تحقيقاتسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

نساء السويداء في قبضة التواطؤ: تحقيق يكشف تنسيق ميليشيات محلية مع أجهزة أمنية لملاحقة نساء وقتلهنّ/ صوفيا الأسعد

04-03-2025

         *****

        في مدينة تسيطر عليها الميليشيات ويتلاشى فيها القانون، تصبح النساء أهدافاً سهلة للعنف والانتهاكات. بين أزقة السويداء الضيقة وأسواقها القديمة، تتكشف حكايات مأساوية عن نساء سُلبت حقوقهن في وضح النهار، في ظل تواطؤ الأجهزة الأمنية مع الجماعات المسلحة.

        ما بين العنف الجنسي، والاختطاف، والقتل، تغرقُ السويداء في فوضى قانونية تدفع النساء ثمنها الأكبر، حيث لا حماية ولا عدالة، بل هيمنة السلاح والخوف.

        يكشف هذا التحقيق تفاصيل صادمة عن كيف أصبحت النساء رهائن لصراعات القوى والنفوذ، وعن الأيادي الخفية التي تُحرّك الأحداث. قد يبدو الزمن اليوم متأخراً على هذا التحقيق بعد سقوط نظام الأسد الذي تُشكّل أجهزته الأمنية وسياسته جزءاً أساسياً من الحكاية، لكن بقاء المدينة تحت سلطة قوى الأمر الواقع، وعدم استكمال بناء سلطة جديدة قائمة على حكم القانون حتى الآن، يعني أن المخاطر التي تحيط بالنساء ما زالت مرتفعة.

        نتائج التحقيق:

        أدّى غياب الحماية القانونية إلى تصاعد الانتهاكات ضد النساء، بما في ذلك العنف الجنسي والاختطاف. وقد استهدفَ العنف السياسي الممنهج من قبل النظام السوري السابق المجتمع عموماً والنساء خصوصاً، عبر تعزيز دور الميليشيات على حساب القانون، ما جعل مصير النساء رهينة للتحكم والتقييد. المبادرات المحلية لدعم النساء تواجه قيوداً شديدة، بسبب نقص الموارد والتهديدات الأمنية.

        يتناول التحقيق كيف تحولت قضايا مثل قضية جلنار عزقول ومازن الشاعر إلى رموز لصراع مُعقَّد بين العادات الاجتماعية، القوانين الغائبة، والميليشيات المتورطة.

        الأطراف المتورطة في قضية جلنار ومازن واضحة؛ والد جلنار وقوى الأمر الواقع مُمثَّلة بقادة الميليشيات.

        في إطار التحقيق، حصلنا على صورة حصرية غير منشورة من قبل، يظهر فيها عاطف عزقول، والد جلنار الضحية، إلى جانب مهند مزهر، قائد مجموعة مسلحة محلية تابعة لشعبة المخابرات العسكرية في السويداء، برفقة رجل ثالث من إحدى الفصائل، وهم يقفون أمام فرع الأمن الجنائي في المدينة، قبل أن يُسلِّم عاطف نفسه. من هنا، بدأت رحلتنا لكشف الحقيقة.

        كانت قضية جلنار عزقول ومازن الشاعر المحطة الأولى التي دفعتنا إلى البحث، ومن خلالها كشفنا عن حقيقة قاسية: كيف يؤدي غياب المؤسسات القضائية والمحلية، إلى جانب تواطؤ السلطات مع الميليشيات، إلى جعل النساء في السويداء دون أي حماية قانونية؟ وكيف وجدنَ أنفسهنَ، بدلاً من اللجوء إلى العدالة، في مواجهة نظام قضائي وأمني وسياسي لا يرحم، يُعمّق معاناتهنّ من الانتهاكات والتمييز في القانون وفي تطبيقه؟

        مازن واجه المصير، وجلنار دفعت الثمن

        كان مازن الشاعر وحيداً، يواجه مجموعة من الرجال، عيناه تُحدّقان في المجهول. بصوتٍ منخفض بالكاد يُسمَع، قال: «جلنار لم تخطئ، أنا السبب. سامحوني، سأفعل ما يجب». لم يتراجع، لم يتردد. كان يعرف أن النهاية قريبة، لكن الصمت كان أشد وقعاً من الرصاص الذي أنهى حياته بعد لحظات.

        وُثِّقت اعترافاته في مقطع فيديو، بدا كجلسة محاكمة علنية تتضمن إعلان نهايته برصاص أهل جلنار.

        في بلدة قنوات، التي تبعد نحو 7 كم شمال شرق السويداء، الحكايات لا تموت بسهولة، لكنها تُدفَن عميقاً مع أصحابها. بعد يومين فقط من مقتل مازن، كانت جلنار عزقول تواجه مصيرها المأساوي. القتل لم يكن عقاباً لها فقط، بل رسالة لكل فتاة قد تحاول الهروب كما فعلت جلنار.

        لم يكن أمام والدها مَهرب من مواجهة ما جرى، فقصُّتها مع مازن الشاعر أصبحت على كل لسان، وانتشرت تفاصيلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة بعد اعتراف الشاب بقيامه بالاعتداء الجنسي عليها.

        في صباح الخامس من أيلول (سبتمبر) 2024، تَوجّه عاطف عزقول، والد جلنار، برفقة أحد قادة الميليشيات المعروفين في المدينة إلى إحدى مقرات الأجهزة الأمنية لتسليم نفسه بعدما قتل ابنته.

        يقول مصدر من عائلة جلنار (رفض نشر اسمه): «الأب عاطف كان رجلاً بسيطاً، لكن مصيبته كانت أكبر مما يَحتمل. ابنته خُطفت وتعرضت للاعتداء، ثم انتشرت صور قاسية عنها، وكأنها كانت على علاقة بمازن. ضغطُ المجتمع كان شديداً، خاصة بعدما طالبت عائلة الشاعر بالقصاص. كل تلك الأمور تراكمت حتى انكسر. قتل جلنار وسلّم نفسه. عَرفتُهُ لعشرات السنين، ولم يكن يوماً مجرماً. ما حدث جعله يفقد صوابه».

        في المدينة، الوجوه جامدة، والكلمات مفقودة. لا أحد يسأل، ولا أحد يجيب.

        النساء في مرمى الميليشيات

        في ربيع العام 2011، انطلق في سوريا حراك مناهض للرئيس المخلوع بشار الأسد في معظم المدن السورية. ومع تصاعد العمليات العسكرية، امتنعت مدينة السويداء عن إرسال شبابها للقتال في جيش النظام، ما أدى إلى تراجع دور مؤسسات الدولة بشكل كبير بحلول عام 2018. في تلك الفترة، تشكّلت حركة رجال الكرامة بقيادة الشيخ وحيد البلعوس، كتيار محلي يسعى لحماية أبناء المنطقة من التجنيد الإلزامي والتدخلات الخارجية.

        لكن سرعان ما تحركت الأجهزة الأمنية لإنشاء ميليشيات صغيرة خارجة عن إطار الدولة، لتُعيد بذلك إنتاج نفسها عبر قوات مسلحة غير رسمية تُنفّذ أجنداتها، وتفرض هيمنتها على المدينة بالقوة والسلاح، وتُرهب السكان، وتتغلغل داخل المجتمع المحلي.

        مهند مزهر وراجي فلحوط، من أبرز قادة هذه الميليشيات، استخدمتهما الأجهزة الأمنية للتدخل في شؤون المدينة، بما في ذلك القضايا المجتمعية، وكانا من المتورطين الرئيسيين في العنف المباشر ضد النساء في السويداء.

        قضية جلنار ومازن؛ العنف بأبشع صوره

        تابعت مُعدَّة التحقيق عن كثب قضية جلنار عزقول ومازن الشاعر، بهدف كشف التواطؤ بين الأجهزة الأمنية والميليشيات المسلحة ودورها في تصاعد العنف ضد النساء. أجرت تحقيقاً مُعمَّقاً، تضمَّنَ مقابلات مع الأطراف المتورطة، وأعادت بناء الرواية، كاشفة كيف دفعَ تَدخُّل هذه الجهات عائلة جلنار إلى ارتكاب الجريمتين.

        لا يمكن إنكار أن خيوط قصة جلنار ومازن متشابكة، حيث امتزجت فيها المشاعر العاطفية بالعنف والاستغلال، لتبدو في بعض الأحيان غير مفهومة. كيف انتقلت علاقة حب إلى عملية اختطاف ومطالبة بفدية؟

        بحسب إفادة مازن في الفيديو المنشور، تحدثت جلنار عن الوضع المالي الجيد لعائلتها، واتفقا معاً على طلب المال من والدها بحجة الاختطاف، وذلك بهدف تأمين زواجهما:

        «أنا لم أكن أختطفها أو أنوي بيعها، أنا قلتُ ذلك فقط لأضغط عليه حتى نتمكن من الزواج في أقرب وقت ممكن»؛ يقول مازن.

        اعترافات مازن الأخيرة: حقيقة أم تحت التهديد؟

        انتشرت تفاصيل القصة بعد تداول فيديو يُظهر اعترافات مازن عزقول في مجلس عشائري، حيث كان جالساً على الأرض ويُدلي باعترافات متناقضة تفيد باختطافه لجلنار واعتدائه عليها. تعرَّضَ خلال إجاباته للعديد من المقاطعات، حتى انتهت القصة المأساوية بمقتله رمياً بالرصاص على يد أقاربها.

        تفاجأت عائلة مازن بالحادثة، وأصدرت بياناً (نشرته صفحة السويداء 24 على فيسبوك) دحضت فيه رواية اختطاف الفتاة، حيث قالت شقيقة مازن: «البنت هي من فتحت الأبواب عندما جاءت مجموعة مهند مزهر لأخذها».

        لم تكتفِ العائلة بالبيان فقط، بل نشرت صوراً لمتعلقات قالت إنها تخصّ جلنار، تظهر فيها ملابس وحبوب منع الحمل. كانت هذه الصور بمثابة «فضيحة» للعائلة، وعاملاً أساسياً في الدفع إلى ارتكاب الجريمة بحق الفتاة بعد يوم واحد.

        لا توجد رواية حقيقية لما حدث، فالمَعنيون بالقضية قُتلوا، والاعترافُ بالاعتداء انتُزعَ من الشاب تحت التعذيب. كما أن العائلتين أصدرتا بيانين متناقضين، فيما بقية الروايات تُروى من قبل الشهود.

        حاولت مُعدِّة التحقيق الاتصال بشادي، شقيق جلنار، لكنه رفض الإجابة. واكتفى بالإشارة إلى أنه «لا يحق لأحد أن يسأل عن هذه القضية. كل ما نُشر في الإعلام ليس صحيحاً»، وأضاف باقتضاب: «لا أملك شيئاً لأقوله. الأشخاص الذين يهمهم الأمر عرفوا الحقيقة، والصورة وصلت لهم. الباقي لا قيمة له». ثم أردف بعد صمت: «شكراً لتعاطفكم، ولكن ليس لدي ما أقول، أعتذر».

        لم يكن الخلاف مقتصراً على تفاصيل الجريمة فقط، بل امتد إلى تناقض حول سن جلنار. في حين قالت عائلتها إنها قاصر، طالبت عائلة الشاب بالكشف عن حقيقة عمرها، مع رفضها تبني الادعاء.

        عائلة جلنار، في بيان نشرته عبر صفحات الفيسبوك، قالت: «نحن أهل قنوات، قمنا بالقصاص منه ليكون عبرة لمن يتطاول على أعراض الناس. هذه الحادثة، التي وقعت في هذا الجبل، شهدت اختطاف فتاة قاصر لم تبلغ سن الرشد بعد، وطلب فدية بعد الاعتداء عليها».

        ورغم طلب الشاب الزواج من الفتاة، لكنه قوبِلَ طلبه بالرفض. كما تسمح المحكمة الدرزية بزواج الفتاة القاصر في سن الـ15، حسب آخر تعديل لقانون الأحوال الشخصية للموحدين الدروز في المادة الخامسة منه.

        قانون الدولة العاجز

        تَحوَّلَ دور الميليشيات إلى سلطة فعلية في المدينة وريفها، بدفع من الأجهزة الأمنية في ظل تراجع الدولة منذ عام 2018، لتجد النساء أنفسهنّ في مواجهة تهديدات متعددة في غياب أي حماية قانونية حقيقية.

        خلال متابعة التحقيق، وصلنا إلى شاهد من أهل جلنار (لم يرغب في الكشف عن هويته لحساسية القصة)، قال لنا: «بعد وصول رسائل طلب الفدية لإطلاق سراح جلنار إلى هاتف والدها، قام بتسليمها إلى الشرطة، ومن هناك تم تحويله إلى فرع أمن الدولة في السويداء لمتابعة الرقم».

        وبحسب الشاهد: «أخبر فرع أمن الدولة والد جلنار بأنه يجب عليه الاستعانة بالميليشيات، لأنهم لا يستطيعون التحرك في ظل الظروف الراهنة».

        بعد ذلك، توجهت العائلة إلى أحد وجهاء المدينة المعروفين، وهو الشيخ رامي اشتيّ، الذي وجههم نحو مهند مزهر، وهو قائد ميليشياوي مُتَّهم بعمليات خطف وقتل وتجارة المخدرات في مدينة السويداء، ومعروف بعلاقاته الأمنية.

        وبذلك، استعانت العائلة بالمشايخ للتدخل، الذين بدورهم دعموا تَدخُّل قادة الميليشيات، وبعدها قُتل كلٌّ من مازن وجلنار.

        تمكنت معدة التحقيق من إقناع مهند مزهر، الهارب من سوريا، بالحديث عن القضية. وأكّدَ أنه بدأ التدخل لمعرفة مكان الفتاة وتتبعها عبر الأجهزة الأمنية، بناءً على طلب من عائلة الفتاة. وبعد مقاطعة شهادته والأدلة التي جمعت عن علاقته بالأطراف المختفية في القضية، تبين دور مزهر المحوري الذي تجلّى كما يلي:

        بعد جلب الفتاة من المنزل الذي كانت تتواجد فيه إلى منزله، استدرجَ عائلة مازن بحجة حَلِّ المشكلة ودياً (شقيقة مازن أكدت لنا هذه الرواية أيضاً)، بهدف إقناع مازن بتسليم نفسه للعناصر المسلحة التي أرسلها مزهر لجلبه من ثكنته العسكرية. تؤكد شقيقة مازن أن مهند مزهر طلب منهم إقناع شقيقها بالعودة إلى السويداء وتسليم نفسه، لأنه لم يكن يستطيع الوصول إليه بنفسه. تقول: «اتصلت فيه وسألته أين أنت؟ قال لي إنه في وحدته العسكرية (مازن كان في الخدمة الإلزامية). قلتُ له نحن عند مهند مزهر. وقتها خطف مهند مزهر الجوال من يدي وقال له: أهلك عندي هون. يا بتجيب البنت، يا أهلك بيضلوا عندي».

        يدّعي مهند مزهر أنه طلب من مازن أن يتكتم على قضية الاعتداء الجنسي، لكنه يقول إن الأخير اعترفَ بالحادثة. هنا تَظهر التناقضات في رواية مهند، حيث يؤكد من جهة أنه كان يحقق مع الشاب، ومن جهة أخرى يقول إنه طلب منه إنكار واقعة الاعتداء على جلنار. في الوقت نفسه، تعرَّضَ الشاب لتعذيب شديد أثناء احتجازه لدى مهند، وهو ما تؤكده الشهادات والوثائق التي بحوزتنا.

        بعد قتل مازن، يقول مهند مزهر إنه رفض في البداية تسليم الفتاة، لأنه كان يتوقع أن النتيجة ستكون القتل، وإنه بعد إلحاح طويل من العائلة طلب من والد جلنار التوقيع على تعهُّد بعدم المساس بالفتاة أمام وجهاء المدينة، وبحضور الشيخ مهران جزان. لم نستطع التأكد من هذه الرواية من مصدر آخر.

        صورة تُنشَر للمرة الأولى، يظهر فيها عاطف عزقول (في الوسط) مع مهند مزهر (إلى يمينه) ورامي اشتيّ (إلى يساره) أمام فرع الأمن الجنائي في السويداء، قبل قيام عاطف بتسليم نفسه بعد أن قتل ابنته جلنار ومازن الشاعر.

        عدالة ميليشياوية

        التفاصيل التي كانت مَخفية في قضية مازن وجلنار تكشف عن الدور الذي لعبته ميليشيا مهند مزهر. هذا التدخل من الميليشيات في الحياة العامة وتحولها إلى دور الضابطة العدلية، حتى في القضايا ذات الحساسية الاجتماعية الشديدة، يمثل سياسة ممنهجة، كما يتضح في حالات أخرى تتعلق بانتهاكات ضد النساء.

        في سياق البحث عن المزيد من الأدلة عن علاقة الميليشيات والأجهزة الأمنية بالعنف المُمارس ضد النساء، حضرت قصة سيدة أخرى كانت قد اختفت لفترة في المدينة، تورّطَ فيها راجي فلحوط، وهو قائد ميلشيا أيضاً.

        القصة المصورة والموثقة بالفيديو صادمة، حيث يظهر مجموعة من المسلحين وهم يقتادون امرأة إلى ساحة عامة في بلدة قنوات في ريف السويداء، بينما يوجهون لها الإهانات والركل. وبعد محاولتين فاشلتين لإطلاق النار على رأسها من أحد أقاربها، قام مسلح آخر بفتح النار عليها من بندقية آلية، ليعلو الصراخ بعدها وينتهي المقطع المصور.

        حصلت الجريمة في السابع من  آب (أغسطس) 2022، ونشرت شبكة السويداء 24 تقريراً عن الحادثة، كانت الحكاية مغطاة بالكتمان، لكن الفيديو الذي سُرِّبَ بعد تفكيك ميليشيا راجي فلحوط، التابع للمخابرات العسكرية، أظهر وجه القصة بالكامل.

        تفككت ميليشيا راجي فلحوط المعروفة باسم «حركة قوات الفجر» في شهر تموز من عام 2022، حيث شهدت محافظة السويداء صدامات مسلحة سقط فيها قتلى وجرحى، وقد تم حسمها بعدما تمكنت فصائل محلية تتقدمها «حركة رجال الكرامة» من القضاء على مجموعة راجي فلحوط المتمردة عن عباءة الحركة، والمدعومة من شعبة الاستخبارات العسكرية التابعة للنظام السوري.

        بالعودة إلى الفيديو، كان صوت راجي فلحوط يتردد بين المسلحين، وهو يأمرهم بإلقاء المرأة على الأرض قبل أن يفتح أحدهم النار عليها. وفي تلك اللحظة، كان المدعو سليم حميد، الذي قاد ميليشيا أخرى تحت راية المخابرات العسكرية تعرف باسم «قوات الفهد»، يقف بجانبه. كان كل شيء يسير وفقاً لأوامرهم، كما لو أن حياة الناس لا تساوي شيئاً أمامهم.

        ولأن الحكاية لا تنتهي هنا، واصلنا البحث. تمكنا من الوصول إلى عنصر تابع في ميليشيا فلحوط، شخصٌ هارب كان جزءاً من القصة المظلمة. اشترط هذا الشخص عدم الكشف عن هويته أو مكانه، لكنه وافق على أن يروي ما حدث.

        قال لنا الشاهد: «في صيف 2022، فقدت عائلة المرأة الاتصال بها، فاستنجدوا براجي فلحوط، الرجل الذي كان يملك القدرة على تحريك كل شيء. قيادة الشرطة اعتذرت عن متابعة القضية. فلحوط أرسل رقمها مباشرة إلى اللواء كفاح الملحم، الذي كان يقود شعبة المخابرات العسكرية آنذاك. الملحم حدد الرقم الذي كانت تصله المكالمات الأخيرة، وتعرف على صاحب الرقم ومكانه».

        كان كل شيء يدور حول السلطة، والرقم، والمكان. الحياة هنا مجرد تفاصيل صغيرة تختفي بين يدي أولئك الذين يملكون القوة ويعتقدون أن لديهم حق تقرير مصير النساء.

        في الفيديو الذي انتشر، كان صوت راجي فلحوط يتردد بوضوح وهو يأمر المسلحين بوضع المرأة على الأرض. ثم جاء دور أحد أقاربها الذي حاول إطلاق النار على رأسها بمسدس سلمه إياه سليم حميد. لكن الرصاصة لم تخرج رغم محاولاته المتكررة. وعندما فشل، اقترب مسلح آخر وأطلق النار من بندقية روسية باتجاه المرأة الممددة على الأرض. انتهى المشهد بمحاولة المسلحين الآخرين منع الشخص من الإجهاز عليها.

        وفقًا لمصادر شبكة السويداء 24، يعود الفيديو إلى شهر تموز (يوليو) 2022، وتظهر فيه المرأة التي أصيبت بعدة رصاصات في ساقها، وتم نقلها إلى المستشفى حيث أنقذ الأطباء حياتها.

        تَدخَّلَ فلحوط عبر علاقته بشعبة المخابرات العسكرية، التي أمرت باعتقال المرأة من حلب، قبل أن تسلمها دورية من الأمن العسكري في اليوم التالي مباشرة إلى راجي فلحوط. في هذه القصة، قام جهازٌ أمنيٌ تابعٌ للنظام السابق باختطاف امرأة، وتسليمها لميليشيا محلية تقرر حياتها وموتها بالاشتراك مع ذكور عائلتها.

        علاقة قادة الميليشيات بالمخابرات

        بينما كانت مُعدةِّ التحقيق تعمل على جمع الشهادات، وبالتحديد في الثامن من شهر كانون الثاني لعام 2025، هرب بشار الأسد. دفعَ هذا الهروب بمعظم رجال الجيش والميليشيات المحسوبة عليه للفرار أيضاً، ومنهم مهند مزهر. كما فُتِحَت جميع السجون وخرج منها المعتقلون والمحكومون بقضايا جنائية، ومن بينهم قاتل جلنار، والدها عاطف عزقول.

        وبالتوازي، فُتحت مقرات الأجهزة الأمنية، واستطعنا الحصول على برقيتين مُرسَلتين من مسؤولين أمنيين في سوريا بخصوص مهند. وتُعتبران دليلاً دامغاً على العلاقة الوثيقة بين مهند مزهر وأجهزة النظام السوري. وأيضاً تدلان على عدم الخوف من الخروج عن القانون، فهناك حماية كاملة لهم تمنحهم السطوة والقوة.

        في البرقية الأولى (في الصورة أدناه)، يطلب العميد سالم الحوش، رئيس فرع المخابرات العامة في السويداء، شطب اسم مهند مزهر من تعميم صدر في عام 2018 حول مجموعة أشخاص متهمين بتنفيذ عمليات الخطف في المحافظة، ما يشير إلى مساعي النظام للتغطية على انتهاكات مزهر.

        أما البرقية الثانية (في الصورة أدناه)، الصادرة عن مدير إدارة المخابرات العامة، فتطلب استثناء 6 أسماء من إذاعات البحث الأمنية في السويداء، ومن بينها اسم مهند مزهر، مما يعزز فكرة أن هذا الشخص يحظى بحماية من الأجهزة الأمنية العليا.

        هاتان الوثيقتان تكشفان عن حجم التواطؤ والتستر على انتهاكات شخصيات مرتبطة بالنظام، وتُسلِّطان الضوء على الدور الذي تلعبه الأجهزة الأمنية في حماية هؤلاء الأفراد، رغم تورطهم في أنشطة غير قانونية.

        وبالعودة لعلاقة راجي فلحوط مع الأجهزة الأمنية، كشف لنا العنصر الذي كان في صفوف الميليشيا الخاصة به قائلاً: «هذه الفصائل كانت البديل الحقيقي عن الضابطة العدلية. لم يكن الأمر مقتصراً على قضايا النساء وحسب، بل شمل كل ما يتعلق بجرائم القتل، الخطف، السرقة، وترويج المخدرات».

        يقول: «كان راجي يصنع المخدرات، لكن في الوقت نفسه كان يلاحق مروجي المخدرات الآخرين، يطارد عصابات الخطف، ويقبض على المجرمين ويسلمهم للقضاء». وأضاف: «كانت المعادلة ببساطة: مجرم يلاحق مجرماً».

        وزارة الخزانة الأميركية فرضت عقوبات على راجي بسبب تورطه في إنتاج وتجارة الكبتاغون، الذي يستفيد منه النظام السوري وحلفاؤه، وذلك في شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2024.

        التوثيق غائب عن المشهد

        تأثَّرَ وضع النساء والفتيات في سوريا بالنزاع المُسلّح منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية في عام 2011، وأكدت عدة تقارير دولية ووطنية ارتفاع مستويات العنف الجنسي ضد النساء والفتيات.

        يشير تقرير المبادرة النسوية الأورومتوسطية إلى وجود فجوة في توثيق حالات العنف المتشابكة والمعقدة ضد النساء والفتيات في سوريا. كما يوضح أنه رغم المطالبات المستمرة من قبل المنظمات النسوية السورية بضرورة دعم وجود مرصد توثيقي لحالات العنف ضد النساء، والحاجة إلى ملاجئ مخصصة للنساء المُعنَّفات، إلا أن هذه المطالب لم تلقَ اهتماماً جاداً من قبل المنظمات المانحة.

        تقول الناشطة النسوية ربى غانم: «المراكز أو مراصد التوثيق يجب أن تكون مراكز وطنية لضرورة التوثيق وتصنيف حالات العنف ضمن شبكة متكاملة، وبنية قانونية متكاملة داعمة للتوثيق».

        ذلك أن حالات قتل النساء قد تُصنَّف أحياناً على أنها أسباب وفاة أخرى، مثل الانتحار، ما يجعل توثيقها غير دقيق في العديد من الحالات، نتيجة غياب التحقيق الجنائي الشفاف، الذي يتأثر بالعرف الاجتماعي والقصور القانوني أمام جرائم القتل تحت مُسمّى «ذريعة الشرف». لذا، تبقى الأرقام المعلنة غير دقيقة ولا تعبر عن الأرقام الحقيقية.

        وحسب دراسة لمركز حرمون بعنوان «حقوق المرأة في السويداء بين الواقع والقانون»، تم إصدار إحصائية تقريبية لعدد جرائم القتل ضد النساء في السويداء اعتباراً من العام 2019 وحتى 2023. ورغم تورط الميليشياوي راجي فلحوط في إحدى هذه الجرائم عام 2022، فإن التقرير أغفل ذكر هذا السياق.

        يقول ريان معروف، مسؤول تحرير شبكة السويداء 24: «بعد اتفاق التسوية في عام 2018، أصبحت الميليشيات تقوم مقام الضابطة العدلية التي تلاحق المطلوبين في قضايا جنائية، مما أدى إلى انتهاكات حقوقية جسيمة طالت النساء. هذه الميليشيات غالباً ما تتصرف دون ضوابط قانونية، ما ساهم في وقوع حوادث مؤلمة، مثل ملاحقة النساء الهاربات من الزواج».

        وفي تقريره الصادر بعنوان «فوق المؤسسات والقضاء: تدخلات الأجهزة الأمنية السورية»، أشار مركز سوريون من أجل الحقيقة إلى الكيفية التي سمحت فيها هذه الأجهزة لنفسها بتجاوز صلاحياتها، وإحكام السيطرة على مفاصل الحياة الاجتماعية في المدن السورية، نتيجة غياب القوانين الناظمة لهذه الأجهزة والصلاحيات التي تمنحها التعميمات لتحديد «الموافقة الأمنية» للمواطنين والمواطنات.

        رأي القانون

        تقول شقيقة مازن: «أقسمَ مهند مزهر بابنته أنه لن يؤذي أخي مازن، وأنه سوف يسلمه إلى فرع الأمن الجنائي»، لكن هذا لم يحدث. وبرَّرَ مهند الأمر بأن عاطف، والد جلنار، تعهد له بعدم إيذائه.

        المحامي أيمن شهاب الدين، أحد أبرز الحقوقيين في السويداء، أوضح الوضع القانوني لعمل الميليشيات قائلاً: «لا يوجد أي نص قانوني يمنح الميليشيات أو أجهزة المخابرات التي دعمتها صلاحية الحلول محل الضابطة العدلية. قانون أصول المحاكمات الجزائية يحدد بشكل صريح وحصري من هم موظفو الضابطة العدلية المخولون بالتحقيق في الجرائم وجمع الأدلة والقبض على الجناة، وهو لا يشمل الأجهزة الأمنية».

        وأضاف المحامي: «الأجهزة الأمنية، من الناحية القانونية، انتهكت القوانين السورية عبر تجاوزها للسلطة القضائية، ما أتاح لها التدخل في كافة شؤون الناس، بما في ذلك الاعتقال والتحقيق والتوقيف وحتى القتل، دون أي التزام بسلطة الدولة القانونية، ودون التفريق بين رجل أو امرأة».

        بعض النشطاء والناشطات حاولوا الضغط على المجتمع المحلي لوقف الاعتداءات على النساء، ونظموا احتجاجات صامتة، لكن السلطة البطريركية المُتحكِّمة في المجتمع والدين تبقى أعلى.

        أكدت الدراسة المُشار إليها أعلاه بعنوان «حقوق المرأة في السويداء بين الواقع والقانون» أن جذور العنف ضد المرأة في المدينة لا تكمن فقط في النصوص التمييزية والقصور التشريعي، بل أيضاً في ثقافة مجتمعية تتعامل مع كثير من حالات العنف ضد النساء ليس بوصفها قضية حقوقية، وإنما قضية اجتماعية تُحَلُّ دون الوصول إلى القضاء.

        هروب الأسد من السلطة لا يعني تحسين الواقع القانوني للنساء، فقانون العقوبات السوري مثلاً لا يُجرّم العنف الجنسي أو الأسري أو الاغتصاب داخل الحياة الزوجية، ولا يتطرق إليها بشكل مباشر. لكن هناك مواد تمسّ ما يسمى السلوك الإجرامي والعنف والتحرّش بشكل عام.

        رغم توقيع النظام السوري السابق على اتفاقية «سيداو»، بقيت بنودها مُعلّقة. أما السلطة الحالية بقيادة السيد أحمد الشرع، فلم تبادر بإيجابية نحو هذا الأمر. ويظهر هذا جلياً في تصريحات مسؤولة مكتب المرأة عائشة الدبس الإقصائية.

        هروب الأسد وانهيار الأنظمة الأمنية والشرطية منعنا من الحصول على حق الردِّ من جانب السلطة.

        دائرة العنف ضد النساء لم تتوقف، وبينما نُعِدُّ لهذا التحقيق وقعت جريمة جديدة في راحت ضحيتها الشابة ليليان أبو سرحان في عمر الثالثة والعشرين، بعد إطلاق الرصاص عليها من قبل الأب.

        ما يحدث في السويداء ليس مجرد جرائم متفرقة. هو صورة لمدينة غارقة في الفوضى، حيث غاب القانون، وساد التواطؤ. النساء هُنَّ الحلقة الأضعف في هذا العالم القاسي، والعدالة تُدار بأيدي الميليشيات، والحقائق تُخنَق بالخوف والصمت. جلنار ومازن لم يكونا مجرد ضحايا. قصتهما هي مرآة لما يحدث هنا، كل يوم. معاناة عميقة تنتظر من يكشفها، وتنتظر من يُنهي هذا الظلم.

        في سوريا اليوم، هرب الأسد، وفُتحت السجون لمعتقلي الرأي، لكن هرب الكثير من القتلة أيضاً؛ والد جلنار واحدٌ منهم.

        أُنتِجَ هذا التحقيق ضمن الدورة الثانية من «برنامج مِنَح الجمهورية للصحفيّات السوريات»، الذي يَدعمُ إنتاج مشاريع صحفية مُعمَّقة تتعلّقُ بشؤون السوريين والسوريات ومعاشهم داخل البلد وخارجه، وكانت المُحرِّرة المشرفة على هذا النحقيق هي الصحفية الاستقصائية الزميلة لجين حاج يوسف.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى