خُطوة خُطوة، كيف نبني جيلاً جديداً؟: التربية والتعليم في السينما السورية/ علاء الدين العالم

05-03-2025
يا حافظ ماني قدّك
يا حافظ ماني قدّك
تلات وردات على خدك
انتَ السيد وأنا عبدك
(أهزوجة من فيلم خطوة خطوة 1978)
«تطويرُ النظام التعليمي وإصلاح المناهج، ووضع خطط تستهدف سدّ الفجوات التعليمية وضمان التعليم النوعي والاهتمام بالتعليم المهني، وربط التعليم بالتكنولوجيا لضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة»، ذلك ما جاء في البيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني الذي عُقِد مؤخراً في دمشق. ولكي ينتقل الكلام السابق إلى حيز التطبيق، يلزم أن يسبقه بحثاً ضخماً وواسعاً لمناقشة مسألة التدريس، من مناهج وآليات، عبر ذوي الاختصاص والكفاءات.
مراجعة التعليم في سوريا في مائة عام هو مجهود بحثي كبير، ونحن اليوم بأمسّ الحاجة لذلك، انطلاقاً من المنهاج التعليمي السوري الأول الذي وُضع إبان تشكيل المملكة السورية عام 1919، ومروراً بمناهج الانتداب الفرنسي ومناهج الاستقلال وما بعده، وصولاً إلى مناهج البعث الممتدة على خمسين عاماً. إلا أن مصادر البحث هذه ليست محصورة في الكتب المدرسية، بل أيضاً قد يجدها الباحثون في السينما السورية، وتحديداً في الأفلام التي تناولت ثيمة التعليم والأجيال الجديدة في سوريا.
خُطوة خُطوة، عن فيلم قصير تنبأ بمستقبل السوريين
أول الأفلام السورية التي عُرِضت في دمشق بعد السقوط، هو فيلم نجوم النهار لأسامة محمد. نجوم النهار برحلة عرضه ومنعه منذ الثمانينيات، يحمل علامة خاصة في السينما السورية وعلاقتها مع حكم الأسدين. بيد أنَّ نجوم النهار ليس فيلم محمد الوحيد الذي يشاكل السوريين وتاريخهم، فلديه فيلمٌ قصير بعنوان خطوة خطوة، وهو واحد من أهم الأفلام التي أنتجتها السينما الوثائقية السورية في تاريخها، ليس بسبب متانة الفيلم على المستوى الفني والتقني، بل لما يحمله من استشراف لواقع السوريين ومستقبلهم بعد سيطرة البعث على الحكم، وتحديداً بعد توطيد حافظ الأسد لحكمه نهاية السبعينيات. يصور الفيلم الحياة اليومية في قرية الراما في ريف اللاذقية عام 1976؛ شكل الحياة فيها، وحال شبابها وكهولها، وقبل كل شيء، حال أطفال القرية ومستقبلهم. تعملُ الكاميرا عمل الكشّاف في مستقبل الأطفال، ما هي الآفاق أمامهم؟ وما هي أحلامهم؟ وما إمكانية تحقيقها؟ يسأل أسامة محمد الأطفال عن أحلامهم، «شو بدك تصير بس تكبر؟» أحدهم يجيب مهندس و وأخرى معلمة والآخر دكتور، يلاحقهم بكاميرته إلى المدرسة، يرصد سوء الخدمات المدرسية، وصعوبة العيش في القرية عموماً، لكنه يركز على نقد آلية التدريس، وشدة المُدرّس التي تدفع بالأطفال إلى مغادرة المدرسة وهجر التعليم.
«يا بتقرا يا بتنزل ع الحقل». يبدو للوهلة الأولى أن هذا الكلام الموجَّه من الأب لابنه اليافع هو الحل الوحيد أمام شباب القرية، فإما التعلُّم في سبيل تحقيق الحلم، أو المشاركة في زراعة الأرض والعمل على ديمومة الحياة فيها. لكن واقع الحال ليس كذلك، فهناك سبيل آخر غير هذين السبيلين، وهو الانضمام إلى الجيش العربي السوري.
دون مباشرة، وما وراء المقابلات والصور المأخوذة، يُظهر الفيلم الجيشَ السوري كمحطّم لهذه الثنائية الفاعلة بين التعليم والزراعة، ويُظهِر الذهاب إلى الجيش كمخرَج ومهرب من هذه الثنائية. إلا أن الأثر القاتل للجيش لا يكمن هنا، بل يكمن في العقيدة التي يُجبِل بها أبنائه، وفي كيفية فصل هؤلاء عن محيطهم، قراهم، أرضهم، وحتى عائلاتهم. حينما يسأل المخرج شابين متطوعين في القوى الجوية عن حدود الامتثال لأوامر القيادة، يجيب الأول بأنه مستعد لتدمير بيت أهله، بل وتدمير القرية كلها فيما لو أمرته القيادة بذلك، أما الشاب الثاني فيؤكد أنه مستعد لقتل أخيه فيما لو كان الأخ له رأي ضد الدولة والحزب والقائد.
في صورة سوداء وبيضاء، كئيبة وطينية، تصوّر كاميرا محمد ثلاثة كهول يصنعون القهوة ويدندن أحدهم أهزوجة تقول التالي: «يا حافظ ماني قدك، يرحم بيك مع جدك، تلات وردات على خدك، أنت السيد وأنا عبدك». يركز محمد على الجملة الأخيرة، وينتقل بكاميرته بين الأجيال الثلاث (جد، ابن، حفيد)، ومن ثم تنتقل الكاميرا مرة واحدة وأخيرة إلى المدينة. هناك، حيث يتابع محمد عيونَ أحد شبان القرية الباحث عن عمل في المدينة. العيون بسيطة ومُتعبة وباحثة عن مستقبل خارج الريف القصي البعيد عن خدمات الدولة. تصور الكاميرا بعد ذلك ما يراه الشاب في زيارته إلى المدينة، صور القائد وصور القائد وصور القائد، خطابات في عيد العمال، وعمال عاطلون بوجوه متعبة حدَّ الخَدَر. لا ينتهي فيلم محمد في المدينة، بل يعود إلى القرية، وإلى الأطفال تحديداً، وهم يخطون في الحقول، خطوة بخطوة، وصورة بصورة، نحو المستقبل، مستقبل عشناه وعرفناه، جيلاً بعد جيل.
كفرون، جيل الثمانينيات والتسعينيات الباحث
في حوار قديم له، يعرّج الكاتب والمؤرخ السوري سامي مبيّض على تاريخ التدريس في سوريا، وعلى الأخطاء التي أصابت المنهاج الدراسي السوري، ويقف بشكل خاص عند كتاب مادة التاريخ، ويذكر أنه عام 2017 أخرجَ أكثر من خمسين خطأ من كتاب التاريخ للبكالوريا السورية، مشيراً إلى أهمية تشكيل لجان لإعادة صياغة المناهج، وإعادة كتابة التاريخ المدرسي وتقديمه، وربما نحتاج اليوم لأمثال المبيض في لجنة إعداد المناهج الدراسية. المفارقة، أن المبيض نفسه، كان واحداً من الأطفال الذين شاركوا الممثل السوري دريد لحام في فيلمه كفرون، الذي صوره عام 1990 من تأليف رفيق الصبان وإخراج لحام.
كفرون لم يكن فيلماً وثائقياً على شاكلة خطوة خطوة لكنه اشترك معه في تناول مسألة التعليم في المناطق النائية في سوريا. وعلى عكس الشكل الوثائقي ذهب لحام وأطفاله إلى حكاية روائية عن حارس (ناظر) المدرسة، رجل طيب وفاعل ومحب للعلم ويعامل المدرسة كبيته، ويتطلع إلى التطور والتعلم والانفتاح، متفائل بالجيل الجديد، ومحارب على حقه في تعليم لائق. من جهة أخرى، تلاحقه والدته ليأخذ بثأر أبيه ويقتل قاتله. عبر صراع الناظر بين التقاليد البالية والعلم والتربية، يقدم الفيلم عبرة وأمثولة عن ضرورة تجاوز الثارات والعادات القبلية والتوجه نحو مستقبل خال من الثأر والضغينة بين أبناء القرية الواحدة.
البطل في العمل ليس دريد لحام، بل هم طلاب المدرسة الابتدائية في القرية النائية، وهم موضوعة الفيلم وسؤاله. الأطفال الذين رأوا بأعينهم محاولات الحارس لتأمين مقاعد مدرسية جديدة لهم، سوف يدافعون عنه حينما تتهمه القرية بمقتل أبو جابر، قاتل أبيه. يعمل الأطفال في حل لغز القاتل كفريق، وكمجموعة مستوحاة من مجموعات حل الألغاز المصرية. يؤكد الفيلم على الدعوة للعمل المشترك والجماعي، ويقدم الجيل الجديد كجيل يحمل منظومة أخلاقية منفتحة وعلمية، وليس منظومة أخلاقية رجعية قبلية. ورغم أن الفيلم لا يخلو من المزاج البعثي (دريد لحام وحده كافٍ) إلا أنه فعلاً كان فيلماً مؤسِّساً، تحديداً في النظر إلى الأطفال الذين شاركوا في الفيلم، إذ نراهم اليوم بعد خمس وثلاثين عاماً وهم فاعلين في الحقل الثقافي السورية ومنهم: علاء رشيدي (صحفي) يزن أتاسي (فنان) وفي مقدمتهم كما ذُكر سابقاً، الكاتب سامي مروان مبيّض.
عن الآباء والأبناء، بروباغندا على حساب الطفل السوري
ترشّحت بعض الأفلام السورية إلى الأوسكار في سنين النار الماضية، ونشطت السينما الوثائقية السورية في زمن الثورة، لكن أكثر الأفلام إشكالية كان فيلم عن الآباء والأبناء لطلال ديركي 2017. صاحبَ عرض الفيلم جدل واسع، لما احتواه من استخدام الأطفال لتخديم الصورة التي يريد تقديمها الفيلم. وهي التوحش وتوارثه من جيل إلى جيل. وعلى عكس فيلم خطوة خطوة الذي استشرف الواقع لخمسين عاماً تالية على نحوٍ لمّاح، لم يبدُ أنّ فيلم الآباء والأبناء قد أفلح في استشراف الواقع حتى لخمس سنوات تلته.
يقوم فيلم الآباء والأبناء على الالتباس بين من هو وراء الكاميرا ومن هو أمامها، فديركي ينسلُّ في بيت (أبي أسامة)، الجهادي المقاتل والمقيم في احدى قرى إدلب، ويقدم نفسه كصحفي داعم للجهاد ومتحمس لصنع فيلم عن الجهاديين وحياتهم. من هذه البوابة يدخل ديركي ليسجل فيلم حياة يومية لعائلة سورية، وتحديداً للطفل أسامة وأبيه. هذا الالتباس يدفع الأب للكلام دون حدود، ومبالغة أحياناً، عن الجهاد الإسلامي وحياة الجهاديين، بينما تفترس الكاميرا الابن وتقتحمه بيومياته لتخبرنا أنه سيكون على خطى أبيه (الإرهابي)، وأن سوريا ذهبت دون رجعة بين أجيال متوالية من المتطرفين والمحاربين، وأن الأبناء على خطى الآباء ولا أُفُق لهذا الأُفول المتطرف.
أفكر الآن بأسامة، الطفل الظاهر في الفيلم، نموذج لـ(بُرعم الإرهاب) كما قدمه الفيلم، أين هو الآن؟ وما هو دوره في معركة إسقاط النظام التي خاضتها الجهة التي ينتمي لها الأب (وهي هيئة تحرير الشام)؟ وكيف للسينما أن تتجاوز دورها التوثيقي الاستشرافي (فيلم خطوة خطوة) أو دورها التخييلي (فيلم كفرون) وتصبح سلاحاً قانونياً ووثيقة إدانة، وربما أداة لقتل الطفل معنوياً، قتل مستقبل أسامة تحديداً، الذي إن نجا من المقتلة وكبُر، سيضطر أن يثبت للعالم، كل يوم، أنه لم يكن ذاك الإرهابي الذي صورته كاميرا فيلم عن الآباء والأبناء.
حينما صور المخرج الراحل عمر أميرالاي فيلمه الأثير طوفان في بلاد البعث 2003، استخدم طريقة الالتباس ذاتها، أخبر القرية كلها أنه يصور فيلماً عن سد تشرين وإنجازات القائد الخالد وبعثه. النتيجة النهائية كانت فيلماً يضرب النظام تحت الحزام ويؤُسّس لسينما وثائقية ستنفجر في الثورة وترجع دوماً إلى أميرالاي كمرجع سينمائي سوري أصيل. إلا أن الفرق الشاسع بين نتاج أميرالي ونتاج ديركي، أن الأول لم يؤذِ مَن ظهر أمام الكاميرا كُرمى فكرته وفكرة فيلمه، ففي النهاية الخطابات الموجودة هي خطابات الدولة، لا بل هي التي تترنم على سماعها أفرع الأسد الأمنية والثقافية، وبذلك لم يكن هناك أي مسؤولية على مَن ظهر في فيلم أميرالاي أمام السلطة، سوى الجهل والبساطة، بينما في حالة ديركي، أصبح الأمر أشبه بوثيقة إدانة، إدانة شخص ربما ساهم في تحرير سوريا اليوم، سوريا نفسها التي سيعود إليها مخرجون سوريون، ربما يكون ديركي من بينهم، ويتغنون بحريّتها وانعتاقها من النظام البائد!
كل الأفلام السابقة قاربت مسألة التعليم والتربية والجيل الجديد في سوريا، بحقب زمنية مختلفة، ومقولات سياسية متنوعة، وهناك أفلام أخرى تلزم الإحاطة بها إلى بحث أكاديمي موسع، إلا أن الجدير بالذكر أن السينما قد تكون واحدة من المصادر التي على الباحثين في تعديل المنهاج وآلية التدريس النظر لها والرجوع إليها في سبيل بناء جيل جديد ومناهج مدرسية تليق بسوريا الجديدة.
موقع الجمهورية