أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

بانتظار الصحن الطائر أو البطل المُخلِّص: «التنافر المعرفي» بنكهة سورية/ نور أبو فرّاج

04-03-2025

        لماذا قال الثعلب عن عنقود العنب البعيد، بأنه حصرمٌ حامض؟ ما سرُّ ذلك الشعور بالانقباض الذي قد يخلّفه كتاب مثلَ مغامرة العقل الأولى لدى شريحةٍ من قرّائه؟ ولماذا أيقن مؤيديون للنظام السوري السابق، أن صور المظاهرات مُضخمة، والمشاهد عن انتهاكاته مفبركة؟ ولماذا أيضاً يُصرُّ المُدخنون بأنهم غير مدمنين وأن ما يفعلونه مجرّد «تنفيخ»، ويُجادلون أن احتمالات موتهم في حوادث السير أكبر من سرطان الرئة أو الحنجرة؟

        قد تبدو هذه الأمثلة، مشتتة، ولا جامع فعلي بينها، لكنني رأيتُ فيها مُقدمةً مثاليةً للإضاءة على نظرية التنافر المعرفي (Cognitive Dissonance) كواحدةٍ من نظريات الاتصال والإعلام التي تسبر علاقتنا مع القناعات الراسخة، وتساعد في تقديم إجابات أكثر إقناعاً عن مئات الأسئلة التي طرحها السوريون على أنفسهم، وعلى الآخرين، بدءاً من 2011 وإلى اليوم. وتحديداً تلك المُتعلقة بالعنصرية، الموقف السياسي، الصراع مع المبادئ والقيم، والعلاقة مع الأخبار ووسائل الإعلام.

        تحاول هذه النظرية تفسير شعور المرء بالضيق والقلق حينما تتعارض (تتنافر) قناعاته الراسخة، مداركه ومعارفه وقيمه، مع معارف جديدة تُناقض ما ظنّه الحقيقة الخالصة، أو، وهو الأمر الأصعب، تُناقض سلوكاً يجد نفسه مضطراً للقيام به.

        تعود أسس النظرية إلى عالم النفس الاجتماعي الأميركي ليون فستنغر، الذي رسم أولى ملامحها في كتابه عندما تُخفق النبوءة، الذي أنجزه مع زملائه في جامعة مينيسوتا العام (1956)1ليكمل العمل على تطوير النظرية في سنواتٍ لاحقة ويصيغ مبادئها في كتاب: نظرية التنافر المعرفي عام 1957.

        عندما تُخفق النبوءة

        يبدأ كتاب عندما تُخفق النبوءة بعبارة مُقتضبة حادة اللهجة تُمهّد لفحوى النظرية: «الشخص ذو القناعات الراسخة شخصٌ يصعب تغييره».

        ضمن هذا السياق تنطلق الدراسة من رصد ردود فعل جماعات وُجدت حقاً في التاريخ، وامتلك أفرادها قناعات راسخة حول أحداث معينة توقعوا حدوثها في زمانٍ ومكانٍ محددين. لكن النبوءة التي انتظروها أو آمنوا بها، حينما جاء وقت تحققها، فشلت بصورة كاملة وقطعية. وبالتالي كان فستنغر مهتمّاً بدراسة ردود فعل هذه المجموعات لحظة فشل النبوءة التي شيّدوا حولها حياتهم، وأقدموا لإيمانهم بها، على أفعال لا يمكن الرجوع عنها، كبيع ممتلكاتهم أو تغيير مكان سكنهم لمكانٍ ظنوه أكثر أمناً. ومن أمثلة هذه الجماعات تلك التي آمنت بأن العالم سينتهي عام 1533، أو جماعة (الميلريين)، أي أتباع ويليام ميلر، الذين آمنوا بأن المجيء الثاني للمسيح سيحصل بين أعوام (1843-1844).

        فجماعة الميلريين التي تجاوز عددها الآلاف، وبدلاً من التسليم بفشل النبوءة، عمّقت قناعاتها حول مجيء المسيح المنتظر وزادت من التبشير عنها، معدّلةً موعد تحققها من شهرٍ إلى آخر، ومعلّلة فشلها مثلاً في خطأ حصل في حساب التاريخ الدقيق. ومع كل يوم جديد، كان الناس ينتظرون اللحظة التي تثبت صحة قناعاتهم، حتى أن البعض منهم كان يتخلى عن حصاد الحقول ليقينه باقتراب نهاية العالم. يشير ليون فستنغر إلى أن الأمر تطلب فشل النبوءة أربع مرات على التوالي على امتداد 18 شهراً حتى أقرّ الميلريون أخيراً بفشلها نهائياً.2

        يصف الباحث هنا مشاعر الخيبة التي أحسّتها هذه الجماعة بعد أن تلقّت صفعة قاسية من «الواقع»، ويقول إن إحدى الاستراتيجيات التي اتبعها هؤلاء على مدار أشهر طويلة لمداراة خيبتهم، كانت التوجه لإقناع المزيد والمزيد من الناس بأن النبوءة لا بد أن تكون صحيحة. لذلك فهو يكتب الكلمات التالية مُعلّقاً على حاجة الناس، لحظة اكتشاف زيف قناعاتهم، إلى حشد المزيد من الأتباع: «إذا آمن كل شخص في العالم بشيء ما فلن يكون هناك أي شك على الإطلاق في صحة هذا الاعتقاد، ولهذا السبب نلاحظ زيادة التبشير بعد دحض النبوءة».3

        لكن ليون فستنغر وزملاءه لم يكتفوا بتتبع أمثلة سابقة وثقتها كتب التاريخ حول جماعات المؤمنين المخلصين، بل إنهم امتلكوا فرصة ثمينة لإجراء دراسة نوعية ومباشرة على سلوك جماعة صدّقت بأن نهاية العالم، جراء طوفان، اقتربت. حدث هذا بعدما نشرت صحيفة (Lake City Herald) الصادرة في مدينة ليك سيتي في ولاية فلوريدا، خبراً عن طوفان سيُغرق المدينة بتاريخ 21 (كانون الأول) ديسمبر العام 1954. كان مصدر النبوءة في ذلك الوقت ربة منزل تدعى ماريان كيتش، ادّعت أنها تلقت رسائل من كائنات أتت من خارج كوكب الأرض. بعدما تأكد ليون فستنغر وزملاؤه بأن السيدة ماريان كيتش ليست الوحيدة التي تؤمن باقتراب موعد الطوفان، تسللوا إلى جماعتها سرّاً وبدأوا ميدانياً بجمع المعلومات والملاحظات عبر الحديث والتفاعل النشط مع أفراد الجماعة.

        يرى فستنغر أن أفراد الجماعة قيد الدراسة انطبقت عليهم شروط جعلتهم حالات نموذجية للدراسة: كل فرد منهم كان متمسكاً بقناعة عميقة وراسخة، وكان بالتالي قد اتخذ إجراءات، أو قام بأفعالٍ يصعب التراجع عنها نتيجة موقفه الراسخ ذاك (كبيع الممتلكات). كذلك كان المُعتَقَد نفسه محدداً ودقيقاً بصورة تسمح بقياس صحته من خطئه (طوفان في زمان ومكان محددين)، وكانت الأدلة التي تدحضهُ فاقعة وجليّة بصورة لا يمكن إنكارها (عدم حصول الطوفان في الوقت المحدد). أما الشرط الأخير فتمثّل بأن كل فرد من هؤلاء حظي بدعم اجتماعي من البقيّة، فمن غير المُرجّح وفق فستنغر أن يتمكن مؤمنٌ معزول من الصمود أمام هذا النوع من الأدلة التي تدحض قناعته، فهو سيكون في الغالب عضواً في مجموعة تتشارك ذات القناعة، ويدعم بعضها بعضاً، بحيث يحاول هؤلاء التبشير أو إقناع الآخرين بصحة النبوءة حتى بعد فشلها. 

        وبالعودة لجماعة ماريان كيتش المؤمنة باقتراب الطوفان ومجيء الصحون الطائرة التي ستنقل المؤمنين إلى كوكبٍ آخر، أكدت البيانات والملاحظات التي سجلها فريق الباحثين صحة فرضيات الدراسة. فأفراد الجماعة، وحتى بعد فشل النبوءة التي بشرّوا بها، ظلوا مُصريّن على القيام بسلوكات غريبة ومتطرفة، مثل التخلي عن لبس المعادن في ثيابهم، واستبدال الأزرار والسحابات المعدنية ببدائل صُنعت من أربطة جلدية، ظنّاً منهم أن المعادن ستحول دون التقاطهم من قبل الصحن الطائر الذي سيأتي لإنقاذهم قبل أن يأتي الطوفان وتحل الكارثة. هؤلاء كما يكتب المؤلف: «ومع تعثرهم، وارتباكهم المتزايد جراء فشل النبوءة تلو الأخرى، بدأوا يبحثون عن أدلة، ويشاهدون التلفزيون بحثاً عن الأوامر، ويسجلون المكالمات الهاتفية على نحو أفضل للبحث عن رسائل مشفرة، ويتوسلون إلى رواد الفضاء للقيام بواجبهم ـ كل هذا بدا محاولةً يائسةً منهم لاكتشاف خطوة تالية محددة بوضوح على طريق الخلاص بالصحن الفضائي».4

        التنافر المعرفي كأثر يومي ومعاش

        بناء على ما تقدم، قد يبدو أن نظرية «التنافر المعرفي» مرتبطة حتى الآن بدارسة سلوك مجموعات غرائبية متطرفة في أفكارها ومؤمنة بالخرافات، لكن الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك. فالفروض والنتائج التي قامت عليها النظرية تمتلك إسقاطات لا نهائية على قناعات الناس الصحية والاجتماعية والثقافية وصولاً لآرائهم السياسية. فجماعات السيدة كيتش قد تشبه بكثيرٍ أو قليل الأناس المتحزبين، المنتمين لجماعات دينية مغلقة، «الفيغانز»، أو أي شخص آخر يمتلك قناعة لا تشوبها شائبة بأنه على حق. هكذا تتضح أهمية النظرية وسبب الاهتمام المتجدد بها، من وجهة نظري، إذا ما طرحنا على أنفسنا السؤال التالي:

        إذا كان الناس المؤمنون باقتراب نهاية العالم أو بالمجيء الثاني للمسيح المنتظر لم يتخلوا عن قناعاتهم تلك حتى حينما ثَبُتَ فشل هذه النبوءات، ما مصير الأناس العاديين المتشبثين برؤاهم السياسية والدينية والأخلاقية. كيف يمكن تغيير قناعاتهم إن كانت خاطئة؟ خاصة وأن الكثير من القضايا الخلافية التي يواجهها البشر اليوم إشكالية بطبيعتها ومعقدة الأوجه ولا تنتهي في وقتٍ محدد، بحيث قد لا يوجد إجابة شافية واحدة قطعية حولها. الأمر في معظم الحالات ليس جليّاً مثل مسيحٍ لا يأتي، وطوفانٍ لا يحدث.

        وبناء على ذلك يبرز التنافر المعرفي كشعور مصاحب للفرد في حياته المُعاشة بدءاً من التفاصيل اليومية البسيطة وحتى المُعقدة. جميعنا وفي كل لحظة نعيش الخوف من احتمالية خطأ قناعاتنا وسلوكياتنا، سواء البسيطة مثل إنكار مخاطر الدخان عند المدمنين، أو المعقدة مثل اتخاذ قرار مصيري خاطئ. جميعنا، فوق كل ذلك، نبحث عن آخرين يشاركوننا قناعاتنا ويطمئنوننا بأننا لا بد على حق.

        الأمر الجوهري هنا أن التعقيد والضيق يزداد حينما يختبر المرء تنافراً معرفيّاً في قضايا مصيرية وحساسة من وجهة نظره، وهو الأمر الذي أكده فستنغر نفسه معتبراً بأن التنافر المعرفي، والكرب الناتج عنه، يكون أكثر حدّة حينما يكون الصراع دائراً حول موضوع مهم للفرد.

        نظرية التنافر المعرفي كمدخل لفهم التطرف

        عندما أفكر في نظرية التنافر المعرفي يتجلى أمامي مشهدٌ من فيلم المصير (1997) للمخرج المصري يوسف شاهين. في المشهد نرى عبد الله (هاني سلامة) ابن حاكم الأندلس، الخليفة المنصور، مُقيّد الجسد على كرسي خشبي في غرفة مغلقة وفي الخارج يقوم رفاقه بالغناء والرقص. عبد الله كان قد ترك حياة اللهو والعشق وتبنى فكراً متطرفاً بعد انتسابه إلى جماعة تخطط لاغتيال والده، أما أصدقاؤه فقرروا إعادته إلى صوابه عبر تذكيره بقيم الحب والجمال والصداقة التي آمن بها يوماً. وبالتالي فهذا المشهد لحفلة الرقص التي تجري في الخارج، مقابل عبد الله الذي يصارع أفكاره داخل قاعة فارغة، تُشكل ذروة التنافر المعرفي كما يبدو لي. ورغم درامية المشهد لكن المعارك التي نخوضها وحيدين مع أفكارنا المتصارعة، القديمة والجديدة، قد لا تقل حدة. عبد الله في المصير أوشك بسبب أفكاره الجديدة على «قتل أبيه» وكان محتاجاً لأن يجد تبريراً لسلوكه ويتصالح مع قيمه الجديدة بوصفها «استجابة لإرادة أعلى» أو «إحقاقاً للحق».

        ضمن هذا السياق، يبدو أن نظرية التنافر المعرفي اُستخدمت فعلاً في دراسة دوافع المتشددين دينياً، والجماعات المتطرفة والجهاديين، كمثال على ذلك دراسة حملت عنوان: دوافع الجهاد والتنافر المعرفي: تحليل نوعي للجهاديين السويديين السابقين.5

        تستند هذه الدراسة إلى مقابلات مع ثلاثة جهاديين سويديين سابقين، وتستخدم نظرية التنافر المعرفي لتحليل كيفية تغير دوافعهم للجهاد؛ بدءاً من المراحل المبكرة من التطرف، مروراً بمرحلة القتال الفعلي كجزء من جماعة جهادية، ووصولاً إلى مرحلة ترك الجهاد.

        عبر هذه الدراسة، سعى الباحثون إلى فهم السبب وراء تحول بعض المسلمين في الغرب إلى مقاتلين أجانب في ساحات معارك الجهاد العالمي، مثل سوريا، أو تحولهم إلى جهاديين في أوطانهم. خاصة وأن الدراسات الأكاديمية قدّمت بنظرهم نتائج متضاربة حول تأثير بعض المتغيرات في حياة هؤلاء مثل النجاح التعليمي، الموارد الاقتصادية، سجل الجريمة السابقة، المناخ الأسري.

        وبالتالي تزعم الدراسة أن التنافر المعرفي، أي الانزعاج النفسي الناجم عن الإدراكات غير المتسقة، وليس التعاطف أو الحرمان النسبي الجماعي، قد يكون في بعض الأحيان دافعاً للجهاد.

        الحالة الأولى التي ركّزت عليها الدراسة كانت «أحمد»، الذي اختبر أولى ملامح التنافر المعرفي بالتزامن مع حرب الاتحاد السوفيتي على أفغانستان في الثمانينيات. تشير الدراسة إلى أن التبشير والوعظ حول ضرورة الجهاد الذي كان منتشراً في بعض مساجد مدينة غوتنبرغ السويدية لعب دوره في تأجيج مشاعر الشاب في تلك الفترة، خاصة وأن الحكومة السويدية غضّت النظر حينها عن الدعوات الجهادية على اعتبار أنها ترى في المد الشيوعي خطراً أكبر عليها من الجهاديين. كذلك الأمر أسهمت كتابات بعض المفكرين الإسلاميين حول وجوب أن يكون الجهاد «فرض عين» بدلاً من «فرض كفاية»، في رفع حدة التنافر المعرفي الذي عاشه في تلك الفترة. هذا دفعه لتغيير سلوكه بالتوجه للجهاد في أفغانستان، حيث قاتل ضمن صفوف حزب الإسلام كمحاولة منه لوقف التنافر. لكن وبعد خروج الاتحاد السوفييتي من أفغانستان، وجد الشاب نفسه أمام صراعات أخلاقية جديدة، خاصة مع اندلاع المعارك والاقتتالات بين الفصائل الجهادية هناك. الاقتتال الحاصل تناقضَ مع فكرة كان يؤمن بها سابقاً (التحريم الديني لقتل مسلم آخر)، وبالتالي كان لا بد مجدداً من تغيير المعتقد ليتوافق مع السلوك، أو تغيير السلوك وتبريره ليتوافق مع المعتقد. وهنا اختار أحمد الإبقاء على قناعاته رافضاً قتل المسلمين وانتقل إثر ذلك إلى البوسنة، ليقاتل إلى جانب المسلمين في مواجهة الصرب والكروات، قبل أن يتخلى أخيراً عن مبدأ الجهاد ككل.

        الحالة الثانية موضع الدراسة كانت لأمير، الذي سافر أيضاً إلى البوسنة خلال تسعينيات القرن العشرين لمساعدة المسلمين المحليين ضد الصرب. كمثل أحمد، شعر بالغضب والانفعال من «قتل المسلمين»، الذي عَرف عنه من التلفزيون والتواصل مع الأصدقاء. كل تلك الأخبار راكمت لديه شعوراً بالسوء ودفعته للتوجُّه للقتال، رغم كونه لم يخضع للتجنيد أو «التبشير» بشكل مباشر.

        ولكن أمير أوضح أن دوافعه للقتال تغيرت أثناء الحرب. وبما أن مبدأ الجهاد «كفرض عين» لم يؤثر فيه كثيراً، فقد كان تفكيره أكثر عقلانية واقتنع مع الوقت أن وجوده في المعركة لن يحدث فرقاً، فغادر عائداً إلى السويد عازماً على الاستقرار. لكنه وبعد سماعه عن موت أحد أصدقائه المقربين في ساحة المعركة، وجد نفسه مرة أخرى أمام تنافر معرفي جديد. بقاؤه في السويد سبّب له شعوراً بعدم الارتياح، لأن سلوكه هذا يتناقض مع الالتزام الاجتماعي المكتسب حديثاً بالعودة والقتال إلى جانب أصدقائه. وهنا يُعلق الباحثون بالقول إن الجهاديين النشطين كثيراً ما يتم تدريبهم على تبني أفكار جديدة للجهاد أثناء تواجدهم ضمن جماعة جهادية، وهذا يتفق مع أحد أسس نظرية التنافر الذي يركز على تأثير الجماعة على الفرد التي تعزز قناعاته بأنه محق في مواقفه أو سلوكه.

        أما الحالة الدراسية الثالثة فتنتمي إلى الجيل الجديد من الجهاديين، ذلك أن سافيت ترك عمله وأسرته وأولاده وغادر السويد للانضمام إلى داعش في ساحات القتال في سوريا. وعلى عكس الجهاديين السابقين الآخرين، لم يذكر أثناء مقابلات الباحثين معه عيشه لأي صراع أو انزعاج يوحي بأن التنافر المعرفي دفعه إلى اختيار الجهاد، بل الحقيقة أنه اختار ذلك بتأثير من أحد أصدقائه. وهنا يعلق الباحثون على دوافع الشاب بالقول إن أغلب الجهاديين مراهقين، أو في أوائل العشرينيات من العمر، ــوهم معرّضون بشكل خاص لتأثيرات الناس من حولهم، وخاصة الأصدقاء. لكن تجربة الانضمام إلى داعش كانت صادمة له، فقد رأى أشياء «لم يتوقعها»، وشهد عنفاً غير مسبوق جعله يشعر بالقلق. وعلى اعتبار أن قراره بالجهاد لم يكن وليد تنافر إدراكي بل كان تأثراً بصديق، فإن رؤية الواقع القاسي في المناطق الخاضعة لسيطرة داعش خلقت لديه انزعاجاً نفسياً، وجعلته يقتنع بعدم صوابية البقاء هناك. 

        كذلك الأمر لم يمتلك سافيت دافعاً دينياً قوياً ليصبح جهادياً مثل أحمد، وأيضاً فهو مكث في سوريا لفترة قصيرة بحيث لم يتعرض لتلقين ديني دائم من قبل داعش. وبالتالي فالشاب وإن لم يختبر التنافر كمحرك أو دافع للذهاب إلى سوريا فهو عانى منه لاحقاً على أرض المعركة حينما عاش صراعاً دفعه أخيراً لترك الجهاد.

        في الخلاصة وجدت الدراسة أن نظرية التداخل المعرفي قد تقدم مدخلاً هاماً لفهم دوافع الجهاديين وتحليل الصراعات والدوافع المختلفة في رحلتهم وصولاً إلى ترك الجهاد، أو «الإقرار بفشل النبوءة» ّإذا ما استخدمنا لغة نظرية التنافر المعرفي.

        التنافر المعرفي بنكهة سورية

        انطلاقاً من حقيقة أن التنافر المعرفي يكون أشد وقعاً حينما تكون القضايا المرتبطة به أكثر حساسية، أعتقد أن شرائح المجتمع السوري، باختلاف خلفياتها السياسية والثقافية والدينية، اختبرت في السنوات الماضية درجات مؤلمة من التنافر المعرفي. فالمواطن السوري وجد نفسه عام 2011، أمام تساؤلات قيَميّة تمس جوهر شخصيته ومبادئه وصورته عن ذاته: كيف أكون وطنيّاً حقّاً؟ ما موقفي من الغرب والسيادة الوطنية؟ ما موقفي من مؤسسات الدولة والجيش؟ ما موقفي من الاحتجاجات الشعبية والحراك الثوري؟ ما موقفي من الآخر الذي يختلف سياسياً عني؟ ما موقفي من التطرّف والطائفية وهل أنا نفسي متطرّف أو طائفي؟

        التنافر المعرفي كان أشد حدّة بالنسبة لنا لأنه ارتبط بقضايا حياةٍ أو موت، موتنا أو موت الآخرين. فالسوريون باختلاف اتجاهاتهم السياسية شعروا بأن مواقفهم تُترجم إلى دماء ودمار وخسارات بشرية، وأنا أتحدث هنا عن رجال ونساء الشارع العاديين، وليس صناع القرار أو أطراف الصراع. الأمر هنا لم يقتصر فقط على التنافر أو التضاد الأشهر (مؤيد\معارض) بل انتقل لمجالات صراع أضيق وأضيق مثل (معارض\معارض)، (داخل\خارج)، (مستفيد \غير مستفيد) (متدين\غير متدين)..

        وما زاد «التنافر المعرفي» في حالتنا بلّة، وجعل نتائجه أكثر حدّة، كان تعرّضنا طوال سنوات لسيل لم نعهده من الأخبار والمعلومات والمتغيرات الجديدة، وهو ما نسميه في لغة علوم الاتصال: «التعرّض الكثيف لوسائل الإعلام». هذا التعرض فتح سؤالاً كبيراً حول الحقيقة ومن يمتلكها؟ خاصة وأن امتلاك الحقائق ضرورة بشرية لتشكيل المواقف المتوازنة. من جانبٍ آخر زاد من تأجج الموقف أيضاً تحوّل الشارع من حالة الخمود والسلبية المُكرّسة بعد سنوات من الكبت السياسي، إلى حالة الحراك والفاعلية، وبالتالي الحوار المستمر مع الآخرين على الفضاءات الافتراضية أو في الجلسات المغلقة، ما عنى أن التنافر المعرفي والقلق المرتبط به كان عام 2011 في أوجهما، والناس لم يكونوا على استعداد لمواجهة هذا الكرب أو التعامل معه.

        التحرر من عبء «التنافر»

        بالعودة لنظرية التنافر المعرفي، قد يكون الجزء الأكثر أهمية منها، بالمعنى العملي، هو ذاك الذي يركز على الاستراتيجيات وآليات الدفاع النفسية التي يلجأ إليها الأفراد لإيقاف حالة «عدم الراحة» أو القلق المُترتب على امتلاكهم فكرتين متصارعتين متناقضتين، أو عيشهم لتناقض بين أفكارهم وأفعالهم.

        يقترح الباحثون هنا أن الناس عموماً في حالات من هذا النوع يلجؤون إلى ثلاث استراتيجيات أساسية6 لتجاوز مشاعر عدم الراحة واستعادة شعورهم بالصفاء الداخلي والرضا عن الذات. ويتم تشبيه آليات الدفاع اللاواعية هذه بالجهاز المناعي، لكنها هنا تلعب دوراً سلبياً في إعاقة التعلم عبر التصدي لأي فكرة جديدة تخالف منظومة الأفكار المُكرسة.

        الاستراتيجية الأولى تتمثل بـ«الإنكار»، أي تجنّب أي مؤثر خارجي يُذكّر الأشخاص بوجود حالة التنافر من الأساس. ومن الأمثلة البسيطة عن ذلك توقّف الشخص عن متابعة المحطة التي لا تتوافق وقناعاته السياسية أو القيام بحظر صديقه الذي يعارضه في الموقف.

        أما الاستراتيجية الثانية فتتجلى بـ«التشكيك» بالمعلومة الجديدة التي تناقض معارفنا واتهامها بأنها: غير دقيقة، مضللة، مُضخمة، متحيزة، ملفقة، كاذبة. فعبر «نزع الشرعية» تفقد المعلومة الجديدة قدرتها على التهديد ومساءلة المعارف الراسخة.

        أما الاستراتيجيّة الثالثة فتتمثل بـ«الحد من تأثير» المتغير الجديد، كالاعتراف بأن المعلومة الجديدة قد تحمل درجة من الصحة لكنها ليست مؤثرة أو حساسة بالدرجة التي تبدو عليها. فقد يحمي المرء نفسه من تنافر قيمه مع سلوكه بالقول إن السلوك المرفوض نادر الحدوث لا يعدو كونه «زلة»، أو قد يُقدم حججاً عقلانية لإقناع نفسه أو الآخرين بأن السلوك الجديد ليس مُضراً كما يبدو. مثل أن يُصرَّ البعض أن مقاطعة منتجاتهم المُفضلة لن تحدث فرقاً حقيقياً في الصراع مع إسرائيل، وأن هذا النوع من المقاومة «عبثي» لأن غيرهم سيشتري هذه البضائع حتى وإن هم أحجموا عن ذلك.

        والآن بالعودة إلى إسقاطات أكثر تفصيلاً للنظرية على الشأن السوري، أعتقد بأن شرائح واسعة من المجتمع السوري عمدت في السنوات التي تلت 2011 إلى وأد\قتل التنافر المعرفي الذي اختبروه لحظة اندلاع الثورة، عبر التفعيل النشط للاستراتيجيات الثلاثة سابقة الذكر (الإنكار، التشكيك، الحد من التأثير). فبعد أن شهدت الأعوام التالية للحراك الثوري درجات عالية من السجالات السياسية، تبعها حالة من الانكماش والتقوقع في دوائر مغلقة. الشرائح الاجتماعية الموالية للنظام السوري اكتفت بالصفحات والمحطات الإعلامية التي تروي لها الحكاية التي تريد سماعها. بعض الفئات المتشددة في المعارضة السورية صمّت آذانها وعيونها عن التقارير التي تتحدث عن الانتهاكات والتجاوزات التي تقوم بها فصائل مسلحة، وكذّبت تلك التقارير باعتبارها مُلفقة من قبل النظام وأجهزته الأمنية. عموماً سعت الأطراف المتشددة من الجانبين إلى الحد من تأثير أي رسالة أو معلومة تعارض قناعاتها السائدة، وكانت الحجج جاهزة في كل مرة: «مؤامرة»، «تبعية»، «ثورة مضادة»، «خيانة». خلال هذه الأعوام تعزز الفصل أيضاً بين «المناطق المحررة» و«المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام السوري»، وبين «الداخل السوري» و«خارج سوريا»، وبين طائفة وأخرى، ومع ازدياد الانقسامات والصدامات صغرت الدوائر التي يتفاعل ضمنها أفراد أنهكهم التنافر وقرروا إراحة بالهم بالاكتفاء بالتواصل مع القلة التي تشاركهم في الرأي ولا تسبب لهم وجعاً في الرأس أو نخزاً في القلب.

        واليوم بعد سقوط النظام السوري سنشهد موجة جديدة لا تقل شدة من «التنافر المعرفي» بعد انفتاح الحدود السياسية والجغرافية بصورة لم تشهدها البلاد في تاريخها الحديث. يُمكن تأمل مثلاً ما يحدث اليوم في العاصمة دمشق، التي باتت نقطة لقاء بين أجيال من السوريين الصغار الذين لم يعرفوا بعضهم بعضاً، وكلٌ منهم تربى ضمن دائرة مُغلقة تُشيطن أو تُلغي وجود الآخر المختلف. أحد تكثيفات هذا التنافر يمكن مشاهدته ضمن فيديو انتشر على منصات التواصل الاجتماعي مؤخراً، يتحدث فيه أحد شباب «إدارة العمليات العسكرية» الذي لا يتجاوز العشرينات من العمر، ببساطة وتلقائية، عن انطباعاته عن دمشق وتخوفاته من نظرة الآخرين له ومن نظرته نحو الآخرين. ورغم أن بعض ما يقوله الشاب أمام عدسات الكاميرا قد يكون استجابة لتوجيهات الإدارة الدقيقة بضرورة بث «التطمينات» للمجتمع السوري، لكن بالنسبة لي الجزء الأهم هنا هو الصراع الباطني الذي لا تُظهره الكاميرا، والذي يعيشه الشاب منذ اللحظة التي غادر فيها إدلب، ووطأت قدمه أرض دمشق. 

        انفتاح الحدود الذي نشهده اليوم بين التكتلات المنغلقة، أياً كان نوعها، هو ما يبرر استعادة الاهتمام بنظرية التنافر المعرفي. فالسوريون اليوم مضطرون مجدداً لمواجهة هذا التنافر، سواء الداخلي بين أفكارهم القديمة والجديدة، أو الخارجي المتمثل بصراع أفكارهم مع أفكار الآخرين. ومن المهم هذه المرة ألا يتم تجنّب الصراع وإسكات الأصوات المتناقضة، بل محاولة توجيهها والتعامل معها. لأن التنافر في جوهره أحد مرادفات «الحوار»، وهو حالة صحية لا بد منها كي تولد الأفكار الجديدة من رحم القديمة. 

        الشك المستمر في الحقيقة كأداة تلاعب

        من زاوية أخرى، وعند التفكير بالتقاطعات بين نظرية التنافر المعرفي والواقع السوري، لا بد من الاعتراف بأن الجانب الإشكالي هنا مُتعلق بفكرة «الحقيقة» ذاتها. فالمدخن مثلاً يدرك في قرارة نفسه أن التدخين مُضر لأن ضرره بات حقيقة مثبتة بكل طريقة ممكنة، وبالتالي فهو قد يستمر في التدخين ليس لاعتقاده بأنه صحي بل لفشله في التغلب على الإدمان. أما القضايا السياسية التي نواجهها بما فيها من تعقيد فتسمح بتفعيلٍ أكبر لآليات الدفاع النفسي التي أشرنا إليها، وعلى رأسها «التشكيك» بالمعلومات (الحقائق) الجديدة التي قد تناقض مفهومنا السابق عن الحقيقة. رغم ذلك فإن «التشكيك» في السياق السوري ليس مجرد «بارانويا»، أو جنون ارتياب نلجأ له لصد الأفكار التي لا تتفق وقناعاتنا، بل هو أحياناً حاجة مفروضة. مردُّ ذلك أن تزييف الحقائق أمر واقع، والمعلومات المُضللة والكاذبة والمضخمة كانت بالفعل أداةً أساسية من أدوات الصراع السوري، وما تزال إلى اليوم حاضرة بقوة في المشهد السياسي الجديد.

        ضمن هذا السياق نستطيع هنا استعراض أمثلة محددة عن التلاعب المستمر بالحقائق ظهرت على السطح في الأسابيع القليلة الماضية، وجاءت كتعبيرات عن الحاجة لوقف التنافر الذي تولده المتغيرات المتسارعة الجديدة على الساحة السورية. فبعد سقوط النظام وفتح السجون والمعتقلات تسللت بعض الصور المزيفة المولدة بالذكاء الصناعي، أو المأخوذة من أفلام أو تقارير سابقة، أو تلك التي تعود إلى مكانٍ وزمانٍ آخرين، لتنشر مع أكوام من الصور الحقيقية التي وثّقت الظروف المرعبة للمعتقلين السوريين.

        هذا التزييف قدّم ذريعة للبعض كي يعتبروا مثلاً أن ملف المعتقلين السوريين، ما زال يخضع لتضخيم إعلامي وأن الوضع في تلك السجون لم يكن بالسوء الذي يُروج له. هذا الرأي لاقى قبولاً أكبر لدى الأشخاص الذين شعروا في قرارة أنفسهم بالذنب لأنهم لم يصدقوا سابقاً التقارير والمقابلات والوثائق المسربة من السجون السورية في السنوات الماضية. ولأن الصور الجديدة شكلت لهم صدمة حقيقية، جاءت الصور المزيفة لتقدم لهم مهرباً من التنافر، فهم يستطيعون القول لأنفسهم: «ليس كل ما نراه حقيقياً». ضمن ذات السياق جاءت المبادرة الساعية إلى تلوين وطلاء جدران الزنازين  بما فيها من طمس لكل الأدلة التي تحملها، كتعبير جمعي عن الرغبة بتجنب التنافر وإنكار وجود المُعتَقلات عبر تحويلها سريعاً إلى شيء آخر.

        إلى جانب التزييف الذي لحق بصور المعتقلات ما تزال القضايا المُتعلقة بالتجييش الطائفي (أخبار القتل والإعدامات والاستهدافات على أساس طائفي)، أو تلك المُتعلقة بقرارات الحكومة المؤقتة الجديدة، الموضوعات الأكثر عرضة للشائعات، كما لو أن هذا الخلط المستمر بين «الإشاعة» و«الحقيقة» غرضه إعاقة تقييم المخاطر التي قد تهدد السلم الأهلي أو الحريات السياسية والمدنية. فبعض المتحمسين للإدارة الجديدة يتعاملون مع كل خبر جديد عن استهداف طائفي أو قرار حكومي مُقلق بوصفه شائعة تخدم «الثورة المضادة»، وحينما يظهر مثلاً أن الخبر حقيقي وليس مزيفاً يميلون للتقليل من أهميته أو خطورته، أو يقترحون أموراً يرونها أجدر بالاهتمام والتركيز. وتلك الاستراتيجيات التي يلجأون لها قد تعني بأنهم في قرارة أنفسهم خائفين أيضاً كالآخرين، من بعض التطورات التي تحصل ولهذا هم يحاولون تجاهلها والتقليل من شأنها، ويرغبون بإسكات من يتحدث عنها.

        من هذا المُنطلق يمكن عدّ الشائعة، بغض النظر عن الجهة التي تُطلقها، أداةً فعالة في شل الشارع السوري ومنع أفراده من الاعتراف بالحقائق والبناء عليها للمضي قدماً. بحيث يبقى البحث عن الحقيقة الهم الشاغل للكثيرين بما يُعيق ويعطل التنافر المعرفي بمعناه الإيجابي (الاعتراف بامتلاك فكرة خاطئة أثبت الواقع زيفها وتبني فكرة جديدة أكثر توازناً).

        ولهذا، وإذا كان السوريون اليوم ولا شك مقبلين على مرحلة عاصفة بالتنافرات المعرفية، فلا بد من جعل نشر الحقائق والشفافية في تداول المعلومات مطلباً وطنياً لضمان حوار بنّاء مع الذات أو مع الآخرين. فالحقيقة عندما تكون غائبة، ومميعة، تسهّل لجوء الأفراد لضغط زر «التشكيك» في مواجهة كل معلومة تخالف رغباتهم أو قناعاتهم. وهذا يعني أنهم قد يبقون إلى الأبد رهيني «نبوءاتهم» المزيفة، ينتظرون صحناً طائراً يحملهم بعيداً، أو بطّل مُخلص تأخر عن موعده.

        قائمة المراجع:

            Festinger Leon, Riecken Henry W. And Schachter Stanlty. (1956). When Prophecy Falls. Minneapolis, MN, US: University of Minnesota Press.

            Gillespie Alex. )2020(. Disruption, Self-Presentation, and Defensive Tactics at the Threshold of Learning. Review of General Psychology.  24:4, 382-396.

            Nilsson, M. (2019). Motivations for Jihad and Cognitive Dissonance – A Qualitative Analysis of Former Swedish Jihadists. Studies in Conflict & Terrorism, 45(1), 92–110.

            قطامي يوسف، نظرية التنافر والعجز والتغيير المعرفي. (2011). دار المسيرة للنشر والتوزيع، عمان. 

1.Leon Festinger Henry W. Riecken AND Stanlty Schachter. 1956. When Prophecy Falls. Minneapolis, MN, US: University of Minnesota Press.

2.(Festinger, Riecken & Schachter, 1956, p22)

3.(Festinger, Riecken & Schachter, 1956, p30)

4.(Festinger, Riecken & Schachter, 1956, p218)

5.Nilsson, M. 2019

6.(Gillespie Alex, 2020, 382-396)

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى