فهي تعتبرها بلداً قوياً وإن بدا متعباً لأنه قد يتعافى بسرعة من المتوقع ويصبح خطراً على إسرائيل.
ولذا، بحسب مكي، فإن إسرائيل تسعى لاستغلال الظرف الراهن وخلق حاجز ديموغرافي بينها وبين سوريا بتأسيس كيان درزي يمتد من حدود الأردن إلى لبنان مروراً بسوريا، معتبراً أن نجاح هذا السيناريو ليس سهلاً نظراً لرفض قسم واسع من دروز سوريا له.
خيارات الإدارة السورية لمواجهة التصعيد
لم تتخذ الإدارة السورية الجديدة إجراءات واضحة حتى اللحظة لمواجهة التصعيد الإسرائيلي، وصدرت إدانة السلوك الإسرائيلي من خلال مخرجات مؤتمر الحوار الوطني السوري.
وأكدت مصادر دبلوماسية في دمشق، أن الإدارة السورية تجري اتصالات مع إدارة ترامب لإقناعها بالضغط على إسرائيل من أجل وقف عدوانها على الجنوب السوري، لكن لا يوجد رد فعل واضح من الإدارة الأميركية أو مؤشرات على إمكانية ممارسة ضغوط على تل أبيب.
ووفقا للمصادر، فإن الإدارة أيضاً تجري اتصالات مع دول إقليمية وعربية لوضع تصور عن آلية التعاطي مع تصعيد إسرائيل، وسيتم مناقشة الملف بشكل أوسع خلال القمة العربية الطارئة المرتقبة في القاهرة.
ومن الواضح، أن التصعيد الإسرائيلي ضد سوريا ارتفع كثيرا بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض، مما يعني أن التعويل على الإدارة الأميركية لضبط سلوك تل أبيب قد يكون فكرة غير واقعية.
وقد توقعت صحيفة جيروزاليم بوست في تحليل لها نشرته، أن الرئيس ترامب سيدعم احتلال إسرائيل للمنطقة العازلة في سوريا، والبقاء فيها سنوات مقبلة، مما سيقلل من أهمية أي ضغوط أخرى ستمارس على إسرائيل بما فيها الضغوط الأوروبية.
المصدر : الجزيرة
———————————-
أهداف إسرائيل الحقيقية في سوريا/ كمال أوزتورك
4/3/2025
إسرائيل هددت بالتدخل لحماية الدروز في منطقة جرمانا جنوب دمشق بعد دخولهم في مواجهات مع القوات الأمنية السورية (وكالة الأناضول)
كان نداء عبدالله أوجلان، الزعيم المؤسس لحزب العمال الكردستاني، في 27 فبراير/ شباط، الداعي إلى حل التنظيم، وإلقاء السلاح، خطوةً ذات تأثير إقليمي.
ولم تمضِ سوى أيام قليلة على هذه الخطوة، التي من شأنها التأثير على توازنات تركيا في العراق، وإيران، وسوريا، حتى جاء رد الفعل الإسرائيلي، بإعلان دعمه للأكراد، والدروز، والعلويين في سوريا.
فقد أعلنت وزارة الدفاع ووزارة الخارجية الإسرائيلية، أن أي تدخل من قِبل حكومة دمشق ضد مجموعة صغيرة من الدروز المسلحين، الذين يرفضون تسليم أسلحتهم، ويخوضون مواجهات ضد القوات الحكومية، سيقابل بهجوم إسرائيلي على دمشق.
ولم يكتفِ وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر بذلك، بل وجّه تهديدًا لحكومة دمشق، محذرًا إياها من التعامل بعدائية مع الأكراد والدروز والعلويين. ورافق هذه التصريحات تصعيد عسكري، حيث استهدف الجيش الإسرائيلي ما يقرب من مئة موقع داخل سوريا خلال يومين.
إسرائيل تسعى إلى زعزعة استقرار سوريا
يبدو أن صعود حكومة أحمد الشرع، بعد الثورة السورية، وحصولها على دعم وقبول إقليمي واسع – باستثناء إيران – لم يكن أمرًا مرحبًا به من قِبل إسرائيل.
لكن ما أزعجها أكثر هو النفوذ التركي المتنامي بشكل غير مسبوق في سوريا والمنطقة، إضافةً إلى الضغط على الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني، والمتمثل في حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، لإلقاء السلاح.
ورغم أن حزب الاتحاد الديمقراطي قد تلقى دعمًا عسكريًا من الولايات المتحدة، فإنه في الوقت نفسه يمتلك ارتباطات وثيقة مع إسرائيل. فقد سبق أن صرّحت إلهام أحمد، مسؤولة العلاقات الخارجية في قوات سوريا الديمقراطية – التي تضم فصائل منبثقة عن حزب العمال الكردستاني-، بأن إسرائيل يجب أن تكون جزءًا من الحل لضمان أمن سوريا والشرق الأوسط.
في الواقع، تسعى إسرائيل إلى منع سوريا من استعادة استقرارها وقوتها، وذلك من خلال استخدام الدروز في الجنوب، والعلويين في الساحل، والأكراد في الشمال.
وهدفها الآخر هو التصدي لتزايد النفوذ التركي، حيث تؤكد مراكز الأبحاث والمحللون الإسرائيليون والغربيون، أن توسع النفوذ التركي يهدد المصالح الإسرائيلية في المنطقة.
محاولات كبح النفوذ التركي
أدَّت الثورة السورية إلى إعادة تشكيل المشهد الإقليمي، حيث وقفت دول مثل لبنان، العراق، الأردن، مصر، السعودية، قطر، والإمارات في صف دمشق. كما ساهم الضغط الأميركي والإسرائيلي على مصر، الأردن، والسعودية لاستقبال اللاجئين الفلسطينيين المرحّلين من غزة في تعزيز هذا التحالف الإقليمي.
لكن تركيا، التي دعمت المعارضة السورية لسنوات، وجدت نفسها فجأة أمام واقع جديد يمنحها نفوذًا غير مسبوق يمتد حتى حدود إسرائيل.
وقد تفاقم قلق تل أبيب بعد إعلان رئيس الوزراء اللبناني من أنقرة عن بدء مرحلة جديدة من العلاقات الثنائية، مما أثار مخاوف إسرائيلية من تعاظم الدور التركي في المنطقة.
وجاء إعلان حزب العمال الكردستاني عن نيته حل التنظيم وإلقاء السلاح ليعزز موقع تركيا أكثر. فالعراق، الذي لطالما كان ساحة نفوذ إسرائيلي، ينظر بارتياح إلى هذه التطورات. ولمواجهة ذلك، شرعت إسرائيل في تكثيف جهودها لزعزعة استقرار سوريا عبر استغلال ورقة الأقليات.
وفي 2 مارس/ آذار، صرّح وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر بأن “النظام السوري لم يُنتخب من قبل شعبه، بل هو مجموعة من الجهاديين الذين سيطروا على إدلب، ثم اجتاحوا دمشق وبقية المناطق بالقوة. ليس لهم الحق في اضطهاد الأقليات كالدروز، والأكراد، أو العلويين”.
أما في 1 مارس/ آذار، فقد أصدر مكتب الإعلام بوزارة الدفاع الإسرائيلية بيانًا أفاد بأن “رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع يوآف غالانت أصدرا تعليمات بالاستعداد لحماية الدروز في حي جرمانا بدمشق، الذين تعرضوا لهجوم من قوات النظام السوري”.
هل ينحاز الدروز إلى إسرائيل؟
يؤكد خبراء تحدثوا عن الملف السوري، أن الورقة الدرزية التي تلوّح بها إسرائيل ليست سوى خدعة، ولا تمتلك أي مصداقية على الأرض.
يقول ليفنت كمال، مدير تحرير Clash Report، المختص في الشأن السوري: “صحيح أن بعض الدروز لهم أقارب في إسرائيل يعملون في الجيش أو كعمال، لكنهم معزولون عن الطائفة الدرزية الكبرى في سوريا، لبنان، والأردن.
كما أن القيادات الدينية والسياسية الدرزية، وعلى رأسهم وليد جنبلاط، أكدوا التزامهم بالوقوف إلى جانب دمشق، ما يجعل أي تحالف درزي-إسرائيلي أمرًا شبه مستحيل”.
أما الدكتور مصطفى إكيجي، الباحث المتخصص في المعارضة السورية والتكوين العرقي لسوريا، فيرى أن الرهان الإسرائيلي على الدروز بلا جدوى، موضحًا: “جميع العائلات الدرزية الكبرى ترفض التعاون مع إسرائيل. حتى في مرتفعات الجولان، لا توجد سوى بضع قرى صغيرة تقبل بالجنسية الإسرائيلية، أما بقية الدروز فهم عرب يرفضون أي تحالف مع تل أبيب”.
وتزامنًا مع تصاعد التوتر بين دمشق وتل أبيب، أعلن الزعيم الدرزي وليد جنبلاط عزمه زيارة العاصمة السورية للقاء الرئيس أحمد الشرع، في خطوة تهدف إلى التأكيد على التزام الدروز بدعم الدولة السورية، وعدم الانجرار إلى أي تحالفات مشبوهة مع إسرائيل.
هل يمكن للعلويين والأكراد أن يتحالفوا مع إسرائيل؟
تحاول إسرائيل كذلك استمالة النصيريين والأكراد إلى صفها ضد دمشق. لكن وفقًا للمحلل ليفنت كمال، فإن العلويين في سوريا يعانون منذ عقود من التهميش، وحتى في عهد الأسد لم يكن وضعهم الاقتصادي والاجتماعي جيدًا، لذا لا مصلحة لهم في التورط في أي صراع جديد.
أما الدكتور مصطفى إكيجي، فيرى أن إسرائيل ربما تجد بعض القبول داخل وحدات حماية الشعب الكردية (YPG)، لكنها لن تستطيع حشد الأكراد ضد دمشق، موضحًا: “بعد سنوات من الصراع، لا يرغب الأكراد في إشعال جبهة جديدة، خاصة أن غالبية القوى الفاعلة في سوريا، بمن في ذلك العرب، تدعم حكومة الشرع. كما أن هناك انقسامات داخل (YPG) حول دعوة عبدالله أوجلان لحل التنظيم”.
ويضيف: “إسرائيل غير قادرة على تقديم دعم ميداني مباشر لـ (YPG)، مما يجعل خطتها غير قابلة للتطبيق على الأرض”.
لقاء ترامب- أردوغان سيحسم المسألة
بالنسبة لواشنطن، لم تعد سوريا مغرية من الناحية الاقتصادية، إذ إن مواردها النفطية محدودة مقارنة بأوكرانيا، حيث تتطلع الولايات المتحدة للاستحواذ على ثروات ضخمة. لكن إسرائيل نجحت في إقناع واشنطن، عبر لوبياتها، بأن الانسحاب الأميركي من سوريا سيفتح الباب أمام تركيا لتوسيع نفوذها على حساب الأمن الإسرائيلي.
ولذلك، تسعى إسرائيل حاليًا لخلق أزمة داخلية في سوريا عبر تأجيج المسألة الطائفية، بهدف إبقاء واشنطن منخرطة في الملف السوري. لكن رغم هذه المناورات، تبدو الوقائع على الأرض غير مواتية للمخطط الإسرائيلي.
تركيا من جهتها تسعى لإقناع ترامب بتسوية سياسية تدمج (YPG) داخل الجيش السوري الجديد، مما يضمن استقرار المنطقة دون الحاجة لمواجهة عسكرية. ووفقًا للمراقبين، فإن الاجتماع المرتقب بين أردوغان وترامب سيحدد مسار الأحداث في سوريا، وسيؤدي إلى أحد احتمالين:
إما أن تشن تركيا عملية عسكرية ضد (YPG).
أو يتم دمج التنظيم بشكل سلمي في المنظومة السورية الجديدة.
إذا كانت لدى (YPG) نظرة عقلانية، فإنها لن تراهن على إسرائيل، التي لم تجلب سوى الدمار للمنطقة، بل ستسعى لبناء مستقبل مشترك مع سوريا وتركيا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
كاتب وصحفي تركي
الجزيرة
——————————-
كيف تواجه السويداء مطامع إسرائيل
تحديث 04 أذار 2025
صدرت تصريحات إسرائيلية تبنت حماية الدروز في سوريا، خاصة بعد التوتر الذي شهدته مدينة جرمانا بريف دمشق، لكن الموقف في محافظة السويداء جنوبي سوريا، كان مغايرًا لما تريده تل أبيب.
التصريحات الإسرائيلية رُوِّج لها على منصات التواصل، وتحول الأمر إلى اتهام أبناء الطائفة الدرزية خاصة في السويداء بالانفصال عن سوريا.
وعزز الترويج لهذه الفكرة عدم اتخاذ الفصائل العسكرية في المحافظة إجراءات فعلية للانخراط ضمن وزارة الدفاع، شأنها شأن بقية الفصائل العسكرية العاملة سابقًا في إدلب وريف حلب.
ترتبط السويداء مع جرمانا بخلفية دينية، إذ يعيش أبناء الطائفة الدرزية فيها، وهو ما دفع وفودًا من السويداء للتوجه إلى ريف دمشق على خلفية التوتر الأخير.
جربوع والحناوي.. لا للتقسيم
في السويداء، تعد مشيخة العقل لطائفة الدروز هيئة روحية وزعامة دينية متوارثة، يبرز فيها ثلاثة عوائل رئيسية في رأس هرم الزعامة هي: الهجري وجربوع والحناوي، إلى جانب مشايخ عقل آخرين.
وحاليًا مشايخ عقل الطائفة هم: يوسف جربوع وحمود الحناوي وحكمت الهجري.
شيخا العقل حمود الحناوي ويوسف جربوع استنكروا أي حديث حول الانفصال، وأكدوا دعمهم لوحدة الأراضي السورية.
الشيخ حمود الحناوي قال لموقع “نون بوست”، “ما يجري نحن نستنكره ولا نقبل به، نحن سوريون وطنيون لا يمكن أن نخرج عن انتمائنا الوطني”.
وأضاف الشيخ، “نحن لسنا دعاة تقسيم وإذا حدث (أي التقسيم) آخر من يفكر به نحن، إلا إذا غلب علينا الأمر. نحن مع وحدة التراب السوري”.
وبالنسبة للفصائل التي تحدثت عن انفصال، قال الحناوي، “لا أعتقد أنه يوجد فصائل تنفصل عن الدولة ولن نسمح لها، أنا بالنسبة لي شخصيًا لن أسمح كرجل دين وكشيخ عقل ورجل سوري، بالانفصال عن سوريا”.
الشيخ يوسف جربوع ذكر في لقاء له مع شبكة “السويداء 24″، أن الدروز عبر التاريخ وقفوا مع الدولة السورية، “ولم نكن يومًا دعاة انفصال وتقسيم، وندعوا لوحدة الصف والجغرافيا السورية”.
وحول العلاقة مع الدروز في لبنان وفلسطين والجولان، أوضح الشيخ أن علاقات القرابة بينهم لا تدخل في الوضع السياسي، أي أن دروز لبنان وفلسطين لا يتدخلون في الوضع السياسي لسوريا.
الهجري يطالب بإشراك الدول
أما الشيخ حكمت الهجري، فلم يصدر عنه تصريح حول التصريحات الإسرائيلية، لكنه انتقد قبل أيام حكومة دمشق.
وقال الهجري لوكالة “رويترز” في 24 من شباط، “حتى الآن نحن نحترم كل الآراء لكننا لم نرَ القدرة على قيادة البلاد أو تشكيل الدولة بالطريقة الصحيحة”. وأضاف، “نحن نمضي قدمًا في ذلك، على أمل أن تصبح الأمور منظمة أو يحدث شيء جديد بحلول نهاية الفترة الانتقالية”.
وحث الهجري على إشراك الدول المؤثرة في الملف السوري، لضمان أن تسفر العملية السياسية عن دولة مدنية، مع فصل السلطات وسيادة القانون.
ساحة الكرامة ترفض إسرائيل
منذ آب 2023، برز جور ساحة الكرامة (ساحة السير) وسط مدينة السويداء بعد خروج مظاهرات مناهضة لنظام الأسد، وطالبت بسقوطه.
المظاهرات استمرت بشكل أسبوعي في الساحة، إلى جانب مظاهرات ووقفات احتجاجية شبه يومية في مختلف بلدات وقرى السويداء.
متظاهرو ساحة الكرامة ومناطق أخرى في السويداء، خرجوا في وقفات رفضوا فيها التصريحات الإسرائيلية والتدخل في سوريا.
وأكد المتظاهرون وحدة الأراضي السورية وأن السويداء جزء لا يتجزأ من سوريا، وانتقدوا فيها صمت حكومة دمشق على التوغل والتصريحات الإسرائيلية.
متظاهرون في ساحة الكرامة يرفعون لافتات ترفض التدخل الإسرائيلي في سوريا – 25 من شباط 2025 (السويداء 24)
متظاهرون في ساحة الكرامة يرفعون لافتات ترفض التدخل الإسرائيلي في سوريا – 25 من شباط 2025 (السويداء 24)
التصعيد الإسرائيلي تصاعد مع حادثة جرمانا، إذ أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع، يسرائيل كاتس، تعليماتهما للجيش بالاستعداد للدفاع عن مدينة جرمانا.
اقرأ أيضًا: هدوء حذر في جرمانا.. القصة الكاملة للتوتر الأمني
ونقلت وسائل إعلام إسرائيلية منها صحيفة “معاريف”، السبت 1 من آذار، بيانًا صادرًا عن نتنياهو، جاء فيه، “لن نسمح للنظام الإرهابي المتطرف في سوريا بإلحاق الأذى بالدروز”.
وقال نتنياهو وكاتس، إنهما لن يسمحا بإلحاق الأذى بالدروز، “لقد أصدرنا تعليمات لجيش الدفاع الإسرائيلي بالتحضير وإرسال رسالة تحذير حادة وواضحة: إذا آذى النظام الدروز، فسوف نلحق الأذى به”.
ولفت البيان إلى أن إسرائيل ملتزمة بمنع المساس بالدروز في سوريا، “سنتخذ كل الخطوات اللازمة للحفاظ على أمنهم”.
وسبق أن صرح نتنياهو، في 23 من شباط الماضي، بأنه لن يسمح لأي تهديد على الطائفة الدرزية في جنوبي سوريا، في إشارة منه إلى السويداء.
وطالب نتنياهو بنزع السلاح من محافظات درعا والسويداء والقنيطرة، جنوبي سوريا، وعدم دخول الإدارة السورية الجديدة إليها، مضيفًا “لن نتيح لـ(هيئة تحرير الشام) أو الجيش السوري الجديد دخول المنطقة الواقعة جنوبي دمشق”.
——————————–
الموقف الإسرائيلي من سوريا الجديدة: أي دور للإدارة الأميركية؟/ سلمان عز الدين
4 مارس 2025
لا تزال المواقف الإسرائيلية الأخيرة إزاء الأوضاع في سوريا، تحدث أصداء واسعة، سواء على صعيد الأوساط السياسية والاجتماعية السورية، أو على صعيد المنطقة بشكل عام.
ومع استمرار الأعمال العدائية الإسرائيلية، وتصاعد تصريحات مسؤولين إسرائيليين بشأن “ترتيب جديد” يصار إلى تنفيذه في الأراضي السورية، يرى مراقبون أنه يتعين على حكومة دمشق إطلاق حراك دبلوماسي واسع، يستهدف حشد مواقف عربية وإقليمية من أجل الضغط على الإدارة الأميركية، ودفعها إلى التدخل للجم المخططات الإسرائيلية وإيقاف استفزازاتها نحو سوريا الجديدة.
غير أن معلومات ترشح عن موقف إدارة ترامب تشير إلى اتجاه معاكس تتبناه هذه الإدارة بشأن الوضع السوري، فقد أوردت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، في 3 آذار/مارس، أن ترامب نفسه و”في محادثاته مع نتنياهو قد أعرب عن دهشته من عدم استغلال إسرائيل للوضع والاستيلاء على المزيد من الأراضي في الجولان”، الأمر الذي يقلل من واقعية التعويل على موقف أميركي “إيجابي” في الوقت الراهن.
ويخشى الكثيرون أن يمتلك ترامب رؤية معينة إزاء الشأن السوري تشبه تلك التي يمتلكها إزاء القضية الفلسطينية، والتي تجلت مؤخرًا في طرحه (الذي وصفه البعض بالعبثي) حول قطاع غزة. ويتحدث متابعون للسياسة الأميركية عن رؤية ترامب للعالم وللدور الأميركي فيه، مؤكدين أنها تنطوي على صيغة تبسيطية مفادها: حل جميع القضايا العالقة بـ”ضربة سيف” واحدة، دون الأخذ بالاعتبار رغبات الشعوب وتطلعاتها الوطنية ومظلومياتها التاريخية، ومع إهمال تام للسياق التاريخي المعقد لهذه القضايا.
ومن هنا يُخشى من أن تقدم هذه الرؤية دفعا لخطط نتنياهو فيما يخص سوريا، حيث يروج رئيس الحكومة الإسرائيلية لنظرية “الحلول الجذرية والنهائية” لمخاوف إسرائيل الأمنية (الوجودية)، والتي تقتضي “إجراءات عسكرية تستهدف إضعاف الدول المجاورة ونزع أي قدرة لديها على تشكيل أي خطر على المدى البعيد”.
وقد تجلت نظرية نتنياهو في قضم قواته لمزيد من الأراضي السورية، ولا سيما ما كان يسمى المنطقة العازلة، وفي إقامة نقاط عسكرية إسرائيلية فيها. وكذلك عبر اقتراح منطقة عازلة جديدة “كبيرة” تشمل محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء، يُمنع دخول الجيش السوري الجديد إليها.
ومن جهة ثانية لا تزال التصريحات الإسرائيلية الخاصة بـ”دروز سوريا”، تثير ردود أفعال كثيرة بين السوريين، وبين أبناء الطائفة الدرزية في المنطقة.
وفي السياق يأتي الموقف الذي صدر عن الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني، وليد جنبلاط يوم أمس الإثنين، 3 آذار/مارس، حيث حذر السوريين، وأبناء الطائفة الدرزية على الأخص، من “المخطط الإسرائيلي الذي يبتغي جر البلاد والمنطقة إلى حروب أهلية لا تنتهي”.
وحسب مراقبين، فقد كان لافتًا توجيه جنبلاط كلامًا مباشرًا إلى الشيخ موفق طريف، شيخ عقل الطائفة الدرزية في إسرائيل، واتهامه “بالضلوع مع دوائر صهيونية في المخططات التي تستهدف سوريا ودروزها”، وقد استهجن الزعيم اللبناني ادعاء طريف “تمثيل دروز المنطقة”، متحدثًا عن “مشروع كبير يريد استجرار البعض من ضعاف النفوس ليس إلى الحماية كما يدعون بل إلى حرب أهلية لست أدري كيف ستنتهي”.
ويوم أمس، تناقلت وسائل إعلام خبر قيام مجهول برفع العلم الإسرائيلي في إحدى ساحات مدينة السويداء، قبل أن يسارع شبان من المدينة إلى إنزال العلم وإحراقه، وهو ما دفع البعض للحديث عن أصابع إسرائيلية بدأت تتغلغل في المحافظة، في ترجمة لمخاوف جنبلاط الذي كان قد نبه إلى “محاولة المشروع الصهيوني التمدد إلى جبل العرب”.
وأحدثت الأنباء عن إيعاز نتنياهو لجيشه “بالتأهب لحماية جرمانا”، أصداء واسعة، وتوقف السوريون كثيرًا عند ورود عبارة “مستوطنة جرمانا الدرزية” في صحف ووسائل إعلام عبرية، وقال مثقفون وناشطون من مدينة جرمانا لـ”الترا سوريا” إن هذه العبارة تعكس الرؤية الإسرائيلية لوضع الطوائف والأقليات في سوريا والمنطقة، “إذ تماهي بينها وبين الوجود الصهيوني في فلسطين”.
وكانت مشكلة أمنية قد انفجرت في المدينة المحاذية لدمشق، والتي تقطنها أغلبية درزية، عقب اشتباكات بين عناصر من الجيش السوري وأفراد من الفصائل المحلية في المدينة. ويرى المثقفون والناشطون أن التوصل السريع إلى حل للمشكلة في جرمانا، يقدم نموذجًا جيدا للتعاطي مع التصريحات الإسرائيلية، حيث تعاون مسؤولو الأمن في الحكومة السورية مع وجهاء وشيوخ المدينة في تطويق “الفتنة” وإيجاد “صيغة عمل وطني دائم”، مشيرين إلى مظاهر الاحتفاء التي أبداها الأهالي إزاء دخول الأمن الحكومي مدينتهم.
وكذلك فقد أكد الكثير من النشطاء والمهتمين في محافظة السويداء، في بيانات ومنشورات على وسائل التواصل الجتماعي، أن “موقف جبل العرب موحد إزاء الطروحات المشبوهة”، وأن التدخل الإسرائيلي “مرفوض بالمطلق”، دون أن ينفوا “وجود محاولات للتسلل إلى جبل العرب” ودون التقليل من ضرورة الحذر والانتباه لمثل هذه المحاولات.
الترا سوريا
———————————-
إسرائيل وسوريا.. حزمة أهداف محكومة بـ3 عوامل/ ضياء عودة – إسطنبول
04 مارس 2025
يشي سلوك إسرائيل في سوريا على الأرض ومن خلال التصريحات، بأنها تسعى إلى تحقيق سلسلة أهداف، لا تقتصر على تبديد المخاوف والتهديدات الأمنية التي يشير إليها دائما مسؤولون إسرائيليون، بل تنسحب إلى ما هو أبعد من ذلك.
“ضمان حماية الدروز” في سوريا وفي جرمانا بدمشق كانت هدفا كشفت عنه إسرائيل قبل ثلاثة أيام، وفي حين أضيف إليها من قبل الهدف المتعلق بنزع السلاح من مناطق جنوب سوريا، سلطت وسائل إعلام إسرائيلية الضوء، الاثنين الماضي، على تحركات دبلوماسية إسرائيلية لفرملة عجلة النفوذ التركي المتصاعد في سوريا.
وعاد وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، الثلاثاء، ليؤكد أن “وجود جماعات إسلامية على الحدود سيكون أمرا بالغ الخطورة لإسرائيل”، في إشارة منه لإدارة أحمد الشرع في دمشق.
كما تحدث عن ملف آخر، حين قال: “يتعين احترام حقوق الأقليات في سوريا بشكل كامل، بما في ذلك الأكراد”.
ويأتي ما سبق بالتزامن مع عمليات توغل مستمرة لم تنقطع وينفذها الجيش الإسرائيلي في جنوب سوريا، وذلك في عمق محافظتي القنيطرة ودرعا.
كما تتزامن تحركات وتصريحات إسرائيل أيضا مع ضربات جوية متواصلة يقول الجيش الإسرائيلي إنها تستهدف “بقايا الأسلحة التي كانت تابعة للنظام السوري”.
وقبل سقوط نظام الأسد لم تكن السياسة الإسرائيلية المتعلقة بسوريا كما هي الحالة التي عليها اليوم.
في السابق كانت غالبية التحركات تندرج ضمن إطار “وقائي”، كما يوضح الأكاديمي والباحث في الشأن الإسرائيلي، خالد خليل.
وقال خليل، لموقع “الحرة”، إنه، وفي أعقاب سقوط نظام الأسد، أخذت الأفعال الإسرائيلية طابعا هجوميا.
ويعتقد خليل أن “إسرائيل ومن خلال جملة الذرائع التي تستند إليها وترددها دائما تحاول فرض واقع أمني جديد في جنوب سوريا”.
وأضاف أن هذه الذرائع “تخفي ورائها حجم الخسارة التي تعرضت لها إسرائيل بسقوط نظام الأسد، وهو الذي ضمن هدوء جبهة الجولان طيلة 5 عقود”.
بدوره، يرى الباحث السياسي الإسرائيلي، يوآف شتيرن، أن “إسرائيل تسعى لإضعاف الحكومة الجديدة في سوريا”، وأنها “تريد سيادة سورية منقوصة على أراضي البلاد”.
كما تريد إسرائيل من وراء الأفعال (على الأرض ومن خلال التصريحات) إبعاد أي تهديد محتملة ضدها، وهو ما يفسر مطالبها المتعلقة بخلق منطقة عازلة في كل مناطق جنوب سوريا، وفق حديث شتيرن لموقع “الحرة”.
ما قصة المنطقة العازلة؟
ومن حيث القدرات العسكرية، تعتقد الباحثة في شؤون الشرق الأوسط، إيفا كولوريويتس، أنه لدى إسرائيل القدرة على فرض منطقة منزوعة السلاح في جنوب سوريا، بل ويمكنها حتى القيام بتوغل بري واحتلال مساحات واسعة أخرى، على حد قولها.
لكن كولوريويتس، أشارت خلال حديثها لموقع “الحرة”، إلى سؤال تعتبره هاما، ويتعلق بالخطط العملية لإسرائيل، بعيدا عن التهديدات التي يطلقها المسؤولون فيها، وعلى رأسهم بنيامين نتانياهو.
ولا يعتبر طرح فكرة إقامة منطقة منزوعة السلاح في جنوب سوريا أمرا جديدا من جانب إسرائيل، ففي عام 2018 عملت الأخيرة على هذه القضية وبشكل وثيق مع موسكو.
ورغم أنها توصلت إلى اتفاق غير معلن، حينها، يقضي بإبعاد ميليشيات إيران وحزب الله مسافة 80 كيلومترا عن حدودها، فإن الإيرانيين تملصوا من تنفيذ بنود التفاهم، ولم يتمكن الروس من فرض إرادتهم آنذاك، بحسب الباحثة في شؤون الشرق الأوسط.
وبعد هجمات السابع من أكتوبر، أصبح الشغل الشاغل لإسرائيل منع تكرار هذا الهجوم، سواء من غزة أو من أي جبهة أخرى، بينها سوريا، وعلى هذا الأساس صعّدت عملياتها ضد قادة “الحرس الثوري” الإيراني و”حزب الله”.
وبموازاة ذلك عملت إسرائيل على تدمير مستودعات الأسلحة في سوريا وقطع طرق الإمداد المارة باتجاه “حزب الله”، وصولا إلى الخطوة اللافتة التي عمل عليها الجيش الإسرائيلي، بتفجير عدة حقول ألغام تقع على طول المنطقة المقابلة للخط الأزرق على الحدود مع سوريا.
وقبل سقوط نظام الأسد، كان خطوة تفجير الألغام مؤشرا على أن إسرائيل تهدف لإقامة منطقة آمنة على حدودها، وهو ما كانت تفكر به بالفعل، بحسب كولوريوتيس.
ومع تولي الشرع رئاسة سوريا في المرحلة الانتقالية، تزايدت مخاوف الحكومة الإسرائيلية بشأن الجبهة السورية.
وهذا دفعهم إلى تعديل خططهم من تشكيل “منطقة آمنة محدودة” إلى فرض “منطقة منزوعة السلاح” تشمل محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء، كما توضح الباحثة.
ماذا عن إدارة الشرع؟
وتشير تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، على رأسهم نتانياهو ووزير خارجيته ساعر إلى أن إسرائيل تنظر للإدارة الجديدة في دمشق كـ”تهديد”.
وليس ذلك فحسب، بل تعتقد إسرائيل أيضا أن “الفيدرالية” هو الشكل الأمثل الذي يجب أن تكون عليه سوريا في مرحلة ما بعد سقوط الأسد.
ولا تزال إدارة الشرع في دمشق تلتزم بسياسة عدم التعليق على ما يهدد به المسؤولون الإسرائيليون.
وفي مناسبتين سابقتين، كان الشرع أكد أنه لم يعد هناك أي ذرائع لإسرائيل، بعد انتهاء وجود الميليشيات الإيرانية في سوريا، كما قال إن دمشق مستعدة لاستقبال قوات من الأمم المتحدة في المنطقة العازلة المشتركة مع إسرائيل.
ويقول الباحث الإسرائيلي شتيرن إن “إسرائيل وبعد هجوم السابع من أكتوبر باتت تعتبر أي تواجد مسلح على حدودها بمثابة تهديد”.
وبعد سقوط نظام الأسد تزايد مستوى هذا “التهديد” وفق قوله، ورافق ذلك وجود مؤشرات على تصاعد الدور التركي في سوريا.
وفي المقابل، أوضح الباحث السياسي السوري، ضياء قدور، أن إسرائيل تحاول من خلال تحركاتها وأفعالها في سوريا بما فيها التوغلات على الأرض “استغلال لحظة ضعف الإدارة الجديدة، في مسعى لفرض واقع جديد”.
وتحاول أيضا، بحسب حديث قدور لموقع “الحرة”، أن تفرض “ضغوطا على طاولة المفاوضات الدولية، لتحصيل أكبر قدر من المكاسب”.
“3 عوامل وبضعة خيارات”
وبحسب المعطيات القائمة على كافة الأصعدة، ترى الباحثة كولوريوتيس أنه الإدارة السورية الجديدة لديها خيارات محدودة للتعامل مع التهديدات والخطط الإسرائيلية.
تذهب أولى هذه الخيارات باتجاه أن تأخذ إدارة الشرع مطالب الدروز السوريين على محمل الجد وتحاول إيجاد صيغة ترضي الطرفين (مستغلة العلاقات الإيجابية بين دمشق ووليد جنبلاط كوسيط).
ويكمن الثاني بأن تتجاهل الإدارة السورية الجديدة التهديدات الإسرائيلية، وتبدأ بنشر قواتها بشكل مكثف في محافظتي درعا والقنيطرة، وتجبر ممثلي السويداء على قبول دخول قوات الإدارة السورية الجديدة إلى المحافظة.
وأضافت كولوريوتيس أن الخيار الثالث يتمثل بأن تتحرك الإدارة السورية الجديدة بسرعة لتوقيع تفاهمات أمنية وعسكرية مع أنقرة، يتم على أساسها إنشاء قواعد عسكرية تركية في وسط سوريا وجنوب العاصمة السورية دمشق، وبالتالي يصبح التدخل العسكري الإسرائيلي في سوريا أكثر تعقيدا.
ويعتقد الباحث قدور أن إدارة الشرع لا تملك تمتلك الكثير من الحلول في ظل الحالة الهشة التي تعيشها على المستويات كافة.
ومع ذلك يشير الباحث إلى حل يرتبط بالأساس بالرفض والممانعة الشعبية لأي تدخل إسرائيلي في البلاد.
ماذا على طاولة إسرائيل؟
أما الباحث السياسي الإسرائيلي شتيرن، فاعتبر أن السياسة الإسرائيلية تجاه سوريا لا تعتمد على “أسس متينة ومدروسة”، وأكبر مثال على ما سبق هو ما حصل في جرمانا قبل يومين، وفق قوله.
وكان وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، هدد، السبت، بالتدخل عسكريا في سوريا ضد قوات دمشق “إذا أقدم النظام على المساس بالدروز”، وذلك بعد اشتباكات دامية في بلدة جرمانا ذات الغالبية الدرزية في ريف العاصمة.
وبعد التهديدات الإسرائيلية، تمكنت قوات “الأمن العام” التابعة لإدارة دمشق من دخول جرمانا والانتشار فيها واستعادة مواقعها هناك، وذلك بعد ساعات من التوصل لتفاهم انخرط فيه رجال دين كبار وقادة تشكيلات مسلحة من الطائفة الدرزية.
ويضيف شتيرن: “تهديدات إسرائيل في جرمانا مبالغ بها ولا حاجة لها”.
ومن جانبه، اعتبر قدور أن الجانب الإسرائيلي ينتظر أي خطأ من إدارة دمشق كي يستخدمه كذريعة لتصعيد جديد.
كما أعربت كولوريويتس عن اعتقادها بأن خيار احتلال أجزاء واسعة من جنوب سوريا أو حتى تقدم القوات الإسرائيلية نحو العاصمة السورية دمشق يبقى قائما.
وأوضحت أن ذلك يرتبط بثلاثة عوامل، الأول هو موقف الدروز السوريين من الإدارة السورية الجديدة والحكومة الإسرائيلية.
أم العامل الثاني، فيتمثل بقدرة الإدارة السورية الجديدة على معالجة العوائق الأمنية التي تتزايد في مناطق مختلفة من الساحل السوري وشرق سوريا وحتى داخل البلدات المحيطة بالعاصمة السورية دمشق، والعامل الثالث، هو طريقة تعامل الإدارة مع التهديدات الإسرائيلية.
وأشارت الباحثة إلى أن الأزمة الاقتصادية، وتدهور الوضع الأمني، وتزايد هجمات بقايا نظام الأسد، وعودة داعش بقوة، واتساع الفجوة بين الإدارة السورية الجديدة والأقليات في البلاد، فضلا عن المجتمع السوري المنهك، كلها عوامل قد “تشجع إسرائيل على رفع سقف طموحاتها في سوريا”.
واعتبرت أيضا أن “الإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع تتحمل أيضا جزءا من المسؤولية عما تواجهه سوريا اليوم من خطر الانقسام والاحتلال والانهيار الأمني”.
ضياء عودة
الحرة
————————
إيكونوميست: إسرائيل توسع من احتلالها لأراضٍ عربية.. المخاطر عالية والثمن باهظ
إبراهيم درويش
تحديث 04 أذار 2025
نشرت مجلة “إيكونوميست” تقريرًا قالت فيه إن الجيش الإسرائيلي تبنّى إستراتيجية محفوفة بالمخاطر، وهي التوسّع الجغرافي، وهذه حاضرة في سوريا ولبنان وغزة والضفة الغربية.
وقالت إن المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار في غزة، والذي اتفقت فيه إسرائيل و”حماس” لإنهاء الحرب بشكل رسمي، كان من المقرر أن تبدأ في 2 آذار/مارس.
لكن إسرائيل رفضت البدء في المحادثات التي التزمت بها في اتفاقية كانون الثاني/يناير. وبدلًا من ذلك تطالب بتمديد المرحلة الأولى من الهدنة، والتي تريد فيها من “حماس” أن تطلق سراح ما تبقى لديها من أسرى، وعددهم 59 أسيرًا.
ولكي تزيد من الضغط على “حماس”، والقبول بتعديل الاتفاق، قامت إسرائيل بمنع المساعدات الإنسانية من دخول القطاع الذي مزّقته الحرب.
وترى المجلة أن تعطيل الاتفاق هو جزء من تحوّل إستراتيجي أوسع، يحاول فيه الجيش الإسرائيلي الحفاظ على وجود جغرافي واسع، بما في ذلك المناطق غير الخاضعة لإسرائيل.
وقد بدأت في إنشاء ما تعتزم أن تكون “مناطق عازلة” غير محددة على 4 جبهات: في غزة، وعلى الحدود مع لبنان وسوريا، وفي الضفة الغربية.
وتعلّق المجلة بأن هذه الخطوة مدفوعة بالفوضى في هذه الأماكن، والصدمة المستمرة لهجوم “حماس” في تشرين الأول/أكتوبر 2023، وكذلك الضغوط من الأحزاب اليمينية في الائتلاف الحاكم لبنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء. وتدفعها الثقة التي يعتقد نتنياهو أنها قادمة من الإدارة الأمريكية لدونالد ترامب، التي لم تُظهِر، حتى الآن، أية علامات لكبح جماح التوسّع الذي يقوم به الجيش الإسرائيلي.
وهدنة غزة ليست الاتفاق الوحيد مع إسرائيل الذي ينهار، فبناءً على شروط وقف إطلاق النار الذي رعته الولايات المتحدة بين إسرائيل و”حزب الله” اللبناني، الذي سيطر على أجزاء من لبنان حتى حربه مع إسرائيل في العام الماضي، كان من المفترض أن تغادر القوات الإسرائيلية الأراضي اللبنانية نهاية كانون الثاني/يناير. وطالبت إسرائيل بتمديد المهلة إلى أن يستكمل الجيش اللبناني سيطرته على المنطقة. ولكن حتى بعد انقضاء هذا الموعد النهائي، في 18 شباط/فبراير، ظلت إسرائيل متمركزة في 5 مواقع محصنة في جنوب لبنان. وتبرر إسرائيل هذا التأخير بزعم الحاجة إلى حماية التجمعات الإسرائيلية القريبة من الحدود مع لبنان.
ومن المؤكد أن عودة مقاتلي “حزب الله” إلى الجنوب قد تعرضها بسهولة للخطر مرة أخرى. وتقول الحكومة الإسرائيلية إن الجيش سيخلي هذه المواقع بمجرد تأكده من قدرة الجيش اللبناني على تأمين الحدود، ومنع “حزب الله” من دخولها، ولم يتضح بعد ما إذا كانت هذه القوات قادرة على القيام بهذه المهمة. كما لم تحدد إسرائيل موعدًا أو شروطًا تتعلق بثقتها بجيش لبنان.
وبعيدًا إلى الشرق في مرتفعات الجولان، انهار اتفاق وقف إطلاق النار مع سوريا أيضًا. وقد وُقِّع الاتفاق مع نظام حافظ الأسد في عام 1974. وعندما قامت قوات المعارضة بإخراج ابنه بشار الأسد من السلطة، في كانون الأول/ديسمبر 2024، اجتازت القوات الإسرائيلية الحدود إلى الجولان، واحتلت أراضي سورية. وكان المبرر الأصلي لهذا التصرف، عدم وجود قوات معترف بها على الحدود. فقد أنشأت “هيئة تحرير الشام” حكومة في دمشق، لكنها لم تحكم سيطرتها على كل سوريا التي لا تزال جماعات منافسة ناشطة فيها. وبدأ الجيش الإسرائيلي ببناء مواقع دائمة في سوريا.
وفي 23 شباط/فبراير، قال نتنياهو بأن إسرائيل “لن تسمح لقوات هيئة تحرير الشام، أو الجيش السوري الجديد، بدخول المنطقة في جنوب دمشق”. وطالب بـ”نزع السلاح الكامل في جنوب سوريا بمحافظات القنيطرة ودرعا والسويداء من قوات النظام الجديد”.
وأخيرًا، تحايلت القوات الإسرائيلية على الاتفاقات السابقة في مدينتي جنين وطولكرم الفلسطينيتين في الضفة الغربية، حيث أُجبر ما يقدر بنحو 40,000 مدني على مغادرة منازلهم بسبب العمليات الإسرائيلية المستمرة ضد الجماعات المسلحة هناك. وتشكل المدينتان جزءًا من “المنطقة أ”، التي تم تخصيص السيطرة عليها للسلطة الفلسطينية بموجب اتفاقية أوسلو الثانية الموقعة في عام 1995. وفي 29 كانون الثاني/يناير، قال وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس إنه “بعد اكتمال العملية، ستبقى قوات الجيش الإسرائيلي في المخيم لضمان عدم عودة الإرهاب”.
ويقول مسؤولون أمنيون إسرائيليون إن أحداث الأشهر الـ 17 الماضية تعني أن إسرائيل مضطرة إلى تبني ما يسمى “إستراتيجية مختلفة لإدارة المخاطر”، وهذا يعني أنها ستتصرف ليس على أساس ما تقدّره أجهزة استخباراتها بشأن ما يخطط له أعداؤها في الأمد القريب، بل على أساس قدراتهم المحتملة.
وفي الوقت الحالي، قد يكون توسيع حضور الجيش الإسرائيلي مستدامًا، وبدون رد فعل عنيف. فـ”حزب الله” و”حماس” في حالة من الركود بعد الحملات المدمرة التي شنتها إسرائيل في غزة ولبنان. ولدى حكومة “هيئة تحرير الشام” في دمشق أولويات أخرى في محاولتها تجنّب انهيار الاقتصاد السوري وانزلاق البلاد إلى الفوضى أو الحرب الأهلية.
وتظل غزة مصدر القلق الأكبر، فقد لا تكون “حماس” قلقة من استئناف الحرب، وهي تستعيد السيطرة المدنية على القطاع، وتقوم بإعادة بناء قواتها التي أضعفتها الحرب. لكن إن استمرت الجماعة برفض تغيير شروط الاتفاق، فإن إسرائيل تستعد لشن هجوم جديد ضخم في غزة. ويقول ضباط إسرائيليون إن هذا قد يمهّد الطريق للخطة، التي أعلن عنها دونالد ترامب أولًا، لإزالة سكان غزة وبناء “ريفييرا” الشرق الأوسط.
ولا يتوقع صدور أي قرار حتى يعود مبعوث ترامب، ستيف ويتكوف، إلى المنطقة سعيًا إلى التوصل إلى اتفاق جديد. ومع ذلك فإن مخاطر اشتعال الحرب تبدو حقيقية.
وتعلّق المجلة بأن توسّع الوجود الإسرائيلي على هذه الجبهات سيكون باهظ الكلفة، وعلى المدى البعيد. فمن جهة، يمنح استمرار الوجود الإسرائيلي “حزب الله” ذريعة للاحتفاظ بقدراته العسكرية على الرغم من الضغوط من جانب الحكومة اللبنانية الجديدة لنزع سلاحه.
وبالنسبة لإسرائيل، فإن عبء الحفاظ على هذا الوجود الأكثر اتساعًا سيكون مرتفعًا، سواء من الناحية المالية أو في الحفاظ على مستويات التعبئة بين جنود الاحتياط، الذين دخل العديد منهم فترة خدمتهم الرابعة منذ بدء الحرب في غزة.
كما يتوقف الأمر أيضًا على الدعم المستمر من إدارة ترامب ذات السمعة السيئة بالتقلّب.
وبنفس السياق، يعرض توسيع البصمة للجيش الإسرائيلية، واحتلاله أراضي عربية جديدة، مجموعة استثنائية من الفرص المفتوحة أمام إسرائيل للخطر. فمنذ توقيع أول معاهدة لها مع دولة عربية، مصر، في عام 1978، عملت إسرائيل على بناء التوازن بين الردع العسكري والمناورات الدبلوماسية. وقد نجحت هذه المعاهدة، وأخرى مع الأردن، في الصمود في وجه الأحداث التي شهدتها المنطقة. والحكومتان الجديدتان في سوريا ولبنان حريصتان على التعامل مع الغرب وإثبات أنهما لم تعودا ملاذًا آمنًا للجماعات الوكيلة الموالية لإيران. وعليه فاستمرار احتلال أراضيهما قد لا يكون بداية جيدة لتحسين هذه العلاقات.
القدس العربي
——————————-
الزعيم الروحي للدروز يرفض الانفصال والعلم الإسرائيلي يحرق بالسويداء/ ضياء الصحناوي
04 مارس 2025
قال الشيخ حكمت الهجري الرئيس الروحي لطائفة الدروز في لقائه مع ضيوف من أعيان مدينة جرمانا، اليوم الثلاثاء، إن موقفه ثابت تجاه وحدة الأرض والمصير السوري مؤكداً السعي للعيش بكرامة مع جميع أطياف الشعب السوري، دون أن يُخفي تخوفه من الفراغ الذي تعيشه سورية حالياً، مؤكداً رفضه لأي انشقاق أو انفصال.
وكان مجهولون رفعوا علم دولة الاحتلال الإسرائيلي عند دوار العنقود في مدخل مدينة السويداء الشمالي، جنوبي سورية، بعد منتصف الليل ونشروا فيديو مصور لرفع العلم على السارية، ما أدى إلى قيام أعداد كبيرة من أبناء المحافظة وخلال دقائق من نشر الفيديو، بإنزال العلم وإحراقه. وجاءت هذه الحادثة بعد تصريحات متتالية لمسؤولين في دولة الاحتلال الإسرائيلي تحدثوا فيها عن شكل من الوصاية على الطائفة الدرزية في سورية وادعوا وجود علاقات تاريخية تربط إسرائيل بالسويداء، ما أثار حفيظة السوريين وأدى إلى صدور تصريحات ومواقف متباينة داخل وخارج السويداء، ساهمت بمجملها في طرح العديد من الأسئلة حول مصير منطقة الجنوب السوري والأقليات وسط صمت واضح من القيادة السورية.
وقال الناشط السياسي ناظم سلوم لـ”العربي الجديد” إنه لا يستغرب “أن يتصرف البعض بهذه الطريقة ويرفعوا علم الاحتلال ليلاً وفي أماكن غير مأهولة، ولعل هذا الأمر حصل من شبان لم يعرفوا من التاريخ السوري سوى ما خلفه نظام الأسد من قهر وذل واضطهاد وحصار وإفقار”، مضيفاً أنه “من الممكن أن تتكرر هذه الحالة مراراً، وتؤدي إلى نزاعات أهلية نتيجة استمرار تردي الوضع المعيشي والأمني في السويداء وسورية عموماً، فالجائع لن يعتاش من الانتماء الوطني والشعارات، وما عاناه السوريون خلال حكم آل الأسد يستحقون بعده العيش بكرامة وحرية واستقلال”.
وأضاف سلوم أن ما يخشاه أن “يستمر هذا الوضع المعيشي والانفلات الأمني الذي ترافق مع ضعف بالإدارة وتجاهل لرأي السوريين عموماً، في القرارات والتعيينات ومعالجة الترهل الإداري. ما قد يساهم بزرع الفتنة وإعطاء الفرصة للكيان بالتغلغل أكثر في الأراضي وبين السوريين”.
وكان الهجري أعلن في أكثر من لقاء سابق أنه مع رفض تسليم السلاح ودخول قوات من الجيش السوري الجديد إلى السويداء طالما أن هناك حكومة لتصريف الأعمال وطالما أنه لا يوجد جيش وطني يمثل كافة أطياف المجتمع السوري، مشدداً على أنه لن يتم تسليم السلاح ودخول الجيش إلا في وجود حكومة وطنية تمثل جميع السوريين ودستور عادل يضمن الحقوق العامة للمواطن دون تفريق بسبب الدين أو الطائفة أو المعتقدات. وطالب الهجري كذلك، قبل أيام، بوجود رقابة دولية على أعمال الحكومة المؤقتة وعلى تطبيق القرارات الصادرة عنها وعن المؤتمر الوطني واللجنة الدستورية وغيرها.
الناشط المدني جهاد شهاب الدين قال لـ”العربي الجديد” إن “الشيخ الهجري يمثل شريحة واسعة من الناس ولكن بكل تأكيد لا يمثل غالبية أهالي السويداء، ولا ندري ماهية الاتفاقات بينه وبين الرئيس الشرع، ولكن نعلم تماماً ان اتفاقاً دولياً ساهم بإسقاط نظام الأسد وتنصيب القيادة الحالية ضمن شروط قد تكون مآلاتها تقسيم سورية أو إخضاعها لوصايات من دول الجوار، وهذا لا يعني أن نقف مكتوفي الأيدي وننتظر مصيرنا بعد عقود من النضال وبعد ثورة قدمت الغالي والنفيس من أجل الحرية”.
وأضاف شهاب الدين: “ما يزيدنا إصراراً هو اقتناعنا حتى الآن بأن الإدارة السورية تسعى للحفاظ على وحدة سورية وتنظيم مؤسساتها والانطلاق إلى إعمارها بالرغم من بعض المطبات والأخطاء التي تقع بها”، وفي ما يخص الموقف من تصريحات الاحتلال الإسرائيلي يضيف شهاب الدين: “نحن أهالي السويداء أكثر من يُدرك أهداف إسرائيل في تحويلنا إلى ذريعة وآداة لتحقيق مطامعها في سورية، وجميعنا يذكر عندما وقف الكيان الصهيوني مصفقاً لقوات داعش والنظام السوري عندما قتلت وجرحت وخطفت المئات من أبناء السويداء في 15 يوليو/تموز 2018.
الشيخ حكمت الهجري خلال تلاوة بيانه، 17 فبراير 2025 (لقطة شاشة)
وشهدت السويداء تشنجاً واصطفافاً كبيراً نتيجة الأحداث التي حصلت في مدينة جرمانا، ذات الحضور الكبير لأبناء الطائفة الدرزية، وما لحق ذلك من تجييش عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبعض المحطات الإعلامية. وقال الناشط الإعلامي عمر المحيثاوي لـ”العربي الجديد” إنه “من السهل أن نقنع الناس أن وراء هذا التجييش على أبناء الطائفة مجموعات ممن يُطلق عليهم فلول النظام السابق، ولكن يصعب علينا الدفاع عندما يكون صادرا عن عناصر الجيش والشرطة التي تدعي حماية الناس، ونستغرب أن تقف الحكومة والمسؤولين أمام كل اتهام وكل ما يحصل من زرع للفتن والتفرقة بين السوريين، موقف المتفرج، وكأن هذا لا يعنيها أو لا طائل لها، وخاصة في ما يخص الاعتداءات والتصريحات الإسرائيلية”.
——————————–
جنبلاط: الشيخ طريف لا يمثلنا والصهيونية تسعى للتمدد في جبل العرب
2025.03.03
عقدت الهيئة العامة للمجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز اجتماعاً استثنائياً، الاثنين، في دار الطائفة بالعاصمة اللبنانية بيروت، لمناقشة تطورات الأوضاع في لبنان وسوريا، وسط تحذيرات من مخططات تهدد استقرار المنطقة.
وخلال الاجتماع، اتهم الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط، الصهيونية بأنها “تستخدم الدروز جنوداً وضباطاً لقمع الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية”، مضيفاً: “اليوم يريدون الانقضاض على جبل العرب في سوريا”.
وأعرب جنبلاط عن خشيته من اندلاع حرب أهلية، مشيراً إلى أن هناك من يسعى إلى ذلك، وقال: “يريدون جر بعض ضعفاء النفوس، لكن أهل سوريا يعلمون ماذا يفعلون”، مضيفاً: “سأذهب إلى دمشق للتأكيد على مرجعية الشام بالنسبة للدروز”.
“نمر بمرحلة أخطر من احتلال بيروت”
وفي حديثه عن الشيخ موفق طريف، الرئيس الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل، قال جنبلاط: “لا يمثلنا وهو مدعوم من القوى الصهيونية”، محذراً من أن “استجرار البعض في هذا المخطط قد يؤدي إلى حروب أهلية لا نعلم كيف ستنتهي”.
ووصف جنبلاط المرحلة الراهنة بأنها الأخطر، قائلاً: “إذا ما قارنّا الوضع الحالي بمراحل سابقة، مثل الاحتلال الإسرائيلي لبيروت، نجد أنها أخطر بكثير مما مررنا به”، وأضاف: “إما أن نبقى على هويتنا العربية أو أن نسير في المخطط الصهيونيّ”.
من جهته، أكد شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز، سامي أبي المنى، أن “الموحدين الدروز يصرّون على وحدة أوطانهم، وأولها وحدة سوريا”، مشدداً على أن “الطائفة متمسكة باندماجها الاجتماعي وحمايتها لن تكون من عدو طامع (إسرائيل)”.
وأضاف أبي المنى أن الطائفة تعمل على “المحافظة على ثوابتها الوجودية رغم المتغيرات والتحديات”، داعياً العرب إلى “تحمل مسؤوليتهم في التصدي للمشروع التخريبي قبل فوات الأوان”.
كما أشار إلى أن الدروز في سوريا يعملون على بناء الدولة وحفظ الأمن، في وقت “تحاول إسرائيل تنفيذ مخططها التوسعي تحت ذريعة حمايتهم”، مضيفاً: “نخرج من حرب مدمّرة ونحاول أن نلتقط الأنفاس في ظل انسحاب الجيش الإسرائيلي، وما زلنا نعاني من التداعيات”.
مزاعم إسرائيل بشأن “حماية الدروز” في سوريا
كرر الاحتلال الإسرائيلي، خلال الفترة الماضية، التصريحات التي تزعم حرصه على حماية الدروز في سوريا، وذلك في محاولة لإيجاد ذريعة جديدة للتدخل في البلاد بعد زوال التهديدات الإيرانية.
وفي هذا الإطار، قال وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، في تصريح يوم الخميس الفائت، إن إسرائيل “لديها التزام كبير تجاه أصدقائها الدروز في سوريا، وتسعى للحفاظ على التواصل معهم”.
وسبق ذلك بأيام تصريح لرئيس وزراء الاحتلال، طالب فيه بإخلاء جنوبي سوريا من القوات العسكرية السورية بشكل كامل.
وأفاد نتنياهو بأن إسرائيل لن تسمح لقوات هيئة تحرير الشام أو الجيش السوري الجديد بالدخول إلى المناطق الواقعة جنوبي دمشق.
كما زعم نتنياهو أن إسرائيل ملتزمة بحماية الدروز في جنوبي سوريا، وعدم تسامحها مع أي تهديد لهم.
وتجددت هذه المزاعم مساء السبت، بعد التوترات التي شهدتها مدينة جرمانا بريف دمشق، بين الأمن العام ومجموعة مسلحة أطلقت النار على عناصر من الجيش السوري، وقتلت وأصابت عدداً منهم.
—————————
حركة رجال الكرامة لتلفزيون سوريا: نندد بتصريحات نتنياهو بشأن “حماية الدروز“
2025.03.02
أعربت حركة رجال الكرامة عن إدانتها لتصريحات رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، التي يزعم فيها حمايته للدروز في سوريا.
وقال المتحدث باسم حركة رجال الكرامة، باسم أبو فخر، في حديث لـ “تلفزيون سوريا”: “نحن مع سوريا ودخول مؤسسات الدولة، ودمشق هي قبلتنا دوماً، ونندد بتصريحات نتنياهو التي يزعم فيها حمايته للدروز”.
وأضاف أبو فخر: “نسعى لأن نكون ركناً أساسياً في بناء الدولة السورية”، كما رحّب بدخول قوات الأمن إلى مدينة جرمانا بريف دمشق.
إلى ذلك، أعلنت لجنة العمل الأهلي في جرمانا أن وفداً من مشايخ المدينة سيرافق عناصر الناحية إلى مقرهم.
وأكدت اللجنة أن إعادة تفعيل عمل ناحية جرمانا هو أحد مطالب الهيئة الروحية، مضيفة أن أهالي ووجهاء المدينة فوضوا مشايخها بمتابعة وتنفيذ الاتفاق مع الإدارة السورية.
انتشار الأمن العام في جرمانا
بدأت قوات الأمن العام الانتشار في مدينة جرمانا بريف دمشق، مساء اليوم الأحد، بعد رفض المطلوبين في قضية اغتيال عنصر في الجيش السوري تسليم أنفسهم للسلطات الأمنية.
وأكد مدير أمن محافظة ريف دمشق، المقدم حسام طحان، أن العملية تهدف إلى القبض على المتورطين في اغتيال أحمد الخطيب، العامل في وزارة الدفاع، وإحالتهم إلى القضاء، بحسب ما نقلت وكالة الأنباء السورية “سانا”.
وأشار طحان إلى أن القوات الأمنية ستعمل على إنهاء حالة الفوضى وإزالة الحواجز غير الشرعية التي أقامتها مجموعات مسلحة خارجة عن القانون، تورطت في عمليات خطف وقتل وسرقة باستخدام السلاح.
كما أكد أن المسلحين الخارجين عن سلطة الدولة رفضوا جميع الوساطات والاتفاقات المطروحة، مشدداً على أن الدولة لن تسمح بوجود أي منطقة خارج سيطرتها، لافتاً إلى أن سكان جرمانا أبدوا تعاوناً كبيراً مع الأجهزة الأمنية في هذا الشأن.
—————————
وصفت النظام الجديد بـ”المجموعة الإرهابية”.. إسرائيل تسعى لإضعاف سوريا
2 مارس 2025
تقود إسرائيل حملة منسقة للضغط على الولايات المتحدة من أجل السماح لروسيا بالاحتفاظ بقاعدتيها العسكريتين في سوريا بغرض مواجهة النفوذ التركي المتزايد والداعم للإدارة الجديدة، حسبما نقلت وكالة رويترز عن مصادر مطلعة.
ورغم أن وزير الدفاع السوري كان أكد في وقت سابق أن بلاده منفتحة على استمرار الوجود العسكري الروسي في قاعدتي طرطوس وحميميم، طالما أن ذلك يخدم المصالح السورية، في حين أكد الرئيس السوري أحمد الشرع بأنه يسعى لأن لا تشكل سوريا خطرًا على دول الجوار.
لكن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو سبق وقال: إنه “لا يثق بالحكام الجدد في سوريا، وإن إسرائيل لن تتهاون مع وجود أي قوات مرتبطة بالإدارة الجديدة في جنوب سوريا”، وهو ما أكده وزير خارجيته جدعون ساعر قبل أيام خلال لقائه وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، بوصفه الإدارة في سوريا بأنها “جماعة إرهابية” استولت على دمشق بالقوة.
ويتزامن الموقف الإسرائيلي مع توغل قوات إسرائيلية معززة بالدبابات والجرافات في مناطق ريف القنيطرة جنوبي سوريا، في محاولات توسع وانتهاكات إسرائيلية قابلها السوريون بالمظاهرات.
ففي بلدة خربة غزالة بريف درعا الشرقي تظاهر أهالي البلدة ضد التدخل العسكري الإسرائيلي في شؤون بلادهم.
وفي مدينة دوما بريف دمشق خرجت مظاهرة للمطالبة بانسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي السورية والكف عن التدخل في شؤون البلاد، التي ازدادت وتيرتها في الآونة الأخيرة وبدأت تكشف عن نوايا إسرائيل تجاه النظام الحالي في سوريا.
إسرائيل تعلن استعدادها للتدخل في دمشق
وأفادت وزارة الأمن الإسرائيلية، بأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الأمن يسرائيل كاتس، أوعز للجيش بالاستعداد للدفاع عن بلدة جرمانا السورية.
وقال كاتس إن تل أبيب لن تسمح لما سماه النظام الإرهابي الإسلامي في سوريا باستهداف الدروز، مشيرًا إلى أنه إذا قرر النظام السوري استهداف دروز، فسوف تستهدفه إسرائيل.
يأتي ذلك في تصعيد جديد من حكومة نتنياهو ضد الإدارة الجديدة في سوريا، التي تطالب بوقف الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة لسيادة البلاد.
وتشهد مدينة جرمانا، قرب العاصمة السورية دمشق، خلال الساعات الأخيرة، توترات أمنية افتعلتها إحدى التنظيمات التي ترفض التخلي عن سلاحها.
ومساء الجمعة، شهدت هذه المدينة توترات أمنية أدت إلى مقتل أحد عناصر الأمن السوري، على يد تنظيم مسلح مرتبط بالنظام السابق يدعى “درع جرمانا”.
——————————–
الحكومة السورية تنفي إصدار وثيقة “تحظر انتقاد إسرائيل“
2025.03.02
نفت الحكومة السورية إصدار أي وثيقة تحظر على موظفيها “انتقاد إسرائيل” أو المشاركة في المظاهرات المنددة بممارسات وتصريحات مسؤولي الاحتلال.
وجاء هذا النفي عقب تداول صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي بياناً مزوراً، نُسب إلى رئيس مجلس الوزراء السوري، محمد البشير، تحت عنوان “سري للغاية”.
وزُعم في البيان المزوّر: “بناءً على توجيهات الرئيس أحمد الشرع، يُطلب من جميع الوزراء والمحافظين في درعا والسويداء والقنيطرة منعاً باتاً، وتحت طائلة الفصل من العمل، الخروج بمظاهرات ضد دولة “إسرائيل الشقيقة” من قبل العاملين في مؤسسات الدولة”.
كما ادعى البيان المزوّر أنه “يمنع منعاً باتاً، وتحت طائلة الفصل والسجن، الحث على القتال بين سوريا وإسرائيل”، مضيفاً: “يجب احترام سيادة إسرائيل وعدم العبث بالكلام، مع توجيه أشد العقوبات لمن يتحدث ضد دولة إسرائيل”.
معلومات مضللة
بالنظر إلى الوثيقة المزعومة وما تحتويه من أخطاء نحوية وإملائية، فضلاً عن أسلوبها الركيك، يتضح بجلاء أنها مزورة بشكل فاضح.
إلا أن توقيت انتشارها، في ظل تصاعد التصريحات العدائية من قبل الاحتلال الإسرائيلي تجاه سوريا، أسهم في رواجها على نطاق واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وفي هذا السياق، أكد مدير مكتب العلاقات العامة في رئاسة الوزراء السورية، هشام الخطيب، أن الوثيقة المتداولة مزورة، وأن المنشورات المرفقة بها تمثل “معلومات مضللة”، وفقاً لما نقلته وكالة “فرانس برس”.
يشار إلى أن الأيام الماضية شهدت تصريحات عدائية متكررة من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه، يسرائيل كاتس، ضد سوريا وحكومتها، فقد أعلنا صراحة عن نية الاحتلال التدخل في الشؤون السورية الداخلية تحت ذرائع مختلفة، مثل “حماية الدروز” ومنع تموضع الجيش السوري في الجنوب.
—————————–
إسرائيل تطلب منع تركيا من إنشاء قواعد في سوريا
الثلاثاء 2025/03/04
طلبت إسرائيل من الولايات المتحدة، منع تركيا من إقامة 3 قواعد في سوريا، ومنع تشكيل تنظيمات معادية لتل أبيب، حسبما جاء في تقرير لصحيفة “إسرائيل اليوم”.
وقالت مصادر الصحيفة العبرية إن إسرائيل طلبت من واشنطن تمرير رسائل هادئة إلى أنقرة، من أجل منع إنشاء تلك القواعد، كما تمرر إسرائيل رسائل مماثلة إلى تركيا، عبر أذربيجان.
ويتواصل رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي مع واشنطن بهذا الشأن، لكن الرد الأميركي لم يتضح بعد، نظراً للمصالح المعقدة التي تربط إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنظيره التركي رجب طيب أردوغان.
وقالت المصادر إن أذربيجان تنقل رسائل تهدئة بين إسرائيل وتركيا. وترى تقارير أذربيجانية أنه على الرغم من الخطاب العدائي لأردوغان ودعمه لحماس، فإن باكو ترى بأن إسرائيل لا ينبغي أن تقلق من أردوغان.
وفي وقت سابق، تحدثت تقارير عن عزم تركيا إنشاء 3 قواعد عسكرية جديدة في وسط سوريا، ونشر نظام دفاع جوي ومقاتلات حربية، ضمن اتفاقية دفاع مشتركة مع سوريا، لكن أنقرة نفت ذلك رسمياً.
ازدياد النفوذ التركي
ولفتت الصحيفة إلى أن تل أبيب حذرت واشنطن من ازدياد النفوذ التركي في سوريا، بعد سقوط نظام الأسد. ونقلت عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إن لدى إسرائيل مخاوف من السلطة الجديدة في دمشق، المدعومة من الأتراك، وأن الحكام الجدد قد يشكلون تهديداً للحدود الشمالية.
وأضافت المصادر أنه مع تدهور العلاقات بين إسرائيل وتركيا بسبب الحرب في غزة، تزداد مخاوف إسرائيل من تأثير أنقرة على القيادة الإسلامية الجديدة في سوريا، كما تطالب من واشنطن الضغط على أنقرة لمنع تشكيل تنظيمات معادية لإسرائيل في سوريا مثل حركة “حماس” وغيرها، وضمان بقاء سوريا في حالة ضعف وتفكك.
حدود هادئة
في الأثناء، قال وزير الخارجية الإسرائيلية جدعون ساعر، إن المسألة في سوريا لا تتعلق بوحدة أراضيها، إنما مصلحة تل أبيب تقتضي أن تكون الحدود هادئة، مضيفاً أن إسرائيل “لن تسمح بتكرار سيناريو هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر (طوفان الأقصى)، على أي جبهة أخرى”.
وحذّر ساعر من “وجود جماعات إسلامية متشددة على الحدود، إذ سيكون ذلك تهديداً بالغ الخطورة على أمن إسرائيل”، مطالباً باحترام حقوق الأقليات في سوريا، بما في ذلك الأكراد.
ولفت إلى أن إسرائيل تتابع التطورات في سوريا عن كثب وستتخذ الإجراءات اللازمة لحماية أمنها القومي، حسب وكالة “رويترز”.
المدن
———————————–
وليد جنبلاط يدخل مجدداً دارة سلطان باشا الأطرش/ نور الهاشم
الثلاثاء 2025/03/04
في العام 1979، وخلال زيارته الى السويداء لتقديم واجب العزاء بشيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في سوريا، دخل الرئيس السابق لـ”الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط منزل الزعيم الدرزي سلطان باشا الأطرش في السويداء، حيث لاقى ترحاباً كبيراً. التُقطت صورة تذكارية للقاء، لكن أحد المصورين المرافقين لجنبلاط، اقترح أن الصورة تحتاج الى إضاءة، وطلب من الزعيمين التقاطها “في الضوء” خارج المنزل.
وحدث ما لم يكن متوقعاً. فحين دعا جنبلاط، مضيفه الأطرش، ليتقدمه بالخروج من المنزل، رفض سلطان باشا قائلاً: “نحن متفقون منذ مئات السنين، لا أحد يتقدم عليكم أنتم آل جنبلاط”. تلك العبارة التي كررها توفيق سلطان أكثر من مرة عبر الإعلام، إضافة إلى دلالتها في الأدبيات المعروفة لدروز الجبل والتي تضع الضيف قبل أصحاب الدار، كانت إشارة أيضاً إلى دعم وتقدير من زعيم تاريخي كبير في سوريا والمنطقة، لحيثية جنبلاط السياسية والزعاماتية اليافعة، إذ لم يكن قد مضى سوى عامين على خلافة وليد في لبنان لوالده كمال جنبلاط الذي اغتاله نظام الأسد.
ومن بعدها، توالت عقود حافلة، تخللتها حرب أهلية لبنانية طاحنة ونكبات فلسطينية متوالية، وضربات النظام السوري لأي دور سياسي أو حتى اجتماعي للمكونات السورية المختلفة بما فيها الدروز وزعاماتهم ذات الدور الريادي طوال قرون قبل استحواذ حزب “البعث” على الحكم. وذك خلافاً لوضع دروز لبنان الذين سمحت لهم التركيبة السياسة اللبنانية بالاحتفاظ بدَور وازِن وبِحِصّة من الحكم.
وخلال العقود هذه، تغير أيضاً الكثير في شكل الحيثية الجنبلاطية ودَورها، كما في أحوال دروز السويداء ولبنان، وكذلك تماوُج الدور الجنبلاطي، لا سيما منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وصولاً إلى الثورة السورية في 2011 وسقوط نظام الأسد…
مواجهة مع نتنياهو
هذه الرواية، تُستعاد اليوم، إثر التصريحات التي أدلى بها جنبلاط، على خلفية أحداث جرمانا. حذر من “مخططات تستهدف الدروز في المنطقة”. بدا جنبلاط، من موقعه، أكثر إصراراً على تأكيد الدور العربي للدروز، ورفض المشاريع الاسرائيلية لدروز سوريا، برفضه الاعتراف بتمثيل شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في فلسطين المحتلة، الشيخ موفق طريف، معتبراً أن المرحلة الحاليّة أخطر من المراحل السّابقة، وهو ما أعاد تأكيد الامتداد العربي لدروز المشرق، وانحيازهم إلى الامتداد هذا رغماً عن الرغبات الإسرائيلية.
إن الكلمة التي ألقاها شيخ العقل في لبنان و الكلمة التي ألقاها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، و اللتان تحدّدان البوصلة الصحيحة للدروز ، و أنه لا خيار للدروز سوى الانتماء لعروبتهم و الاندماج في أوطانهم مع مجتمعاتهم، و عدم الانخراط في أية أجندة تتنافى و هذا الخيار، تستحق الإشادة و…
— د. حسين المؤيد (@hussenalmoyd) March 3, 2025
بعد 46 عاماً
وجنبلاط، في ثباته أمام “الموج الإسرائيلي العالي”، يستعيد اليوم دخوله دارة سلطان باشا الأطرش مرة أخرى بعد 46 عاماً، ويكرس دوره، ويسترجع مضامين الزيارة الأولى وخلفياتها. قرر أن يضطلع بمهمة الدفاع عن دروز سوريا، انطلاقاً مما تعلّمه واختبره خلال تجربته السياسية الطويلة، ومقتدياً بسلطان الأطرش. أي بتأكيد عروبة الدروز الذين يواجهون الفتنة والتفتيت والحرب الأهلية، وأن عمقهم سوري عربي، لا إسرائيلي.
على مدى العقود الماضية، لم يدّعِ جنبلاط زعامته لدروز المشرق، ولا انضوى الأخيرون بكُلّيتهم تحت لوائه، رغم أنه ربما طمح إلى ذلك في محطات كثيرة. كان دائماً جاهزاً للاحتفاظ بعلاقات طيبة مع “عظام الرقبة” كلها. سياسته، دعم خصوصية الدروز في مناطقهم تحت السقف العربي. بدءاً من التسعينيات، فَقَد “مَونَته” على دروز فلسطين الذين أخرجهم العامل الإسرائيلي، بالإكراه، من حياديتهم وخصوصيتهم. أخرج بعضهم من جذوره، بالأمر الواقع، وهو ما تحدث عنه جنبلاط بوضوح في موقف إعلامي سابق، يُعاد نشره الآن.
#وليد_جنبلاط pic.twitter.com/ALjZrd8Vo2
— Nora Joumblatt (@NJoumblatt) March 3, 2025
دروز فلسطين
في العقد الأخير، تغوّل رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في رسم مصائر دروز فلسطين، مستفيداً من موقف الشيخ موفق طريف الذي تنكّر له جنبلاط، يومي الأحد والإثنين الماضيين خلال مؤتمرَين صحافيَين. استسلم جنبلاط لهذا المتغيّر، ربما، لكنه لم يستسلم لإرادة نتنياهو بتحويل الدروز الى فوهة بندقية له. مخطط نتنياهو بات واضحاً، يعمل على ضرب المكونات وأدوارها. ومن غير المسموح له، حسب تحرك جنبلاط، أن يتمدد لضرب هوية الدروز السوريين الذين، في الوقت نفسه، ينتظرون ما ستؤول إليه تركيبة سوريا الجديدة ما بعد الأسد، ودورهم فيها، بما يحافظ على خصوصيتهم ويلبي احتياجات منطقتهم ويحترم تاريخهم، كوطنيين ومؤسِّسين لدولة الاستقلال قبل مئة عام، وكجماعة تعيد صَوغ نخبتها وقياداتها.
وليد جنبلاط أكبر من الحدود والسدود. وليد جنبلاط زاوج بين السياسة والثقافة والقراءة العميقة للتاريخ. وليد جنبلاط ما بيغلط بالثوابت♥️📌 https://t.co/smTY5CEFOr
— نزيه الأحدب (@NAlahdb) March 3, 2025
وجنبلاط، بهذا المعنى، اختار المواجهة. لا يواجه “موج” نتنياهو، مدفوعاً بدعم واستسلام دوليين فحسب، بل يواجه طريف أيضاً، من قلب الطائفة. نجح جنبلاط في جهوده الأولى، حين دخلت قوات الأمن العام السورية، الى جرمانا. ويواصل مساعيه لتثبيت هذا الموقف، وإفشال مخطط نتنياهو بجرّ مكونات المشرق العربي الى صدامات داخلية تُضعف الدول، وتؤهل إسرائيل للسيطرة على مكونات ضعيفة، وتشرعن “يهودية الدولة”. أمام جنبلاط مهمة صعبة، ومشوار طويل. يخوضهما بإصرار، في سعي، على طريقته، للحفاظ على طائفة صغيرة في بحر يمور بالصراعات المحلية والإقليمية، ولعِلمه بأن أمان دروز سوريا من أمان دروز لبنان.
تضخيم مشاركات الشيخ #موفق_طريف العربية، وكأنه أول شخصية درزية تخرج من مجتمعها لتشارك في قمم، هو تقليل من شأن #الدروز.. عودوا الى الأمير شكيب أرسلان والمعلم كمال جنبلاط وعارف بيك النكدي وعجاج نويهض وغيرهم!
كفى تضليل للتاريخ وتشويه للحاضر ولعب بالمستقبل
— Abdullah Malaeb || عبدالله ملاعب (@AbdullahMalaeb) March 3, 2025
المدن
———————————
ماذا تذكّر الغارات الإسرائيلية السوريين اليوم؟/ محمد سليمان
الخميس 27 فبراير 2025
دعونا ننطلق من نقطة أساسية: قف دائماً في الجهة المقابلة للعدوّ الإسرائيلي، وستكون على حقّ. هذه قاعدة ذهبية لا تحتاج إلى تحليل سياسي معقّد، أو مناظرات فكرية مطوّلة. فكلما وقفت إسرائيل في جهة، من البديهي أن تكون الجهة الأخرى هي الصواب. وهذا ليس اجتهاداً سياسياً، بل حقيقة بسيطة تأكدت عبر عقود من الزمن، وبآلاف الغارات والصواريخ التي لا تفرّق بين أحد.
العدوان الإسرائيلي: هواية قديمة لا تنتهي
منذ أن قرّرت إسرائيل أنّ وجودها “المزعوم” في هذه المنطقة، أمر طبيعي، وهي حريصة على تذكير الجميع بعدوانيتها بين الحين والآخر، سواء عبر القصف، أو التوغل، أو الاغتيالات، أو حتى مجرد التهديدات التي تصدر بين وجبة حكومية وأخرى. وعلى مدار السنوات الماضية، تحوّلت الغارات الإسرائيلية على سوريا إلى شيء يشبه برنامجاً أسبوعياً، إلى درجة أنّ البعض في سوريا قد يضبط ساعته على توقيت الغارة القادمة، تماماً كما يحدث مع المسلسلات التلفزيونية.
أما التبرير الإسرائيلي لهذه الضربات، فهو أكثر الطرائف السياسية التي يمكن سماعها في هذا العصر: “الدفاع عن النفس”. وكأنّ قصف مواقع في دولة ذات سيادة، على بعد مئات الكيلومترات من تل أبيب، يدخل ضمن تعريف الدفاع عن النفس الذي لم ندرسه في أيّ كتاب قانوني أو سياسي من قبل. لكن لا بأس، فالإسرائيلي لا يحتاج إلى تبريرات مقنعة، طالما أنّ العالم مستعدّ لتصديق أيّ شيء يصدر عنه، مهما كان عبثياً.
إسرائيل والخدمات المجانية للسوريين
ولأنّ الشمس لا تُغطّى بغربال، و”ما فينا نتخبّى ورا خيال إصبعتنا”، فلا داعي لإنكار الحقيقة: السوريون منقسمون. طائفياً؟ نعم. سياسياً؟ بالتأكيد. عرقياً وأيديولوجياً؟ بالطبع. لكن وسط هذه الفوضى، تأتي الغارات الإسرائيلية لتذكّر الجميع بأنّ هناك عدوّاً مشتركاً، لا يفرّق بين أحد، ولا يهتمّ لأي تصنيفات داخلية. وهكذا، يجد السوريون أنفسهم، ولو للحظات نادرة، موحّدين في وجه العدوان، ومتّفقين على موقف واحد: “إسرائيل عدوّ، وعدوانها مرفوض”.
قد يكون من الصعب اليوم العثور على نقطة يلتقي حولها السوريون جميعاً، بعد أكثر من عقد من الانقسام والتشظّي. قد يختلفون في السياسة، والاقتصاد، والأيديولوجيا، وحتى على نوعية القهوة المفضلة، لكنهم يجتمعون، ولو بغير اتفاق مسبق، على رفض الاعتداءات الإسرائيلية. وهذه الوحدة العفوية قد تكون آخر ما تبقّى من ملامح الوجدان الجمعي السوري، ذلك الشعور الذي كان يوماً ما بديهياً قبل أن تفتّته السنوات العجاف.
أما بالنسبة إلى السويداء، التي يحاول نتنياهو، الحديث عن “حمايتها” و”حماية الدروز فيها”، فقد جاءه الردّ سريعاً من ساحات الكرامة، حيث رفض أبناء الجبل أيّ تدخّل إسرائيلي في شؤونهم الداخلية. يحدّثني صديقي عن عادة قديمة لدى أهالي السويداء في إكرام الضيف؛ عندما يريدون التعبير عن ترحيبهم الكبير بشخصٍ ما، يقدّمون له الرصاص على طبق، فيأخذ رصاصةً ويضعها في جيبه كتعبير عن الثقة والاحترام. فإذا كان أهالي السويداء يستقبلون ضيوفهم بالرصاص، فكيف، يا “بيب”، سيكون استقبالهم لك إن حاولت الدخول إلى أراضيهم؟
والدليل؟ خروج طلاب السكن الجامعي الذي يضمّ خليطاً من المحافظات السورية كلها، إلى الساحات، بعد أقلّ من ساعة على العدوان، وهم يهتفون: “يا درعا نحنا معاكِ للموت_ الموت ولا المذلّة عن الجنوب لا ما نتخلّى”. كأنهم يقولون بشكل غير مباشر: لدينا من المشكلات ما يكفينا، ولسنا بحاجة إلى عدوّ إضافي يختبر صبرنا.
التطبيع؟ شكراً… لا نريد المزيد من الكوارث
في خضمّ هذا المشهد، يأتي من يحاول إقناعنا بأنّ التطبيع مع إسرائيل قد يكون حلّاً. وهنا يجب أن نتوقف للحظة، ونفكر في الأمر بعقلانية (قدر الإمكان). من الناحية الواقعية، ما الذي سيجنيه السوريون من التطبيع مع كيان يقصف أراضيهم بشكل روتيني؟ هل سيحصلون على أسعار مخفّضة للفواكه الإسرائيلية؟ هل ستتوقف تل أبيب عن قصفهم فجأةً بدافع الامتنان؟ أو أنّ التطبيع سيكون مجرد إضافة جديدة إلى سلسلة الكوارث التي لم تعُد سوريا تحتملها؟
كل ما في الأمر أنّ الإسرائيلي، بعنجهيته المعتادة، يفترض أنّ الجميع سينتهي بهم المطاف إلى طرق بابه، متناسياً أنّ هناك شعوباً قد تضعف، تُنهك، وتتعرض لكل أشكال الضغوط، لكنها في النهاية تعرف أنّ هناك خطوطاً لا يمكن تجاوزها، وإسرائيل خطّ من هذه الخطوط. السوري، الذي ربما فقد الكثير، لم يفقد بعد وعيه بهذه القضية، ولا يحتاج إلى تذكير بأنّ العدوّ لا يتحول إلى صديق بجرّة قلم، أو بصفقة اقتصادية، أو بمكالمة هاتفية تحت الطاولة.
“شكراً إسرائيل؟”
أكبر خدمة يمكن أن يقدّمها أحد للشعب السوري، هي تحديداً ما يفعله نتنياهو، الآن. فهذه ربما أقرب فرصة لنا كشعب لنلتقي في نقطة مشتركة، وننسى -ولو مؤقتاً- كلّ الخلافات التي قسمت البلاد وأهلها لسنوات. وإن لم نغتنم هذه اللحظة، فقد نكون قد أضعنا على أنفسنا وعلى البلد فرصةً للوحدة قد لا تتكرر في المستقبل القريب.
السوري قد يختلف مع السوري على أيّ شيء: السياسة، الاقتصاد، الهوية، وحتى على نوع القهوة الأفضل. لكنه لا يختلف أبداً على العداء لإسرائيل. هذه القناعة، المتجذرة في الوجدان السوري، لم تفلح كل الأحداث والتغيرات في زعزعتها، وهي ربما آخر ما تبقّى مما يجمع السوريين جميعاً، برغم كل شيء.
رصيف 22
————————-
جرمانا تحت التهديد.. إسرائيل تستغل الفوضى الأمنية لفرض وقائع جديدة
2 مارس 2025
قال تقرير لـ”التلفزيون العربي” إن إسرائيل تقود حملة منسقة للضغط على الولايات المتحدة من أجل السماح لروسيا بالاحتفاظ بقاعدتيها العسكريتين في سوريا، بغرض مواجهة النفوذ التركي المتزايد والداعم للإدارة الجديدة، وذلك نقلًا عن مصادر لوكالة “رويترز”.
يأتي ذلك رغم إعلان وزير الدفاع السوري، مرهف أبو قصرة، انفتاح سوريا على استمرار القواعد الروسية في طرطوس وحميميم، بشرط تحقيق مكاسب لسوريا. كما أشار إلى أن العلاقة مع موسكو شهدت تحسنًا ملحوظًا منذ سقوط بشار الأسد، مضيفًا أن دمشق تدرس المطالب الروسية المتعلقة بقواعدها العسكرية.
وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، سبق وصرّح بأنه “لا يثق بالحكام الجدد في سوريا، وأن إسرائيل لن تتهاون مع وجود أي قوات مرتبطة بالإدارة الجديدة في جنوب سوريا”، وهو ما أكده وزير خارجيته جدعون ساعر قبل أيام خلال لقائه وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، بوصفه الإدارة في سوريا بأنها “جماعة إرهابية” استولت على دمشق بالقوة.
ويتزامن الموقف الإسرائيلي مع توغل قوات إسرائيلية معززة بالدبابات والجرافات في مناطق ريف القنيطرة جنوبي سوريا، في محاولات توسع وانتهاكات إسرائيلية قابلها السوريون بالمظاهرات.
ففي بلدة خربة غزالة بريف درعا الشرقي، تظاهر أهالي البلدة ضد التدخل العسكري الإسرائيلي في شؤون بلادهم. وفي مدينة دوما بريف دمشق، خرجت مظاهرة للمطالبة بانسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي السورية والكف عن التدخل في شؤون البلاد، التي ازدادت وتيرتها في الآونة الأخيرة، وبدأت تكشف عن نوايا إسرائيل تجاه النظام الحالي في سوريا.
وأفادت وزارة الأمن الإسرائيلية بأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن يسرائيل كاتس، أوعزا للجيش بالاستعداد للدفاع عن بلدة جرمانا، معتبرين أنها “تتعرض لهجوم من قبل النظام السوري”، وقال كاتس في بيان رسمي: “لن نسمح للنظام السوري بإيذاء الدروز. إذا آذى النظام الدروز، فسوف نضربه”.
جاء ذلك في أعقاب اشتباكات شهدتها جرمانا، مما اعتبره البعض محاولة إسرائيلية لاستغلال الأحداث وخلق مبرر للتدخل العسكري في سوريا، خاصة في ظل الحديث عن مشروع لتوسيع “منطقة عازلة” في الجنوب السوري.
ويرى مراقبون أن إسرائيل تحاول استغلال الفوضى الأمنية لتعزيز نفوذها، وتحقيق مكاسب أمنية بعد حرب الإبادة في غزة والعدوان على لبنان وسقوط نظام الأسد. وبهذا المنحى، فإن كل التصريحات الإسرائيلية حول “حماية الدروز” ليست إلا ذريعة للتدخل في الجنوب السوري وفرض منطقة عازلة جديدة تمتد إلى مشارف دمشق.
ومع غياب رد فعل قوي من دمشق، فإنها تستمر في فرض أمر واقع جديد، خاصة في ظل الغطاء السياسي الذي تحصل عليه من واشنطن، والتنسيق المستمر مع بعض القوى الدولية والإقليمية.
وكانت بلدة جرمانا قد شهدت أمس توترات أمنية افتعلتها إحدى التنظيمات التي ترفض التخلي عن سلاحها ما أدى إلى مقتل أحد عناصر الأمن السوري، على يد تنظيم مسلح مرتبط بالنظام السابق يدعى “درع جرمانا”، الأمر الذي قاد، بحسب تقارير محلية، إلى فرض قوات الأمن العام السوري طوقًا أمنيًا على مداخل ومخارج البلدة، حيث أمهلت السلطات الأمنية المسلحين خمسة أيام لتسليم السلاح ورفع الحواجز، في إطار مفاوضات يقودها وجهاء المدينة مع إدارة الأمن العام.
—————————
========================