نقد ومقالات

غواية الكلام/ نجوى بركات

04 مارس 2025

لا تنتهي كلّ الأشياء بالطريقة نفسها، وثمّة أمور لا تنتهي فعلاً، أو لا ينتهي أثرُها، وإن انتهت. ثمّة كتبٌ لا ننتهي منها بقراءتها، وحين أقول كتباً، أعني كتباً حقّة، لا مجرّد كلماتٍ وأسطر اجتمعت بين دفّتي غلافٍ لا يحويان ولا يقولان في الحقيقة الشيء الكثير، فالكِتاب لا ينتهي بمجرّد قراءته. هكذا أعزّي نفسي واعدةً إيّاها بالعودة إليه لاحقاً. قرأت الكثيرَ الكثيرَ في مراهقتي وشبابي. ما زلت أقرأ، إنّما ليس بالحماسة والإيمان نفسيهما. كان هوسُ القراءة لديّ قادماً من أمكنة متنوّعة، الرغبة في المعرفة والإطلالة على ما يملك معنى، على ما يُفسِّر المُستعصِي على الفهم أو القبول، على ما يصالِح مع الذات ومع الآخرين، يُعبِّر عن الرفض، التمرّد، ويُشرعِن ذلك الشعور القاهر بالوحشة والنفور اللذَين قد يسيطرا على رؤيتنا لهذا العالم، فتياناً وفتيات. ثمّة ما بقي أثرُه ولا يُمحى، وثمّة ما تبخّر في الهباء. الذي بقي أكثر بكثير، لا ضرورة لذكر أسماء وعناوين، لكلّ منّا فهرسه، خزنته، ثروته من القراءات.

لكن، هل أقرأ اليوم بالعينَين اللتَين كانتا لي عندما كنت في المراهقة والشباب؟ قطعاً لا، فنحن لا ندخل في المياه نفسها مرَّتين، ثمّ إننا لو دخلنا فيها لن نكون نحن أنفسنا، لأننا نكون قد كبرنا ولو ثوانيَ. مع العمر، نحن نتبدّل، الحياة تتبدّل، ثمّة شعرات تقع من رؤوسنا وأخرى تبيضّ، ثمّة قتلى وحروب وذكريات تتفتّت، وجغرافيّة تمضي، وتاريخ يراوح في مكانه، ثمّة خلايا تتلف ودم يتلوّث، وإن تجدّد باستمرار. هل أقرأ ناضجةً مثلما كنت أقرأ في السابق؟ قطعاً لا. في القراءة اللاحقة نوع من الواجب المهني، أو الاجتماعي، أو ببساطة الاطّلاعي، فلا بدّ من أن تصل إليك الجعجعة مهما نأيتَ وأقصيتَ نفسك وأوصدت عليك ورفعتَ من حولك الأسوار، بحيث تصدّق أنك بالفعل قد فاتك الكثير. لكنّ الكثير الذي أمامك ليس سوى الخيبة، والقليل القليل من المفاجآت.

لقد فاض نهرُ الكتب فجأةً وخرج من مساره الطبيعي، وشبه أغرقنا جميعاً. تضخّم غديرُ الكتابة، ثمّ خرج إلينا بعناوين يصعُب على المراقب إحصاؤها، عناوين أخذت تتكاثر كالجراد، قاضمةً الأخضر واليابس معاً. قيل دليلُ صحّة، وقيل لوثةٌ اجتاحت عالمنا ولا خلاص منها بعد الآن. لست أدري ما هذا التوق الجارف إلى القول، البوح، السرد والاعتراف، حين لا يكون لديك فعلاً ما يستأهل أو يفيد. حبُّ الحكاية متأصّلٌ فينا منذ أن وُجِد البشر في هذه الفانية، هذا صحيح، لكنّه كان حبّاً نقياً حفظ نفسه طويلاً من الفساد واللبس وولع الظهور. كان خطُّ الفصل بين الحكّائين والمستمعين بيّناً، بين الكتّاب والقراء مرسوماً بكل وضوح، وكانت أمورُنا بخير. ما الذي حدث لتُرفع فجأةً كلُّ الخطوط، فتُسفَّه المسائلُ ويختلط الحابلُ بالنابل، وينتقل الجميعُ من مواضعهم قرّاء، إلى الموضع المقابل؟ ثمّة من أراد العبث في سرّ النار التي تُمنَح لقلائل مختارين قد يدفعون حياتهم ثمناً لما أعطوا. ما الذي أغوى هذه الكثرة كلّها، فأقنعها أن نار الموهبة في متناول الجميع، وأنها غير حارقة، ويمكن اللهو بها كما نلهو بالماء. لا مساواة في توزيع الموهبة، أجل، لا عدل في توزيع مَلَكة الإبداع، لا. والغراب الذي يقتات من أكباد الكتّاب والشعراء والفنّانين، يأنف اللحوم البلاستيكية التي لا تجري فيها دماء.

حقّاً، ما الذي يختبئ خلف غواية القول حين تُدرك أن كلامكَ العابرَ لن يتجاوز لحظة ما تفتعله حولك من صخب وتصفيق. كن على يقين أن ما تفتعله، ويعينك كثيرون على افتعاله، دورُ نشر، وجوائز، ودعاية، ومطبّلون، ومصفّقون، لا يعدو عاصفةً في فنجان، أين منها هدير العواصف الحقّة، التي تقتلع عالمك، تهزّ كيانك، وتعيث في روحك زلزالَ أسئلةٍ وشكوكاً.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى