سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 05 أذار 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:

سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

———————————–

المخاض السوري و”همروجة” مؤتمر الحوار الوطني/ علي العبدالله

05 مارس 2025

ركّزت معظم تعليقات الكتّاب السوريين بشأن مؤتمر الحوار الوطني على مسائل إجرائية، فترة التحضير، الدعوات والمدعوين، الفترة القصيرة التي استغرقتها جلسات الحوار في الغرف الست، بعضها علّق على البيان الختامي حيث وجد فيه عموميات إيجابية تحتاج توضيحات وتجاهل مسائل مهمة، مثل حرية تشكيل الأحزاب والنقابات، في حين كان الموقف يستدعي البحث في خلفيات هذه الواقعة ودلالاتها على التوجّه العام والهدف الذي تسعى السلطة الجديدة إلى بلوغه.

جاءت فكرة عقد مؤتمر الحوار الوطني خطوة على طريق الاستجابة للمطالب الدولية في المرحلة الانتقالية: الشمولية والتعدّدية وحقوق الأقليات والنساء والشباب، التي طُرحت شرطاً للانفتاح الفعلي على السلطة الجديدة ورفع العقوبات عن سورية. مطالب كرّرها موفدون أميركيون وأوروبيون وأرفقوها بضغوط مباشرة عبر الالتقاء بممثلين عن منظمّات المجتمع المدني والأديان والنساء. كان المبعوث الأممي إلى سورية غير بيدرسون قد أشار إلى بعض هذه المطالب، وخاصة حكومة انتقالية شاملة وغير طائفية، باعتبارها بنوداً في قرار مجلس الأمن 2254 ما زالت صالحة. وهنا كمنت المشكلة/ المأزق حيث لا تشكل هذه المطالب مفردات النظام الذي تعمل السلطة الجديدة على إرسائه، كما عكسته خطواتها في الأشهر الماضية، بدءاً من نقلها حكومة إدلب إلى دمشق وتكليفها بتصريف الأعمال، ريثما تُشكّل حكومة انتقالية، والتي بدأت من فورها بالتصرف باعتبارها حكومة كاملة الصلاحيات من دون اعتبار لطبيعتها، ومن دون التوقف عند اعتراضات سوريين، حيث أعادت النظر في المناهج الدراسية وأغلقت القضاء وصرفت موظفين من وظائفهم وحدّدت طبيعة النظام الاقتصادي للدولة، نظام ليبرالي يستند إلى القطاع الخاص والاستثمارات الخارجية، من دون أن يعيدها قائد إدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع إلى جادّة الصواب، ما يعني أنه موافق على ما جرى، وتصرفه هو نفسه بصلاحيات رئيس منتخب، بدءاً بتعيين رئيس أركان للجيش وترقية قادة وضباط فصائل شاركوا في عملية ردع العدوان ومنحهم رتباً عالية، ومنحِ رتب عسكرية عالية لأجانب في فصيله، تمهيداً لاحتلالهم مواقعَ قياديةً في الجيش الجديد، وتسمية رئيس جهاز الأمن العام التابع لهيئة تحرير الشام أنس خطاب رئيساً لإدارة المخابرات العامة، وتكليفه بتشكيل جهاز استخبارات جديد للدولة، وتعيين آخرين في مواقع وظيفية رفيعة: محافظين ومدراء أمن جنائي وإدارات مدنية… باسطاً بذلك سيطرته على البلاد بملء الفراغ الأمني والإداري برجاله ورجال حلفائه، قبل أن يُعقد مؤتمر النصر ويوليه رئاسة المرحلة الانتقالية.

وكانت ثالثة الاثافي، كما تقول العرب، تفويضه بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت، فتفويضه بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت يضع إعلاناً دستورياً جعله جزءاً من العملية التشريعية، في حين كان يجب أن يكون خارجها كي يُتاح للمجلس وضع قواعد عمل وضوابط دستورية لتصرّفاته رئيساً انتقالياً بمعزل عن أي تأثيرات جانبية، عدا أن قرار التفويض يُخضع عملية تشكيل المجلس لتقديرات فرد ورغباته وتفضيلاته السياسية والاجتماعية. جعل هذا كله خطوات السلطة الجديدة بمثابة وضع العربة أمام الحصان: السلطة والرئاسة أولاً ثم مجلس تشريعي وإعلان دستوري، فغدا المجلس والإعلان تحت قيادة السلطة، وسيأتي وفق تصورها ومصالحها بالضرورة. وقاد هذا إلى مزيد من الحذر في الأوساط السياسية العربية والأجنبية، الأميركية بشكل خاص، حيث أعلن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أن “الحكام الجدد في سورية لا يمنحوننا الطمأنينة”. كان المنطقي أن تبدأ إدارة العمليات العسكرية بالتشاور مع القوى السياسية والمجتمعية ومنظمّات المجتمع المدني لاختيار أعضاء مجلس تشريعي مصغّر من قانونيين وخبراء دستوريين، يضع إعلاناً دستورياً مؤقتاً ينظّم عمل السلطات الثلاث قبل انتخاب رئيس جمهورية للمرحلة الانتقالية، التي ستستمر أربع أو خمس سنوات، وفق إعلان الشرع نفسه، بحيث يأتي انتخابه استكمالاً لهيكلة المرحلة الانتقالية، وضبط قراراته وممارساته بهذه المبادئ، كي تكون دستورية وشرعية بالتالي.

لم يكن ما جرى خطأ أو تصرّفاً عشوائياً؛ إنه عمل مخطّط ومنظّم هدفه إدارة المرحلة الانتقالية بشروط السلطة الجديدة وقيودها التي يسيطر عليها أحمد الشرع، تحقيقاً لهدفه في تشكيل نظام سياسي تحت السيطرة. وقد تجسّد هذا التوجه في حسمه في خطابه الرئاسي طبيعة النظام السوري الجديد: نظام رئاسي ومركزي، من دون انتظار تشكيل مجلس تشريعي مؤقت، ووضع إعلان دستوري للمرحلة الانتقالية، والبدء بمناقشة طبيعة النظام السياسي والاتفاق على النظام المناسب، كما جسّده حديثه عن رفضه استيراد أنظمة حكمٍ لا تتلاءم مع واقع البلاد وتحويل المجتمعات إلى حقل تجارب لتحقيق أهداف سياسية.

أرتبط عقد مؤتمر الحوار الوطني بتلبية مطالب دولية، على أمل استرضاء هذه الأطراف، والبدء برفع العقوبات المفروضة على سورية من أيام النظام البائد، وإطلاق عملية إعادة الإعمار، ما يسمح بتلبية تطلعات السوريين في توفير ظروف حياة مريحة في بلدهم على صعد المعيشة والخدمات، فالعقوبات لن ترفع عبر تكرار الطلب ليلاً ونهاراً؛ وإنما ترفع عند الاستجابة للمطالب الدولية، ما اضطرّ السلطة الجديدة لعقد المؤتمر، عله يحقق المأمول منه. غير أن تعارض التوجّهات الخارجية ومطالبها بخصوص الشمولية والتعدّدية مع توجهات قيادة السلطة الجديدة، الساعية إلى إقامة نظام بمواصفاتٍ توفر لها السيطرة والهيمنة، دفعها إلى ترتيب وعقد مؤتمر الحوار بشروط ومعايير تناسب هدفها، لا هدف المجتمع السوري، فكان “السّلق” وتحويل المؤتمر إلى “همروجة”، عبر تضخيم دلالات عقده وأهميته في صياغة سورية الجديدة وحشد عدد كبير من المواطنين، 800 شخص، قبل أن تعود وتقزّمه بالإعلان أن نتائجه توصياتٌ لا تلزمها، فالإعلان أن قرارات المؤتمر توصيات ينسجم مع توجهات الشرع الذي يعتنق، هو وأركان حكومته، مبدأ الشورى معلمة، فالسلطة الجديدة بحاجة ماسّة إلى رفع العقوبات واستجلاب الأموال والاستثمارات، كي تقدّم الخدمات الصحية والتعليمية، وتحسّن ظروف معيشة المواطنين، عبر توفير فرص عمل لهم، باعتبارها، إلى جانب توفير الأمن، رافعة الشرعية وقاعدة النظام المستهدف، وسبيله إلى الإمساك بالدولة وفرض السيطرة على المجتمع، كما حصل في مرحلة حكم إدلب، حيث حكمت هيئة تحرير الشام المجتمع وسيطرت عليه باعتمادها ثنائية الأمن والمعيشة رافعة لإغلاق الفضاء السياسي، حيث لا حرّيات ولا نشاطات سياسية واجتماعية ومدنية تحت طائلة الاعتقال والسجن بذرائع تعكير الأمن والاستقرار في “المحرّر”.

جاءت صورة الحوار الوطني التي أرادت السلطة الجديدة تقديمها للدول الغربية، الولايات المتحدة على وجه الخصوص، بنتائج عكسية، فقد زادت من القلق الدولي على الوضع العام في سورية، إنْ لجهة دعوة المشاركين بصفتهم الشخصية وعدم إشراك القوى السياسية والمدنية، وهو ما يؤكّد ما ورد أعلاه عن توجه السلطة الجديدة إلى إغلاق الفضاء السياسي، أو لجهة عدم أخذ البيان الختامي بملاحظات المتحاورين في الغرف الست، ما كشف أنه مكتوبٌ سلفاً، واعتبار بنوده توصياتٍ سيبُقي بعمومياته الإيجابية المجال مفتوحاً أمام السلطة الجديدة للالتفاف على البنود التي لا تتوافق مع توجّهها. أرادته صورة لا أكثر، ما رفع من حدّة الانتقادات التي تُوجه إلى الشرع والحكومة، حتى من مواطنين كانوا حتى الأمس القريب من مؤيّدي القرارات التي اتخذتها هيئة تحرير الشام، وهو ما بدأنا نشاهده ونقرأه على وسائل التواصل الاجتماعي. هذا وقد ربطت تقديراتٌ بين دعوة الشرع لزيارة الأردن وعدم رضا عربي وأجنبي عما يحصل في سورية، من حبس السيولة والاستحواذ على مدّخرات المواطنين وحوالاتهم من العملة الأجنبية بأبخس الاسعار وصولاً إلى “همروجة” مؤتمر الحوار الوطني، مروراً بمنع عقد مؤتمرات صحافية وورشات عمل لناشطين سياسيين ومدنيين، وبفتح السوق لواردات غير مرتبطة بحاجة السوق المحلية ومن دون شروط جودة صارمة، مستشهدين على رأيهم بقصر فترة الزيارة، ساعات، وتواضع المراسم، لم تكن حافلة وأبقيت على مستوى منخفض، واعتبروها دعوة لتبليغ رسائل تذكّره بالمطالب الغربية.

عكس عقد مؤتمر الحوار الوطني بشروطه وقيوده ونتائجه المحددة مسبقاً، بالإضافة إلى قرارات السلطة الجديدة الأخرى، هدفها المركزي: اغلاق الفضاء العام أمام أي توجهاتٍ سياسيةٍ خارج خياراتها وقطع الطريق على العمل السياسي والحقوقي، في تكرار فج لتجربتها في فترة حكمها إدلب، متجاهلة عدم نجاح تجربتها هناك في إسكات المواطنين الذي جسّده خروجهم في تظاهرات واعتصامات كبيرة وواسعة، كادت تطيح التجربة وزعيمها أبو محمد الجولاني، لولا حصول تطوّرات إقليمية (طوفان الأقصى مثلاً) ساعدته على الالتفاف على مطالب المواطنين عبر تصوير نفسه جزءاً من المعركة في قطاع غزّة. ناهيك عن الفارق الكبير والجوهري بين فضاء محافظة ريفية وفضاء دولة كبيرة ذات مدن كبيرة لها ثقافتها وتطلعاتها وتوجهاتها السياسية والاجتماعية، ما سيجعل انفجار الوضع حتمياً، خاصة أن السلطة الجديدة لم تنجح في إقناع قطاعات واسعة من الشعب السوري أنها سلطتهم؛ وأنها لم تنجح في بسط الأمن، وأن التطورات الأمنية تُنذر بأخطار كبيرة في ضوء وجود دول طامحة لبسط سيطرة ونفوذ في سورية، وأخرى تسعى إلى إضعافها، وحل مشكلاتها مع توفير الأساسيات المعيشية والخدمية بيد الإدارة الأميركية، عبر رفع العقوبات وفتح باب الاستثمار في سورية. ما يستدعي تحرّكاً سريعاً لجسْر الهوة بين توجهاتها السياسية وتطلعات المواطنين في الحرية والكرامة، وتحاشي انفضاض الدول العربية عنها نتيجة تمسّكها بتوجّهاتها غير المقبولة لا عربياً ولا دولياً.

العربي الجديد

————————-

عندما يتبخّر الحسّ النقدي عند سوريين موالين/ أرنست خوري

05 مارس 2025

الحميّة التي يُظهرها كُثر من الموالين للمسؤولين الذين يحكمون سورية منذ سقوط نظام الأسد ضد أي اعتراض، مقلقة بقدر ما هي مفهومة، والمفهوم يختلف عن المبرَّر. رصد سلوك موالين بعضه تشبيحي تخويني طائفي على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الأحاديث الثنائية والجماعية الكثيرة الجارية هذه الأيام بشأن كل شيء وفي كل مكان، انتقاماً من عقود الخرس السياسي في مملكة الصمت الأسدية، قد يثير فزعاً لو كان المتابع مراقباً أجنبياً. أما عندما نضع العصبية تلك في سياقها السياسي التاريخي النفسي الطائفي، ربما يصبح القلق عقلانياً، ونمسي واقعيين في طموحاتنا لمستقبل هذا البلد.

وجب تثبيت قاعدة أساسية للنقاش المتوازن تعترف بأن فضلين اثنين كبيرين فعلاً يعودان لأحمد الشرع ولرفاقه، وهما أنهم هم من تجرّأوا على اتخاذ القرار التاريخي بإطلاق الحملة العسكرية في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني والذي اعتبره كثر عن سوء تقدير (منهم كاتب هذه الكلمات) بمثابة انتحار جماعي ومقامرة كارثية. وفضلهم الثاني أنهم دخلوا المدن والبلدات والقرى بين 27 نوفمبر والثامن من ديسمبر/ كانون الأول بأقل منسوب ممكن من الجرائم والانتقام والانتهاكات، وقد جنّبّ ذلك السلوك البلد حرباً أهلية شاملة دفعة واحدة، وإن كنا نشهد منذ سقوط الأسد معارك وجرائم وأعمال ثأر واشتباكات وفظائع بالمفرّق وحروباً أهلية بالتقسيط، يزداد هولها كلما ابتعدنا عن المدن والبلدات الكبرى. أما وقد أعطي صاحب الحق حقه، فقد وجب إكمال العبارة بالقول إن كل ما عدا هذين الفضلين مشرّع للانتقاد وللمعارضة، لأن أقل ما يمكن فعله هو التوجّس من حكم إسلاميين سلفيين هم أمراء حرب، وانشقاقهم عن تنظيمي داعش والقاعدة لم يكن نتيجة مراجعة فكرية نقدية، بل براغماتية مبكرة تستجيب لشروط نيل مقبولية عالمية يوماً ما، وقد حلّ ذلك اليوم. المعارضة للشرع ولرفاقه هي السلوك الطبيعي على ضوء رفض هؤلاء نطق كلمة ديمقراطية منذ تسلموا السلطة قبل ثلاثة أشهر، وقد كرّسوا ذلك في بيان من 18 بنداً لـ”مؤتمر الحوار الوطني السوري” صيغت في 582 كلمة لم يرد فيها مصطلح ديمقراطية مرة واحدة ولو كهدف يؤمل أن يحلّ في زمن ما. مؤتمر “حواري” شكلي جمع مئات الأشخاص بضع ساعات واختتم ببيان معدّ سلفاً ولا شيء ملزماً فيه ولا هو مضبوط بسقف زمني، وذلك سبب موجب ثالث للمعارضة. أما عدم اتّعاظ المسؤولين السوريين الجدد من تجارب التاريخ وحلّهم الجيش والشرطة وتسريح الموظفين جماعياً، فتلك مصيبة رابعة تجعل المعارضة السلوك البديهي في حضرتهم. كيف لا يُنتقد بحدّة من يتمسك بالمقاتلين الأجانب في صفوفه ويعين منهم وزراء وقادة في الجيش، بينما كانت إحدى مشكلاته مع نظام الأسد أنه أتى بأجانب ليحاربوا إلى جانبه؟ كيف لا يُعارضه سوريون من مكونات طائفية وإثنية يعتبرها كثر من رفاق الشرع مهرطقة وخوارج وكافرة أتباعها أنصاف سوريين بأحسن الأحوال؟ كيف لا يعارَض من لا حساسية خاصة عنده تجاه الحريات الفردية والثقافة والفنون وإنصاف المرأة ويخبرنا شيوخ من هيئة تحرير الشام أن الحرية الحقيقية هي حرّية التعبد لله؟ كيف يتبخّر الحس النقدي عند مؤيدين لا يلاحظون أن الفترة الانتقالية لا تبدو فعلاً كأنها انتقالية، بدءاً من صفة أحمد الشرع رئيساً للجمهورية العربية السورية حسب وكالة الأنباء الرسمية (سانا)، لا رئيساً للمرحلة الانتقالية؟

ربما أمكن تخفيض سقف توقعاتنا لسورية في المدى المنظور. سيكون إنجازاً لو تحقق استقرار أمني وتحسنت الأحوال المعيشية وتم اتقاء شرّ التقسيم الإسرائيلي، وخروج القوات الأجنبية من هذا البلد، وبناء تدريجي لمؤسساته وإبقاء منسوب القمع منخفضاً بلا تعذيب ولا إخفاء قسري ولا معتقلات سرية، وتقسيم عادل للثروات، وإبرام ربط نزاع مع ممثلي القوميين الأكراد إلى حين نضوج حلّ عادل لتلك المسألة. أما الديمقراطية فشأن آخر، مشروعها مؤجّل في سورية.

العربي الجديد

—————————–

المجتمع المدني في اللاذقية.. هل ينجح في تعزيز السلم الأهلي؟/ اللاذقية ـ إبراهيم زرقه

2025.03.05

بدأت منظمات ومبادرات المجتمع المدني تتنفس في سوريا، حيث يبدو أن هامشاً من الحرية أفسح أمامها بعد سقوط الأسد. يعمل اليوم المجتمع المدني كخلية نحل من خلال تنظيم تدريبات للفرق وإقامة ندوات وجلسات حوارية مصغرة، لمحاولة رأب الصدع الحاصل سابقاً، ولدفع عجلة العمل ما أمكن.

“اليوم نستطيع العمل علانية”

ريما إحدى الناشطات في مجال العمل المجتمعي والمجتمع المدني، بدأت نشاطها منذ نحو 10 سنوات بالتطوع في نشاطات مدنية سواء مع الهلال الأحمر أو مع أي مبادرة مجتمعية تسمع بها. خضعت لعدة تدريبات مع جهات دولية أو محلية، ولاحقاً استطاعت ريما العمل في إحدى المنظمات المسموح لها بالعمل سابقاً في عهد النظام المخلوع، وحاولت بكل قدرتها أن تطبق بعض ما تدربت عليه لتستطيع تحقيق الأهداف الكثيرة التي تطمح لها كالمساواة والعدالة الاجتماعية والتعايش المشترك وكل هذه الأمور كان النظام يحد من تطبيقها.

كان مجال المجتمع المدني في اللاذقية بحسب ريما محصوراً في مشاريع تمكينية للمرأة ومشاريع تعليمية، وجلسات دعم نفسي وأي شيء لا يقترب من مجال السلم الأهلي أو العدالة المجتمعية، رغم حاجة سوريا لمثل هذه المشاريع سابقاً في اللاذقية كما تقول.

“اليوم تسير البلاد بخطاً متثاقلة وحذرة وهناك مخاطر كثيرة، من واجب المجتمع المدني التدخل بأسرع وقت”. تضيف ريما. تتمثل هذه المخاطر برأيها في موضوعات السلم الأهلي والعيش المشترك وآليات تطبيق العدالة الانتقالية، فهي مفاهيم يتم الترويج لها بكثرة في سوريا اليوم وعلى صفحات السوشيال ميديا، وواجب منظمات المجتمع المدني أن تعزز مفاهيم المواطنة وحقوق الإنسان لدى السوريين، وتعمل على توعية الناس بأهمية مشاركتهم كعناصر فعالة ضمن المجتمع المدني نفسه.

وعن أهمية تفعيل مسار السلم الأهلي في سوريا وفي اللاذقية خصوصاً، توضح أن اللاذقية تحتوي على خليط متجانس من السوريين بمختلف الطوائف والقوميات والأديان، فلذلك من واجب المجتمع المدني العمل لضمان حالة التعايش السلمي والتسامح ضمن البلاد.

السوريون يحتاجون إلى الحوار

عقد في اللاذقية بتاريخ 14و15 من شباط الماضي مؤتمر الشباب والشابات السوريين، والذي نظمته وحدة تمكين المجتمع المدني في منظمة بسمة وزيتونة، وضم هذا المؤتمر جلسات نقاش وحوار بين شبان وشابات من مختلف المدن السورية. وفي حديث خاص لموقع تلفريون سوريا، قال (جورج طلماس)؛ مدير وحدة تمكين المجتمع المدني في بسمة وزيتونة وشريك مؤسس ضمن بسمة وزيتونة: إن الهدف الأساسي من المؤتمر كان جمع سوريين وسوريات من مختلف المحافظات ليتحدثوا ويتعارفوا فيما بينمهم ويتحاوروا حول مستقبل سوريا ويتم تنظيم عملهم ليكونوا موجودين في كل خطوة في المستقبل إن كان بعلاقات مباشرة مع  الحكومة الجديدة أو مع منظمات المجتمع المدني في اللاذقية وفي سوريا.

وأُقيمت الوحدة في 14 جلسة حوارية في اللاذقية وتعرف اللاذقية بتنوعها الطائفي، وبنظر “طلماس” كانت تجربة جيدة وهي بداية رغم أنه لايمكن قياسها ولكن طلب المشاركين تمديد الجلسة لساعة إضافية هو ما يوحي برغبة المشاركين بالحوار والتفاعل والتعرف على بعضهم. ويتابع أنها تعتبر بداية يجب أن تستمر لأن الاحتقان في الشارع السوري عمره سنين ويجب الاعتماد على مثل هذه الجلسات لبناء عقد اجتماعي لبناء دستور يلبي طموحات الجميع.

وفي السياق نفسه تحدث “عبد الفتاح شيخ عمر” مسؤول برنامج الحوار المجتمعي في وحدة التمكين، أن البرنامج هو على مستوى سوريا، حيث تحاور نحو 80 شابا وشابة في المؤتمر وسبق أن تحاوروا مع 800 آخرين من مختلف مناطق سوريا والذين سبق أن تحاوروا مع 3 آلاف شاب وصبية عبر الرسائل والمحادثات الإلكترونية. والهدف من هذه اللقاءات هو تعزيز التواصل بين الشباب والشابات في سوريا إضافة إلى تقديم توصيات حول كيفية تفعيل دور الشباب وإشراكهم في صناعة وبناء مستقبل سوريا الكرامة والمواطنة والعدالة.

المجتمع المدني.. ركيزة في مستقبل سوريا

يشدد الكثيرون على أهمية دور المجتمع المدني في بناء مستقبل سوريا، وتدعيم أسسها. وهو ما أضافه عبد الفتاح في سياق حديثه، فبعد انتهاء الحرب تبرز أهمية المجتمع المدني، حيث تكون قدرة الحكومة أضعف وهو يعتبر بمثابة رديف للدولة ويغطي جوانب لا تقدر الدولة بشكلها الحالي على تغطيتها، ومن أهمها المشاركة والتأسيس لبناء السلام والتعامل مع النزاعات الضخمة التي نتجت عن النزاع الأساسي الضخم بين الشعب والسلطة.

ومن أهم أدواره تلبية احتياجات الناس ومنها قيادة عمليات تماسك مجتمعي وبناء سلام إيجابي مما يؤهل السوريين للعيش في بيئة جيدة وسليمة.

ولكن بحسب عبد الفتاح يواجه المجتمع المدني صعوبات وتحديات كبيرة، منها صعوبة الوصول أحياناً لكل فئات المجتمع، لكن بفضل التشبيك مع كل القوى الفاعلة على الأرض يحاولون الوصول بشكل أكبر، ويبقى العائق المادي هو الأكبر، ففي ظل إيقاف التمويل الأميركي لعدد كبير من منظمات المجتمع المدني يعرقل العمل، وخاصة في ظل وضع اقتصادي سيئ وصعوبة نشر مفاهيم العمل التطوعي لدى الشباب لانعدام الدخل أو قلته.

هل تستطيع اللاذقية تجاوز إرث الحرب؟

السؤال الأهم اليوم هو هل تستطيع اللاذقية تجاوز إرث الحرب والانقسامات التي تركتها؟ الإجابة تعتمد على عوامل، منها مدى قدرة المجتمع المدني على الاستمرار في العمل رغم التحديات المالية والسياسية، ومدى تقبل المجتمع المحلي لمفاهيم السلم الأهلي والعدالة الانتقالية.

إضافة إلى أن إعادة بناء الثقة بين مكونات اللاذقية تحتاج إلى جهد طويل وممنهج، يتجاوز الحلول الشكلية إلى مشاريع مستدامة تعزز الروابط الاجتماعية، وتعيد بناء النسيج المجتمعي المتضرر. وفي ظل التغيرات الحاصلة في سوريا، تبقى اللاذقية أمام اختبار حقيقي، فإما أن تكون نموذجا ناجحا في تحقيق التعايش، أو ساحة جديدة لصراعات مستقبلية إذا لم يتم احتواء الخلافات بشكل حقيقي.

تلفزيون سوريا

————————————-

بين الشكلية والإقصاء.. هل يبقى تمكين المرأة في سوريا مجرد شعار؟/ جولي بيطار

2025.03.05

بعد أكثر من أربعة عشر عامًا من الحرب التي شنها نظام الأسد على الشعب السوري، وجدت النساء أنفسهن في قلب التحديات، حيث أصبحن عاملات، ومعيلات، وناشطات في مجتمعاتهن، مما جعلهن جزءًا لا يتجزأ من عملية إعادة البناء. فرضت الحرب واقعًا جديدًا أجبر النساء على دخول سوق العمل لتعويض غياب الرجال بسبب الإخفاء والقتل والاعتقال والتهجير وغيرها من جرائم النظام المخلوع، فبرزن في مجالات حيوية مثل الزراعة، والتجارة، والتعليم، والصحافة، كما قدن مشاريع صغيرة وساهمن في العمل الإغاثي لمساعدة المتضررين. إضافةً إلى ذلك، لعبت النساء دورًا أساسيًا في الحفاظ على النسيج الاجتماعي وتعزيز جهود المصالحة المجتمعية، وشاركن في المجالس المحلية والمنظمات المدنية، رغم التحديات التي تواجههن.

إلى جانب ذلك، اضطرت النساء إلى تولي مسؤوليات لم تكن مألوفة لهن قبل الحرب، حيث أصبحن المسؤولات الوحيدات عن إعالة أسرهن في ظل غياب المعيل التقليدي. هذا التحول القسري في الأدوار الاجتماعية أدى إلى تغييرات كبيرة في بنية المجتمع السوري، مما يطرح تساؤلات عن استدامة هذه الأدوار بعد انتهاء الصراع، ومدى قدرة النساء على الاحتفاظ بالمكاسب التي حققنها في ظل بيئة اجتماعية وقانونية تقليدية.

ورغم هذا الدور المحوري، لا تزال محاولات تهميش المرأة وإقصائها من مواقع صنع القرار مستمرة، مما يشكل خطرًا حقيقيًا على استقرار المجتمع ومستقبله، حيث يؤدي إبعاد النساء إلى تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، ويحدّ من فرص إعادة الإعمار والتنمية. إن إقصاء المرأة في هذه المرحلة الحرجة لن يكون مجرد انتهاك لحقوقها، بل سيؤدي إلى إضعاف المجتمع بكامله وتأخير عملية التعافي. إن إشراك النساء في عملية صنع القرار ليس رفاهية، بل هو شرط أساسي لإعادة بناء سوريا بشكل عادل ومستدام.

اتفاقية “سيداو” وفشل التطبيق

في الوقت الذي تغنت فيه حكومة النظام المخلوع بدعمها لحقوق المرأة، صدق نظام الأسد عام 2003 على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، وعلى الرغم من تحفظه على بعض بنود الاتفاقية، فإنه لم يلتزم حتى بتطبيق البنود التي وافق عليها على أرض الواقع بحجة “محاربة الإرهاب”، استخدم النظام هذه الذريعة لعدم تنفيذ الإصلاحات المطلوبة لحماية وتمكين المرأة، بل استمرت الانتهاكات ضد النساء في السجون والمجتمع على حد سواء.

التمييز القانوني ضد المرأة لا يقتصر فقط على غياب التطبيق الفعلي للاتفاقيات الدولية، بل يتجلى أيضًا في القوانين المحلية التي لا تزال مجحفة بحق النساء. فلا تزال المرأة السورية تعاني من قوانين الأحوال الشخصية التمييزية، والتي تمنح الرجال السلطة الأكبر في مسائل الزواج، والطلاق، والحضانة. إضافة إلى ذلك، تواجه النساء عراقيل قانونية واجتماعية تحدّ من قدرتهن على المساهمة الاقتصادية الفاعلة، حيث تظل فرص العمل والترقي المهني محدودة أمامهن مقارنة بالرجال.

تقول نور سلام الناشطة في المجتمع المدني عن العراقيل الاجتماعية لموقع تلفزيون سوريا: إن الأعراف والتقاليد في سوريا تحول دون وصول المرأة إلى أماكن صنع القرار، ذلك بسبب الوصمة الاجتماعية التي يلحقها المجتمع بالمرأة التي تدخل المعترك السياسي على وجه الخصوص، كذلك بسبب عدم تقاسم الدور الرعائي بين الأب والأم في الأسرة وتوكيل الأم بمهمة الرعاية بشكل كامل مما يجبرها على أخذ إجازات طويلة في حالة الإنجاب في حين لا يضطر الرجل إلى ذلك، فالنساء عملن في جميع المجالات لكن الرجال ما زالوا بعيدين عن الدور الرعائي إلى حد كبير ومجحف وهذا ما حال دون وصول المرأة إلى مبتغاها نتيجة للضغط المجتمعي الكبير.

الدستور السوري ومشاركة المرأة

سابقًا وعلى الرغم من وجود نساء في بعض المناصب الحكومية والمنظمات، فإن وجودهن بقي شكليًا، من دون وجود فعلي في أماكن صنع القرار. ظلت السلطة الفعلية في يد النخب التقليدية من الرجال أو النساء التابعات لأجندات سياسية غير مستقلة وتتبع للنظام بشكل علني ومباشر والتي تكرس إقصاء المرأة من مواقع التأثير الحقيقي. فكثير من النساء اللاتي تم تعيينهن في مناصب رسمية لا يمتلكن أي سلطة فعلية، بل استخدم وجودهن كواجهة تجميلية لتلميع صورة النظام المخلوع أمام المجتمع الدولي.

على سبيل المثال، رغم وصول نسبة المقاعد البرلمانية التي تشغلها النساء إلى 12% بحلول عام 2012، فإن هذه النسبة لم تنعكس على تمكين حقيقي للمرأة في المجالات السياسية أو الاقتصادية. فالنساء اللواتي تم تعيينهن في مناصب رسمية غالبًا ما كنّ يفتقرن إلى السلطة الفعلية، وكان وجودهن يهدف إلى تحسين صورة النظام أمام المجتمع الدولي من دون إحداث تغيير جوهري في سياسات تمكين المرأة.

هذا التوجه الشكلي في تمثيل المرأة أدى إلى استمرار التمييز القانوني والاجتماعي ضدها، حيث بقيت القوانين المحلية، مثل قوانين الأحوال الشخصية، تمييزية وتحد من حقوق النساء، مما يعكس الفجوة بين التمثيل الشكلي والتمكين الحقيقي للمرأة في سوريا.

المرأة السورية ومؤتمر الحوار الوطني

يقول الأستاذ رامي هاني الخير وهو محام وناشط في المجتمع المدني لموقع تلفزيون سوريا: “قام النظام البائد بتعيين سيدات بمفاصل حساسة لصنع القرار لكن كانت هذه السيدات بمثابة “إكسسوار” لنظامه، وأعتقد أن هذه الطريقة بالتعيين كانت مخالفة للدستور عام 2012 والدستور السابق عام 1973 وعام 1950 حيث كل هذه الدساتير كانت تقضي بالمساواة في فرص العمل والتمثيل السياسي بعيدًا عن الجندرة، من الأمثلة على الوجود الوهمي للنساء هو وجود سيدة مثل نجاح العطار حيث لم أرَ أي فائدة لوجودها طوال العشر سنوات الأخيرة مثلًا؟ أو بثينة شعبان أيضًا.. وكذلك هدية عباس رئيسة مجلس الشعب التي تمت إقالتها بين ليلة وضحاها ومن دون مبرر واضح!”.

إضافة إلى ذلك، لا تزال المرأة السورية إلى يومنا هذا تواجه تحديات كبيرة في المجال السياسي، حيث يتم استبعادها بشكل منهجي من مواقع صنع القرار وتجلى هذا التمييز بمؤتمر الحوار الوطني المنعقد أخيراً، فكما شهدنا اللجنة التحضيرية للمؤتمر اقتصرت على امرأتين من أصل سبعة وكذلك الجلسات الحوارية كان وجود النساء فيها قليلًا جدًا يكاد يكون معدومًا في بعضها وفي بعضها الآخر كان مهمشًا رغم وجود النساء في الجلسات فإنه لم تُمنح النساء فرص متساوية مع الرجال ضمن الجلسات الحوارية.

فعلى الرغم من أن بعض النساء نجحن في الانخراط في العمل السياسي عبر المجالس المحلية أو المنظمات المدنية، فإن تأثيرهن يظل محدودًا، بسبب البنية الأبوية العميقة في المجتمع السوري والتي تكرّس الأدوار التقليدية للجنسين.

أما عن الإدارة الجديدة للبلد فيقول الأستاذ رامي الخير: “الإدارة الجديدة للبلاد تستعمل النهج نفسه للنظام البائد وهو اختيار سيدات “إكسسوار” مثل السيدة عائشة الدبس والتي أراها أول من أقصى المرأة عبر تصريحاتها الواضحة جدًا وبرأيي لم يكن لنساء سوريا منذ عام 1980 وإلى هذه اللحظة أي أثر سياسي  بسبب أفعال السلطات المتلاحقة”.

بيئة تشريعية عادلة

“يجب أن تشغل النساء أدوارًا مهمة بناءً على كفاءتها لا بناءً على علاقاتها أو تبعيتها لخدمة أجندات معينة”.

الأستاذة كريمان الباشا، محامية ومهتمة بالشأن العام لضمان مستقبل مستقر لسوريا، تقول لموقع تلفزيون سوريا: إنه لا بد من اتخاذ خطوات حقيقية لدعم المرأة السورية عبر توفير بيئة تشريعية عادلة، وتعزيز مشاركتها في الاقتصاد والسياسة، ودعم مشاريعها، وضمان تمثيلها في مواقع القيادة.

وتضيف أولًا، يجب تعديل القوانين المحلية بما يضمن المساواة الفعلية بين الجنسين، وإلغاء جميع المواد التمييزية في قوانين الأحوال الشخصية والجنسية والعمل.

ثانيًا، ينبغي تعزيز دور النساء في المجال السياسي عبر آليات تضمن تمثيلهن الحقيقي في مراكز صنع القرار، مثل تخصيص حصص للنساء (الكوتا) بدايةً في الهيئات الحكومية والمجالس المنتخبة.

ثالثًا، لا بد من تمكين النساء اقتصاديًا من خلال دعم المشاريع النسائية الصغيرة، وتقديم تسهيلات ائتمانية تمكنهن من تحقيق الاستقلال المالي، إلى جانب توفير بيئة عمل آمنة تحميهن من التحرش والاستغلال عن طريق دستور وقوانين صارمة لا يمكن التلاعب بها ولا التهاون في تطبيقها.

رابعًا، يجب تعزيز دور المجتمع المدني في رفع الوعي حول أهمية مشاركة المرأة، وتشجيع الأجيال القادمة على تجاوز الصور النمطية التقليدية التي تحدّ من إمكانات النساء في الوصول إلى مواقع القيادة.

وترى أنه لا يمكن تحقيق تنمية حقيقية من دون دمج النساء في عملية إعادة الإعمار وتمكينهن من أداء دور فاعل في بناء مستقبل البلاد. وتشدد على أن النهوض بالمرأة ليس مجرد مطلب حقوقي، بل ضرورة مجتمعية لضمان العدالة والاستقرار والتنمية المستدامة.

تلفزيون سوريا

——————————

الفكر الدستوري العربي بين الإصلاحات العثمانية والتجربة السورية/ طالب الدغيم

2025.03.05

شكّلت الإصلاحات الدستورية العثمانية، ولا سيما دستور عام 1908، نقطة تحول في الوعي السياسي للنخب العربية، التي رأت فيها بوادر تحديث للدولة وإرساء لمفاهيم المواطنة والمساواة. وفي الولايات العربية التابعة للدولة العثمانية، وعلى رأسها سوريا، تفاعل المفكرون والسياسيون مع هذه التحولات، معتبرين أنها خطوة نحو بناء أنظمة حكم حديثة تستند إلى مبادئ الديمقراطية والتمثيل الشعبي.

وفي هذا السياق، لعبت النخبة السورية دوراً بارزاً في استيعاب المفاهيم الدستورية ونقلها إلى مرحلة ما بعد العهد العثماني، حيث أصبحت مبادئ الدولة الحديثة والاقتراع وتوازن السلطات جزءاً من الخطاب السياسي والقانوني في المنطقة. يناقش هذا المقال أثر الحركة الدستورية العثمانية على نشأة الدستور السوري، ويسلط الضوء على دور النخب في تشكيل معالم الدولة الحديثة، في ظل التحديات السياسية التي واجهتها البلاد خلال القرن العشرين.

وبعد انهيار الدولة العثمانية، أعلن فيصل بن الحسين قائد الجيوش العربية الشمالية في قوات الحلفاء الأوروبيين تشكيل حكومة مستقلة في دمشق باسم والده الشريف حسين، وشاملة جميع البلاد السورية في تشرين الأول/أكتوبر 1918.ففي البداية، أراد فيصل تنظيم البلاد دستورياً، فدعا السوريين إلى عقد مؤتمرٍ يمثل بلاد سوريا الطبيعية. وجرى انتخاب المؤتمر على أساس القانون الانتخابي العثماني على درجتين، من الشعب أولاً ومن النواب ثانياً، فكانت أول انتخابات نيابية شعبية في تاريخ سوريا الحديثة.

عقد المؤتمر ثلاث جلسات رئيسية بين حزيران/يونيو 1919 وتموز/يوليو 1920، وقد وضعت خلالها لجنة الدستور مشروعاً مؤلفاً من 148 مادة لـ المملكة العربية السورية. فاختارت اللجنة الشكل النيابي الدستوري في حكومة ملكيةٍ نيابية(المادة1)، والحكومة مسؤولة أمام المجلس النيابي(المادة 29). وكانت الملكية في مشروع الدستور مُقيدة، والسلطة التشريعية موزعة على مجلسين”النواب والشيوخ”، واقتبستها من نموذج الملكيات الدستورية الأوروبية. وكذلك صاغ دستور المؤتمر السوري الأول مفهوم المواطن بغض النظر عن أي تحديد ديني أو إثني له، فهو أطلق على جميع أفراد المملكة السورية العربية(المادة10)، فالمواطن السوري هو كل فرد من أهل المملكة السورية العربية، وليس من يتكلم العربية فقط(المادة10).

كان الدستور السوري الأول دستوراً مدنياً، حدد دين الملك بالإسلام، وتجلت فيه الهوية العربية أكثر من الإسلامية، واستوعبت مواده التغيرات السياسية والاجتماعية التي طرأت على البلاد بعد خروج الأتراك العثمانيين منها. وقد شكلت قضاياه منطلقاً للجدل والنقاش الشعبي والنخبوي الذي استمر بعد الاستقلال الوطني  . واعتبر جمال باروت الدستور السوري الأول، وثيقةً مبكرة عن بُنية قضايا الخلاف التي ستظهر في الحياة الدستورية، وفي علاقات النخب، وصراعاتها في سوريا طوال القرن العشرين.

وانتهت التجربة الدستورية التي عاشها السوريون في مرحلة الحكم الفيصلي، بدخول القوات الفرنسية بقيادة غورو دمشق في 1920، ففرضت فرنسا ـ وفق معاهدة سان ريمو وقرار عصبة الأمم المتحدة ـ الانتداب على سوريا ولبنان. ومنذ البداية عمل الفرنسيون على التأسيس لبناءات سياسية متعددة الإدارات الذاتية، وعملوا على تجزئة البلاد إلى دويلات إثنية وإقليمية، وهي حلب ودمشق والزور وجبل الدروز وجبال العلويين ودولة لبنان الكبير. وحتى تسهل السيطرة عليها أصدر الجنرال الفرنسي ويغان مرسوماً في 1924 بإنشاء دولة اتحادية في سوريا، يستثنى منها لبنان الكبير وبلاد العلويين والدروز. فنتج عن تلك السياسة الفرنسية العنصرية، تصاعد الاحتجاجات الشعبية، وبلغت أوجها في اندلاع الثورة السورية عام 1925. ولأجل أن تحتوي فرنسا الموقف، وافق المفوض الفرنسي على عقد انتخابات لجمعية تأسيسية سورية تضع دستوراً جديداً للبلاد.

بعد انتخاب الجمعية التأسيسية عام 1928، عقدت الجمعية خمسة عشر اجتماعاً، وفي مدة شهرٍ واحد أعدت الدراسات داخل اللجنة التحضيرية، وفي لجنة الدستور. وقَدم فوزي الغزي، مقرر اللجنة، بيانه بشأن الخلفيات التي أوجبت وضع الدستور، بالقول: “كان للنهضات السياسية والاجتماعية التي غذت روح الحضارة الأوروبية أثرها البارز في حياة المشرق العربي”. فاللجنة درست المشروع دراسة مستفيضة، واستعانت بأرقى الدساتير العالمية. وقد ركزت مواد الدستور في مجملها على قضايا الاستقلال والسيادة الوطنية، ووحدة سوريا الطبيعية. وآثرت الجمعية شكل الحكم الجمهوري على الملكي(م3)، لأن معظم الأمم الحديثة اعتمدت عليه بعد الحرب العالمية الأولى.

كان دستور 1928 دستوراً تقدمياً، حيث وسع من صلاحيات البرلمان، ولكنه، جاء ليعبر عن إرادة النخبة التي وضعته، والتي تبنت مفهوماً ديمقراطياً فيه، واستجابت للمزاج الاجتماعي العام، وخاصة فيما يتعلق بكون دين رئيس الجمهورية الاسلام، فلم يكن بالإمكان تغيير المادة رغم اعتراض المسيحيين على تعيين الدين في الدستور، وذلك بسبب شدة تأثير الأوساط الدينية والتجارية المدنية في قرارات الكتلة الوطنية، والتي كان لها الدور البارز في إنجاز دستور 1928م.

سعت الكتلة الوطنية لتكثيف جهودها لنيل التأييد الشعبي للدستور من خلال المهرجانات، واللقاءات الوطنية في دمشق وحلب وغيرها. إلا أن المفوض الفرنسي علَّقَ الدستور، لأنه رآه مخالفاً لبنود نص الانتداب، وأصدر في مايو 1930 قراراً بنشر دستورٍ سوري”مُعدل”. حيث دخل الدستور إلى وزارة الخارجية الفرنسية، وخرج معلقاً في ذيله دساتير للواء الإسكندرون واللاذقية وجبل الدروز. وتضمن الدستور الجديد على مواد دستور 1928 نفسها، وأضاف له المادة 116، إذ أنه “عدل وحوَّر” المواد كما يوافق مصالح فرنسا، وجعل الحكم في سوريا “تحت رحمته” و”طوع مشيئته”. ومع ذلك، فإن مواده كانت أكثر متانة من دستور 1928، والسبب أن مشرعي دستور 1928 كانوا متحفزين لوضعه بسرعة كبيرة، وهو ما سبب ركاكة في عدد من مواده. وهذا لا يعني أن منح فرنسا دستوراً لسوريا، جعلها تتخلى عن النهج الأقلوي لتفريق السكان المحليين، وهو ما أكدته الانتخابات البرلمانية التي جرت في 1931 بموجب مرسوم المفوض الفرنسي. فتَكوَّن البرلمان السوري من سبعين عضواً، وعلى أساس إثني ومناطقي، بينهم اثنان وخمسون نائباً سُنياً، وأربعةَ عشر نائباً من جميع الأقليات.

ولم يتوقف الكفاح البرلماني في سوريا ضد المراسيم والقوانين الفرنسية، وذلك ما عبرت عنه كلمة جميل مردم، وزير خارجية سوريا، في تعليقه على المادة 116 من دستور 1930 خلال جلسة برلمان 1943 بالقول: “أما فيما يتعلق بالمادة 116 فإن البلاد لم تعترف فيها في يوم من الأيام… ولقد مارسنا الحياة الدستورية في عام 1932 و1933، فاعتبرنا هذه المادة في حكم التحفظ. ولقد مارسنا الحياة الدستورية في عام 1936، فاعتبرنا هذه المادة في حكم التحفظ أيضاً. ولقد أقدمنا على مُمارسة الحقوق الدستورية في عهد الرئيس شكري القوتلي، واعتبرنا هذه المادة لا علاقة لها بالدستور السوري مطلقاً”. فأظهرت كلمته تنامي شدة الكفاح السياسي في سوريا، لإثبات حقوق السوريين في بناء دولة دستورية مستقلة، والتأكيد على المبادئ التي جاء بها دستور 1928، والذي وضعته جمعية سورية منتخبة من الشعب بطريقة حرة وديموقراطية.

وفي تلك المرحلة، تشكلت نخبة سورية برجوازية زراعية/تجارية، وحصلت على ثقافة غربية، فأدار أبناؤها المهن الحديثة، والمناصب العُليا في ظل المؤسسات البيروقراطية الجديدة التي شيدها الفرنسيون. حيث ابتكروا الهيئات الرسمية للدولة الليبرالية الحديثة، ومنها البرلمان السوري، والمؤسسات الأخرى. وتولى البرلمان دوره الريادي في معالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حتى أن فارس الخوري، رئيس البرلمان السوري، أشاد إثر عودته من سان فرانسيسكو الأميركية بالدور الذي لعبه البرلمان في خوض معركة الاستقلال، وذلك في 24 نيسان/أبريل 1946، قائلاً:”… وهذه ضبوط مجلس النواب حافلة كلها بصفحات نيرة وخطب فياضة بالحماسة الوطنية والعزة القومية”.

سوريا كانت سباقة إلى تطوير ثقافة دستورية وطنية، واستفادت من تجارب غربية وشرقية متعددة، إلا أنها افتقرت منذ البداية، إلى وجود قيادة سياسية قوية وموحدة، تساهم في ردم الفوارق الطبقية، وتسعى لترسيخ القواعد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولذا بقيت عاجزةً عن تأمين الاستقرار الداخلي. واستمر الخلاف والنقاشات السياسية والدستورية التي شغلت الساحة السورية خلال العهد الانتدابي الفرنسي والاستقلال الوطني، ومن ثم في عهد البعث وتتكرر ذات الإشكالات في المرحلة الراهنة؛ مثل النقاشات التي دارت عن علاقة الدين بالدولة، وحقوق الأقليات، والإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، والحيلولة من دون أي تدخلات خارجية في شؤونها.

تلفزيون سوريا

————————-

سوريا ليست تاريخا مضى، بل لهب حي يتجاوز الاستبداد/ عصام هيطلاني

2025.03.05

استنشق الشعب السوري أكسجين الحرية، وهو يرى -ولا يكاد يصدق- كيف تتهاوى قلاع الاستبداد أمام عينيه، قلاعٌ ظنّ كثيرون أنها عصية على السقوط، وأن الاقتراب منها أشبه بمحاولة انتزاع الشمس من مدارها.

نظام أمني جثم على صدر البلاد عقودًا، محكمًا قبضته الحديدية، مغذيًا جذوره بمزيج من الرعب والقهر، ومدعومًا بميليشيات دموية تسلّحت بأبشع الأساليب الوحشية، تلبّست بعباءة الطائفية والمذهبية.. فلم يكن يخطر على بال أحد، حتى أشد المتشائمين، أن يرى مشهد هروبه مذلولًا مهانًا، وكأنَّ عجلةَ القدرِ قررتْ سحقَ وَهْمَ الخلودِ الذي راوده طويلًا.

لقد ظنّ الأسد المخلوع أنه وريث التاريخ، وحليف الأزمنة المتعاقبة، وامتدادٌ لعهودٍ استبدّت بسوريا لعقودٍ طويلة، لكن التاريخ، الذي يُهادن الطغاة أحيانًا، كان له هذه المرة رأيٌ آخر.

غير أن التاريخ ذاته.. لا يمنح الانتصارات بالمجان، ولا يُبقي على نشوة النصر للأبد.. فالمشاعر العارمة بالامتنان للفصائل الثورية التي أسهمت في إسقاط الطاغية.. بدأت تتلاشى شيئًا فشيئًا، مع انكشاف عيوبها وصراعاتها الداخلية.

إذ تغاضى جمهور الثورة عن التجاوزات، وأغفل الممارسات التي لا تمتّ إلى جوهر النضال بصلة، إيمانًا منه بأن القادم سيحمل مشروعًا وطنيًا قادرًا على انتشال البلاد من رمادها.. لكن، وكما هي عادة التاريخ، فقد كانت الحقيقة أكثر تعقيدًا، إذ اصطدمت أحلام التحرر بجدران الواقع الصلبة: قلة الخبرة، ضعف الكفاءة، وسوء تقدير لحجم المسؤولية الجسيمة التي خلّفها النظام البائد من خرابٍ ودمار، إرثٌ ثقيل تعجز عن حمله حتى أكثر الدول استقرارًا، فكيف ببلدٍ ينوء تحت وطأة الانقسامات الاجتماعية، وانعدام الأمن والاستقرار، وحصارٍ خانق بالعقوبات التي أحكمت قبضتها على الشعب والدولة؟

لقد مُدّ البساط الأحمر للعهد الجديد، ليس كهدية مستحقة، بل كفخٍّ محكم، بسطته الولايات المتحدة الأميركية، وفرضت شروطه على القوى الإقليمية والدولية، لا حبًا في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، بل لأن موازين المصالح الاستراتيجية اقتضت ذلك. ـ إلا أن العهد الجديد، الذي وُلد من رحم الثورة، وجد نفسه مكبلًا بسلاسل الضغوطات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، مما جعله كيانًا مرتبكا وهشًا، يحاول استمالة من يمكن استقطابه واحتواؤه، وهو ما انعكس ضعفًا في أسلوب إدارته للبلاد.

إذ أُديرت الدولة بذهنية الفصائل لا بمنطق المؤسسات، وبعقلية الغنيمة لا برؤية الدولة.. فكان تهميش الأغلبية الشعبية واستبعادها من المشاركة في صنع القرار، والاعتماد على توزيع المناصب كجوائز ترضية ومكافآت، لا كأدوات حكم رشيد، هذه العوامل وغيرها.. كانت سببًا في تصاعد حالة التململ والاستغراب، حتى تحولت إلى غليانٍ وانقسام. وهكذا، لم يعد السؤال: كيف سقط الطاغية؟ بل ماذا بعد سقوطه؟ وهل انتصرنا فعلًا، أم أننا فقط انتقلنا من قيدٍ إلى آخر؟

إن سقوط المستبد.. ليس سوى بداية طريق طويل وشاق، إذ لا يُقاس نجاح الثورات بلحظة الانتصار على الطغيان، بل بقدرتها على بناء نظام جديد يتجاوز أخطاء الماضي.. فالتاريخ ليس مجرد سجل للأحداث، بل هو مرآة تعكس العواقب الحتمية للخيارات التي تتخذها الشعوب في مفترقات الطرق المصيرية.

وإذا لم يُؤسس هذا العهد الجديد على أسس العدل والحوكمة الرشيدة، فإن دورة الاستبداد ستعيد إنتاج نفسها بأشكال جديدة، وإن تغيرت الوجوه والشعارات

إن مصير سوريا اليوم.. ليس مجرد مسألة سياسية آنية، بل اختبارٌ وجودي لمدى قدرة أبنائها على تجاوز أحقادهم وانقساماتهم، والارتقاء فوق المصالح الضيقة نحو مشروع وطني جامع.. فكما تُعلّمنا دروس التاريخ، ليست القوة في امتلاك السلطة، بل في بناء دولة تتجاوز الفرد والقبيلة والطائفة، دولةٌ ترسخ مبادئ العدل والقانون والحريات، وتحمي وحدة المجتمع، وتصون كرامة الإنسان.

وحده هذا المسار قادر على كسر دائرة التقهقر والتشرذم والضعف، وحماية سوريا من أن تتحول إلى كيان ممزق تتنازعه الأهواء والصراعات، فتضيع انجازات الثورة بين شعارات الانتصار وأخطاء الواقع

تلفزيون سوريا

————————-

مع شقير وقطيفان والقسيم في درعا والقريّا ومخيم اليرموك/ ماجد كيالي

05.03.2025

ذهبنا إلى مخيم اليرموك، وتلك لم تكن زيارة، وإنما بمثابة عودة إلى البيت، إلى الذكريات، إلى الوطن، والهوية، لما يمثله مخيم اليرموك، إذ سكن سميح فيه سنوات، وكان عبد الحكيم والقسيم يترددان عليه دائماً، مثل سوريين كثر، وجدوا فيه مساحة حرية، في كنف الفلسطينيين، وحركتهم الوطنية، وأنشطتهم الثقافية…

بسبب وجودي في برلين، في تغريبتي الأخيرة، قبيل عودتي إلى سوريا، لم تُتح لي مشاركة السوريين فرحتهم العارمة، في ساحة الأمويين في دمشق، أو غيرها من ساحات مدن سوريا، يوم السقوط الذريع، والشنيع، لنظام الأسد، يوم أصبح اسم بشار “الرئيس الفار”.

في هذا اليوم المجيد حرصت على التعويض عن ذلك بمتابعة هذا الحدث التاريخي العظيم، والمفاجئ، على التلفزيون، كنت متلهفاً لتفحّص وجوه الناس في المدن السورية وحركاتهم، والإصغاء لصيحاتهم وهتافاتهم، وسماع أناشيدهم، كانت تلك أكثر لحظة حميمية في حياتي، أحسست فيها بمشاعر قوية تجتاح كياني، إذ هي أكثر لحظة أعادت لي، ولكثر مثلي، معنى اسمه الأمل، أكثر لحظة بثت فيّ وفي معظم السوريين، الروح من جديد.

يومها تداعيت وأصدقائي “البرلينيون”، فلسطينيون وسوريون، للاحتفاء بهذه اللحظة التاريخية، التي غيّرت وجه سوريا، والتي فاجأتنا، وأدهشتنا، وثأرت لسني عمرنا، التي ضاعت، لأعزائنا الذين قضوا ضحية لهذا النظام، لرفاقنا الذين أمضوا جزءاً من عمرهم في المعتقلات، والذين تشردوا عن وطنهم وبيوتهم وعائلاتهم وذاكرتهم، فكل شيء تبخّر بلحظة، وبتنا كأننا مقبلون على حياة جديدة، حياة تم التخلص فيها من الأبد الأسدي.

كان ذلك يوم المنى، وبمثابة فرحة العمر كله، كنا نتطلع الى بعضنا بعيون تشع ببريق غريب يحمل ألف معنى، كانت العيون تتحدث، أكثر من الكلمات، وتعبر عن فرحتها، أحقاً حصل ذلك؟ هل تحقق ذلك الحلم الذي بدا، طوال العقود الماضية، كمستحيل؟ حتى أنفاسنا في ذلك اللقاء بدت كأنها تستنشق هواء لم تعهده، في حين كانت كلماتنا تتسابق في استرجاع ذكريات الأيام والسنين، إذ هرب، أو انقلع، الرئيس بالخفّة نفسه، أو الخسّة، التي أتى بها، فقط كنا نتأسى على رفاقنا الذين قضوا وكانوا يحلمون بمثل تلك اللحظة.

بيد أن تلك المشاعر التي افتقدتها، لغيابي عن ساحة الأمويين في دمشق، وأقصد الشعور الجمعي بفرحة الناس بالخلاص، فرحتهم برحيل الطاغية، ورحيل زمن الخوف والرعب، فرحتهم بالانتصار، وبالحرية، عشتها بكل جوارحي في درعا (مهد الثورة السورية) وفي القريّا (بلد سلطان باشا الأطرش) وفي “ساحة الكرامة” في السويداء، وفي بلدة جرمانا، وأخيراً في مخيم اليرموك.

هكذا، فقد صدف أن عشت مثل تلك اللحظة مع الأصدقاء الفنانين سميح شقير، صاحب مغناة “يا حيف”، التي باتت من أيقونات الثورة السورية، وعبد الحكيم قطيفان، صاحب الموقف الشجاع، الذي أمضى 8 سنوات من عمره في السجن في الثمانينات، ومع أحمد القسيم صاحب الأغنية التي باتت تصدح بها كل الحناجر: “ارفع راسك فوق فوق انت سوري حرّ”، الذين دعوني لمرافقتهم لدى دخولهم إلى سوريا، قبل أيام، عن طريق الأردن، بعد غياب 12 عاماً، لذا أنا شديد الامتنان لهم لأنهم جعلوني أعيش، وأحس، بتلك الفرحة، والدهشة، والغبطة، التي لا يمكن تخيلها، والتي لم أعش مثلها طوال حياتي.

أقصد أنه إحساس غريب، ليس بإمكان الكلمات وصفه، فمنذ دخولنا قاعة المركز الثقافي في درعا، الذي غص بالحاضرين، صدحت الحناجر بصوت واحد بشعار: واحد واحد واحد الشعب السوري واحد. هذا حصل في القريا، عند ساحة سلطان باشا الأطرش (التي تضم ضريحه) وحصل في ساحة الكرامة في السويداء التي تمردت على النظام وخرجت عن طوعه بنضالها السلمي، وفي المركز الثقافي في بلدة جرمانا في دمشق، وفي مخيم اليرموك (مع إضافة شعار: “واحد واحد واحد سوري فلسطيني واحد ـ الحرية لا تتجزأ”.

طبعا، مثل ذلك قد يحصل في أي حفل، وفي أي مكان وزمان، لكن الفارق أنه يحصل مع شعور طاغ لدى السوريين بالخلاص وبالحرية وبالكرامة وبالانتصار، كانت كل القاعات والساحات تغص بالناس، للقاء شقير وقطيفان والقسيم، الذين شكلوا بمواقفهم وأغنياتهم مزاج سوريين كثر. كان الناس في القاعات أو في الساحات كأنهم شخص واحد حقاً، إذ الكل يهتف ويغني، والكل ينظر إلى سميح وعبد الحكيم والقسيم، الذين كانوا بالكاد يستطيعون المرور بين الحشود، بين من يريد أن يقبّلهم، أو يحييهم، او يأخذ صورة معهم.

شيء مدهش أحسست به في كل تلك اللقاءات، جعلني غير قادر على تمالك مشاعري، إذ كنت أرى الجميع يغني الأغنية ذاتها، أطفالاً ونساءً وشيوخاً وشباباً، كأنهم صوت واحد، يغنون بإباء، من القلب، من الروح، بكل ما يمتلكون من مشاعر، كأنهم استعادوا أنفسهم، أو أنهم اكتشفوا للتو ذاتهم.

بصراحة، ثمة لحظات لم أتمالك فيها نفسي، بخاصة عندما كان سميح يصدح بأغنيته: “يا حيف”، مع ارتعاشة أو بحة مؤلمة تعبر عن إحساسه، بخاصة وهو ينشد “يا حيف زخّ رصاص على الناس العزّل يا حيف، وأطفال بعمر الورد تعتقلن كيف… وانت ابن بلادي تقتل بولادي.” ثم يرتفع صوته وهو يتابع” “وظهرك للعادي وعليي هاجم بالسيف، يا حيف يا حيف”؛ إذ ليس بإمكان أي انسان أن يتأثر وأن يبكي. هذه الأغنية كانت تهز الحضور، وتلهب مشاعرهم، وتثير أحزانهم وروح التمرد عندهم، بخاصة أن سميح يلقيها بكل إحساسه، بكل ما في قلبه من شجن، وبكل ما في روحه من ثورة، وبعدها يصعد الإيقاع، مع مشاركة الجمهور، عندما يصل سميح إلى المقطع الذي يقول: “يما كلمة حرية وحدا هزتلو اركانو، ومن هتفت لجموع يما أصبح كالملسوع يما، يصلينا

بنيرانو، واحنا اللي قلنا اللي بيقتل شعبو… خاين… يكون من كاين…”، كانت كلمة خاين، هي اللازمة التي ينهض عندها الجمهور، ويلوح بقبضاته، ويقول خاين.

وكالعادة، فإن أحمد القسيم، وهو شاعر شعبي، يستلهم في أغنياته تراث منطقة حوران جنوب سوريا، أبدع في مغناته: “ارفع راسك فوق فوق انت سوري حر… ارفع راسك لا للذلة وعن ارضك لا ما تتخلى… ارفع راسك احمي بلادك… احمي أرضك أرض اولادك… ارفع راسك صوتك ارفع خلي كل العالم يسمع انت سوري حر… الشعب لعيونك غنى هي هي هي هي هيهي هي انت سوري حر”. فهذه الأغنية باتت على لسان معظم السوريين، في كل مدن سوريا وبلداتها وقراها، وقد غنتها المطربة أصالة نصري أيضاً.

في يوم آخر، ذهبنا إلى مخيم اليرموك، وتلك لم تكن زيارة، وإنما بمثابة عودة إلى البيت، إلى الذكريات، إلى الوطن، والهوية، لما يمثله مخيم اليرموك، إذ سكن سميح فيه سنوات، وكان عبد الحكيم والقسيم يترددان عليه دائماً، مثل سوريين كثر، وجدوا فيه مساحة حرية، في كنف الفلسطينيين، وحركتهم الوطنية، وأنشطتهم الثقافية، إذ لم يكن مخيم اليرموك مجرد مكان، فقط، وإنما كان دلالة على مجتمع وقضية وهوية، كعاصمة سياسية وثقافية للفلسطينيين، وكرابط وثيق بين الشعبين الفلسطيني والسوري، علماً أن عدد الفلسطينيين في منطقة اليرموك وما حولها يصل الى حوالى 200 ألف، فقط، من أصل حوالى مليون نسمة كانوا يقطنون في تلك المنطقة، التي تعتبر من أكثر المناطق حيوية في دمشق.

في المخيم كان الخيار الوقوف عند أرض بيت علي الشهابي، الكاتب والسياسي الفلسطيني، المغيب منذ 13 عاماً، بعدما اعتقله النظام، من دون أن يعرف أحد مصيره، كعشرات آلاف السوريين والفلسطينيين. الوقفة لم تكن في ظل أطلال البيت/المبنى، وإنما على أرضه، إذ لم يبق أي أثر للبناء، فمعظم المخيم على هذه الحالة، من التدمير الكارثي.

وكانت اختيرت تلك الوقفة في ذلك المكان لأن البيت مدمر، في دلالة على إدانة النظام المجرم الذي دمر المخيم وعمرانه، وشرد سكانه. ولأن علي يمثل الضحايا الذين قتلهم النظام بالبراميل المتفجرة والقنص وفي السجون، ودلالة على المعتقلين المغيبين سوريين وفلسطينيين. وأيضاً، لأن علي أعطى عمره للحركة السياسية السورية، رابطاً بين الكفاح السوري والكفاح الفلسطيني، باعتبار فلسطين قضية حرية وكرامة وعدالة، والقضية السورية هي كذلك أيضاً. وبالطبع لأن علي، وكل أفراد عائلته، يعرفهم كثر من السوريين والفلسطينيين، وكان صديقاً لسميح وعبد الحكيم والقسيم ولي، وكان بيته مفتوحاً للجميع، بل إن والدته كانت بمثابة أم لجميع ضيوف علي الدائمين والمؤقتين؛ وعليه فقد كانت الوقفة تلك، بمثابة وفاء وتكريم لعلي ولمخيم اليرموك ولشعب فلسطين.

سلام على سوريا… سلام لكل الضحايا… الحرية لا تتجزأ…

درج

———————————–

الاعتراف بالهزيمة تجنّباً لهزائم أكبر/ حازم صاغية

تحديث 05 أذار 2025

من البديهيّات التي يتطلّبها حلّ مشكلةٍ ما الاعتراف بوجودها، والمشكلةُ في لبنان هي الهزيمة. لكنّ «حزب الله» لا يعترف بأنّ هزيمة حصلت. أمّا الاحتلال والتدمير، وهما من نتائجها، كما أنّهما مَرئيّان جدّاً يستحيل إنكارهما أو الجدل فيهما، فيُردّان إلى شرّ شبه ميتافيزيقيّ يقيم في طبيعة عدوانيّة وغرائبيّة.

لكنّ الحزب يسأل الدولة اللبنانيّة أن تحرّر وتعمّر، أي أن تمحو آثار هزيمة قادنا إليها، وبعدما مُني بها قال إنّها لم تحصل. وهو إذ يقول ذلك، متنصّلاً من كلّ مسؤوليّة، يكون يعلن «نصره» على باقي اللبنانيّين، إذ يستحيل إعلان «نصر» كهذا حيال إسرائيل. وبهذا لا يكون الحزب يفعل غير رشّ الملح على جرح الانقسامات الأهليّة العميق.

والحال أنّ بعض الناطقين بلسانه باتوا يهدّدون، بلغة لا مواربة فيها، بما لا يقلّ عن حرب أهليّة تنتظرنا وراء الباب، وهذا فيما «المعتدلون» منهم يطالبون الدولة بمهمّة انتحاريّة، هي تكرار ما فعلته المقاومة، وإلّا كان الويل والثبور.

هذا التعطيل الداخليّ المعيق لكلّ شيء آخر، والمتسبّب بأذى غير محدود، يتغذّى على خلفيّة تزيد إضعافنا، لا سيّما في مواجهة التحدّي الإسرائيليّ الكبير. فنحن خارجون من تجربة مهترئة ومفلسة، لعب «حزب الله» الدور الأساسيّ في جعلها هكذا، ونجم عنها إمعان في تصديع النسيج الوطنيّ المهلهل. أمّا التعامل المسؤول مع حال كهذه فيستدعي، قبل كلّ شيء، أن نتحدّث بتواضع ومصارحة، وبروحيّة نقد ذاتيّ صادق، متمسّكين بما تبقّى من إجماعات بالغة الضآلة يحاول الحكم والحكومة الجديدان تمثيلها ورعايتها. والمؤكّد أنّ نهش هذين الحكم والحكومة والتشهير بهما، وهما لا يملكان حتّى الآن، وسط إدقاع شامل سبّبه الحزب وحربه، غير رساميل رمزيّة مبعثرة، إنّما يرقى إلى استدعاء للانتحار الجماعيّ.

فالنهج الذي يجمع بين إنكار الهزيمة ونفي المسؤوليّة الذاتيّة، والتشهير بالحكم والحكومة، وممارسة الغنج والدلع، وخصوصاً التحايُل والغشّ في أمر تسليم السلاح، مرشّح أن يغدو ذريعة لتوسيع التدخّل الإسرائيليّ في لبنان وتعميقه، ناهيك عن منع إعادة الإعمار حتّى لو توفّرت أدواته. وهذا ما سوف يكون آخر الهدايا المسمومة التي تقدّمها المقاومة للبنان، بل للطائفة الشيعيّة نفسها.

صحيح أنّ المطلوب دائماً، فيما يُراد نزع سلاح الحزب، إشعار الطائفة المذكورة بالاحتضان الوطنيّ، وعدم إشعارها بأنّها شريكة في هزيمة الحزب. لكنّ مفتاح هذه المهمّة الحيويّة يبقى في يد «حزب الله»: فهو إذا أقرّ بالهزيمة ووافق على نزع سلاحه، فتح الباب لطمأنة طائفته وشجّعها على تجديد الاندراج في الحياة السياسيّة. أمّا عدم الإقرار والتمسّك بالسلاح والتهديد بالحرب الأهليّة فتُبقي غير الشيعة متخوّفين، إن لم يكن من السلاح نفسه فممّا قد ينجرّ عنه ويترتّب عليه. وهذا ما يجعل الأخيرين، ممّن لا يملكون ترف طمأنة سواهم، يطلبون الطمأنة لأنفسهم فحسب.

يحدث هذا وسط مناخ إقليميّ ودوليّ قاتم. إذ لا بدّ من ملاحظة حجم الانتصار الإسرائيليّ على مستوى المنطقة، معطوفاً على تفسّخ العلاقات الأهليّة فيها، وعلى القحط السياسيّ الذي أحدثه نظاما الأسد و»حزب الله». فمع الهزيمة التي يلفّها الإنكار، تكثر البراهين على أنّ الدولة العبريّة تخطّط لأن تكون شرطيّ المنطقة، ولأن نكون نحن، في سوريّا كما في لبنان، حرس حدودها ودويلاتٍ عازلة تقف بينها وبين تركيّا.

فمن استراتيجيّة بناء المناطق الحدوديّة العازلة، إلى احتمال تجديد الحرب على غزّة والتهديد بمواصلتها «على سبع جبهات»، ثمّة ما لا يجوز الاستهانة به أو الردّ عليه بـ»المراجل» الفارغة. وها نحن نرى بأمّ العين كيف باتت اليد الإسرائيليّة طليقة في التلاعب بأحشاء بلدان المشرق وبدواخلها الطائفيّة والإثنيّة، كما يداهمنا فرز لا يكتفي بشقّ الجماعات، بل يعدم كلّ موقف «وسطيّ»، وكلّ محاولة تسوويّة «لصون ماء الوجه»، رسميّةً كانت أم على المستوى الفكريّ والثقافيّ.

وإذا حصل الأسوأ في سوريّا، أكان انطلاقاً من الجنوب أو من الشرق أو من الساحل، بات من شبه المستحيل أن ينجو لبنان بنفسه.

أمّا أحوال الدول الصغرى، في موازين يومنا الراهن، فلا يلزمنا الكثير من التكهّن في صددها بعد لقاء البيت الأبيض الشنيع بين الرئيسين ترمب وزيلنسكي. وأمّا ما تبقّى للبنان من صداقات وتأثير فيمكن تبديده حين نعرّضه لامتحان بالغ القسوة عنوانُه التمسّك بالسلاح غير النظامي وطلب المكافأة على انتصار لا يُقنع أنصاره أنفسهم. هكذا يفعل الحزب ومناصروه كلّ ما لا يُفعل بهدف البرهنة على أنّ السياسة والديبلوماسيّة لا تجديان، وما علينا سوى الإقدام على الانتحار الجماعيّ بتحوّلنا «كلّنا مقاومين».

لكنْ بدل أوهام رجوع الشيخ إلى صباه، وترجمتُها المباشرة التحايُل على القرار 1701، يغدو التكاتف بيننا، انطلاقاً من كوننا مهزومين ننوي ضبط الهزيمة عند الحدّ الذي بلغته، مهمّة المهمّات والممرّ الوحيد الضيّق إلى نهوض ما.

الشرق الأوسط

——————————-

القلق على سوريا/ طارق الحميد

تحديث 05 أذار 2025

هناك قلق على سوريا، من ناحية أمنها واستقرارها ووحدتها، ولأسباب عدة، وهو قلق مبرر، ورغم قناعتي الراسخة بأن سوريا اليوم أفضل بعد فرار المجرم بشار الأسد، لكن الطريق مليء بالذئاب، والأخطاء، وبعض الأخطاء أخطر من العدو، وتخدمه.

هناك قلق من التدخلات الإسرائيلية الشريرة، ودون أي مبررات تذكر، بل إنها محولات شريرة من إسرائيل ونتنياهو، من أجل تعقيد المشهد السوري، وإشعاله من أجل إغراق سوريا بالفوضى.

وهناك قلق من فلول النظام التي تُدعم الآن من بعض الدول الإقليمية، وليس بالضرورة تلك الدول نفسها، بل مكونات في داخلها، ففي لبنان هناك «حزب الله»، وفي العراق هناك الجماعات المحسوبة على طهران.

وبالنسبة لإيران فهي لا تخفي ألمها من سقوط الأسد الذي كان بمثابة شريان مشروع تصدير الثورة في المنطقة، وخط إمداد تمويل النفوذ الإيراني من لبنان إلى غزة، وصولاً إلى البحر المتوسط. وسبق لقائد قوات «الحرس الثوري» حسين سلامي قول ذلك علناً.

حيث قال إن سوريا تمثل «درساً مريراً لإيران»، مشيراً إلى تصريحات المرشد الأعلى بالقول: «سوريا ستحرر على يد شبابها الأبطال»، وأن ذلك «يتطلب وقتاً وصموداً عظيماً وعزماً راسخاً وإيماناً جميلاً». والتخطيط والمؤامرات على سوريا قائمة ومستمرة.

وقد يقول قائل إن القلق مبرر، ومنذ سقوط الأسد، وصعود «هيئة تحرير الشام»، وقناعتي أن قلة قليلة صادقة بهذا التقييم، بينما قلق كثر كان وما زال ذا دوافع مختلفة، خصوصاً من كانوا ينافقون «حزب الله» ويبررون له، أو من يدافعون عن «حماس» للآن.

وعليه، القلق على سوريا يتلخص في عدة نقاط، الأولى هي التردد في اتخاذ القرارات الداخلية الجادة السريعة لتسيير عجلة الحياة، وأهمها تشكيل حكومة كفاءات حقيقية، والاستعانة بكل الخبرات.

والثانية هي عدم الحرص على الشفافية من حيث إطلاع السوريين، والمحيط العربي، إعلامياً، أولاً بأول، على حقائق الأمور، وعبر إيجاز صحافي يومي، خصوصاً وأن الأحداث متسارعة، وكذلك إطلاع السوريين على حقائق أمورهم المعيشية والصعوبات.

الثالثة هي انكفاء سوريا الجديدة الآن، وبعد زخم الشهرين الأولين عربياً ودولياً، حيث لا بد من زيارات عربية وإقليمية ودولية للتحذير من الخطر الإسرائيلي والإيراني. وهنا مثال بسيط على ضرورة التعاطي مع الأحداث المهمة، حيث كان يفترض، وفور إعلان وليد جنبلاط رغبته زيارة سوريا بعد التصريحات الإسرائيلية عن الدروز، أن تسارع دمشق فوراً بقبول المبادرة، وترحب بالزيارة، وبأي لحظة، لأن من شأن ذلك تسليط الضوء على خطورة التدخل الإسرائيلي، وترسيخ الوحدة السورية.

الرابعة، كان يفترض بدمشق أن تذكر المجتمع الدولي عبر بيان بخطاب الشرع لترمب، وتصريحاته السابقة عن أن سوريا الجديدة منهكة من حروب لا طائل لها، وتذكر المجتمع الدولي بخطورة ما تفعله إسرائيل، وإيران وأتباعها.

وكذلك خطورة عدم تعليق، أو رفع، العقوبات على الداخل السوري، مع الإسراع بخطوات إصلاحية تحرج الجميع، وتثبت أن النظام الجديد جاد بجعل سوريا عضواً فاعلاً عربياً ودولياً، وعكس ما فعله الأسد، ومن هم على شاكلته من أعوان إيران.

هذه نصيحة محب، وحريص.

الشرق الأوسط

—————————–

لماذا تباينت علاقة موسكو وطهران مع سوريا الجديدة؟/ باسل المحمد

5/3/2025

لماذا تنفتح موسكو على الإدارة السورية الجديدة وتنغلق طهران

مع سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد وتشكيل حكومة تسيير أعمال في سوريا برز تباين واضح في مواقف حليفي دمشق التقليدييْن، موسكو وطهران.

فقد سارعت روسيا إلى مد جسور التواصل مع السلطة الجديدة متبعة نهجا براغماتيا بدا واضحا في الرسائل الإيجابية وخطوات التقرب من الإدارة الجديدة في دمشق، في حين تبنت إيران موقفا أكثر تحفظا بدا أقرب إلى الانغلاق والحذر والتريث، وترافق ذلك مع وجود نبرة تهديد أحيانا تجاه الإدارة الجديدة في دمشق من قبل بعض المسؤولين الإيرانيين.

وكانت الإدارة السورية الجديدة وجهت رسائل إيجابية إلى كلتا الدولتين، مؤكدة ضرورة أن تكون العلاقة مع سوريا قائمة على أساس السيادة وعدم التدخل في شؤونها، وهي خطوة يرى مراقبون أنها تأتي في سياق نهج سياسي جديد تتبعه الإدارة الجديدة في دمشق يختلف عن نهج النظام المخلوع، إذ يقوم على الانفتاح والتواصل مع مختلف الأطراف الإقليمية والدولية.

وتمتلك موسكو وطهران مصالح إستراتيجية في سوريا، لكن الانهيار السريع لنظام الأسد ألحق ضررا بالغا بتلك المصالح لفائدة جهات إقليمية، وهو ما يدفع كلتيهما إلى التحرك وتلافي المزيد من الخسائر.

ويثير التباين في موقف كل من الدولتين تساؤلات بشأن دوافع كل من موسكو وطهران، وأولوياتهما في المرحلة الجديدة، وحدود تأثيرهما على مستقبل سوريا بعد الأسد، وعن إمكانية إعادة نفوذهما في سوريا الجديدة.

انفتاح روسي

بدت موسكو متقبلة للواقع الجديد في سوريا بعد سقوط النظام في ديسمبر/كانون الأول 2024، إذ حرصت على توجيه رسائل إيجابية عدة إلى الإدارة الجديدة عبر تصريحات وزيارات رسمية تكللت بزيارة ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي إلى سوريا على رأس وفد رفيع المستوى في يناير/كانون الثاني 2025 ولقائه الرئيس أحمد الشرع.

وخلال اللقاء أكد بوغدانوف حرص روسيا على تعزيز العلاقات التاريخية مع سوريا، واحترام سيادتها ووحدة أراضيها، والعمل على تحقيق الوفاق والسلم الاجتماعي.

وفي 12 فبراير/شباط الماضي أعلن الكرملين في بيان أن الرئيس فلاديمير بوتين أجرى محادثة هاتفية “بناءة” مع الشرع.

وذكر البيان أن الاتصال تخللته مشاورات شاملة بشأن الوضع الحالي في سوريا، وأن روسيا تدعم وحدة سوريا وسيادتها وسلامة أراضيها.

وتعليقا على هذا الانفتاح الروسي، يشير الباحث في العلاقات الدولية محمود علوش إلى أن موسكو تسعى للحفاظ على علاقة إيجابية مع الإدارة الجديدة في سوريا بمعزل عن التحولات التي طرأت على المشهد السوري بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد، وذلك بسبب أهمية سوريا الإستراتيجية لروسيا على كافة المستويات.

ورغم صعوبة تحقيق ذلك في المستقبل القريب بسبب التدخل الروسي العسكري إلى جانب الأسد فإن الباحث علوش يعتقد في حديثه للجزيرة نت أن الخطوات والمبادرات الروسية تجاه الإدارة الجديدة في سوريا تعكس رغبة موسكو في فتح صفحة جديدة في العلاقة مع دمشق بعد هذا التحول.

ويتوافق الباحث بالشأن الروسي أسامة بشير مع رأي الباحث علوش في أن روسيا تحاول التقارب وبناء علاقات جديدة مع الإدارة الجديدة في سوريا بمختلف الطرق، وهذا ما بدا واضحا من خلال اللقاءات والتصريحات العلنية والسرية، وهو ما قابله الجانب السوري أيضا بتطمينات للطرف الروسي على لسان الرئيس أحمد الشرع.

لكن الباحث بشير يوضح في حديثه للجزيرة نت أن التواصل والرسائل الإيجابية بين الطرفين لم تتوج بتحقيق ما يريده الروس، وهو الإبقاء على قواعدهم في سوريا، إذ لا يزال موضوع وجود القواعد الروسية في سوريا ضبابيا.

وكان الشرع قد وجّه مع بداية عملية “ردع العدوان” -التي أطاحت بنظام الأسد- تطمينات بشأن الوجود العسكري الروسي في سوريا، وقال إن إدارته لا تريد لروسيا أن تخرج بطريقة لا تليق بتاريخ العلاقات بين البلدين، مضيفا أن روسيا هي ثاني أقوى دولة في العالم ولها أهمية كبيرة.

حذر إيراني

تبنت إيران موقفا حذرا من الإدارة السورية الجديدة، إذ لم تعلن عداء صريحا لهذه الإدارة، لكنها في الوقت نفسه لم تعترف بها رسميا أو تتعامل معها بشكل مباشر، ووجدت طهران نفسها أمام واقع جديد بعد سقوط نظام الأسد يهدد نفوذها الإستراتيجي في الإقليم.

وترافق هذا الموقف مع خطابات لبعض السياسيين الإيرانيين حملت في طياتها تهديدات واضحة لأي خطوات تمس مصالحها في سوريا، وهذا ما عبر عنه المرشد الأعلى علي خامنئي بالقول “إن الولايات المتحدة وإسرائيل خططتا لإسقاط الأسد وإخراج إيران من سوريا”، كما أكد على أن “الشباب السوريين سيستعيدون البلاد”.

بدوره، قال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في لقاء مع شبكة صينية في 5 يناير/كانون الثاني الماضي إن إيران تتحلى بحسن النية وتسعى إلى تحقيق السلام في سوريا.

وفي أحدث التصريحات الإيرانية، أكد مجيد تخت روانجي مساعد وزير الخارجية للشؤون السياسية في تصريحات نقلتها وكالة “إرنا” الإيرانية في 20 فبراير/شباط الماضي أن إيران تأمل أن يسود الأمن في سوريا، وألا تتدخل الدول في شؤونها الداخلية.

هذه المواقف الإيرانية المعلنة يرى مراقبون أنها تشي باتباع إيران مسارين، الأول يحمل نوعا من التصعيد، والآخر يعتمد على الخطاب الدبلوماسي الناعم، لتحقيق أطماع ومكاسب إستراتيجية داخل سوريا.

ويعلق الباحث بالشأن الإيراني مصطفى النعيمي على حالة الانقسام في الموقف الإيراني بالقول إن الإدارة السياسية في إيران منقسمة إلى قسمين بخصوص الواقع السوري الجديد، قسم يمثله خامنئي والحرس الثوري وقيادات أخرى.

ويضيف “هذا الجناح لم يتقبل ويستوعب ما حصل، فتصريحاته سلبية وتهديدية، ونسمع عن حشد وتحشيد للمليشيات التابعة له بالعراق، ونسمع تهديدا من مسؤولين إيرانيين بتشكيل مقاومة إسلامية في سوريا من فلول النظام ودعمها لإعادة سيطرته”.

أما الجناح الآخر -بحسب حديث النعيمي للجزيرة نت- فهو الجناح الرئاسي الذي يتزعمه الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، والذي يريد التعامل دبلوماسيا مع الإدارة الجديدة، ويحاول إيجاد مشتركات مع حكومة دمشق لتكون بوابة للعودة الإيرانية إلى الساحة السورية.

وتأكيدا لهذا لاتجاه، يقول أستاذ العلاقات الدولية والمحلل في مركز الشرق الأوسط للدراسات الإستراتيجية عباس أصلاني للجزيرة نت إن العديد من المسؤولين الإيرانيين العسكريين والسياسيين أعلنوا دعمهم سيادة سوريا وسلامة أراضيها، مؤكدا أن طهران تعتبر أن تفكك سوريا أو الدعوة إلى عدم الاستقرار فيها سيكون على حساب المنطقة بأسرها.

وكان وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني قد حذر إيران من “بث الفوضى” في سوريا، داعيا إياها إلى احترام إرادة الشعب وسيادة وسلامة البلاد.

برج مراقبة في قاعدة حميميم الروسية العسكرية باللاذقية شمال غربي سوريا (غيتي)

اختلاف المصالح

وعلى الرغم من اتفاق كل من روسيا وإيران على دعم نظام الأسد المخلوع -مما ساهم في إطالة عمره كل هذه السنوات- فإن الدوافع والمصالح التي كانت تحرك كلا الطرفين كانت مختلفة، ففي الوقت الذي تسعى فيه روسيا إلى الحفاظ على نفوذها الجيوسياسي في الشرق الأوسط عبر سوريا تختلف في المقابل الأهداف الإيرانية في سوريا من حيث اعتبارها حلقة أساسية في سلسلة تربط إيران بلبنان عبر حزب الله، مما يساهم في ترسيخ محور النفوذ الشيعي في المنطقة.

وفي الوقت الذي أكدت فيه إيران مغادرة كافة المستشارين العسكريين والدبلوماسيين الإيرانيين سوريا بعد سقوط نظام الأسد نقلت موسكو كل قواتها من جميع أنحاء البلد إلى مركزها الرئيسي في قاعدة حميميم الجوية بالقرب من اللاذقية، وحتى الآن لا توجد أي مؤشرات على أنها تستعد لإخلاء قاعدتيها في اللاذقية وطرطوس بشكل كامل.

اختلاف المصالح بين البلدين يوضحه الباحث محمود علوش بالقول إن سوريا تمثل أهمية إستراتيجية كبيرة بالنسبة لروسيا على مستويات عدة، سواء على مستوى حدودها في الشرق الأوسط أو مستوى حدودها على المياه الدافئة بالبحر المتوسط، أو على مستوى وجودها في سوريا كقاعدة لوجستية لتعزيز حضورها في القارة الأفريقية.

أما الأهداف الإيرانية فذات بعد عقائدي، إذ كانت تستخدم سوريا ساحة لتوسيع نفوذها الإقليمي القائم على أبعاد دينية وطائفية، وباعتبار سوريا أيضا جزءا أساسيا مما يعرف بـ”محور المقاومة” الذي تتزعمه إيران.

ويتابع علوش “لذلك شكّل التحول السوري بالنسبة لإيران انتكاسة إستراتيجية لمشروعها في المنطقة، وأعتقد أن هذه الانتكاسة لا يمكن أن تتعافى منها إيران بعد الآن، لذلك قرأت إيران التحول في سوريا من منظور مختلف عن الذي قرأت به روسيا”.

ويرى مراقبون أن سقوط نظام الأسد لا يؤثر على الوجود الإيراني في سوريا فقط، إذ سيؤدي إلى تداعيات كبيرة على جماعات، مثل الحشد الشعبي في العراق، وحزب الله بلبنان، وأنصار الله في اليمن.

من جانبه، يرى الباحث أسامة بشير أن خروج روسيا بشكل نهائي من سوريا سيشكل لها نكسة كبيرة، وسيعتبر هزيمة لها أمام الشعب الروسي وأمام المجتمع الدولي، خاصة أوروبا التي تدعم أوكرانيا بالحرب ضد روسيا التي تدرك من جهة ثانية أن وجودها في سوريا غير مرحب به بسبب سياساتها الداعمة لنظام الأسد.

وعن السياسة التي تتبعها الدولتان بعد سقوط نظام الأسد، يقول بشير إن التدخل الروسي يُظهر درجة عالية من الإستراتيجية والبراغماتية، إذ يتمحور حول تأمين نقاط تموضع مهمة في البحر الأبيض المتوسط، في حين أن إيران تنتهج مسارا أكثر تحريضا في استغلال الفجوات الناشئة عن انهيار النظام لتحقيق توسع أيديولوجي وسياسي.

وكانت إيران قد ساهمت في دعم نظام الأسد المخلوع بالمستشارين العسكريين والمليشيات المقاتلة من العراق ولبنان وباكستان وأفغانستان برفقة أسلحتها وذخائرها، وتكفلت برواتب عناصرها، وتكبدت أكثر من 7 آلاف قتيل ومصاب إيراني في المعارك بحسب رئيس مؤسسة الشهيد الإيرانية أمير هاشمي، فضلا عن توفير دعم اقتصادي بعشرات مليارات الدولارات على صورة خطوط ائتمان ونفط.

مستقبل العلاقة مع سوريا الجديدة

وبناء على اختلاف المصالح وعوامل النفوذ والتأثير لكلتا القوتين في سوريا يرى باحثون في العلاقات الدولية أن النفوذ والتأثير الروسي في سوريا سيتراجع مستقبلا لصالح انفتاح دمشق على العواصم الغربية إن بقي الانفتاح الغربي قائما تجاه استقرار سوريا ودعم إدارتها الجديدة.

في المقابل، لا يُتوقع أن تذهب الإدارة الجديدة إلى أي علاقة أو استجابة لمبادرات تدعو للانفتاح على طهران، إذ تحرص دمشق على عدم استفزاز الموقف الغربي والعربي، فضلا عن الضغط الذي تثيره ذاكرة الأحداث في سوريا بعد عام 2011 تجاه إيران والحرس الثوري الإيراني ودورهما في سوريا قبل سقوط نظام الأسد، وهذه الذاكرة ذاتها سيكون لها تأثيرها في فتور العلاقة مع روسيا أيضا، وذلك بحسب دراسة لمركز جسور للدراسات الإستراتيجية.

من ناحيته، لا يتوقع الباحث مصطفى النعيمي أن يتم فتح صفحة جديدة بين إيران والإدارة في دمشق، وذلك بسبب الرفض الشعبي المرتبط بالتدخل الإيراني في سوريا وما خلفه من إرث دموي، إضافة إلى جود تحركات وتهديدات لفصائل عراقية تابعة لإيران ضد الوضع السوري الجديد، وسط أخبار تفيد بتدريب مقاتلين من هذه الفصائل وضباط من فلول النظام بدعم إيراني.

وبناء عليه -يتابع النعيمي- فإن تواصل الإدارة السورية الجديدة مع طهران -إن حصل- سيكون مؤطرا ضمن ضوابط ومحددات أمنية، وسيقتصر على تمثيل دبلوماسي لإدارة المراقد الدينية وتنظيم زيارتها.

وكان الرئيس السوري أحمد الشرع قال في ديسمبر/كانون الأول الماضي إن بلاده لا يمكنها أن تبقى بمعزل عن إقامة علاقات مع دولة إقليمية كبيرة مثل إيران الحليف الكبير لنظام الأسد، لكنه اشترط أن تكون على أسس “السيادة” و”عدم التدخل في شؤون” سوريا.

أما بالنسبة لروسيا فيعتقد الباحث أسامة بشير أنه رغم الضغط الغربي فإن الإدارة في دمشق ستعمل على إعادة علاقاتها مع روسيا بشروط، على رأسها تسليم بشار الأسد ومن معه من كبار الضباط المتهمين بارتكاب مجازر حرب ضد الشعب السوري، وإعادة الأموال المنهوبة والذهب المهرّب إلى الحكومة السورية.

وبشأن إمكانية تنفيذ هذه الشروط، يعتقد الباحث بشير أن روسيا ربما توافق، لأن بقاء قواعدها في سوريا والبحث عن دور بمستقبلها وإعادة إعمارها يستحقان أن تعيد بشار ومن معه إضافة إلى أمواله لسوريا وأن تحول هزيمتها إلى نصر أمام أوروبا.

بالمقابل، تؤكد كثير من المصادر أن لدى الإدارة في دمشق مصلحة في الإبقاء على علاقة جيدة مع روسيا تحسبا من تراجع الدعم الغربي، والعودة إلى سياسة العقوبات في حال لم تلبِّ الإدارة السورية المتطلبات الغربية منها.

المصدر : الجزيرة

————————–

عنوانٌ إلزامي لنقاش سوري- لبناني مؤجل/ إيلي القصيفي

آخر تحديث 03 مارس 2025

ليس قليل الدلالة أن تكون أول زيارة خارجية لرئيسي كلا البلدين إلى السعودية

لم تنته تعقيدات المشهد اللبناني بانتهاء الحرب الإسرائيلية ضد “حزب الله” وانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة، ولم تنته أيضا بسقوط النظام السوري الذي كان من الصعب جدا عزل لبنان أو بالأحرى المشرق العربي بأكمله عن تأثيراته.

فلبنان يمر كما سوريا بمرحلة انتقالية أو ما قبل انتقالية- كما يصفها المفكر السوري برهان غليون في مقابلة أجرتها معه “المجلة” وستنشر هذا الأسبوع- مع فارق أن الدينامية الأساسية في سوريا قائمة على تجاوز النظام السابق، بينما في لبنان فإن تجاوز إشكالية “حزب الله” الذي شكل تاريخيا امتدادا سياسيا لذلك النظام لا يزال متعثرا، ليس فقط لأن “الحزب” غير مستعد بعد للانتقال من الأمن إلى السياسة وإجراء مراجعة نقدية لكل تجربته السياسية في السنوات الماضية والتي لم تسعفه، من ضمن عوامل أخرى، في حربه الأخيرة ضد إسرائيل، بل لأن الأحزاب والقوى اللبنانية الرئيسة غير مستعدة هي الأخرى لأن تعيد التموضع على قاعدة أن معركتها السياسية مع “حزب الله” لا يمكن أن تستمر بالخطاب والأدوات نفسها كما لو أنه لم تحصل متغيرات في المنطقة ولاسيما سقوط النظام السوري.

أي إن هذه الأحزاب والقوى يفترض أن تخرج هي الأخرى من قواعد اللعبة القديمة والتي كانت قائمة بشكل أساسي على شحن العصبيات الطائفية للوقوف في وجه التعبئة المذهبية التي يغذيها “حزب الله” لتعزيز فرص هيمنته الاجتماعية والسياسية، حتى وصل الأمر بالجميع إلى التعايش “السلمي” مع أسوأ صيغ النظام الطائفي.

لذلك فإن تجاوز المشكلة السياسية التي تفرضها علاقة “حزب الله” مع الداخل اللبناني تقتضي أولا تجاوز أنماط المعارضة السائدة لـ”الحزب” والتي تنتمي هي أيضا إلى مرحلة ماضية يفترض أن يكون الزمن قد تجاوزها بعد المتغيرات التي شهدتها المنطقة.

ولا شك في أن أحد العناوين السياسية الرئيسة في البلد اليوم والتي تقاس على أساسها إمكانية حدوث تغيير سياسي حقيقي، هو كيفية مقاربة الخروقات والاعتداءات الإسرائيلية والتعامل معها. إذ لا يمكن الاستمرار في التعامل مع هذه الخروقات والاعتداءات كما لو أنها مسألة بين “حزب الله” وإسرائيل بينما هي في الواقع مسألة بين لبنان وإسرائيل.

وهنا ثمة ترابط وثيق بين لبنان وسوريا لناحية أنه لا يمكن الفصل بين أهداف إسرائيل في كلا البلدين. فإذا كانت إسرائيل تسعى إلى إرباك المشهد السوري وإجهاض أي إمكانية لإعادة تأسيس وطنية سورية بعد عقود طويلة من العنف والترهيب والتفسخ الاجتماعي، فهي بذلك تحاول منع التغيير في سوريا وإفشال المرحلة الانتقالية، بحيث تبقى سوريا مفككة الأوصال كما لو كانت لا تزال محكومة من النظام السابق وبديناميات الحرب الأهلية.

وأما لبنان فلن يكون بطيبعة الحال بمنأى عن تبعات هذه السياسات الإسرائيلية على اعتبار أن مستقبل لبنان السياسي هو جزء لا يتجزأ من مستقبل سوريا السياسي، فأي اتجاهات تفكيكية في سوريا ستنسحب حكما إلى لبنان، وهذا ما يفسر موقف وليد جنبلاط وحركته السياسية باتجاه سوريا ولاسيما إثر الأحداث الأخيرة في جرمانا بالجنوب السوري والتي تشكل امتحانا رئيسا للسلطة الجديدة في سوريا.

لذلك فإن المنطق الوطني اللبناني والسوري في معا يستدعي التقاء أو نقاشا سورياً-لبنانياً في ما يخص تحديات المرحلة المقبلة ولاسيما التحدي الإسرائيلي كعامل عدم استقرار في داخل كلا البلدين، وهو ما يستدعي بالتالي إيجاد صيغ لبنانية أولا وسورية ثانيا لعزل العلاقة بين البلدين عن تأثيرات إشكالية “حزب الله” على خلفية الحساسية الكامنة التي خلفتها مشاركته في النزاع السوري. وهذه مسأله قد تكون في شقها السوري متصلة بمسار العدالة الانتقالية في سوريا، ولكنها في شقها اللبناني تتطلب تسوية باتجاهين، اتجاه السلطة الجديدة وحواضنها السياسية والاجتماعية واتجاه “حزب الله” وبيئته اللصيقة. بمعنى أنه لا بد لبنانياً من الخروج من مسارات الانقسام المستمرة منذ عام 2005 أو أقله إعادة إنتاج الاشتباك السياسي مع “الحزب” على أسس تمليها رغبته أو لا في الأخذ بأولويات الإنقاذ اللبنانية وتقديمها على مشروعه الإقليمي، وهي أولويات يفترض أن تتركز حول تحديث الدولة وإصلاحها وليس على إعادة إنتاج موازين القوى الطائفية في البلد، وكأن انتكاسة “حزب الله” أدت إلى انتقال نفوذه إلى خصومه من الطوائف الأخرى.

والحال ثمة عنوان وحيد للتسوية السياسية الممكنة لبنانيا وهو “اتفاق الطائف” الذي إلى جانب أنه يشكل السقف الممكن لعملية الإصلاح السياسي وبالتالي الاقتصادي فهو يحظى بغطاء عربي بالدرجة الأولى وتحديدا من المملكة العربية السعودية مركز الثقل السياسي الغربي راهنا.

وهنا أيضا ثمة رابط بين الوضعين السوري واللبناني الراهنين، على اعتبار أن ما يستشف من الاستراتيجية السعودية في كلا البلدين يؤكد الربط بينهما بواقع الجغرافيا السياسية وبواقع التحدي الإسرائيلي المشترك بين البلدين والذي تعبّر السعودية بموقف واضح إزاءه. وهو ما يخلق فرصة لكلا البلدين للتحرك معا وبصورة منفصلة كل بحسب أولوياته لبناء تقاطع سياسي مشرقي بإزاء هذا التحدي تحت سقف الموقف العربي الإجمالي من سياسات إسرائيل سواء داخل الأراضي الفلسطينية أو في المنطقة عموما والآخذ في التبلور أكثر فأكثر.

وفي سياق الارتباط بين مصائر كل من لبنان وسوريا ليس قليل الدلالة أن تكون أول زيارة خارجية لرئيسي كلا البلدين إلى السعودية وهو ما يعكس اهتمام الرياض بأوضاعهما الراهنة ومستقبلهما كجزء من رؤية استراتيجية تقوم أولا على تقدير مخاطر استمرار حالة عدم الاستقرار في المشرق العربي. فإذا كانت تحديات القضية الفلسطينية تزداد تعقيدا بفعل السياسات الإسرائيلية العدوانية تجاه الفلسطينيين ورفض إسرائيل إقامة دولة فلسطينية، فإنه لا بد من خلق أوضاع مستقرة ولو تدريجا في كل من لبنان وسوريا وهو ما من شأنه أن يخلق موقفا تفاوضيا عربيا أصلب على المدى البعيد.

وفي المحصلة، هناك الآن فرص لسوريا ولبنان رغم كل الأزمات والتعقيدات التي يواجهانها، وهي فرص متقاطعة، أي إنه ليست هناك فرصة لبنانية بمعزل عن الفرصة السورية، وليست هناك فرصة سورية بمعزل عن الفرصة اللبنانية، وهذا وحده كافٍ لأن تكون هذه اللحظة لحظة تأسيسية في كلا البلدين بعد نصف قرن من العنف والحروب الأهلية.

المجلة

—————————–

بانتظار الصحن الطائر أو البطل المُخلِّص: «التنافر المعرفي» بنكهة سورية/ نور أبو فرّاج

04-03-2025

        لماذا قال الثعلب عن عنقود العنب البعيد، بأنه حصرمٌ حامض؟ ما سرُّ ذلك الشعور بالانقباض الذي قد يخلّفه كتاب مثلَ مغامرة العقل الأولى لدى شريحةٍ من قرّائه؟ ولماذا أيقن مؤيديون للنظام السوري السابق، أن صور المظاهرات مُضخمة، والمشاهد عن انتهاكاته مفبركة؟ ولماذا أيضاً يُصرُّ المُدخنون بأنهم غير مدمنين وأن ما يفعلونه مجرّد «تنفيخ»، ويُجادلون أن احتمالات موتهم في حوادث السير أكبر من سرطان الرئة أو الحنجرة؟

        قد تبدو هذه الأمثلة، مشتتة، ولا جامع فعلي بينها، لكنني رأيتُ فيها مُقدمةً مثاليةً للإضاءة على نظرية التنافر المعرفي (Cognitive Dissonance) كواحدةٍ من نظريات الاتصال والإعلام التي تسبر علاقتنا مع القناعات الراسخة، وتساعد في تقديم إجابات أكثر إقناعاً عن مئات الأسئلة التي طرحها السوريون على أنفسهم، وعلى الآخرين، بدءاً من 2011 وإلى اليوم. وتحديداً تلك المُتعلقة بالعنصرية، الموقف السياسي، الصراع مع المبادئ والقيم، والعلاقة مع الأخبار ووسائل الإعلام.

        تحاول هذه النظرية تفسير شعور المرء بالضيق والقلق حينما تتعارض (تتنافر) قناعاته الراسخة، مداركه ومعارفه وقيمه، مع معارف جديدة تُناقض ما ظنّه الحقيقة الخالصة، أو، وهو الأمر الأصعب، تُناقض سلوكاً يجد نفسه مضطراً للقيام به.

        تعود أسس النظرية إلى عالم النفس الاجتماعي الأميركي ليون فستنغر، الذي رسم أولى ملامحها في كتابه عندما تُخفق النبوءة، الذي أنجزه مع زملائه في جامعة مينيسوتا العام (1956)1ليكمل العمل على تطوير النظرية في سنواتٍ لاحقة ويصيغ مبادئها في كتاب: نظرية التنافر المعرفي عام 1957.

        عندما تُخفق النبوءة

        يبدأ كتاب عندما تُخفق النبوءة بعبارة مُقتضبة حادة اللهجة تُمهّد لفحوى النظرية: «الشخص ذو القناعات الراسخة شخصٌ يصعب تغييره».

        ضمن هذا السياق تنطلق الدراسة من رصد ردود فعل جماعات وُجدت حقاً في التاريخ، وامتلك أفرادها قناعات راسخة حول أحداث معينة توقعوا حدوثها في زمانٍ ومكانٍ محددين. لكن النبوءة التي انتظروها أو آمنوا بها، حينما جاء وقت تحققها، فشلت بصورة كاملة وقطعية. وبالتالي كان فستنغر مهتمّاً بدراسة ردود فعل هذه المجموعات لحظة فشل النبوءة التي شيّدوا حولها حياتهم، وأقدموا لإيمانهم بها، على أفعال لا يمكن الرجوع عنها، كبيع ممتلكاتهم أو تغيير مكان سكنهم لمكانٍ ظنوه أكثر أمناً. ومن أمثلة هذه الجماعات تلك التي آمنت بأن العالم سينتهي عام 1533، أو جماعة (الميلريين)، أي أتباع ويليام ميلر، الذين آمنوا بأن المجيء الثاني للمسيح سيحصل بين أعوام (1843-1844).

        فجماعة الميلريين التي تجاوز عددها الآلاف، وبدلاً من التسليم بفشل النبوءة، عمّقت قناعاتها حول مجيء المسيح المنتظر وزادت من التبشير عنها، معدّلةً موعد تحققها من شهرٍ إلى آخر، ومعلّلة فشلها مثلاً في خطأ حصل في حساب التاريخ الدقيق. ومع كل يوم جديد، كان الناس ينتظرون اللحظة التي تثبت صحة قناعاتهم، حتى أن البعض منهم كان يتخلى عن حصاد الحقول ليقينه باقتراب نهاية العالم. يشير ليون فستنغر إلى أن الأمر تطلب فشل النبوءة أربع مرات على التوالي على امتداد 18 شهراً حتى أقرّ الميلريون أخيراً بفشلها نهائياً.2

        يصف الباحث هنا مشاعر الخيبة التي أحسّتها هذه الجماعة بعد أن تلقّت صفعة قاسية من «الواقع»، ويقول إن إحدى الاستراتيجيات التي اتبعها هؤلاء على مدار أشهر طويلة لمداراة خيبتهم، كانت التوجه لإقناع المزيد والمزيد من الناس بأن النبوءة لا بد أن تكون صحيحة. لذلك فهو يكتب الكلمات التالية مُعلّقاً على حاجة الناس، لحظة اكتشاف زيف قناعاتهم، إلى حشد المزيد من الأتباع: «إذا آمن كل شخص في العالم بشيء ما فلن يكون هناك أي شك على الإطلاق في صحة هذا الاعتقاد، ولهذا السبب نلاحظ زيادة التبشير بعد دحض النبوءة».3

        لكن ليون فستنغر وزملاءه لم يكتفوا بتتبع أمثلة سابقة وثقتها كتب التاريخ حول جماعات المؤمنين المخلصين، بل إنهم امتلكوا فرصة ثمينة لإجراء دراسة نوعية ومباشرة على سلوك جماعة صدّقت بأن نهاية العالم، جراء طوفان، اقتربت. حدث هذا بعدما نشرت صحيفة (Lake City Herald) الصادرة في مدينة ليك سيتي في ولاية فلوريدا، خبراً عن طوفان سيُغرق المدينة بتاريخ 21 (كانون الأول) ديسمبر العام 1954. كان مصدر النبوءة في ذلك الوقت ربة منزل تدعى ماريان كيتش، ادّعت أنها تلقت رسائل من كائنات أتت من خارج كوكب الأرض. بعدما تأكد ليون فستنغر وزملاؤه بأن السيدة ماريان كيتش ليست الوحيدة التي تؤمن باقتراب موعد الطوفان، تسللوا إلى جماعتها سرّاً وبدأوا ميدانياً بجمع المعلومات والملاحظات عبر الحديث والتفاعل النشط مع أفراد الجماعة.

        يرى فستنغر أن أفراد الجماعة قيد الدراسة انطبقت عليهم شروط جعلتهم حالات نموذجية للدراسة: كل فرد منهم كان متمسكاً بقناعة عميقة وراسخة، وكان بالتالي قد اتخذ إجراءات، أو قام بأفعالٍ يصعب التراجع عنها نتيجة موقفه الراسخ ذاك (كبيع الممتلكات). كذلك كان المُعتَقَد نفسه محدداً ودقيقاً بصورة تسمح بقياس صحته من خطئه (طوفان في زمان ومكان محددين)، وكانت الأدلة التي تدحضهُ فاقعة وجليّة بصورة لا يمكن إنكارها (عدم حصول الطوفان في الوقت المحدد). أما الشرط الأخير فتمثّل بأن كل فرد من هؤلاء حظي بدعم اجتماعي من البقيّة، فمن غير المُرجّح وفق فستنغر أن يتمكن مؤمنٌ معزول من الصمود أمام هذا النوع من الأدلة التي تدحض قناعته، فهو سيكون في الغالب عضواً في مجموعة تتشارك ذات القناعة، ويدعم بعضها بعضاً، بحيث يحاول هؤلاء التبشير أو إقناع الآخرين بصحة النبوءة حتى بعد فشلها. 

        وبالعودة لجماعة ماريان كيتش المؤمنة باقتراب الطوفان ومجيء الصحون الطائرة التي ستنقل المؤمنين إلى كوكبٍ آخر، أكدت البيانات والملاحظات التي سجلها فريق الباحثين صحة فرضيات الدراسة. فأفراد الجماعة، وحتى بعد فشل النبوءة التي بشرّوا بها، ظلوا مُصريّن على القيام بسلوكات غريبة ومتطرفة، مثل التخلي عن لبس المعادن في ثيابهم، واستبدال الأزرار والسحابات المعدنية ببدائل صُنعت من أربطة جلدية، ظنّاً منهم أن المعادن ستحول دون التقاطهم من قبل الصحن الطائر الذي سيأتي لإنقاذهم قبل أن يأتي الطوفان وتحل الكارثة. هؤلاء كما يكتب المؤلف: «ومع تعثرهم، وارتباكهم المتزايد جراء فشل النبوءة تلو الأخرى، بدأوا يبحثون عن أدلة، ويشاهدون التلفزيون بحثاً عن الأوامر، ويسجلون المكالمات الهاتفية على نحو أفضل للبحث عن رسائل مشفرة، ويتوسلون إلى رواد الفضاء للقيام بواجبهم ـ كل هذا بدا محاولةً يائسةً منهم لاكتشاف خطوة تالية محددة بوضوح على طريق الخلاص بالصحن الفضائي».4

        التنافر المعرفي كأثر يومي ومعاش

        بناء على ما تقدم، قد يبدو أن نظرية «التنافر المعرفي» مرتبطة حتى الآن بدارسة سلوك مجموعات غرائبية متطرفة في أفكارها ومؤمنة بالخرافات، لكن الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك. فالفروض والنتائج التي قامت عليها النظرية تمتلك إسقاطات لا نهائية على قناعات الناس الصحية والاجتماعية والثقافية وصولاً لآرائهم السياسية. فجماعات السيدة كيتش قد تشبه بكثيرٍ أو قليل الأناس المتحزبين، المنتمين لجماعات دينية مغلقة، «الفيغانز»، أو أي شخص آخر يمتلك قناعة لا تشوبها شائبة بأنه على حق. هكذا تتضح أهمية النظرية وسبب الاهتمام المتجدد بها، من وجهة نظري، إذا ما طرحنا على أنفسنا السؤال التالي:

        إذا كان الناس المؤمنون باقتراب نهاية العالم أو بالمجيء الثاني للمسيح المنتظر لم يتخلوا عن قناعاتهم تلك حتى حينما ثَبُتَ فشل هذه النبوءات، ما مصير الأناس العاديين المتشبثين برؤاهم السياسية والدينية والأخلاقية. كيف يمكن تغيير قناعاتهم إن كانت خاطئة؟ خاصة وأن الكثير من القضايا الخلافية التي يواجهها البشر اليوم إشكالية بطبيعتها ومعقدة الأوجه ولا تنتهي في وقتٍ محدد، بحيث قد لا يوجد إجابة شافية واحدة قطعية حولها. الأمر في معظم الحالات ليس جليّاً مثل مسيحٍ لا يأتي، وطوفانٍ لا يحدث.

        وبناء على ذلك يبرز التنافر المعرفي كشعور مصاحب للفرد في حياته المُعاشة بدءاً من التفاصيل اليومية البسيطة وحتى المُعقدة. جميعنا وفي كل لحظة نعيش الخوف من احتمالية خطأ قناعاتنا وسلوكياتنا، سواء البسيطة مثل إنكار مخاطر الدخان عند المدمنين، أو المعقدة مثل اتخاذ قرار مصيري خاطئ. جميعنا، فوق كل ذلك، نبحث عن آخرين يشاركوننا قناعاتنا ويطمئنوننا بأننا لا بد على حق.

        الأمر الجوهري هنا أن التعقيد والضيق يزداد حينما يختبر المرء تنافراً معرفيّاً في قضايا مصيرية وحساسة من وجهة نظره، وهو الأمر الذي أكده فستنغر نفسه معتبراً بأن التنافر المعرفي، والكرب الناتج عنه، يكون أكثر حدّة حينما يكون الصراع دائراً حول موضوع مهم للفرد.

        نظرية التنافر المعرفي كمدخل لفهم التطرف

        عندما أفكر في نظرية التنافر المعرفي يتجلى أمامي مشهدٌ من فيلم المصير (1997) للمخرج المصري يوسف شاهين. في المشهد نرى عبد الله (هاني سلامة) ابن حاكم الأندلس، الخليفة المنصور، مُقيّد الجسد على كرسي خشبي في غرفة مغلقة وفي الخارج يقوم رفاقه بالغناء والرقص. عبد الله كان قد ترك حياة اللهو والعشق وتبنى فكراً متطرفاً بعد انتسابه إلى جماعة تخطط لاغتيال والده، أما أصدقاؤه فقرروا إعادته إلى صوابه عبر تذكيره بقيم الحب والجمال والصداقة التي آمن بها يوماً. وبالتالي فهذا المشهد لحفلة الرقص التي تجري في الخارج، مقابل عبد الله الذي يصارع أفكاره داخل قاعة فارغة، تُشكل ذروة التنافر المعرفي كما يبدو لي. ورغم درامية المشهد لكن المعارك التي نخوضها وحيدين مع أفكارنا المتصارعة، القديمة والجديدة، قد لا تقل حدة. عبد الله في المصير أوشك بسبب أفكاره الجديدة على «قتل أبيه» وكان محتاجاً لأن يجد تبريراً لسلوكه ويتصالح مع قيمه الجديدة بوصفها «استجابة لإرادة أعلى» أو «إحقاقاً للحق».

        ضمن هذا السياق، يبدو أن نظرية التنافر المعرفي اُستخدمت فعلاً في دراسة دوافع المتشددين دينياً، والجماعات المتطرفة والجهاديين، كمثال على ذلك دراسة حملت عنوان: دوافع الجهاد والتنافر المعرفي: تحليل نوعي للجهاديين السويديين السابقين.5

        تستند هذه الدراسة إلى مقابلات مع ثلاثة جهاديين سويديين سابقين، وتستخدم نظرية التنافر المعرفي لتحليل كيفية تغير دوافعهم للجهاد؛ بدءاً من المراحل المبكرة من التطرف، مروراً بمرحلة القتال الفعلي كجزء من جماعة جهادية، ووصولاً إلى مرحلة ترك الجهاد.

        عبر هذه الدراسة، سعى الباحثون إلى فهم السبب وراء تحول بعض المسلمين في الغرب إلى مقاتلين أجانب في ساحات معارك الجهاد العالمي، مثل سوريا، أو تحولهم إلى جهاديين في أوطانهم. خاصة وأن الدراسات الأكاديمية قدّمت بنظرهم نتائج متضاربة حول تأثير بعض المتغيرات في حياة هؤلاء مثل النجاح التعليمي، الموارد الاقتصادية، سجل الجريمة السابقة، المناخ الأسري.

        وبالتالي تزعم الدراسة أن التنافر المعرفي، أي الانزعاج النفسي الناجم عن الإدراكات غير المتسقة، وليس التعاطف أو الحرمان النسبي الجماعي، قد يكون في بعض الأحيان دافعاً للجهاد.

        الحالة الأولى التي ركّزت عليها الدراسة كانت «أحمد»، الذي اختبر أولى ملامح التنافر المعرفي بالتزامن مع حرب الاتحاد السوفيتي على أفغانستان في الثمانينيات. تشير الدراسة إلى أن التبشير والوعظ حول ضرورة الجهاد الذي كان منتشراً في بعض مساجد مدينة غوتنبرغ السويدية لعب دوره في تأجيج مشاعر الشاب في تلك الفترة، خاصة وأن الحكومة السويدية غضّت النظر حينها عن الدعوات الجهادية على اعتبار أنها ترى في المد الشيوعي خطراً أكبر عليها من الجهاديين. كذلك الأمر أسهمت كتابات بعض المفكرين الإسلاميين حول وجوب أن يكون الجهاد «فرض عين» بدلاً من «فرض كفاية»، في رفع حدة التنافر المعرفي الذي عاشه في تلك الفترة. هذا دفعه لتغيير سلوكه بالتوجه للجهاد في أفغانستان، حيث قاتل ضمن صفوف حزب الإسلام كمحاولة منه لوقف التنافر. لكن وبعد خروج الاتحاد السوفييتي من أفغانستان، وجد الشاب نفسه أمام صراعات أخلاقية جديدة، خاصة مع اندلاع المعارك والاقتتالات بين الفصائل الجهادية هناك. الاقتتال الحاصل تناقضَ مع فكرة كان يؤمن بها سابقاً (التحريم الديني لقتل مسلم آخر)، وبالتالي كان لا بد مجدداً من تغيير المعتقد ليتوافق مع السلوك، أو تغيير السلوك وتبريره ليتوافق مع المعتقد. وهنا اختار أحمد الإبقاء على قناعاته رافضاً قتل المسلمين وانتقل إثر ذلك إلى البوسنة، ليقاتل إلى جانب المسلمين في مواجهة الصرب والكروات، قبل أن يتخلى أخيراً عن مبدأ الجهاد ككل.

        الحالة الثانية موضع الدراسة كانت لأمير، الذي سافر أيضاً إلى البوسنة خلال تسعينيات القرن العشرين لمساعدة المسلمين المحليين ضد الصرب. كمثل أحمد، شعر بالغضب والانفعال من «قتل المسلمين»، الذي عَرف عنه من التلفزيون والتواصل مع الأصدقاء. كل تلك الأخبار راكمت لديه شعوراً بالسوء ودفعته للتوجُّه للقتال، رغم كونه لم يخضع للتجنيد أو «التبشير» بشكل مباشر.

        ولكن أمير أوضح أن دوافعه للقتال تغيرت أثناء الحرب. وبما أن مبدأ الجهاد «كفرض عين» لم يؤثر فيه كثيراً، فقد كان تفكيره أكثر عقلانية واقتنع مع الوقت أن وجوده في المعركة لن يحدث فرقاً، فغادر عائداً إلى السويد عازماً على الاستقرار. لكنه وبعد سماعه عن موت أحد أصدقائه المقربين في ساحة المعركة، وجد نفسه مرة أخرى أمام تنافر معرفي جديد. بقاؤه في السويد سبّب له شعوراً بعدم الارتياح، لأن سلوكه هذا يتناقض مع الالتزام الاجتماعي المكتسب حديثاً بالعودة والقتال إلى جانب أصدقائه. وهنا يُعلق الباحثون بالقول إن الجهاديين النشطين كثيراً ما يتم تدريبهم على تبني أفكار جديدة للجهاد أثناء تواجدهم ضمن جماعة جهادية، وهذا يتفق مع أحد أسس نظرية التنافر الذي يركز على تأثير الجماعة على الفرد التي تعزز قناعاته بأنه محق في مواقفه أو سلوكه.

        أما الحالة الدراسية الثالثة فتنتمي إلى الجيل الجديد من الجهاديين، ذلك أن سافيت ترك عمله وأسرته وأولاده وغادر السويد للانضمام إلى داعش في ساحات القتال في سوريا. وعلى عكس الجهاديين السابقين الآخرين، لم يذكر أثناء مقابلات الباحثين معه عيشه لأي صراع أو انزعاج يوحي بأن التنافر المعرفي دفعه إلى اختيار الجهاد، بل الحقيقة أنه اختار ذلك بتأثير من أحد أصدقائه. وهنا يعلق الباحثون على دوافع الشاب بالقول إن أغلب الجهاديين مراهقين، أو في أوائل العشرينيات من العمر، ــوهم معرّضون بشكل خاص لتأثيرات الناس من حولهم، وخاصة الأصدقاء. لكن تجربة الانضمام إلى داعش كانت صادمة له، فقد رأى أشياء «لم يتوقعها»، وشهد عنفاً غير مسبوق جعله يشعر بالقلق. وعلى اعتبار أن قراره بالجهاد لم يكن وليد تنافر إدراكي بل كان تأثراً بصديق، فإن رؤية الواقع القاسي في المناطق الخاضعة لسيطرة داعش خلقت لديه انزعاجاً نفسياً، وجعلته يقتنع بعدم صوابية البقاء هناك. 

        كذلك الأمر لم يمتلك سافيت دافعاً دينياً قوياً ليصبح جهادياً مثل أحمد، وأيضاً فهو مكث في سوريا لفترة قصيرة بحيث لم يتعرض لتلقين ديني دائم من قبل داعش. وبالتالي فالشاب وإن لم يختبر التنافر كمحرك أو دافع للذهاب إلى سوريا فهو عانى منه لاحقاً على أرض المعركة حينما عاش صراعاً دفعه أخيراً لترك الجهاد.

        في الخلاصة وجدت الدراسة أن نظرية التداخل المعرفي قد تقدم مدخلاً هاماً لفهم دوافع الجهاديين وتحليل الصراعات والدوافع المختلفة في رحلتهم وصولاً إلى ترك الجهاد، أو «الإقرار بفشل النبوءة» ّإذا ما استخدمنا لغة نظرية التنافر المعرفي.

        التنافر المعرفي بنكهة سورية

        انطلاقاً من حقيقة أن التنافر المعرفي يكون أشد وقعاً حينما تكون القضايا المرتبطة به أكثر حساسية، أعتقد أن شرائح المجتمع السوري، باختلاف خلفياتها السياسية والثقافية والدينية، اختبرت في السنوات الماضية درجات مؤلمة من التنافر المعرفي. فالمواطن السوري وجد نفسه عام 2011، أمام تساؤلات قيَميّة تمس جوهر شخصيته ومبادئه وصورته عن ذاته: كيف أكون وطنيّاً حقّاً؟ ما موقفي من الغرب والسيادة الوطنية؟ ما موقفي من مؤسسات الدولة والجيش؟ ما موقفي من الاحتجاجات الشعبية والحراك الثوري؟ ما موقفي من الآخر الذي يختلف سياسياً عني؟ ما موقفي من التطرّف والطائفية وهل أنا نفسي متطرّف أو طائفي؟

        التنافر المعرفي كان أشد حدّة بالنسبة لنا لأنه ارتبط بقضايا حياةٍ أو موت، موتنا أو موت الآخرين. فالسوريون باختلاف اتجاهاتهم السياسية شعروا بأن مواقفهم تُترجم إلى دماء ودمار وخسارات بشرية، وأنا أتحدث هنا عن رجال ونساء الشارع العاديين، وليس صناع القرار أو أطراف الصراع. الأمر هنا لم يقتصر فقط على التنافر أو التضاد الأشهر (مؤيد\معارض) بل انتقل لمجالات صراع أضيق وأضيق مثل (معارض\معارض)، (داخل\خارج)، (مستفيد \غير مستفيد) (متدين\غير متدين)..

        وما زاد «التنافر المعرفي» في حالتنا بلّة، وجعل نتائجه أكثر حدّة، كان تعرّضنا طوال سنوات لسيل لم نعهده من الأخبار والمعلومات والمتغيرات الجديدة، وهو ما نسميه في لغة علوم الاتصال: «التعرّض الكثيف لوسائل الإعلام». هذا التعرض فتح سؤالاً كبيراً حول الحقيقة ومن يمتلكها؟ خاصة وأن امتلاك الحقائق ضرورة بشرية لتشكيل المواقف المتوازنة. من جانبٍ آخر زاد من تأجج الموقف أيضاً تحوّل الشارع من حالة الخمود والسلبية المُكرّسة بعد سنوات من الكبت السياسي، إلى حالة الحراك والفاعلية، وبالتالي الحوار المستمر مع الآخرين على الفضاءات الافتراضية أو في الجلسات المغلقة، ما عنى أن التنافر المعرفي والقلق المرتبط به كان عام 2011 في أوجهما، والناس لم يكونوا على استعداد لمواجهة هذا الكرب أو التعامل معه.

        التحرر من عبء «التنافر»

        بالعودة لنظرية التنافر المعرفي، قد يكون الجزء الأكثر أهمية منها، بالمعنى العملي، هو ذاك الذي يركز على الاستراتيجيات وآليات الدفاع النفسية التي يلجأ إليها الأفراد لإيقاف حالة «عدم الراحة» أو القلق المُترتب على امتلاكهم فكرتين متصارعتين متناقضتين، أو عيشهم لتناقض بين أفكارهم وأفعالهم.

        يقترح الباحثون هنا أن الناس عموماً في حالات من هذا النوع يلجؤون إلى ثلاث استراتيجيات أساسية6 لتجاوز مشاعر عدم الراحة واستعادة شعورهم بالصفاء الداخلي والرضا عن الذات. ويتم تشبيه آليات الدفاع اللاواعية هذه بالجهاز المناعي، لكنها هنا تلعب دوراً سلبياً في إعاقة التعلم عبر التصدي لأي فكرة جديدة تخالف منظومة الأفكار المُكرسة.

        الاستراتيجية الأولى تتمثل بـ«الإنكار»، أي تجنّب أي مؤثر خارجي يُذكّر الأشخاص بوجود حالة التنافر من الأساس. ومن الأمثلة البسيطة عن ذلك توقّف الشخص عن متابعة المحطة التي لا تتوافق وقناعاته السياسية أو القيام بحظر صديقه الذي يعارضه في الموقف.

        أما الاستراتيجية الثانية فتتجلى بـ«التشكيك» بالمعلومة الجديدة التي تناقض معارفنا واتهامها بأنها: غير دقيقة، مضللة، مُضخمة، متحيزة، ملفقة، كاذبة. فعبر «نزع الشرعية» تفقد المعلومة الجديدة قدرتها على التهديد ومساءلة المعارف الراسخة.

        أما الاستراتيجيّة الثالثة فتتمثل بـ«الحد من تأثير» المتغير الجديد، كالاعتراف بأن المعلومة الجديدة قد تحمل درجة من الصحة لكنها ليست مؤثرة أو حساسة بالدرجة التي تبدو عليها. فقد يحمي المرء نفسه من تنافر قيمه مع سلوكه بالقول إن السلوك المرفوض نادر الحدوث لا يعدو كونه «زلة»، أو قد يُقدم حججاً عقلانية لإقناع نفسه أو الآخرين بأن السلوك الجديد ليس مُضراً كما يبدو. مثل أن يُصرَّ البعض أن مقاطعة منتجاتهم المُفضلة لن تحدث فرقاً حقيقياً في الصراع مع إسرائيل، وأن هذا النوع من المقاومة «عبثي» لأن غيرهم سيشتري هذه البضائع حتى وإن هم أحجموا عن ذلك.

        والآن بالعودة إلى إسقاطات أكثر تفصيلاً للنظرية على الشأن السوري، أعتقد بأن شرائح واسعة من المجتمع السوري عمدت في السنوات التي تلت 2011 إلى وأد\قتل التنافر المعرفي الذي اختبروه لحظة اندلاع الثورة، عبر التفعيل النشط للاستراتيجيات الثلاثة سابقة الذكر (الإنكار، التشكيك، الحد من التأثير). فبعد أن شهدت الأعوام التالية للحراك الثوري درجات عالية من السجالات السياسية، تبعها حالة من الانكماش والتقوقع في دوائر مغلقة. الشرائح الاجتماعية الموالية للنظام السوري اكتفت بالصفحات والمحطات الإعلامية التي تروي لها الحكاية التي تريد سماعها. بعض الفئات المتشددة في المعارضة السورية صمّت آذانها وعيونها عن التقارير التي تتحدث عن الانتهاكات والتجاوزات التي تقوم بها فصائل مسلحة، وكذّبت تلك التقارير باعتبارها مُلفقة من قبل النظام وأجهزته الأمنية. عموماً سعت الأطراف المتشددة من الجانبين إلى الحد من تأثير أي رسالة أو معلومة تعارض قناعاتها السائدة، وكانت الحجج جاهزة في كل مرة: «مؤامرة»، «تبعية»، «ثورة مضادة»، «خيانة». خلال هذه الأعوام تعزز الفصل أيضاً بين «المناطق المحررة» و«المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام السوري»، وبين «الداخل السوري» و«خارج سوريا»، وبين طائفة وأخرى، ومع ازدياد الانقسامات والصدامات صغرت الدوائر التي يتفاعل ضمنها أفراد أنهكهم التنافر وقرروا إراحة بالهم بالاكتفاء بالتواصل مع القلة التي تشاركهم في الرأي ولا تسبب لهم وجعاً في الرأس أو نخزاً في القلب.

        واليوم بعد سقوط النظام السوري سنشهد موجة جديدة لا تقل شدة من «التنافر المعرفي» بعد انفتاح الحدود السياسية والجغرافية بصورة لم تشهدها البلاد في تاريخها الحديث. يُمكن تأمل مثلاً ما يحدث اليوم في العاصمة دمشق، التي باتت نقطة لقاء بين أجيال من السوريين الصغار الذين لم يعرفوا بعضهم بعضاً، وكلٌ منهم تربى ضمن دائرة مُغلقة تُشيطن أو تُلغي وجود الآخر المختلف. أحد تكثيفات هذا التنافر يمكن مشاهدته ضمن فيديو انتشر على منصات التواصل الاجتماعي مؤخراً، يتحدث فيه أحد شباب «إدارة العمليات العسكرية» الذي لا يتجاوز العشرينات من العمر، ببساطة وتلقائية، عن انطباعاته عن دمشق وتخوفاته من نظرة الآخرين له ومن نظرته نحو الآخرين. ورغم أن بعض ما يقوله الشاب أمام عدسات الكاميرا قد يكون استجابة لتوجيهات الإدارة الدقيقة بضرورة بث «التطمينات» للمجتمع السوري، لكن بالنسبة لي الجزء الأهم هنا هو الصراع الباطني الذي لا تُظهره الكاميرا، والذي يعيشه الشاب منذ اللحظة التي غادر فيها إدلب، ووطأت قدمه أرض دمشق. 

        انفتاح الحدود الذي نشهده اليوم بين التكتلات المنغلقة، أياً كان نوعها، هو ما يبرر استعادة الاهتمام بنظرية التنافر المعرفي. فالسوريون اليوم مضطرون مجدداً لمواجهة هذا التنافر، سواء الداخلي بين أفكارهم القديمة والجديدة، أو الخارجي المتمثل بصراع أفكارهم مع أفكار الآخرين. ومن المهم هذه المرة ألا يتم تجنّب الصراع وإسكات الأصوات المتناقضة، بل محاولة توجيهها والتعامل معها. لأن التنافر في جوهره أحد مرادفات «الحوار»، وهو حالة صحية لا بد منها كي تولد الأفكار الجديدة من رحم القديمة. 

        الشك المستمر في الحقيقة كأداة تلاعب

        من زاوية أخرى، وعند التفكير بالتقاطعات بين نظرية التنافر المعرفي والواقع السوري، لا بد من الاعتراف بأن الجانب الإشكالي هنا مُتعلق بفكرة «الحقيقة» ذاتها. فالمدخن مثلاً يدرك في قرارة نفسه أن التدخين مُضر لأن ضرره بات حقيقة مثبتة بكل طريقة ممكنة، وبالتالي فهو قد يستمر في التدخين ليس لاعتقاده بأنه صحي بل لفشله في التغلب على الإدمان. أما القضايا السياسية التي نواجهها بما فيها من تعقيد فتسمح بتفعيلٍ أكبر لآليات الدفاع النفسي التي أشرنا إليها، وعلى رأسها «التشكيك» بالمعلومات (الحقائق) الجديدة التي قد تناقض مفهومنا السابق عن الحقيقة. رغم ذلك فإن «التشكيك» في السياق السوري ليس مجرد «بارانويا»، أو جنون ارتياب نلجأ له لصد الأفكار التي لا تتفق وقناعاتنا، بل هو أحياناً حاجة مفروضة. مردُّ ذلك أن تزييف الحقائق أمر واقع، والمعلومات المُضللة والكاذبة والمضخمة كانت بالفعل أداةً أساسية من أدوات الصراع السوري، وما تزال إلى اليوم حاضرة بقوة في المشهد السياسي الجديد.

        ضمن هذا السياق نستطيع هنا استعراض أمثلة محددة عن التلاعب المستمر بالحقائق ظهرت على السطح في الأسابيع القليلة الماضية، وجاءت كتعبيرات عن الحاجة لوقف التنافر الذي تولده المتغيرات المتسارعة الجديدة على الساحة السورية. فبعد سقوط النظام وفتح السجون والمعتقلات تسللت بعض الصور المزيفة المولدة بالذكاء الصناعي، أو المأخوذة من أفلام أو تقارير سابقة، أو تلك التي تعود إلى مكانٍ وزمانٍ آخرين، لتنشر مع أكوام من الصور الحقيقية التي وثّقت الظروف المرعبة للمعتقلين السوريين.

        هذا التزييف قدّم ذريعة للبعض كي يعتبروا مثلاً أن ملف المعتقلين السوريين، ما زال يخضع لتضخيم إعلامي وأن الوضع في تلك السجون لم يكن بالسوء الذي يُروج له. هذا الرأي لاقى قبولاً أكبر لدى الأشخاص الذين شعروا في قرارة أنفسهم بالذنب لأنهم لم يصدقوا سابقاً التقارير والمقابلات والوثائق المسربة من السجون السورية في السنوات الماضية. ولأن الصور الجديدة شكلت لهم صدمة حقيقية، جاءت الصور المزيفة لتقدم لهم مهرباً من التنافر، فهم يستطيعون القول لأنفسهم: «ليس كل ما نراه حقيقياً». ضمن ذات السياق جاءت المبادرة الساعية إلى تلوين وطلاء جدران الزنازين  بما فيها من طمس لكل الأدلة التي تحملها، كتعبير جمعي عن الرغبة بتجنب التنافر وإنكار وجود المُعتَقلات عبر تحويلها سريعاً إلى شيء آخر.

        إلى جانب التزييف الذي لحق بصور المعتقلات ما تزال القضايا المُتعلقة بالتجييش الطائفي (أخبار القتل والإعدامات والاستهدافات على أساس طائفي)، أو تلك المُتعلقة بقرارات الحكومة المؤقتة الجديدة، الموضوعات الأكثر عرضة للشائعات، كما لو أن هذا الخلط المستمر بين «الإشاعة» و«الحقيقة» غرضه إعاقة تقييم المخاطر التي قد تهدد السلم الأهلي أو الحريات السياسية والمدنية. فبعض المتحمسين للإدارة الجديدة يتعاملون مع كل خبر جديد عن استهداف طائفي أو قرار حكومي مُقلق بوصفه شائعة تخدم «الثورة المضادة»، وحينما يظهر مثلاً أن الخبر حقيقي وليس مزيفاً يميلون للتقليل من أهميته أو خطورته، أو يقترحون أموراً يرونها أجدر بالاهتمام والتركيز. وتلك الاستراتيجيات التي يلجأون لها قد تعني بأنهم في قرارة أنفسهم خائفين أيضاً كالآخرين، من بعض التطورات التي تحصل ولهذا هم يحاولون تجاهلها والتقليل من شأنها، ويرغبون بإسكات من يتحدث عنها.

        من هذا المُنطلق يمكن عدّ الشائعة، بغض النظر عن الجهة التي تُطلقها، أداةً فعالة في شل الشارع السوري ومنع أفراده من الاعتراف بالحقائق والبناء عليها للمضي قدماً. بحيث يبقى البحث عن الحقيقة الهم الشاغل للكثيرين بما يُعيق ويعطل التنافر المعرفي بمعناه الإيجابي (الاعتراف بامتلاك فكرة خاطئة أثبت الواقع زيفها وتبني فكرة جديدة أكثر توازناً).

        ولهذا، وإذا كان السوريون اليوم ولا شك مقبلين على مرحلة عاصفة بالتنافرات المعرفية، فلا بد من جعل نشر الحقائق والشفافية في تداول المعلومات مطلباً وطنياً لضمان حوار بنّاء مع الذات أو مع الآخرين. فالحقيقة عندما تكون غائبة، ومميعة، تسهّل لجوء الأفراد لضغط زر «التشكيك» في مواجهة كل معلومة تخالف رغباتهم أو قناعاتهم. وهذا يعني أنهم قد يبقون إلى الأبد رهيني «نبوءاتهم» المزيفة، ينتظرون صحناً طائراً يحملهم بعيداً، أو بطّل مُخلص تأخر عن موعده.

        قائمة المراجع:

            Festinger Leon, Riecken Henry W. And Schachter Stanlty. (1956). When Prophecy Falls. Minneapolis, MN, US: University of Minnesota Press.

            Gillespie Alex. )2020(. Disruption, Self-Presentation, and Defensive Tactics at the Threshold of Learning. Review of General Psychology.  24:4, 382-396.

            Nilsson, M. (2019). Motivations for Jihad and Cognitive Dissonance – A Qualitative Analysis of Former Swedish Jihadists. Studies in Conflict & Terrorism, 45(1), 92–110.

            قطامي يوسف، نظرية التنافر والعجز والتغيير المعرفي. (2011). دار المسيرة للنشر والتوزيع، عمان. 

1.Leon Festinger Henry W. Riecken AND Stanlty Schachter. 1956. When Prophecy Falls. Minneapolis, MN, US: University of Minnesota Press.

2.(Festinger, Riecken & Schachter, 1956, p22)

3.(Festinger, Riecken & Schachter, 1956, p30)

4.(Festinger, Riecken & Schachter, 1956, p218)

5.Nilsson, M. 2019

6.(Gillespie Alex, 2020, 382-396)

موقع الجمهورية

———————————

 خُطوة خُطوة، كيف نبني جيلاً جديداً؟: التربية والتعليم في السينما السورية/ علاء الدين العالم

05-03-2025

            يا حافظ ماني قدّك

            يا حافظ ماني قدّك

            تلات وردات على خدك

            انتَ السيد وأنا عبدك

            (أهزوجة من فيلم خطوة خطوة 1978)

        «تطويرُ النظام التعليمي وإصلاح المناهج، ووضع خطط تستهدف سدّ الفجوات التعليمية وضمان التعليم النوعي والاهتمام بالتعليم المهني، وربط التعليم بالتكنولوجيا لضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة»، ذلك ما جاء في البيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني الذي عُقِد مؤخراً في دمشق. ولكي ينتقل الكلام السابق إلى حيز التطبيق، يلزم أن يسبقه بحثاً ضخماً وواسعاً لمناقشة مسألة التدريس، من مناهج وآليات، عبر ذوي الاختصاص والكفاءات.

        مراجعة التعليم في سوريا في مائة عام هو مجهود بحثي كبير، ونحن اليوم بأمسّ الحاجة لذلك، انطلاقاً من المنهاج التعليمي السوري الأول الذي وُضع إبان تشكيل المملكة السورية عام 1919، ومروراً بمناهج الانتداب الفرنسي ومناهج الاستقلال وما بعده، وصولاً إلى مناهج البعث الممتدة على خمسين عاماً. إلا أن مصادر البحث هذه ليست محصورة في الكتب المدرسية، بل أيضاً قد يجدها الباحثون في السينما السورية، وتحديداً في الأفلام التي تناولت ثيمة التعليم والأجيال الجديدة في سوريا.

        خُطوة خُطوة، عن فيلم قصير تنبأ بمستقبل السوريين

        أول الأفلام السورية التي عُرِضت في دمشق بعد السقوط، هو فيلم نجوم النهار لأسامة محمد. نجوم النهار برحلة عرضه ومنعه منذ الثمانينيات، يحمل علامة خاصة في السينما السورية وعلاقتها مع حكم الأسدين. بيد أنَّ نجوم النهار ليس فيلم محمد الوحيد الذي يشاكل السوريين وتاريخهم، فلديه فيلمٌ قصير بعنوان خطوة خطوة، وهو واحد من أهم الأفلام التي أنتجتها السينما الوثائقية السورية في تاريخها، ليس بسبب متانة الفيلم على المستوى الفني والتقني، بل لما يحمله من استشراف لواقع السوريين ومستقبلهم بعد سيطرة البعث على الحكم، وتحديداً بعد توطيد حافظ الأسد لحكمه نهاية السبعينيات. يصور الفيلم الحياة اليومية في قرية الراما في ريف اللاذقية عام 1976؛ شكل الحياة فيها، وحال شبابها وكهولها، وقبل كل شيء، حال أطفال القرية ومستقبلهم. تعملُ الكاميرا عمل الكشّاف في مستقبل الأطفال، ما هي الآفاق أمامهم؟ وما هي أحلامهم؟ وما إمكانية تحقيقها؟ يسأل أسامة محمد الأطفال عن أحلامهم، «شو بدك تصير بس تكبر؟» أحدهم يجيب مهندس و وأخرى معلمة والآخر دكتور، يلاحقهم بكاميرته إلى المدرسة، يرصد سوء الخدمات المدرسية، وصعوبة العيش في القرية عموماً، لكنه يركز على نقد آلية التدريس، وشدة المُدرّس التي تدفع بالأطفال إلى مغادرة المدرسة وهجر التعليم.

        «يا بتقرا يا بتنزل ع الحقل». يبدو للوهلة الأولى أن هذا الكلام الموجَّه من الأب لابنه اليافع هو الحل الوحيد أمام شباب القرية، فإما التعلُّم في سبيل تحقيق الحلم، أو المشاركة في زراعة الأرض والعمل على ديمومة الحياة فيها. لكن واقع الحال ليس كذلك، فهناك سبيل آخر غير هذين السبيلين، وهو الانضمام إلى الجيش العربي السوري.

        دون مباشرة، وما وراء المقابلات والصور المأخوذة، يُظهر الفيلم الجيشَ السوري كمحطّم لهذه الثنائية الفاعلة بين التعليم والزراعة، ويُظهِر الذهاب إلى الجيش كمخرَج ومهرب من هذه الثنائية. إلا أن الأثر القاتل للجيش لا يكمن هنا، بل يكمن في العقيدة التي يُجبِل بها أبنائه، وفي كيفية فصل هؤلاء عن محيطهم، قراهم، أرضهم، وحتى عائلاتهم. حينما يسأل المخرج شابين متطوعين في القوى الجوية عن حدود الامتثال لأوامر القيادة، يجيب الأول بأنه مستعد لتدمير بيت أهله، بل وتدمير القرية كلها فيما لو أمرته القيادة بذلك، أما الشاب الثاني فيؤكد أنه مستعد لقتل أخيه فيما لو كان الأخ له رأي ضد الدولة والحزب والقائد.

        في صورة سوداء وبيضاء، كئيبة وطينية، تصوّر كاميرا محمد ثلاثة كهول يصنعون القهوة ويدندن أحدهم أهزوجة تقول التالي: «يا حافظ ماني قدك، يرحم بيك مع جدك، تلات وردات على خدك، أنت السيد وأنا عبدك». يركز محمد على الجملة الأخيرة، وينتقل بكاميرته بين الأجيال الثلاث (جد، ابن، حفيد)، ومن ثم تنتقل الكاميرا مرة واحدة وأخيرة إلى المدينة. هناك، حيث يتابع محمد عيونَ أحد شبان القرية الباحث عن عمل في المدينة. العيون بسيطة ومُتعبة وباحثة عن مستقبل خارج الريف القصي البعيد عن خدمات الدولة. تصور الكاميرا بعد ذلك ما يراه الشاب في زيارته إلى المدينة، صور القائد وصور القائد وصور القائد، خطابات في عيد العمال، وعمال عاطلون بوجوه متعبة حدَّ الخَدَر. لا ينتهي فيلم محمد في المدينة، بل يعود إلى القرية، وإلى الأطفال تحديداً، وهم يخطون في الحقول، خطوة بخطوة، وصورة بصورة، نحو المستقبل، مستقبل عشناه وعرفناه، جيلاً بعد جيل.

        كفرون، جيل الثمانينيات والتسعينيات الباحث

        في حوار قديم له، يعرّج الكاتب والمؤرخ السوري سامي مبيّض على تاريخ التدريس في سوريا، وعلى الأخطاء التي أصابت المنهاج الدراسي السوري، ويقف بشكل خاص عند كتاب مادة التاريخ، ويذكر أنه عام 2017 أخرجَ أكثر من خمسين خطأ من كتاب التاريخ للبكالوريا السورية، مشيراً إلى أهمية تشكيل لجان لإعادة صياغة المناهج، وإعادة كتابة التاريخ المدرسي وتقديمه، وربما نحتاج اليوم لأمثال المبيض في لجنة إعداد المناهج الدراسية. المفارقة، أن المبيض نفسه، كان واحداً من الأطفال الذين شاركوا الممثل السوري دريد لحام في فيلمه كفرون، الذي صوره عام 1990 من تأليف رفيق الصبان وإخراج لحام.

        كفرون لم يكن فيلماً وثائقياً على شاكلة خطوة خطوة لكنه اشترك معه في تناول مسألة التعليم في المناطق النائية في سوريا. وعلى عكس الشكل الوثائقي ذهب لحام وأطفاله إلى حكاية روائية عن حارس (ناظر) المدرسة، رجل طيب وفاعل ومحب للعلم ويعامل المدرسة كبيته، ويتطلع إلى التطور والتعلم والانفتاح، متفائل بالجيل الجديد، ومحارب على حقه في تعليم لائق. من جهة أخرى، تلاحقه والدته ليأخذ بثأر أبيه ويقتل قاتله. عبر صراع الناظر بين التقاليد البالية والعلم والتربية، يقدم الفيلم عبرة وأمثولة عن ضرورة تجاوز الثارات والعادات القبلية والتوجه نحو مستقبل خال من الثأر والضغينة بين أبناء القرية الواحدة.

        البطل في العمل ليس دريد لحام، بل هم طلاب المدرسة الابتدائية في القرية النائية، وهم موضوعة الفيلم وسؤاله. الأطفال الذين رأوا بأعينهم محاولات الحارس لتأمين مقاعد مدرسية جديدة لهم، سوف يدافعون عنه حينما تتهمه القرية بمقتل أبو جابر، قاتل أبيه. يعمل الأطفال في حل لغز القاتل كفريق، وكمجموعة مستوحاة من مجموعات حل الألغاز المصرية. يؤكد الفيلم على الدعوة للعمل المشترك والجماعي، ويقدم الجيل الجديد كجيل يحمل منظومة أخلاقية منفتحة وعلمية، وليس منظومة أخلاقية رجعية قبلية. ورغم أن الفيلم لا يخلو من المزاج البعثي (دريد لحام وحده كافٍ) إلا أنه فعلاً كان فيلماً مؤسِّساً، تحديداً في النظر إلى الأطفال الذين شاركوا في الفيلم، إذ نراهم اليوم بعد خمس وثلاثين عاماً وهم فاعلين في الحقل الثقافي السورية ومنهم: علاء رشيدي (صحفي) يزن أتاسي (فنان) وفي مقدمتهم كما ذُكر سابقاً، الكاتب سامي مروان مبيّض.

        عن الآباء والأبناء، بروباغندا على حساب الطفل السوري

        ترشّحت بعض الأفلام السورية إلى الأوسكار في سنين النار الماضية، ونشطت السينما الوثائقية السورية في زمن الثورة، لكن أكثر الأفلام إشكالية كان فيلم عن الآباء والأبناء لطلال ديركي 2017. صاحبَ عرض الفيلم جدل واسع، لما احتواه من استخدام الأطفال لتخديم الصورة التي يريد تقديمها الفيلم. وهي التوحش وتوارثه من جيل إلى جيل. وعلى عكس فيلم خطوة خطوة الذي استشرف الواقع لخمسين عاماً  تالية على نحوٍ لمّاح، لم يبدُ أنّ فيلم الآباء والأبناء قد أفلح في استشراف الواقع حتى لخمس سنوات تلته.

        يقوم فيلم الآباء والأبناء على الالتباس بين من هو وراء الكاميرا ومن هو أمامها، فديركي ينسلُّ في بيت (أبي أسامة)، الجهادي المقاتل والمقيم في احدى قرى إدلب، ويقدم نفسه كصحفي داعم للجهاد ومتحمس لصنع فيلم عن الجهاديين وحياتهم. من هذه البوابة يدخل ديركي ليسجل فيلم حياة يومية لعائلة سورية، وتحديداً للطفل أسامة وأبيه. هذا الالتباس يدفع الأب للكلام دون حدود، ومبالغة أحياناً، عن الجهاد الإسلامي وحياة الجهاديين، بينما تفترس الكاميرا الابن وتقتحمه بيومياته لتخبرنا أنه سيكون على خطى أبيه (الإرهابي)، وأن سوريا ذهبت دون رجعة بين أجيال متوالية من المتطرفين والمحاربين، وأن الأبناء على خطى الآباء ولا أُفُق لهذا الأُفول المتطرف.

        أفكر الآن بأسامة، الطفل الظاهر في الفيلم، نموذج لـ(بُرعم الإرهاب) كما قدمه الفيلم، أين هو الآن؟ وما هو دوره في معركة إسقاط النظام التي خاضتها الجهة التي ينتمي لها الأب (وهي هيئة تحرير الشام)؟ وكيف للسينما أن تتجاوز دورها التوثيقي الاستشرافي (فيلم خطوة خطوة) أو دورها التخييلي (فيلم كفرون) وتصبح سلاحاً قانونياً ووثيقة إدانة، وربما أداة لقتل الطفل معنوياً، قتل مستقبل أسامة تحديداً، الذي إن نجا من المقتلة وكبُر، سيضطر أن يثبت للعالم، كل يوم، أنه لم يكن ذاك الإرهابي الذي صورته كاميرا فيلم عن الآباء والأبناء.

        حينما صور المخرج الراحل عمر أميرالاي فيلمه الأثير طوفان في بلاد البعث 2003، استخدم طريقة الالتباس ذاتها، أخبر القرية كلها أنه يصور فيلماً عن سد تشرين وإنجازات القائد الخالد وبعثه. النتيجة النهائية كانت فيلماً يضرب النظام تحت الحزام ويؤُسّس لسينما وثائقية ستنفجر في الثورة وترجع دوماً إلى أميرالاي كمرجع سينمائي سوري أصيل. إلا أن الفرق الشاسع بين نتاج أميرالي ونتاج ديركي، أن الأول لم يؤذِ مَن ظهر أمام الكاميرا كُرمى فكرته وفكرة فيلمه، ففي النهاية الخطابات الموجودة هي خطابات الدولة، لا بل هي التي تترنم على سماعها أفرع الأسد الأمنية والثقافية، وبذلك لم يكن هناك أي مسؤولية على مَن ظهر في فيلم أميرالاي أمام السلطة، سوى الجهل والبساطة، بينما في حالة ديركي، أصبح الأمر أشبه بوثيقة إدانة، إدانة شخص ربما ساهم في تحرير سوريا اليوم، سوريا نفسها التي سيعود إليها مخرجون سوريون، ربما يكون ديركي من بينهم، ويتغنون بحريّتها وانعتاقها من النظام البائد!

        كل الأفلام السابقة قاربت مسألة التعليم والتربية والجيل الجديد في سوريا، بحقب زمنية مختلفة، ومقولات سياسية متنوعة، وهناك أفلام أخرى تلزم الإحاطة بها إلى بحث أكاديمي موسع، إلا أن الجدير بالذكر أن السينما قد تكون واحدة من المصادر التي على الباحثين في تعديل المنهاج وآلية التدريس النظر لها والرجوع إليها في سبيل بناء جيل جديد ومناهج مدرسية تليق بسوريا الجديدة.

موقع الجمهورية

———————————

الاعلان الدستوري في سوريا… نجاحه رهن توافق القوى السياسية/ ماهر الحمدان

2025-03-05

في خطوة مفصلية نحو الانتقال السياسي في سوريا، وتأسيس دعائم قانونية لإعادة بناء الدولة على أسس جديدة، أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع، الأحد، مرسوماً يقضي بتشكيل لجنة من سبعة أعضاء لصياغة مسودة الإعلان الدستوري، بهدف تنظيم المرحلة الانتقالية عقب إطاحة حكم بشار الأسد. ولم يحدد المرسوم مهلة زمنية لإنجاز عمل اللجنة.

وجاء في البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية: “انطلاقاً من تطلعات الشعب السوري في بناء دولته على أسس القانون، وبناءً على مخرجات مؤتمر الحوار الوطني، قرر الرئيس تشكيل لجنة من الخبراء تتولى مهمة صياغة مسودة الإعلان الدستوري الذي ينظم المرحلة الانتقالية”.

الاعلان الدستوري: وثيقة قانونية مؤقتة

أوضحت اللجنة القانونية المكلفة صياغة الاعلان الدستوري أن الوثيقة لا تشكل بديلاً عن الدستور الدائم، لكنها تهدف إلى سد الفراغ القانوني الناتج عن إلغاء دستور 2012، الذي كان قد صاغه نظام الأسد. وأكدت أن الحاجة إلى الاعلان الدستوري تنبع من ضرورة توفير إطار قانوني ينظم المرحلة الانتقالية ويوجه مسار الدولة نحو الاستقرار وإعادة البناء. وقد شهدت دول مثل تونس عام 2011 ومصر عام 2013 تجارب مماثلة، بحيث لجأت إلى إعلانات دستورية مؤقتة لضمان استمرار عمل مؤسسات الدولة خلال الفترات الانتقالية، ما يؤكد أهمية هذا النهج في منع الفوضى القانونية وتجنب الفراغ الدستوري.

وصرّح أحد أعضاء اللجنة، مفضلاً عدم الكشف عن هويته، لموقع “لبنان الكبير” قائلاً: “اللجنة الدستورية ملتزمة بمحددات مؤتمر النصر، الذي جمع الفصائل العسكرية، وسنعمل وفقاً لما أعلن فيه، مع الأخذ في الاعتبار بعض توصيات مؤتمر الحوار الوطني. دور اللجنة سيكون تقنياً أكثر منه تشريعياً، بحيث سنصدر الهيكل الأولي خلال يومين، ثم ننشر الصيغة النهائية التي ستضم أكثر من 40 مادة تنظم المرحلة الانتقالية”.

وأشار عضو اللجنة إلى أن الاعلان الدستوري سيكون مؤقتاً، على أن يتم لاحقاً تشكيل لجنة دستورية نهائية متنوعة تتولى صياغة الدستور الدائم، والذي سيُعرض لاحقاً على استفتاء شعبي.

أعضاء اللجنة: كفاءات قانونية لإدارة المرحلة الانتقالية

تم اختيار أعضاء اللجنة بناءً على خبراتهم القانونية والدستورية، وهم:

د. عبد الحميد عكيل العواك: أكاديمي متخصص في القانون الدستوري، حاصل على دكتوراه من جامعة ماردين آرتقلو.

د. ياسر الحويش: عميد كلية الحقوق بجامعة دمشق، متخصص في القانون الدولي العام، وله أبحاث متعددة في القانون الدولي الاقتصادي.

د. محمد رضى جلخي: عضو مجلس أمناء “منظمة التنمية السورية”، وأمين “جامعة إدلب”، ورئيس لجنة تسيير أعمال “الجامعة الافتراضية السورية”. حاصل على دكتوراه في القانون الدولي من جامعة إدلب.

د. أحمد قربي: حاصل على دكتوراه في القانون العام من جامعة حلب، وخبير في ضمان الحقوق والحريات ومسار الحل السياسي في سوريا.

د. بهية مارديني: كاتبة وإعلامية، حائزة على دكتوراه في القانون الدولي من المملكة المتحدة، ومعروفة بمواقفها الداعمة لحقوق الانسان.

د. ريعان كحيلان: أستاذ قانون في الجامعة الافتراضية السورية وجامعة دمشق.

د. إسماعيل الخلفان: عميد كلية الحقوق بجامعة حلب.

وأوضح الدكتور ماهر التمران، خبير في القانون العام والدولي، لموقع “لبنان الكبير”، أن “الانتقال السياسي الناجح يجب أن يستند إلى إطار قانوني واضح ومشروع، فالإعلان الدستوري المزمع صياغته في سوريا يشكل حجر الزاوية في إعادة بناء الدولة، ويهدف إلى ملء الفراغ القانوني بعد سقوط النظام الأسدي المجرم، بما يضمن استقرار المؤسسات وضمان الحقوق والحريات”.

وأضاف: “تشكيل لجنة الاعلان الدستوري بمرسوم رئاسي يعكس الحاجة الملحة إلى وضع أسس قانونية للمرحلة الانتقالية، بحيث لا يمكن لأي سلطة جديدة أن تعمل خارج إطار شرعي معترف به داخلياً ودولياً”.

وأكد التمران أن “الإعلان الدستوري كما يعرفه فقهاء القانون الدستوري هو وثيقة مؤقتة تنظم العمل السياسي والاداري للدولة ريثما يوضع دستور دائم عبر عملية تشاركية تشمل مختلف مكونات المجتمع”.

صلاحيات اللجنة ومسؤولياتها القانونية

أما من حيث صلاحيات اللجنة ومسؤولياتها القانونية، فتتمثل في عدة جوانب أساسية لضمان تنظيم المرحلة الانتقالية بطريقة متماسكة ومستقرة:

أولاً، إعداد نص دستوري مؤقت يحدد شكل نظام الحكم الانتقالي وصلاحياته، ما يساعد في تجنب أي فراغ قانوني قد يعرقل استمرارية المؤسسات.

ثانياً، وضع مبادئ أساسية للحكم تضمن الفصل بين السلطات وتحدد قواعد الادارة العامة، على غرار ما تم تطبيقه في تجارب انتقالية سابقة مثل تونس وليبيا.

ثالثاً، حماية الحقوق والحريات وفقاً للمعايير الدولية لحقوق الإنسان، ما يعزز ثقة المواطنين بالعملية الانتقالية ويضمن احترام حقوق الأفراد.

رابعاً، تحديد آليات التشريع والتعديل خلال المرحلة الانتقالية، بحيث يكون هناك وضوح في كيفية سن القوانين الجديدة أو تعديل القائمة منها.

خامساً، رسم خريطة الطريق نحو الدستور الدائم عبر انتخابات تأسيسية أو استفتاء شعبي، وهو ما يضمن مشاركة جميع الأطراف في صياغة المستقبل السياسي للدولة.

وأشار التمران إلى أن انهيار النظام السابق ترك فراغاً دستورياً وقانونياً يستوجب إعادة تأسيس الشرعية السياسية وفق قواعد واضحة، بحيث تمر سوريا حالياً بحالة “استثناء دستوري”، ما يتطلب وضع إطار جديد ينظم السلطات، ويضمن استمرارية عمل المؤسسات من دون تعطيل.

كما أشار إلى التحديات القانونية التي تواجه الدولة، ومنها:

– إعادة الشرعية للسلطة التنفيذية: هل تستمد الحكومة الانتقالية شرعيتها من الثورة أم من عملية تفاوضية؟

– استمرارية القوانين السابقة: هل تبقى التشريعات القائمة سارية المفعول أم يتم إلغاؤها تدريجياً؟

– ضمان سيادة القانون: كيف يمكن تفادي حالة الفوضى القانونية في ظل غياب دستور دائم؟

– حماية الحقوق الأساسية: كيف يمكن ضمان احترام حقوق الإنسان ومنع التجاوزات في ظل المرحلة الانتقالية؟

وأكد التمران أن القانون الدولي يعترف بـ”الاعلانات الدستورية” كأدوات مشروعة لإدارة الفترات الانتقالية، شريطة أن تستند إلى توافق وطني، وأن تضمن انتخابات حرة، وأن تكون محددة بزمن واضح حتى لا تتحول إلى دساتير دائمة. وأشار إلى تجارب تونس (2011)، ومصر (2013)، وليبيا (2011) في هذا السياق.

ورأى التمران أن “الاعلان الدستوري في سوريا يجب أن يكون وثيقة توافقية، وليس مجرد إعلان يصدر من طرف واحد، لضمان مشروعيته وقبوله من جميع الأطراف”، مؤكداً ضرورة وضع جدول زمني واضح للانتقال نحو دستور دائم والافادة من الخبرات القانونية الأممية لضمان توافق الاعلان مع المعايير الدولية. وخلص إلى أن “الاعلان الدستوري ليس مجرد وثيقة قانونية، بل هو عقد اجتماعي يرسم مستقبل البلاد، ونجاحه يعتمد على مدى توافق القوى السياسية عليه، ومدى احترامه لحقوق الشعب السوري في تقرير مصيره بحرية”.

————————————

السوريون المولودون في ألمانيا.. هوية مهاجرة تحت التهديد/ شاهر جوهر

5 مارس 2025

تركت ديانة عقاد منزلها في حلب عام 2012 وهي في التاسعة من عمرها. اليوم، كطالبة طب في برلين تبلغ من العمر 22 عامًا، تصف هويتها بأنها “سورية بالقيم”، موضحة: “أعتبر نفسي سورية، لكنني أيضًا أتبنى القيم الألمانية في العديد من الجوانب” وهي تقدر الفرص التي أتاحتها لها ألمانيا، حيث تتحدث العربية مع عائلتها، بينما تستخدم الألمانية في مواقف معينة لضمان تواصل أكثر فعالية. ومع ذلك، لا تزال تحمل في قلبها ذكريات وطنها الأم وتاريخها العائلي.

تعكس تجربة ديانة التوازن الذي يسعى إليه العديد من الشباب السوريين في المهجر، حيث يجمعون بين تقديرهم لثقافتهم الأصلية وتبنيهم لثقافة البلد المضيف، مما يساهم في إثراء هويتهم الشخصية.

لكن عندما تسأل ناصر المهايني (41 عامًا)، وهو أب سوري لطفلين مولودين في مدينة إيسن، عن هوية أطفاله، يجيب بحيرة: “هم ألمان في المدرسة وسوريون في البيت. لا أعرف إن كانوا ينتمون تمامًا إلى هوية واحدة أم الى الهويتين معًا”.

على هذا إذا كنت تريد أن تفهم الآن كيف يتغير مفهوم الوطن في عصر الهجرة، فما عليك سوى النظر إلى الجيل السوري الجديد في ألمانيا اليوم. هؤلاء الشباب، لا سيما منهم الجيل الذي وصل إلى ألمانيا إما منذ طفولته أو في مرحلة مبكرة من شبابه، الذين نشأوا بين ثقافتين متناقضتين، لا يواجهون فقط تحديات الاندماج، بل يعيدون تعريف فكرة الهوية نفسها.

ازدواجية الهوية: ضعف أم قوة؟

عندما وصل السوريون إلى ألمانيا، لم يجلبوا معهم فقط لغتهم وتقاليدهم، بل جاؤوا محملين بإرث ثقافي عميق، تصطدم بعض أجزائه مع قيم المجتمع الجديد، في حين تتناغم أجزاء أخرى معه.

ففي الوقت الذي يسعى بعضهم إلى التكيف التام مع المجتمع الألماني، تجد آخرون يتمسكون بجذورهم الثقافية والدينية. على هذا فهذه الهوية المزدوجة قد تكون مصدر قوة، لكنها في ذات الوقت تخلق حالة من القلق المستمر، خاصة إذا واجه الشاب رفضًا من أي من المجتمعين.

وفقًا لعالم النفس إريك إريكسون، فإن مرحلة الشباب تُعتبر ذروة البحث عن الهوية، وهو ما يعيشه السوريون في ألمانيا اليوم بطرق متباينة. فمن جهة، هناك ثقافة جماعية تقدر العائلة والتقاليد، ومن جهة أخرى، هناك بيئة تحفز الاستقلالية والاختيار الفردي.

في هذا السياق، يقول عباس اليوسف، وهو باحث وطالب علم اجتماع في جامعة هايدلبرغ Heidelberg University إن “هذه الثنائية لا تعني بالضرورة أزمة هوية، بل يمكن أن تؤدي إلى هوية مرنة ومتعددة الأبعاد. الشباب السوريون قادرون على الاستفادة من كلا الجانبين، مما يمنحهم قدرة أكبر على التكيف في عالم متغير”.

الروابط العائلية على حساب الاستقلالية الفردية

وفقًا لعالم الاجتماع الهولندي جيرت هوفستد، فإن الثقافة هي: “برمجة جماعية للعقل تميز أفراد مجموعة من الناس عن مجموعة أخرى”. على هذا يرى أن المجتمعات الشرقية (بما في ذلك سوريا) تميل إلى الجماعية أكثر، حيث تُمنح الأولوية للروابط العائلية والاجتماعية على حساب الاستقلالية الفردية. في المقابل تقوم الثقافة الألمانية على مبدأ الفردانية، حيث يتم تقييم الشخص واختيار قراراته بناء على قناعاته وانجازاته الشخصية وليس على خلفيته العائلية أو الجماعية.

بالنسبة لشاب سوري نشأ في بيئة تتسم بالعلاقات العائلية الوثيقة، قد يكون التكيف مع القيم الألمانية أكبر تحد يواجهه. فخذ مثلًا، في العائلات السورية المحافظة، خصوصًا تلك القابعة على أطراف المدن، تُعتبر القرارات المصيرية، مثل الزواج أو اختيار التخصص الجامعي، قرارات عائلية تحتاج موافقة الأهل. أما في ألمانيا، فهذه القرارات تعتبر فردية تمامًا، ما يخلق صراعًا داخليًا لدى الشباب الذين يحاولون إرضاء توقعات عائلاتهم مع الاستقلالية التي يفرضها المجتمع الجديد وبالتالي يخلق أزمة هوية وانتماء واضحة.

من الأمثلة الواقعية، نجد شريحة كبيرة من الشباب السوري الذين يتجهون نحو الاستقلالية الكاملة، حتى لو أدى ذلك إلى قطيعة مع عائلاتهم، مثلًا علي مستو (18 عامًا)، أنهى امتحان الثانوية العامة وبانتظار مفاضلة القبول الجامعي، ويجد أنه ضاق صدره بتدخل عائلته المستمر في الحديث عن مستقبله، “أنا من يحدد ما أريده وليس هم (يقصد والديه)”. وبينما يحاول مستو الانفصال التام عن هويته، يحاول آخرون الحفاظ على روابطهم الاجتماعية القوية والتكيف تدريجيًا. كما هناك أيضًا طرف ثالث ممن يعيش في حالة “ازدواجية ثقافية”، حيث يظهر أمام المجتمع الألماني كشخص مستقل بشكل مكتمل، لكنه داخل محيطه الأسري يلتزم بالقيم الجماعية التقليدية.

التعليم واللغة في بناء الهوية السورية

في مقال “الجسد والطبقة ورأس المال الثقافي: قراءة في سوسيولوجيا بيير بورديو” يقدم حسني عبد الغني قراءة معمقة يفسر خلالها هذا الصراع من خلال مفهوم “الرأسمال الثقافي” لبيير بورديو.

هذه النظرية تتيح لنا فهم كيفية تأثير التعليم واللغة في بناء الهوية. فهذا الجيل السوري الجديد يتعرض لتحد مهم يتعلق بانتقاله من بيئة ثقافية سورية إلى بيئة ألمانية، حيث يُطلب منهم اكتساب مهارات ثقافية جديدة، مثل إتقان اللغة الألمانية، والتفاعل مع النظام التعليمي الغربي، والتكيف مع ديناميكيات سوق العمل المختلفة.

هنا ينبغي أن ننتبه لأمر، السوريون في ألمانيا ليسوا كتلة واحدة. تجربة طفل سوري نشأ في برلين لعائلة أكاديمية ليست كتجربة آخر نشأ في ضواحي هامبورغ لعائلة وصلت من قرية صغيرة. البعض يندمج بسرعة، يتعلم الألمانية، ويدخل الجامعات، بينما يعاني آخرون من الحواجز اللغوية والثقافية. هنا تبرز أهمية التعليم كجسر أساسي للاندماج. فبدون لغة، لا يوجد اندماج حقيقي، وبدون اندماج، يصبح الوطن الجديد مجرد محطة انتظار طويلة، كمن يعيش بين عالمين، فهم ليسوا ألمانًا بالكامل، لكنهم أيضًا لم يعودوا سوريين كما كانوا قبل الهجرة. هذا الإحساس يتفاقم أكثر ويتنوع أكثر بين سوري وآخر.

التاريخ مليء بأمثلة مشابهة

تجربة الجيل السوري في ألمانيا ليست حادثة منعزلة، بل تعد امتدادًا لنمط تاريخي واسع حيث واجهت مجموعات مهاجرة عدة تحديات مشابهة في مسعاها للموازنة بين الحفاظ على الهوية الأصلية والتأقلم مع بيئة جديدة. وإذا كنت تعتقد أن هذه المعضلة جديدة، فأنت مخطئ. التاريخ مليء بأمثلة مشابهة.

قبل عقود، خاضت الجالية التركية في ألمانيا معركة مشابهة. حينما وصل العمال الأتراك إلى ألمانيا في خمسينات القرن الماضي، خلقوا صورة متوازية من المعاناة والاندماج البطيء. ففي البداية، كان الأتراك مجرد قوة عاملة ولكن مع مرور الزمن تطورت هويتهم لتكون خليطًا بين ثقافتهم الأصلية في تركيا وبين القيم والممارسات الألمانية. هذه العملية لم تكن سهلة، ولكنها أظهرت قدرة على التكيف دون الانسلاخ الكلي عن التقاليد التركية.

 نرى هذا النمط يتكرر بوجه آخر في جنوب شرق آسيا، حيث خاض المهاجرون الصينيون تجربة مشابهة، بين سنغافورة وماليزيا، تكيفوا مع الواقع الجديد دون أن يذوبوا بالكامل، وجدوا أنفسهم في مواجهة مفارقة اجتماعية ثقافية حيث كانت الهوية الصينية مهددة بالذوبان، فعمد الصينيون إلى إنشاء مجتمعات خاصة بهم، مع الحفاظ على عاداتهم الثقافية واللغوية، بينما كانوا في ذات الوقت يتعاملون مع متطلبات الانخراط في المجتمعات المضيفة التي تتسم بالحداثة والتطور.

توازي هذه التجربة في نوع من الصراع الثقافي والنفسي، تجربة الشتات الأرمني، الذين أصبحوا مجبرين على التأقلم مع هويات جديدة، شديدة الاختلاف عن جذورهم الأصلية. الأرمن الذين هجروا قسريًا سواء إلى أوروبا أو إلى الولايات المتحدة، حملوا لغتهم وكنائسهم، وبنوا جالياتهم، لكنهم ظلوا عالقين في ازدواجية صعبة: كيف يكونوا جزءًا من وطن جديد، بينما يحاول واحدهم ألا يفقد وطنه القديم؟ في فرنسا ولبنان، نجحوا في تشكيل هويات مختلطة، لكن صراع البقاء الثقافي لم يكن سهلًا.

لكن على النقيض، تأخذنا تجربة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان والأردن وسوريا إلى أرضية أكثر قسوة، حيث الجغرافيا والنزاع السياسي صبغا معاناتهم بطابع آخر. لم تكن هجرتهم بحثًا عن فرص، بل هروبًا من نكبة فرضت عليهم شتاتًا أبديًا. لم يسمح لهم بالاندماج الكامل، ولم يمنحوا فرصة البدء من جديد، بل ظلوا عالقين بين مخيمات اللجوء وحنين إلى وطن مفقود. جيل بعد جيل، بقيت هويتهم صامدة، لكن بثمن باهظ.

 مقارنة التجربة السورية الآن بهذه النماذج تكشف اختلافًا جوهريًا، ان توقيت الهجرة والسياق الذي حدثت فيه لهما أثر كبير. فبينما جاءت هذه الهجرات ضمن موجات اقتصادية أو أزمات طويلة الأمد، فإن وصول السوريين كان نتيجة صراع مسلح واضطرابات سياسية مفاجئة، ما جعل اندماجهم يمر بمرحلة مختلفة، بين من يرى في ألمانيا محطة مؤقتة، ومن بدأ بالفعل في إعادة تشكيل هويته.

ويظل سؤال الهوية مفتوحًا

كثير من السوريين في ألمانيا يعيشون حالة “الوطن” بين قوسين. الآباء يشعرون بالقلق، يخشون أن تذوب هوية أبنائهم في مجتمع جديد. فهم يتابعون الأخبار في سوريا، يحتفظون بعاداتهم، هذا صحيح، لكنهم أيضًا يتبنون أنماط حياة جديدة. إنهم يخلقون نموذجًا جديدًا للهجرة، لا هو انصهار تام، ولا هو انعزال كامل، بل هوية هجينة تتشكل باستمرار.

قد لا يكون الجيل السوري الجديد في ألمانيا قادرًا على الإجابة اليوم عن سؤال “أين هو وطني الحقيقي؟”، لكن الأكيد أنهم يعيدون تعريف المفهوم ذاته. وربما، في المستقبل، يصبح الوطن أقل ارتباطًا بالمكان، وأكثر ارتباطًا بالتجربة التي يعيشها الفرد في أي بقعة من العالم.

الترا سوريا

——————————-

=========================

عن نداء الله “الكردي” “عبدلله أوجلان” بإلقاء السلاح -مقالات وتحليلات

تحديث 05 أذار 2025

—————————–

نهاية الحلم الثوري: إلى الديمقراطية در/ رفيق خوري

أوجلان وصل إلى التسليم بأنه لا حل إلا من خلالها بعد أن خسر كثيراً من الرفاق في السجون والعمليات العسكرية

الأربعاء 5 مارس 2025

خلافاً لما نشأ عليه “حزب العمال الكردستاني”، فإن أوجلان أعلن في رسالته “رفض الحلول القائمة على النزعة القومية المتطرفة، مثل إنشاء دولة قومية منفصلة أو الفيدرالية أو الحكم الذاتي أو الحلول الثقافوية، فهي لا تلبي الحقوق الاجتماعية التاريخية للمجتمع”.

“لا صديق للكرد سوى الجبال” بحسب المثل الكردي، و”ليست محظوظة البلدان التي تحتاج إلى أبطال” يقول المسرحي الألماني الكبير برتولد بريشت، لكن الذين يرتدون ثياب الأبطال في تلك البلدان محظوظون، أما زعيم “حزب العمال الكردستاني” عبد الله أوجلان فإنه ليس بينهم، إذ أدار حرب عصابات ضد تركيا من قواعد في سهل البقاع اللبناني بحماية نظام الأسد الذي تخلى عنه تحت الضغط التركي، فوجد نفسه سجيناً داخل جزيرة إيمرالي في بحر مرمرة منذ عام 1999.

وأما الرئيس رجب طيب أردوغان فإن حظه يفلق الصخر كما يقال، فكلما أوقع نفسه في مأزق جاء من يخرجه منه، وأخيراً “نقشت معه” من حيث يدري ولا يدري، فنظام الأسد سقط بين يديه عبر “هيئة تحرير الشام”، وقواعده العسكرية في العراق وليبيا وقطر وسوريا ترسخت، وكابوس الرئيس جو بايدن بالنسبة إليه تحول إلى حلم بمجيء الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، إذ من المتوقع أن يسحب المظلة الأميركية من فوق “قوات سوريا الديمقراطية” ذات الغالبية الكردية في سوريا، مما يسمح لأنقرة بضربها، ثم جاءته الجائزة الكبرى، عبدالله أوجلان يبعث برسالة من سجنه يدعو فيها حزبه القوي إلى “حل نفسه والتخلي عن السلاح والاندماج في الدولة والمجتمع”.

وليس أمراً قليل الدلالات أن يعلن آخر قائد ماركسي مقاتل في المنطقة نهاية الحلم الثوري بعد 47 عاماً من قتال الدولة التركية لأجل حقوق الكرد، فما اصطدم به الكرد منذ سقوط السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى هو جدار سميك من القوى الكبرى والدول الناشئة حديثاً، وليس للقضية الكردية حل قومي يشمل الكرد في تركيا وسوريا والعراق وإيران، وما تعثر هو البحث عن تسويات أو مجرد ترتيبات لوضع الكرد داخل كل دولة، فلا شيء لهم في إيران، ولا مستقبل للإدارة الذاتية في سوريا، ولا شيء يتجاوز الفيدرالية في العراق، فحين جرى تنظيم استفتاء على الاستقلال في كردستان سمحت أميركا للحكومة العراقية بقتل المشروع والسيطرة على أجزاء من كردستان، ولا تطبيق حتى للاتفاقات حول الهوية والثقافة والتعليم باللغة الكردية في تركيا التي تضم 12 مليون كردي، وما حاوله حزب العمال الكردستاني لتدمير الجدار أو فتح ثغرة فيه من خلال الكفاح المسلح عبر القواعد في جبل قنديل في العراق، انتهى إلى تمارين في العبث.

ذلك أن أوجلان وصل إلى التسليم بأنه لا حل إلا من خلال الديمقراطية، فهو شرح في رسالته ظروف نشوء حزب العمال الكردستاني “خلال القرن الـ 20، أكثر العصور عنفا ًفي التاريخ: حرمان، حرب باردة، إنكار الواقع الكردي، وقيود مفروضة على الحريات وأهمها حرية التعبير”، وهو سجّل “انهيار الاشتراكية الواقعية خلال التسعينيات لأسباب داخلية، وتراجع سياسة إنكار الهوية الكردية في البلاد، والثورات التي شهدتها البلاد في حرية التعبير”، وبالتالي “أصبح الحزب يعاني التكرار، وصار حله ضرورة بعدما انتهى عمره، وهو كان الأطول والأشمل والأقوى بين حركات التمرد والعنف في تاريخ الجمهورية، إذ حصل على الدعم نتيجة إغلاق قنوات السياسة الديمقراطية”.

وخلافاً لما نشأ عليه الحزب فإن أوجلان أعلن في رسالته “رفض الحلول القائمة على النزعة القومية المتطرفة، مثل إنشاء دولة قومية منفصلة أو الفيدرالية أو الحكم الذاتي أو الحلول الثقافوية، فهي لا تلبي الحقوق الاجتماعية التاريخية للمجتمع”، وأقصى ما طالب به هو “احترام الهوية وحرية التعبير وبناء الهياكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لكل فئة وفقاً لأسسها الخاصة، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا بوجود مجتمع ديمقراطي ومساحة سياسية ديمقراطية”، وبكلام آخر فإن الثائر الماركسي الأخير يعترف بأن “الصراعات المسلحة ليست أساساً للحل”، صح النوم بعد 47 عاماً من القتال!

ولا يبدل في الأمر قول الأمين العام للحزب الشيوعي التركي كمال أوقويان إن “أوجلان تحرك من نزعة قومية كردية ولا علاقة له بالماركسية، ولا كان حزبه يوماً حزباً اشتراكياً”، فالتجربة تقدم درساً لكل الحركات الثورية المسلحة، سواء في إطار التغيير الاجتماعي أو التحرير الوطني، من حركات العنف الثوري في أميركا اللاتينية إلى حركات العنف التحريري في الشرق الأوسط، فالتحدي كبير، لا فقط أمام أردوغان الذي عليه أن يقدم شيئاً في مقابل استسلام القائد القوي من دون شروط، بل أيضاً أمام إيران وإسرائيل وكل دولة تمارس القوة المسلحة لتوسيع نفوذها أو لإنكار حقوق سواها، فلا أذرع إيران المسلحة تضمن بناء إمبراطورية فارسية تحت عنوان إسلامي، ولا قوة إسرائيل تلغي حق الشعب الفلسطيني في دولته، ولا سلاح “حماس” و”حزب الله” يحرر فلسطين.

عبدالله أوجلان “آبو” خسر كثيراً من الرفاق في السجون والعمليات العسكرية وأوقع كثيراً من الأذى داخل تركيا كي يصل إلى ما رآه أنطونيو غرامشي قبل أعوام طويلة في “دفاتر السجن” ليكتب ضد “الحتمية التاريخية”، وقبل غرامشي قال ماركس “الأفراد يصنعون التاريخ، لكن ليس بالضرورة بالطريقة التي يختارونها”.

——————————–

شجاعة أوجلان.. وفوضى السلاح/ خيرالله خيرالله

الأربعاء 2025/03/05

العراق يعيش منذ صار “الحشد الشعبي” جزءا من الدولة مأساة تلو الأخرى خصوصا بعدما حولته حكومة محمد شياع السوداني نتيجة ممارساتها إلى “ساحة” إيرانية لا أكثر.

احتاج إلى ربع قرن ليقتنع بأن العالم تغير

يحقّ للرئيس رجب طيب أردوغان اعتبار إعلان عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني (PKK) التخلي عن السلاح وحلّ الحزب نفسه، “فرصة تاريخيّة”. سيستفيد أكراد تركيا من هذه الفرصة في حال صدقت النيات وعملوا في ظلّ القوانين السارية التي تؤمّن لهم بعض حقوقهم كمواطنين أتراك.

أقدم أوجلان على هذه الخطوة  بعد أربعين عاما من الرهان على الكفاح المسلّح في وجه تركيا. يمثّل ذلك ذروة التصالح بين الحزب الكردي مع الواقع. هذا ما زال ينقص تنظيمات أخرى، مثل “حزب الله” في لبنان و”حماس” في غزّة والضفّة والميليشيات المذهبية المنضوية تحت لافتة “الحشد الشعبي” في العراق. لا تزال هذه التنظيمات في حال إنكار للواقع، على الرغم من أنّ فوضى السلاح لم تجلب غير الخراب والدمار والمآسي. متى تدرك هذه الميليشيات أنّ أقصى ما يمكن أن تحققه هو الوصول إلى كارثة، ما تعرضت له غزّة كارثة. كذلك لبنان الذي عاد قسم من أرضه تحت الاحتلال الإسرائيلي مجددا.

أمّا العراق، فهو يعيش، منذ صار “الحشد الشعبي” جزءا من الدولة، مأساة تلو الأخرى، خصوصا بعدما حولته حكومة محمد شياع السوداني، نتيجة ممارساتها، إلى “ساحة” إيرانيّة لا أكثر.

نعم، يبدو الحزب الكردي الذي يعتبر على الصعيد العالمي حزبا إرهابيا، أمام “فرصة تاريخيّة” ولدت من القرار الشجاع الذي اتخذه أوجلان من السجن التركي المقيم فيه منذ العام 1999، بعدما سلمه النظام السوري السابق إلى تركيا بطريقة غير مباشرة. تبين وقتذاك أن اللغة الوحيدة التي كان يفهمها النظام العلوي في سوريا هي لغة القوة.

يتجاوز الأمر تركيا والدور الذي لعبه أوجلان في السعي لممارسة الضغط عن طريق السلاح بدل الاستفادة من التجربة التي يمر بها هذا البلد منذ وصل تورغوت أوزال إلى موقع الرئاسة في العام 1989. سعى أوزال في مطلع تسعينات القرن الماضي إلى إيجاد صيغة تعايش بين كلّ مقومات المجتمع التركي، بما في ذلك الأكراد الذين يشكلون نسبة عشرين في المئة من السكان. توفّي أوزال قبل أن يتمكن من تحقيق إصلاحاته باكرا، لكنه وضع الأسس لتركيا الحديثة التي تبدو دولة شبه ديمقراطية في الوقت الحاضر.

راهن أوجلان طويلا على الكفاح المسلّح رافعا شعار الحقوق الكردية. اعتقد أنّ اللعب على الحرب الباردة وعلى سياسة الابتزاز التي أتقنها النظام السوري منذ احتكار حافظ الأسد للسلطة في 1970 ضمانة له. اضطر الأسد الأب إلى التخلي عنه في العام 1999 في ضوء الضغوط التي مارستها تركيا. وقتذاك، أكّدت السلطات التركية لحافظ الأسد، الذي كان ابنه بشّار يعد نفسه لخلافته، أن ممارساته مرفوضة.

بات أوجلان بعقله المتخلف، الذي أخذه إلى دمشق وإلى البقاع اللبناني، في مرحلة معيّنة، يقبع في سجن تركي منذ ربع قرن. احتاج إلى كلّ هذه السنوات كي يقتنع بأن العالم تغيّر منذ إعلانه انطلاق الكفاح المسلّح في وجه تركيا في العام 1984 غير مكترث بإمكان تحقيق مكاسب للأكراد عن طريق ممارسة اللعبة الديمقراطيّة التي تمارس في تركيا، وإن ضمن حدود معيّنة. لم يلتقط الزعيم الكردي في حينه معنى انهيار الاتحاد السوفياتي، وهو انهيار بدأت ملامحه تتوضح منذ سقوط جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر 1989.

يظلّ أهمّ ما ورد في الرسالة القصيرة التي وجهها أوجلان الملقب بـ”آبو” إلى قيادة حزبه اعترافه بأن العالم تغيّر وأن فكرة حمل السلاح وممارسة الكفاح المسلّح ولّت إلى غير رجعة. تطرق حتّى إلى العقيدة الماركسية التي اعتنقها في مرحلة ما بغية تبرير “الكفاح المسلّح”. لم يكن مثل هذا التصرّف غير مبرّر لتحوّل الـPKK إلى أداة في لعبة التجاذب بين تركيا والنظام السوري الذي كان يلقى تشجيعا من الاتحاد السوفياتي. ما لبث النظام السوري أن استسلم أمام تركيا وقرر التخلي، حتّى، عن أي مطالبة بلواء الإسكندرون الذي كان يسميه “اللواء السليب”…

كان مفترضا بالزعيم الكردي، الذي تركت ممارساته آثارا سلبية على الأكراد في تركيا وسوريا والعراق، إدراك أنّه يسير في الطريق الخطأ منذ خضوع حافظ الأسد للتهديد التركي. أنكر الأسد الأب طويلا وجود “آبو” في سوريا أو في لبنان الذي كان وقتذاك تحت سلطته.

كان الرد التركي عن طريق معلومات دقيقة عن تحركات أوجلان. شملت تلك المعلومات عنوان الشقة التي كان يقيم فيها في دمشق ورقم الهاتف الذي في الشقة وأسماء الذين اتصل بهم عبر الهاتف أو أولئك الذين اتصلوا به. بقي حافظ الأسد ينكر وجود الزعيم الكردي التركي لديه وتحت حمايته إلى أن تلقى رسالة تهديد بأن الجيش التركي سيدخل من حلب ويخرج من الجولان!

كان ذلك التهديد كافيا كي يستوعب الرئيس السوري الراحل أن لا خيار أمامه غير تسليم “آبو” في حال كان يريد إنقاذ نظامه وتسليمه إلى ابنه. هذا ما حصل في العام 2000، لدى وفاة الأسد الأب في مرحلة عمل خلالها خليفته على إيجاد صيغة تقارب مع تركيا.

احتاج “آبو” إلى ربع قرن كي يتخلى عن أوهامه ويقول وداعا للسلاح. هل يعود ذلك إلى أنّه لزمه كل هذا الوقت لينضج فكريا ويقتنع بأن السلاح في أساس كلّ المصائب… وأن الاعتماد على السلاح يقضي على أي أفق سياسي في ما يخص القضية الكردية التي هي قضيّة محقّة؟

يظلّ سؤال أخير. إنه سؤال يفرض نفسه في عالم قال وداعا للسلاح، سلاح الميليشيات المذهبية والطائفية والتعصب القومي، هل يتعلّم “حزب الله” في لبنان شيئا من تجربة حزب العمال الكردستاني، كذلك “حماس” في الضفة وغزّة وميليشيات “الحشد الشعبي” في العراق؟

ربّما سأل أوجلان نفسه، قبل اتخاذ قراره: إلى أين أخذت فوضى السلاح لبنان وغزّة… وإلى أين ستأخذ العراق؟

إعلامي لبناني

العرب

—————————-

القلق على سوريا/ طارق الحميد

تحديث 05 أذار 2025

هناك قلق على سوريا، من ناحية أمنها واستقرارها ووحدتها، ولأسباب عدة، وهو قلق مبرر، ورغم قناعتي الراسخة بأن سوريا اليوم أفضل بعد فرار المجرم بشار الأسد، لكن الطريق مليء بالذئاب، والأخطاء، وبعض الأخطاء أخطر من العدو، وتخدمه.

هناك قلق من التدخلات الإسرائيلية الشريرة، ودون أي مبررات تذكر، بل إنها محولات شريرة من إسرائيل ونتنياهو، من أجل تعقيد المشهد السوري، وإشعاله من أجل إغراق سوريا بالفوضى.

وهناك قلق من فلول النظام التي تُدعم الآن من بعض الدول الإقليمية، وليس بالضرورة تلك الدول نفسها، بل مكونات في داخلها، ففي لبنان هناك «حزب الله»، وفي العراق هناك الجماعات المحسوبة على طهران.

وبالنسبة لإيران فهي لا تخفي ألمها من سقوط الأسد الذي كان بمثابة شريان مشروع تصدير الثورة في المنطقة، وخط إمداد تمويل النفوذ الإيراني من لبنان إلى غزة، وصولاً إلى البحر المتوسط. وسبق لقائد قوات «الحرس الثوري» حسين سلامي قول ذلك علناً.

حيث قال إن سوريا تمثل «درساً مريراً لإيران»، مشيراً إلى تصريحات المرشد الأعلى بالقول: «سوريا ستحرر على يد شبابها الأبطال»، وأن ذلك «يتطلب وقتاً وصموداً عظيماً وعزماً راسخاً وإيماناً جميلاً». والتخطيط والمؤامرات على سوريا قائمة ومستمرة.

وقد يقول قائل إن القلق مبرر، ومنذ سقوط الأسد، وصعود «هيئة تحرير الشام»، وقناعتي أن قلة قليلة صادقة بهذا التقييم، بينما قلق كثر كان وما زال ذا دوافع مختلفة، خصوصاً من كانوا ينافقون «حزب الله» ويبررون له، أو من يدافعون عن «حماس» للآن.

وعليه، القلق على سوريا يتلخص في عدة نقاط، الأولى هي التردد في اتخاذ القرارات الداخلية الجادة السريعة لتسيير عجلة الحياة، وأهمها تشكيل حكومة كفاءات حقيقية، والاستعانة بكل الخبرات.

والثانية هي عدم الحرص على الشفافية من حيث إطلاع السوريين، والمحيط العربي، إعلامياً، أولاً بأول، على حقائق الأمور، وعبر إيجاز صحافي يومي، خصوصاً وأن الأحداث متسارعة، وكذلك إطلاع السوريين على حقائق أمورهم المعيشية والصعوبات.

الثالثة هي انكفاء سوريا الجديدة الآن، وبعد زخم الشهرين الأولين عربياً ودولياً، حيث لا بد من زيارات عربية وإقليمية ودولية للتحذير من الخطر الإسرائيلي والإيراني. وهنا مثال بسيط على ضرورة التعاطي مع الأحداث المهمة، حيث كان يفترض، وفور إعلان وليد جنبلاط رغبته زيارة سوريا بعد التصريحات الإسرائيلية عن الدروز، أن تسارع دمشق فوراً بقبول المبادرة، وترحب بالزيارة، وبأي لحظة، لأن من شأن ذلك تسليط الضوء على خطورة التدخل الإسرائيلي، وترسيخ الوحدة السورية.

الرابعة، كان يفترض بدمشق أن تذكر المجتمع الدولي عبر بيان بخطاب الشرع لترمب، وتصريحاته السابقة عن أن سوريا الجديدة منهكة من حروب لا طائل لها، وتذكر المجتمع الدولي بخطورة ما تفعله إسرائيل، وإيران وأتباعها.

وكذلك خطورة عدم تعليق، أو رفع، العقوبات على الداخل السوري، مع الإسراع بخطوات إصلاحية تحرج الجميع، وتثبت أن النظام الجديد جاد بجعل سوريا عضواً فاعلاً عربياً ودولياً، وعكس ما فعله الأسد، ومن هم على شاكلته من أعوان إيران.

هذه نصيحة محب، وحريص.

الشرق الأوسط

—————————–

أوجلان والعتبة الحرجة: مسار جديد لحل الصراع الكردي – التركي (1)/ فرهاد حمي

05-03-2025

تتطرق هذه المقالة إلى تقييم شامل لنداء “السلام والمجتمع الديمقراطي” الذي أطلقه أوجلان، من خلال جزئين: الأول يعرض السياق السياسي المحيط بهذه الدعوة. أما الثاني، فيتناول مضمون الدعوة بشكل تفصيلي، من خلال تحليل مبادئها وأهدافها والتأثيرات المحتملة لها.

على مدار عقود، توالت محاولات إنهاء الصراع الكردي – التركي، لكنها غالباً ما اصطدمت بحسابات القوى التي تزدهر في ظلال الحرب والإقصاء. وفي هذا السياق، نقل سري ثريا أوندر، عضو “وفد إيمرالي” والمقرب من أوجلان، تصريحاً منسوباً للأخير جاء فيه: “لا ينبغي أن نفشل هذه المرة“، في إشارة إلى ضرورة تجاوز إخفاقات مبادرات السلام المتعثّرة منذ عام 1993.

جاء ذلك، عقب تصريحات زعيم حزب الحركة القومية، دولت باهجلي، في أكتوبر الماضي، والتي دعت أوجلان إلى لعب دوره، ليعقبها نداء الأخير في 27 فبراير الحالي، في خطوة وصفها محللون بأنها “تجاوز للعتبة الحرجة” في مسار المفاوضات، واعتبرها الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بصيص أمل في مشهد الشرق الأوسط المتأزم. كما أعرب ممثلون من الولايات المتحدة وألمانيا والصين والمملكة المتحدة والهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي عن دعمهم لدعوة أوجلان لحل سلمي.

في الحقيقة، أحدثت أحداث 7 أكتوبر تحولات جذرية في المنطقة، حيث تسببت انهيارات النفوذ الإيراني، خاصة مع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، بخلق فراغ أمني كبير. بعض المراقبين يشبهون هذه الحقبة بتلك التي تلت انهيار الإمبراطورية العثمانية عام 1918، بكل ما تحمل من مخاطر وفرص.

وإذا كانت تصريحات أوزغور أوزال، رئيس حزب الشعب الجمهوري، صحيحة، والذي أشار إلى وجود محادثات بين أوجلان وأعضاء من الدولة بتوجيه من أردوغان منذ عام مضى، فإن أوجلان قد يسعى لاستعادة روح اتفاقية آماسيا لعام 1919، مؤسساً ذلك على أسس من الأخوة والوطن المشترك، في محاولة لتصحيح التاريخ الذي اعتبره انقلاباً تآمرياً بعد اتفاقية لوزان. وكانت هذه المرحلة نقطة مفصلية تناولها أوجلان في العديد من مؤلفاته التي كتبها في إيمرالي.

لقد خلق الانقلاب على التحالف الطوعي بين الكرد والترك معضلة تاريخية في بنية الجمهورية التركية، إذ عزز من موقف أوليغارشية الدولة بكل أطيافها، من يسارية ويمينية وليبرالية، التي تصرّ على إنكار حقيقة الكرد وتقديس القومية التركية. هذه السياسة، التي تتراوح بين العنف والترويع أو الصهر والتذويب، تمثل ما سماه أوجلان بـ” القانون الفولاذي” الذي يوجه ديناميكيات الدولة التركية.

وفي ظل هذا الواقع، إذ كانت هناك فرصة لسلام حقيقي يكسر هذا الحاجز، فإن أوجلان، الذي حول سجنه في إيمرالي إلى فضاءٍ للبحث التاريخي والاجتماعي والفلسفي، يسعى لإقناع الدولة التركية بضرورة معالجة الجرح العميق الذي أصاب جسد الجمهورية على مدار قرن. فلا يمكن تصور قرن تركي جديد دون إدراج المصالحة التاريخية على أسس من المساواة والديمقراطية، ومن هنا وُصف نداء أوجلان الأخير بـ “نداء العصر“.

أبعاد النداء

عقب إصدار النداء في أجواءٍ مشحونة بالكراهية وغياب الثقة، وفي ظل لغة الترويع واستمرار الحرب مؤخراً بين الكرد والترك، وهي الحرب التي دامت سنواتٍ منذ انهيار عملية السلام الأخيرة، فقد حمل النداء بُعداً وجدانياً عميقاً لدى مناصريّ أوجلان الذين حُرموا من لقائه لسنوات طويلة بسبب العزلة المفروضة عليه منذ عام 2015. تكمن المشهدية الأوجلانية في أن “حضور أوجلان يعني حضور القضية الكردية“، بما يتضمنه ذلك من الوجود والحرية والسلام والشغف. وقد تجلى هذا الأمر بوضوح عندما كشف سري ثريا أوندر، في مقابلة له على قناة “خبر ترك”، تفاصيل حوار دار بينه وبين دولت باهجلي، قائلاً: “قلت له: لنرَ السلام أولًا، ثم ليأخذ الله أمانته”. فردّ باهجلي قائلاً: “كيف تقول ذلك؟ ما يزال أمامنا وقت لنرقص رقصة السلام، لا تفكر بهذه الطريقة”.

ومع ذلك، ظهرت بعض الأصوات النشاز التي حاولت اختزال النداء في فكرة إنهاء النزاع المسلح مع حزب العمال الكردستاني، وتحقيق “تركيا خالية من الإرهاب”، مع دعوات لتضمين وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية في نداء التخلي عن السلاح، كما طرحها مقربو أردوغان مثل عمر جليك ومحمد أتشوم. هذه الأصوات تجاهلت، عمداً أو جهلاً، قضايا الحريات والسياق الديمقراطي الذي ينتمي إليه نداء أوجلان.

ونظراً لوضوح النص، لا مجال لتحريفه وإخراجه عن سياقه المقصود. فقد أكد أوجلان بشكل قاطع أنّ نشوء حزب العمال الكردستاني كان نتيجة لسياسات الإنكار المتبعة، مشيراً إلى الطابع الأحادي للجمهورية الذي أدى إلى إنكار الواقع الكردي وفرض قيود على الحريات، وخاصة حرية التعبير. وهذا يتطلب إزالة جميع القيود المفروضة على الواقع الكردي.

وفقاً لذلك، أفادت بعض المصادر بأن أوجلان أبلغ سري ثريا أوندر بضرورة نقل ملاحظة عقب قراءة البيان، مفادها أنّ “التخلي عن السلاح وحل حزب العمال الكردستاني مشروط بالاعتراف بالسياسة الديمقراطية والبعد القانوني“.

بدوره، رأى أوندر أن هذا الطرح ليس شرطاً مسبقاً، بل يمثل إحدى ضرورات مرحلة السلام، بما في ذلك الجهود المبذولة الحالية لتشكيل لجنة برلمانية تُعنى بمتابعة البعد القانوني للعملية. استناداً إلى ذلك، استجاب حزب العمال الكردستاني لنداء أوجلان، مطالباً بتوفير بيئة آمنة لعقد المؤتمر وفتح قنوات تواصل مباشرة معه، ما جعل المسؤولية تقع على عاتق الدولة والحكومة. حيث أشار أوندر إلى أن ما يقارب 50% من مسار عملية السلام قد تم إنجازه.

سياق العملية السلمية

يتضح أن إطلاق عملية السلام في تركيا، رغم الأجواء المشحونة، يسوده تفاؤل حذر، إذ قد تواجه العملية منعطفات حادة وعراقيل كثيرة، داخلياً وخارجياً. خاصةً أن منظمة فتح الله غولن حاولت سابقاً تعطيل العملية، وربما تقوم بعض الأجنحة داخل الدولة، التي تمثل امتداداً لمصالح دولية وإقليمية، بتكرار نفس الاستفزازات. لهذا السبب، اتسمت المحادثات بقدر من السرية وأجريت خلف الأبواب المغلقة لتفادي أي استفزازات محتملة.

في المقابل، شدد أوجلان على ضرورة توسيع نطاق المشاركة ليشمل معظم الأحزاب السياسية الرئيسية في البرلمان، بالإضافة إلى الأطراف الكردية الفاعلة في المنطقة، بهدف إضفاء زخم سياسي على العملية. وقد أسهمت المواقف الإيجابية التي عبّر عنها كل من أردوغان وباهجلي، باعتبارهما من أبرز الفاعلين إلى جانب أوجلان، في دفع عجلة المبادرة نحو الانطلاق.

ورغم التعقيدات المحيطة بالمشهد العملياتي، لا تزال العملية بحاجة إلى المزيد من بناء الثقة، خاصة وأنّ الحكومة التركية قد تبنّت مؤخراً نهجاً مستوحى من أساليب الدبلوماسية البريطانية في التفاوض مع الجماعات المسلحة. هذا النهج تأثر بشخصيات مثل جوناثان باول، الذي يرى أن الضغط النفسي والأمني يشكل أداة فعالة لدفع الخصوم إلى طاولة المفاوضات، ولعل سلسلة الاعتقالات وفرض الأوصياء على البلديات، بالإضافة إلى الحرب المستمرة ضد شمال شرقي سوريا، يندرج ضمن هذا السياق.

المفارقة أنّ باول، الذي يشغل منصب مستشار الأمن القومي البريطاني، كان أحد المهندسين الرئيسيين لمباحثات السلام الكردية التركية في 2013-2015، وسط مزاعم تشير إلى أن الاستخبارات البريطانية قد زوّدت أنقرة بتقارير حول تداعيات سقوط الأسد، وأهمية الانفتاح على القضية الكردية لتجنب أن تصبح مصدر تهديد لتركيا.

سابقاً، كان باول يرى أنّ نجاح عملية السلام يتطلب قيادة قوية تمثلها ثنائية أوجلان-أردوغان. إلا أنّ المشهد السياسي شهد تحولاً ملحوظاً مع دخول دولت باهجلي، الذي كان في السابق من أشد المعارضين للسلام. ومع مرور الوقت، تبنى باهجلي اليوم خطاباً يتسم بالتقارب مع رؤية أوجلان، داعياً إلى الوحدة والتعددية، ومؤكداً على أهمية إحياء قيم الأخوة التاريخية.

شمال شرقي سوريا: صراع أوجلان وأردوغان

تمثل شمال شرقي سوريا ساحة مواجهة جديدة بين أوجلان والدولة التركية، لا سيما بعد سقوط الأسد، حيث تستمر أنقرة، عبر وكلائها، في استهداف قوات سوريا الديمقراطية. ويرى بعض المراقبين أن هذا التصعيد جاء بضغوط بريطانية لحث “قسد” على التفاوض مع دمشق، وتفادي مشاريع قد تتعارض مع المصالح التركية، بما في ذلك تلك المرتبطة بإسرائيل. في المقابل، أكد أوجلان، وفقاً لما نقله سري ثريا أوندر، على ضرورة حماية المنطقة وضمان حقوق سكانها ضمن إطار دولة دستورية عادلة.

ضمن هذا الإطار، دار في وقتٍ سابق صراع خفي بين أوجلان وأردوغان حول مستقبل روج آفا، حيث شدد أردوغان في عام 2013 على أن أي كيان سياسي هناك يُعدّ خطاً أحمر بالنسبة لتركيا، فيما ردّ أوجلان بأن العودة إلى ما قبل 2011 لم يعد خياراً ممكناً، معتبراً روج آفا بدوره خطًا أحمر.

ورغم هذا التباين، طرح أوجلان رؤية مختلفة للعلاقة الكردية-التركية، داعياً إلى بناء تحالف استراتيجي يستند إلى روح “الميثاق المليّ”. كما وجّه انتقادات حادة للسياسة الخارجية التركية، التي تجاهلت الكرد في سوريا، مشيراً إلى أن اعتماد أنقرة بشكل حصري على الكتلة السنيّة العربية لكبح الصعود الكردي كان رهاناً غير واقعي.

حالياً، تتجلى معضلة السياسة التركية في اعتمادها على الفصائل السنيّة المتطرفة كأداة لتنفيذ السياسات، وهو رهان يحمل في طياته تناقضات عميقة، ساهمت فيه بريطانيا جزئياً، لكنه يواجه تعقيدات متشابكة تتداخل فيها الحسابات الأميركية والإسرائيلية. فواشنطن تعبر عن قلق متزايد إزاء احتمال سيطرة التنظيمات المصنفة إرهابية على المرحلة الانتقالية، دون أي مؤشرات على قبولها لهذا السيناريو، مما قد يفضي إلى تضارب حاد في المصالح بين أنقرة وحلفائها الغربيين، إلى جانب تصعيد إسرائيلي غير مسبوق في سوريا.

لا شك أن التباين في الرؤى بين أوجلان وأردوغان حول الملف السوري لا يزال قائماً، حيث يدعو أوجلان الحكومة التركية إلى تبني حلول ديمقراطية. ومن المرجح أنه اقترح على قيادة “قسد” عبر رسالة خاصة إلى مظلوم عبدي، ضرورة إبداء بعض المرونة تجاه حكومة أحمد الشرع الانتقالية. ومع ذلك، يظل أوجلان متمسكاً بمفهوم “المجتمع الديمقراطي” كإطار قانوني يضمن حماية التنوع وتعزيز المواطنة الدستورية، ويعمل ضمن رؤية سورية شاملة تستوعب كافة أطيافها الاجتماعية والسياسية. في هذا السياق، قد تمثل زيارة وفد إيمرالي إلى شرق الفرات، التي تم الإعلان عنها مؤخراً، خطوة أولى نحو التوصل إلى تفاهم مشترك بين أوجلان وأردوغان بشأن مستقبل شمال شرقي سوريا وسوريا بشكل عام.

على الصعيد الأوسع، تؤكد رؤية أوجلان على ضرورة تحويل العلاقة بين الكرد والترك من صراع إلى تفاهم وشراكة تشمل الجانب السوري أيضاً، شرط توفر بيئة سياسية، تؤسس لنظام قائم على “المواطنة الدستورية” و”المجتمع الديمقراطي الحر”. هذه المفاهيم تتطلب شرحاً أوسع في المقال المقبل، بناءً على ما جاء في ندائه الأخير.

نورث برس

—————————-

====================

عن التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة، ملف تناول “شهية إسرائيلية لتفتيت سوريا” -ملف متجدد يوميا

تحديث 05 أذار 2025

——————————–

ما تريده إسرائيل في سورية/ مروان قبلان

05 مارس 2025

منذ سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بدا واضحاً أن إسرائيل قرّرت الدخول مباشرة في قلب الحدث السوري في محاولة لإعادة تشكيله، بما يخدم رؤيتها إلى المنطقة ونهجها الذي اتّخذ منحى أكثر عدوانية منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. وعليه، أطلقت إسرائيل واحدة من أكبر حملاتها الجوية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، عبر شن ما لا يقل عن 500 غارة دمرت نحو 80% من القدرات العسكرية السورية خلال الساعات الـ 72 الأولى التي أعقبت سقوط الأسد، وهروب جيشه. كان الهجوم إشعاراً بعدم ثقة إسرائيل بالنظام الجديد في دمشق وتوجّهاته المستقبلية. وبالرغم من اختراقاتها العميقة مجمل منظومة الأسد وحلفائه، العسكرية والأمنية، إلا أن سرعة انهيار نظام الأسد مثّلت مفاجأة كبرى لإسرائيل. لاحقاً، بدا سقوط الأسد وكأنه خطأ غير مقصود، ارتكبته إسرائيل التي سعت، على الأرجح، إلى كسر حزب الله، وإضعاف الوجود الإيراني في سورية، وإقناع الأسد بفك ارتباطه بهما، لكنها لم تدرك أبداً، ربما، أن جيش الأسد كان فاقداً تماماً إرادة القتال، ما سمح بانهياره السريع أمام قوات المعارضة. وقد عبر نتنياهو عن ذلك في تصريحه إن سقوط الأسد “لم يأت في مصلحة إسرائيل”.

عدم ارتياح إسرائيل للتغيير في دمشق دفعها إلى طوْر جديد من سياستها السورية التي مرّت بعدة مراحل منذ اندلاع الثورة السورية في مارس/ آذار 2011: الأولى (2011 – 2013)، التزمت فيها إسرائيل، إلى حدٍّ ما، موقف المتفرّج، عبر عنه انقسام المؤسسة السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية بين من يميل إلى إسقاط الأسد ومن يميل إلى بقائه، على أساس أن نظامه احترم تعهداته مع إسرائيل منذ اتفاق فض الاشتباك عام 1974، وأن الجولان لم يشهد حادثاً أمنياً ذا أهمية منذئذ. الثانية (2013-2023)، بدأت مع تعاظم الوجود العسكري لإيران وحزب الله في مناطق واسعة من سورية نتيجة ضعف النظام وترنّحه، حيث تبنّت إسرائيل استراتيجية “المعركة بين الحروب”، وشرعت في تنفيذها اعتباراً من عام 2013 بحجّة منع وصول أسلحة “كاسرة للتوازن” إلى حزب الله عبر سورية. ولم يؤثر التدخل العسكري الروسي عام 2015 في هذه الاستراتيجية، إذ توصل نتنياهو إلى تفاهماته المعروفة مع بوتين، والتي سمحت لإسرائيل باستمرار استهداف حزب الله وإيران في سورية، بشرط تحييد قوات النظام. استمرّت هذه السياسة حتى عملية طوفان الأقصى عام 2023، عندما اتّخذت إسرائيل قرارها إخراج إيران من سورية والقضاء على القوة العسكرية لحزب الله، والتي كان سقوط الأسد، كما ذُكر أعلاه، أحد أضرارها الجانبية، بالنسبة لإسرائيل.

تدخل السياسة الإسرائيلية، الآن، في سورية طورها الأخير والأكثر خطورة، فبعد تدمير القدرات العسكرية السورية كلياً تقريباً، شرعت إسرائيل بالتوغل في الأراضي السورية، فاحتلت نحو 600 كيلومتر مربع إضافية منذ سقوط الأسد، بما فيها كامل المنطقة العازلة، بحجّة سقوط اتفاق فض الاشتباك، بفعل انسحاب جيش النظام من المنطقة. وتعمد إسرائيل حالياً إلى إنشاء حزام أمني في الجولان، وتعميق رقعة المنطقة منزوعة السلاح، لتشمل محافظات الجنوب السوري كافة (القنيطرة، درعا والسويداء)، إضافة إلى أجزاء من محافظة ريف دمشق. الأخطر أن إسرائيل باتت تتبنّى رسمياً سياسة تفتيت سورية إلى كانتونات طائفية وإثنية، من خلال زعمها حماية الأقليات من “الأغلبية السنّية” التي باتت تحكم البلد.

سوف تفشل إسرائيل، على الأرجح، في تمرير مشروعها لتفتيت سورية، لكن الاعتقاد بذلك لا يكفي وحده لمنعه، بل يجب العمل عليه من خلال: أولاً، التوقّف عن تجاهل العدوان الإسرائيلي، بزعم عدم القدرة على مواجهته حاليّاً، والاعتقاد أن الصمت أو عدم إدانته يؤدّي إلى تجنّب مزيدٍ منه، بل ينبغي حشد الرأي العام السوري في سورية والخارج، وتعبئة المواقف العربية، والدولية، وإثارة أكبر ضجّة ممكنة بشأنه. ثانياً، تبنّي نهجٍ في الحكم بعيدٍ عن الإقصاء والتهميش والاستئثار. فكلما شعر السوريون (على اختلاف انتماءاتهم الطائفية والإثنية) بأنهم منخرطون في العملية السياسية، وفي بناء دولتهم الجديدة، تنامى الإحساس بانتمائهم الوطني، وحرصهم على وحدة بلادهم، وفاتت الفرصة على التدخّلات الخارجية لاستغلال مخاوف/مظلوميات حقيقية أو متخيّلة. إن إعادة بناء سورية، وبقاءها موحدة، يعتمد كليّاً على إنهاء مقولة إنها مكوّنة من أكثرية وأقليات. في سورية يوجد فقط مواطنون سوريون أحرار.

العربي الجديد

———————————

إسرائيل في سورية/ حسين عبد العزيز

05 مارس 2025

أن تُقدم إسرائيل على تدمير الترسانة العسكرية السورية واحتلال كامل للمنطقة العازلة ـ الناشئة عن اتفاقية فك الاشتباك لعام 1974، ثم احتلال جبل الشيخ وقمته، فهذا تُفهم أسبابه في إطار الصراع الاستراتيجي بين سورية وإسرائيل التي استغلت المناخ الدولي الداعم لها، والفراغ الذي نشأ في سورية بعيد سقوط نظام الأسد، من أجل فرض واقع استراتيجي جديد من دون أية تكلفة عسكرية.

نشأت بعد عملية طوفان الأقصى مقاربة أمنية إسرائيلية جديدة مستقاة من استراتيجية الحروب الإسرائيلية القائمة على مبدأ الحرب داخل أرض العدو، ومن هذه المقاربة العسكرية نشأت مقاربة دفاعية أمنية، مفادها أن توفر المعطيات الأمنية يجب أن يبدأ أولاً في أرض العدو، تليها ترتيبات أمنية في أرض ما تسمّى إسرائيل (فلسطين المحتلة). وقد بدأت هذه المقاربة في غزّة ولبنان، من خلال نشر قوات إسرائيلية على طول أرض القطاع الحدودية، ثم نشر قوات إسرائيلية في الجنوب اللبناني، بما يشكل عمقا أمنياً متقدّما لإسرائيل.

بعيْد سقوط الأسد، سارعت إسرائيل فوراً إلى نقل هذه الاستراتيجية الأمنية إلى سورية، فاحتلت القنيطرة ومناطق أخرى، بما فيها جبل الشيخ. ولم تكتف إسرائيل بهذا، بل وضعت شرطا يتمثل في فرض نزع السلاح في غزّة وجنوب لبنان وجنوب سورية، غير أن إسرائيل، التي لم تجد أية مقاومة عسكرية سورية ولا سياسية عربية، وجدت نفسها مدفوعة للمضي أكثر بكثير من مجرّد احتلال أراض تعتبر تهديداً عسكرياً لوجودها، محكومة بعقليتها الحقيقية تجاه العرب، من حيث إنهم أعداء وجوديون، ويجب أن يبقوا دائما في حالة تشرذم وضعف. ومن هذه الرؤية، انتقلت إسرائيل فوراً من احتلال بعض الأراضي السورية، ليس إلى تحويل الجنوب السوري إلى منطقة محرّمة على الجيش السوري فحسب، بل الأهم والأخطر إلى إعلانها حامية للأقليات ومدافعة عنهم، خصوصا الدروز، إذ يفيد تصريح نتنياهو بأنه لن يتسامح مع أي تهديد للطائفة الدرزية في جنوب سورية، بأن إسرائيل لم تعد تكتفي بمجرّد احتلال للأراضي، بل ستكون جزءاً رئيساً في رسم معالم سورية العسكرية والسياسية المقبلة. وليس تصريح نتنياهو مقدمة ستبنى عليها خطوات لاحقة فقط، بمعنى آخر إن تصريحه هذا لم يأت من فراغ ومن طرف أحادي وذاتي، بل جاء، أغلب الظن، بعد تواصل إسرائيل مع جهات داخلية في سورية، خصوصا بين دروز وأكراد.

تطوران مهمّان ربما يسعفاننا في الفهم: الأول، ما أعلنته إلهام أحمد، الرئيسة المشتركة لدائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية التي يقودها الأكراد في شمال وشرق سورية مطلع مارس/ آذار الجاري: “تحقيق أمن المناطق الحدودية في سورية يستدعي مشاركة جميع الأطراف في الحل، وإسرائيل من الجهات المعنية وسيكون لها دور بالغ الأهمية.. وإجراء نقاش مع إسرائيل في هذه المرحلة خطوة ضرورية”. … إما أن هذا التصريح نابع من طرف أحادي الجانب، أو أنه ثمرة لتواصل بين أكراد وإسرائيل. وفي الحالتين، نحن أمام رؤية سياسية خطيرة تعتبر إسرائيل جزءاً من الحل السوري، وإن كان الاحتمال الثاني الأكثر واقعية، بسبب وجود اتصالات بين إسرائيل وحزب العمّال الكردستاني منذ عام 2014.

التطور الثاني، الإعلان عن تشكيل المجلس العسكري في السويداء، بقيادة العقيد المنشقّ عن جيش النظام السابق طارق الشوفي، قبل يومين من بدء مؤتمر الحوار الوطني السوري، والمتزامن مع تصريح نتنياهو حول حماية الدروز. غير أن هذا التشكيل الذي أثار مخاوف المرجعية الدرزية، ممثلة بحكمت الهجري وآخرين، طرح إشارات استفهام عديدة: أولها، التوقيت، في ظل محاولات من السلطة الجديدة في دمشق لرأب الصدع مع كل الأطراف، خصوصا الدروز والأكراد، لتسليم سلاحهم والمشاركة في الجيش السوري الجديد والمشاركة في البناء السياسي للبلد. ثانيها، العلاقات القوية مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد): ولا يتعلق الأمر بالتشابه الواضح بين شعارات المجلس وشعارات “قسد”، وارتداء قيادته زياً قريباً من زيها، بل أيضا زيارة وفد من مجلس سوريا الديمقراطية، الذراع السياسي لـ “قسد” إلى السويداء قبل أسابيع. ثالثا، ظهور أحد مقاتلي المجلس العسكري، ضمن مقطع مصوّر، وهو يعلن الولاء لإسرائيل، كما وجه التحية لشخصياتٍ في داخل القرى الدرزية المحتلة في الجولان السوري، عُرف منها الزعيم الروحي للدروز هناك، الشيخ موفق طريف، المعروف بتأييده إسرائيل.

تفيد هذه المعطيات، إلى جانب تصريح نتنياهو عن حماية الدروز، بأن وراء الأكمة ما وراءها، ويبدو أن إسرائيل نجحت في اختراق الدروز في سورية، المختلفين عن دروز إسرائيل، حيث العروبة والوطنية السورية عالية جداً لدى دروز سورية، ويصعب جرّهم إلى الحظيرة الإسرائيلية. ويعتبر المجلس العسكري في السويداء تجسيدا لهذا الاختراق، الذي ستكون نتائجه بالغة السوء على الدروز جماعة موحّدة وعلى عموم سورية في هذا المفصل التاريخي الهام.

من هنا، يمكن القول إن مقاربة إسرائيل في سورية أكثر خطورة من مقاربتها الاستراتيجية حيال قطاع غزّة وجنوب لبنان، فالأخيران لا يشكلان خطراً وجودياً على إسرائيل، إذ يقتصر خطرهما على البعد العسكري المحدود، أما سورية فتشكل تهديداً وجودياً لإسرائيل، إذا ما أعادت بناء نفسها على الصعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، في ظل حكم إسلامي يمارس التقية السياسية تجاه إسرائيل في هذه المرحلة، بسبب ضعفه وهشاشة الدولة والمجتمع، ولكنه قد يتحوّل مستقبلا إلى رأس حربة في مقارعة إسرائيل.

العربي الجديد

————————————

التغوّل الإسرائيلي في سورية: التحريض والتقسيم واستباق الدور التركي/ محمد أمين

05 مارس 2025

وصلت قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى أبعد نقطة في عمق الجنوب السوري منذ بدء اعتداءاتها على سورية بعد سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، مستغلة الأوضاع الصعبة التي تمر بها سورية والتي لا تساعد في بلورة استراتيجية مواجهة رادعة تضع حداً لهذه الاعتداءات. ولا يغيب عن الحسابات الإسرائيلية الدور التركي المتعاظم في سورية، والذي قد يشكّل حجر عثرة أمام المشروع الإسرائيلي الهادف لجعل سورية دولة مفتتة وبلا جيش فعال.

توغّل إسرائيلي كبير في سورية

وانسحبت القوات الإسرائيلية صباح أمس الثلاثاء من محيط منطقة تل المال والسرية العسكرية السابقة بريف درعا الشمالي، وذلك عقب عملية توغّل استمرت لساعات قامت خلالها بعمليات تخريب وحفريات غامضة، وفق شبكات إخبارية نقلت عن سكان في المنطقة تأكيدهم سماع أصوات تحركات لجرافات وعمليات حفر، ما يرجح قيام هذه القوات بتدمير مواقع عسكرية قديمة أو التخلص من بقايا أسلحة. وكانت قوات الاحتلال نفذت مساء الاثنين عملية إنزال وتوغل في منطقة تل المال، التي تقع على الحدود الإدارية بين محافظتي درعا والقنيطرة. كما أن قوات الاحتلال قطعت الطريق الواصل بين بلدتي مسحرة والطيحة في ريف القنيطرة بعد ساعات من قصف جوي استهدف كتيبة للدفاع الجوي تتبع للجيش السوري في ريف طرطوس. من جهته، أعلن الجيش الإسرائيلي في بيان أن سلاح الجو “أغار في منطقة القرداحة في سورية على موقع عسكري تم استخدامه لتخزين وسائل قتالية تابعة للنظام السوري المخلوع”.

وأوضح الناشط الإعلامي يوسف مصلح، في حديث مع “العربي الجديد”، أن التوغل الإسرائيلي إلى منطقة تل المال هو الأبعد منذ بدء تدخّل تل أبيب في جنوب سورية، مشيراً إلى أن المنطقة التي وصلتها القوات الإسرائيلية مساء الاثنين تبعد عن الحدود السورية مع هضبة الجولان المحتلة نحو 14 كيلومتراً. وفي السياق، ذكرت شبكات إخبارية في جنوب سورية أن القوات الإسرائيلية قامت بعمليات تفتيش منتصف ليل الاثنين ـ الثلاثاء في سرية بالقرب من قرية الناصرية على الحدود الإدارية بين محافظتي القنيطرة ودرعا كانت نقطة مراقبة تابعة للقوات الروسية في زمن النظام المخلوع. من جهته، أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان أمس بأن القوات الإسرائيلية بدأت بإزالة الألغام غير المنفجرة المدفونة في الأرض على الشريط الحدودي قرب الجولان المحتل.

وقال وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر، في تصريحات للصحافيين في القدس المحتلة أمس عن الملف السوري، “إن وجود الجماعات الإسلامية على الحدود سيكون خطيراً للغاية بالنسبة لإسرائيل”، مضيفاً أن “المسألة في سورية لا تتعلق بسلامة الأراضي وإنما مصلحتنا تقتضي أن تكون الحدود هادئة”. وتابع: “ينبغي احترام حقوق الأقليات في سورية، بما في ذلك الأكراد، بشكل كامل”.

تخوّف من دور تركيا في سورية

وبعد سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر الماضي، تجاوزت تل أيبب الاتفاقيات الدولية الحاكمة للصراع، فاحتلت المزيد من الأراضي السورية خارج المنطقة العازلة، واعتلت جبل الشيخ المطلّ على الجنوب السوري وصولاً إلى دمشق، بسبب ارتفاعه، وأقامت نقاط ارتكاز في ريف القنيطرة. وتدل التوغلات الإسرائيلية في جنوب سورية على أن سقوط الأسد الذي حافظ على هدوء الجبهات مع تل أبيب أربك حسابات تل أبيب التي تسعى إلى تحويل الجنوب السوري كله إلى منطقة عازلة منزوعة السلاح. وكانت تصريحات المسؤولين الإسرائيليين واضحة لجهة الحيلولة دون انتشار الجيش السوري الجديد جنوب دمشق، تحت ذريعة حماية أمن تل أبيب. وفيما يوسّع الاحتلال نطاق تدخله في الجنوب السوري، تغيب أي استراتيجية مواجهة عسكرية من جانب الإدارة السورية التي لا تزال بصدد تشكيل جيش جديد. وتبدو الخيارات أمام الإدارة السورية للتعامل مع التدخل الإسرائيلي معدومة عسكرياً، إلا إذا اختارت طريق المقاومة الشعبية للمواجهة. وليس أمام هذه الإدارة إلا الاستناد إلى حلفاء سورية، خصوصاً تركيا ودولاً عربية للضغط على الجانب الإسرائيلي من أجل وضع حد لتدخله العسكري في جنوب سورية.

وأعرب الباحث العسكري رشيد حوراني، في حديث مع “العربي الجديد”، عن اعتقاده أن من بين أهداف تل أبيب “منع الإدارة السورية من توحيد الفصائل وتأسيس جيش قوي ينتشر في جنوب البلاد للدفاع عنها”، مضيفاً أن “إسرائيل تتخوف من الدور التركي في سورية، في ظل حديث عن تعيين ملحق عسكري في السفارة التركية في دمشق، وهو ما يفتح الباب أمام تنسيق عسكري وتعاون بين سورية وتركيا”. وتابع أن “إسرائيل تريد بمساعدة من الولايات المتحدة الأميركية، سورية دولة من دون جيش. أعتقد أن تركيا حجر عثرة أمام هذا المشروع الإسرائيلي”.

ورأى حوراني أن ما تقوم به إسرائيل في الجنوب “يهدد سورية من عدة نواحٍ”، موضحاً أن هذا التدخّل “يعيق عمل الإدارة السورية الجديدة في ترتيب البيت الداخلي في البلاد”. وأشار إلى أن التدخّل يتزامن مع مفاوضات مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في ظل حديث عن تقارب في وجهات النظر، ما يتيح للدولة السورية العودة إلى الشمال الشرقي من البلاد الغني بالثروات. وتابع أن “التدخّل الإسرائيلي يضعف النظام الجديد ويشتت قدراته ويمنعه من المضي قدما في عرض رؤيته السياسية التشاركية”. ورأى حوراني أن هذا التدخّل له مخاطر اجتماعية، مشيراً إلى أن الاحتلال يحاول إحداث شروخ في النسيج المجتمعي السوري من خلال الادعاء بحماية الأقليات من الإدارة الجديدة وخصوصاً الدروز في الجنوب السوري، مضيفاً: “تتخذ إسرائيل هذه المزاعم ذريعة للتدخل وتنفيذ مخطط يقوم على فرض نفوذها في جنوب سورية”.

وحول الاستراتيجية التي تتبعها الإدارة السورية الجديدة في التعاطي مع التدخّل الإسرائيلي العسكري، رأى الباحث السياسي مؤيد غزلان، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “الاستراتيجية تقوم على تكثيف الجهود الدبلوماسية عربياً ودولياً”، مضيفاً: “سورية تشكل جزءاً من معادلة الأمن الإقليمي والدولي. هذه المعادلة تحققت بعد النصر على قوات النظام المخلوع والمليشيات الإيرانية، وهي تلبي حاجة عربية ودولية”. وتابع: “المسار في هذا الملف (التدخل الإسرائيلي) دبلوماسي، فالمنطقة غير مؤهلة لحروب جديدة، فضلاً عن أن دمشق حريصة على عدم استجلاب أي ظروف تدفع المنطقة إلى الاشتعال مجدداً وتزعزع أمنها، فمعادلة الأمن الإقليمي تكاملية وليست جزئية”. وأشار غزلان إلى أن “عدم تحقق الأمن في سورية يفتح الباب أمام عودة المليشيات الطائفية”، مضيفاً: “من الواضح أن الهدف الإسرائيلي إبقاء سورية دولة منهكة وضعيفة وغير وازنة وهذا سوف يُحدث شرخاً في المعادلة ويربك الكثير من الدول التي توافقت مع دمشق وسياستها الجديدة”.

وبيّن أن الظروف الجيوسياسية الموجودة اليوم “تختلف عن تلك التي كانت سائدة أيام النظام البائد”، مضيفاً: “هناك توافق عربي مع السياسة السورية الجديدة تجلى واضحاً من خلال بيان مجلس التعاون الخليجي ودعوة الإدارة الجديدة للمشاركة في نشاط الجامعة العربية، فضلاً عن قبول أوروبي برز في رفع جانب من العقوبات على سورية”. وتابع: “ما تقوم به إسرائيل غير محسوب النتائج، لأن من شأنه تأجيج الصراع في المنطقة وهذا ليس من مصلحة دول الجوار”. وتابع: “أعتقد أن إسرائيل لا تريد سورية دولة قوية إلى جانبها وهو ما يفسّر الاعتداءات التي تقوم بها على الجنوب السوري”. وأعرب عن اعتقاده بأن اللعب الإسرائيلي على الوتر الطائفي في سورية “لن ينجح في ظل تأكيد سكان السويداء أنهم جزء أصيل من سورية ويرفضون فكرة الانفصال”.

العربي الجديد

————————-

وليد جنبلاط و”يا أهلاً بالمعارك”: حفاظاً على وحدة سوريا/ منير الربيع

الأربعاء 2025/03/05

يدور وليد جنبلاط حول الزمن. أو أن الزمن يدور حوله. يعيش الرجل على قلق. هو القلِق دائماً، وهو الذي خبر انقلابات وتحولات. أثقلته المعارك، لكنها لم تتعبه. هو معها بتجدد دائم، وإن حمل فيها بندقية ثورة الـ58، أو كلاشنيكوف مواجهة اجتياح الـ82. أو “شال الرايتين” الحمراء والبيضاء في 2005. أو صوته وموقفه ما قبل سقوط النظام السوري، وما بعد السقوط، وصولاً إلى مواجهة ما يعتبره أخطر المشاريع الإسرائيلية التي تنطلق من غزة والضفة الغربية، إلى لبنان سوريا. اعتاد وليد جنبلاط أن يبادر إلى المعارك وحيداً، كما عرف كيفية استقطاب الحلفاء والمناصرين. معروف عنه أنه يفضّل دوماً الرحاب الواسعة. لا الانزواء في مشروع “الطائفة” وزواريبها. ففي لبنان هو حريص على النموذج الأوسع من سياق محاصرته داخل بيئته وطائفته. وعلى مستوى المنطقة يختار دوماً الأفق العربي الواسع.

إسقاط المخطط

يحطّ الزمن بمعاركه مجدداً في دارة جنبلاط وعقله. فإسرائيل بالنسبة إليه تسعى إلى إعادة خلق مشروع قديم جديد، يسعى إلى فصل الدروز عن محيطهم العربي والإسلامي، وزرعهم في سياق “تحالفات أقلوية”، رفضها هو كما والده من قبله، كما سلطان باشا الأطرش وغيرهم من أعيان الدروز في المنطقة. اليوم يقف جنبلاط وحيداً، كصاحب إرث لزعامة تمتد على مئات من السنوات، ينظر إلى سوريا بأفق أرحب، والتي دمّر نظام الأسد فيها كل “زعامات الدروز” وأعيانهم. وهو الذي حاول مع بداية الثورة العمل معهم لتعزيز موقفهم إلى جانب الثورة ضد النظام. في الستينيات والسبعينيات، أجهض كمال جنبلاط مشروع إنشاء “الدولة الدرزية”. تلك التي كان مخططها يقضي بدمج دروز سوريا من السويداء والجولان، امتداداً إلى وادي التيم مع دروز لبنان. تلك “الدولة” التي كان يقابلها مشروع لإقامة دولة مارونية أيضاً في جبل لبنان. اليوم تستفيق شياطين تلك المرحلة في ذهن جنبلاط، الذي يرفع الصوت عالياً لإسقاط المشروع الإسرائيلي المتجدد والذي ينطلق من جنوب سوريا ومن ادعاءات إسرائيلية لحماية الأقليات ولا سيما الدروز.

“يا أهلاً بالمعارك”

قبل دروز سوريا، ركز جنبلاط على دروز فلسطين، نصح كثيراً بكتاب قيس فرو “دروز في زمن الغفلة.. من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية”. حذّر كثيراً من عملية استقطاب إسرائيل للدروز من خلال التحفيزات والخدمات التي يقدمونها لهم ومن خلال تحسين ظروفهم المعيشية والاجتماعية. ولطالما نادى العرب بأن يولوا اهتماماً للدروز وتوفير الخدمات التعليمية والاجتماعية لهم، للحفاظ على روابطهم العربية بدلاً من تركهم لمصيرهم السهل أمام إسرائيل. الآن يختار جنبلاط خوض المواجهة ضد المشروع الإسرائيلي الذي يستهدف سوريا ككل، بموقعها، دور الدولة فيها، ومكوناتها الاجتماعية المختلفة ومن ضمنها الدروز. فهو واجه في السابق “محور الممانعة” الذي كان يعمل على أخذ الدروز إلى سياق تحالفي معه للتحلق حول بشار الأسد. انتظر على ضفة النهر، فعبر المحور. اليوم يواجه مشروعاً آخر أكثر خطورة وقوة، لكن يقول “يا أهلاً بالمعارك”. تلك المعركة التي بدأها على طريقته في خلق سجال مفتوح مع الشيخ موفق طريف منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة بعد عملية طوفان الأقصى. أراد للسجال أن يخلق إشكالية لدى الدروز لعدم استسهال التجاوب مع ما يسعى إليه الإسرائيليون.

الانتماء التاريخي

إلى جانب علاقته الوجدانية مع سوريا، فهو بإمكانه أن يتعاطى مع تطوراتها كزعيم لبناني، أو زعيم لطائفة الموحدين الدروز في لبنان، أو باعتباره صاحب امتداد تأثيري على جزء من الدروز في سوريا. لكنه أيضاً يمكنه أن يتعاطى مع مختلف المكونات السورية من موقع آخر، فبالعودة إلى الانتماء التاريخي والعرقي لآل جنبلاط، فهم يعودون إلى صلة بالأكراد بالعودة إلى آل جانبولاد في حلب. ويتعاطى من موقع عربي وهو الخيار الذي سلكه الدروز منذ سنوات، ومن موقع إسلامي، وهو حفيد شكيب أرسلان بما يرمز إليه في تاريخ الإسلام خلال حقبة السلطنة العثمانية. تلك الحقبة التي ربما يختلج دواخل جنبلاط حنيناً إليها، نظراً لسعة أفقها ورحابتها، ولما كان فيها من حرص وحفاظ على التنوع. وهو الذي يحبّ التاريخ، يعود في أحد نصوصه قبل سنوات إلى محاضرات حول الامبراطورية العثمانية، كان يتلقاها على يد البروفيسور زين زين، ويصفه بأنه يتميز بأسلوب فريد، في القاء المحاضرات حول تلك الفترة التاريخية، حيث كان العرب واليهود يعيشون في سلام تحت حماية السلطان. تلك السلطنة التي أسقطها الغرب، وفق ما يعتبر، ونتجت عنها النزعات القومية في المنطقة. أما اليوم فهناك مشروع عربي يتعرض للاستهداف من قبل إسرائيل، لإسقاط روح العروبة، وإدخال المنطقة في صراع ديني أو طائفي أو مذهبي، وتقسيمها على هذا الأساس.

مصير أمم وشعوب

يعيش جنبلاط مع الأسئلة، ولا سيما الوجودية منها. يشتهر بسؤاله الأشهر “إلى أين؟” وربما الآن يسأل أكثر. لكن السؤال الآخر الذي يقتبسه من أستاذه “زين زين” هو “ماذا لو؟” هذه الأسئلة بالنسبة إليه، تقرر مصير أمم وشعوب بأكملها. ويقول في نصه القديم: “لهذا السبب فإن موقع “الدولة اليهودية” بدلا من أن تكون في باتاغونيا، انتهى بها الأمر إلى أن تقام في فلسطين، وذلك على العكس مما كان يرغب فيه هيرتزل، فيما يبدو. وليس لدي شك في أن هيرتزل لا يستسيغ فلسطين والقدس، وكان يرغب في تفادي الحركة الدينية التي ظلت تقود اليهود دوماً نحو الكوارث. وفضلا عن ذلك، فإنه في القدس، تلك المدينة المقدسة، نجد أن سكانها بالرغم من تحدرهم من جد واحد هو النبي ابراهيم، فانهم يتعايشون وفق تراث العديد من الانبياء والآلهة ممن ورثوه، ولهذا السبب فان كل واحد يكره الآخر، بل حتى ضمن الأسرة الروحية ذاتها”. كتب النص يومها لمناسبة زيارة بابا روما إلى القدس وتلاوته صلاة السلام، ويختتم نصه بالقول: “لا أحد يعرف ما كان يقوله البابا في صلاته إلى الرب. إلا أنني أظن انه كان يصلي من أجل السلام، ولكنه كان يقول له شكراً يا مولاي وشكراً لأن “ماذا لو” جعلت بيريس ونتانياهو بعيدين عن باتاغونيا، لأنهما لو وجدا لاحتلا بقية الارجنتين، وكنت سأتحول إلى لاجئ في مكان ما في الامازون بدلاً من ان أصبح الحبر الأعظم”.

معركة وحدة سوريا

يخوض جنبلاط هذه المعركة، للحفاظ على وحدة سوريا، ومنع إسرائيل من فصل الدروز عن بيئتهم وهويتهم. يريد من وراء ذلك الحفاظ على رمزية الإرث، التاريخ، الأرض والارتباط بها، والموقف. ويعلم أن ما يجري من صراعات أو زرع لبذور الفتنة، هي عمليات ممنهجة، وهذا المسار الذي بدأ سريعاً مع سقوط نظام بشار الأسد. إذ بعدها بأيام قليلة خرج في بلدة حضر من يطالب بحماية إسرائيلية، هذا الرجل الذي كان يومها يرتدي زياً دينياً، كان عنصراً في الفرقة الرابعة. واستكمل المسار في السويداء من خلال “المجلس العسكري” وهو مجلس قديم، وبعض المسؤولين فيه كانوا سابقاً في الجيش السوري، وهم منذ فترة يحصلون على الأسلحة والأموال من إسرائيل، التي عملت على إنزال هذه الأسلحة والأموال لهم عبر طائرة مروحية بعيد حوالى أسبوعين من سقوط النظام السوري. وهؤلاء فتحوا خطوطاً مع إسرائيل ومع قسد أيضاً. ما يريده جنبلاط، هو جغرافيا عربية متصلة ومتواصلة ببعضها، على قاعدة اندماج الدروز في دولهم ومجتمعاتهم. أما المعركة التي يخوضها، فهي رفضه لجعلهم دروعاً بشرية أو سكانية في مناطق تحيط بإسرائيل لتشكيل حزام آمن من حولها، وهي التي تحاول خلق هذا الحزام الآمن بتهجير سكان قطاع غزة، والضفة الغربية، وبتهجير مناطق واسعة من جنوب لبنان، أما من جهة سوريا فتريد للدروز أن يكونوا هم درعها العازل، ومنطلقها لزعزعة الاستقرار السوري ووحدة الدولة.

المدن

————————

عصر بلطجة ترامب: إسرائيل تستعجل تخريب سوريا وتقويض إيران/ منير الربيع

الثلاثاء 2025/03/04

لا يتوقف المشروع الإسرائيلي عند حدود ما “حققه” عسكرياً حتى الآن. ولا عند حدود فلسطين، سوريا ولبنان. هو مشروع قديم جديد، يشتمل على الرؤية الكاملة للوضع الإقليمي، والذي تسعى فيه إسرائيل لتكون الدولة الأكثر تفوقاً وتقدماً، وصاحبة اليد العليا على كل الدول المحيطة. وما تطمح إليه تل أبيب أيضاً، هو أن ترث “الدور” الأميركي أو تكون الجهة الوحيدة المنتدبة أميركياً لإدارة شؤون المنطقة والتحكم بها. أكثر الساحات تعبيراً عن حقيقة المشروع هي فلسطين وسوريا. ففي فلسطين يكرر الإسرائيليون من مواقفهم حول تهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة والضفة الغربية وإجهاض حلم بناء دولة فلسطينية مستقلة. وفي سوريا، يتحدث الإسرائيليون بوضوح عن “دويلات” طائفية ومذهبية، وتمزيق الجغرافيا السورية مع تسجيل اختراقات متعددة جغرافياً، أمنياً، وعسكرياً. أما لبنان فبطبيعة الحال سيكون متأثراً إلى حدود بعيدة بهذا المشروع.

نفوذ على كامل الإقليم

أبعد من هذه الدول الثلاث، فإن ما ينطوي عليه المشروع يمثل تهديداً جدياً لكل الأمن القومي العربي، ولكل الدول الكبرى في المنطقة، خصوصاً في ظل النية الإسرائيلية الواضحة لتهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن، وفي ظل مواجهة أي نفوذ عربي أو تركي أو إيراني. محاولة تكريس نفوذ إسرائيلي في سوريا يكون قائماً على  الفوضى وإضعاف سلطة الإدارة الجديدة، له أكثر من بعد، ولا سيما ما يعبّر عنه الإسرائيليون وهو وضع حدّ لتوسع النفوذ التركي، وهو ما يدفع الإسرائيليين إلى التفاوض مع الولايات المتحدة الأميركية، وروسيا من أجل بقاء القواعد الروسية، ما يجعل نفوذ تركيا أضعف وأكثر محدودية. أما إيران فلا يزال نتنياهو يصرّ على التصعيد في مواقفه تجاهها، وصولاً إلى شكر ترامب على توفير الأسلحة المطلوبة لإسرائيل من أجل ضرب المحور الإيراني. ولم يوضح نتنياهو مقصده من هذه العبارة، إذا ما كانت إسرائيل تكتفي بالضربات التي وجهتها لمحور إيران، أم أنه سيكون لها تبعات تتصل بضرب إيران بشكل مباشر. خصوصاً في ظل الوضع الداخلي الإيراني المتشنج، والذي ينطوي على انقسامات متعددة، بين الإصلاحيين والمحافظين، وبين المحافظين أنفسهم.

إنهاك إيران

أصبحت إيران أمام خيارات في غاية الصعوبة، أولها مواجهة أزمات داخلية سياسياً واقتصادياً بفعل اشتداد العقوبات، ما قد ينتج انفجاراً اجتماعياً وشعبياً. وثانيها مواجهة استحقاقات سياسية دولية تلزم طهران بتقديم تنازلات كبرى، وهذه التنازلات يمكنها أن تؤثر سلباً على بنية الوضع الداخلي للنظام. أما ثالثها فبقاء احتمال توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية قائماً. وهو ما قد يتعزز في ظل أي انسداد ديبلوماسي لا سيما مع تصريح الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، الذي أشار فيه إلى تبني خيار مرشد الجمهورية الإسلامية علي الخامنئي، بأن الحوار مع واشنطن لا يبدو مجدياً. وهذا لا ينفصل عن استقالة مستشار رئيس الجمهورية، وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف، وهو المعروف بأنه أحد أكثر مؤيدي فكرة الحوار مع الولايات المتحدة.

عملياً، أصبحت الإدارة الأميركية تتدخل في كل التفاصيل السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية في كل هذه الدول، فلم يعد هناك وجود لأي فاصل بين الإدارة الأميركية والشؤون الوطنية لدى كل دولة من الدول. يمارس ترامب بلطجة هدفها تخويف الدول الأخرى لدفعها إلى تقديم التنازلات التي يريدها. وطبعاً يهدف من وراء ذلك للوصول إلى إشراك هذه الدول في مسار الاتفاقات الابراهيمية التي يريد استكمالها. كما أن هناك ضغطاً واضحاً يتصل بكيفية إعادة تركيب السلطة في كل دولة من هذه الدولة، ومعالم ذلك ستتضح لاحقاً.

تخريب سوريا

هذا الواقع هو ما تستفيد منه إسرائيل، والتي تسعى إلى تثبيت وقائع معينة، بالاستناد إلى موازين القوى التي تميل لمصلحتها في هذه المرحلة، لترجمتها عبر تحقيق أهداف سياسية. وهي تحاول استغلال ما تحققه عسكرياً بنسبة 70 بالمئة لترجمته سياسياً بنسبة 150 بالمئة. لذلك يستعجل الإسرائيليون فرض مسارهم، نظراً لاستشعارهم بإمكانية حصول أي تراجع في اندفاعة ترامب لاحقاً، أو حصول أي اهتزاز في وضع نتنياهو بالداخل الإسرائيلي. هذا الاستعجال هو الذي يدفع رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى التصريح العلني في السعي إلى تخريب سوريا وزرع الفوضى فيها، ولو اقتضى ذلك تقسيمها إلى كانتونات.

كل ذلك لا يمكن أن ينفصل في تأثيراته عن الساحة اللبنانية. وهو ما قد يدفع الإسرائيليين إلى توسيع الانتشار أكثر في جنوب لبنان، وربط بعض المناطق ببعضها البعض، مثل ربط قرى الشريط الحدودي عسكرياً بالمستوطنات، وربط قرى في القطاع الشرقي مع مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وصولاً إلى ربطها بالمناطق التي يسيطر عليها في جنوب سوريا.

كما قد تتصاعد مجدداً الدعوات لإقامة منطقة عازلة في جنوب لبنان، وإطالة أمد الانتشار العسكري الإسرائيلي في تلك النقاط، وجعلها ورقة ضغط تُستخدم لاستدراج لبنان إلى اتفاقات سياسية.

المدن

————————–

إسرائيل وعشقها المشروط للدروز/ ثائر أبو صالح

الأربعاء 2025/03/05

ألتمس العذر مسبقاً لأنني سأتكلم لأول مرة، وأتمنى أن تكون أخر مرة، بشكل طائفي، ولكن في بعض الأحيان الضرورات تبيح المحظورات.

يطالعنا بين الفينة والأخرى رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو وبعض وزرائه، معلنين عشقهم للطائفة الدرزية والاستعداد للدفاع عنها ضد ما يحدق بها من مخاطر، وفي هذا السياق يخطر على بالي بعض الأسئلة التي أحب أن أوجهها لنتنياهو ووزرائه والحكومة بشكل عام. أولاً الدروز في الجليل والكرمل فرضت عليهم الخدمة بالجيش الإسرائيلي ويتساوون مع اليهود بالواجبات، فلماذا لا تساويهم حكومة إسرائيل بالحقوق؟ بل ذهب الكنيست الإسرائيلي لأبعد من ذلك فحولت التفرقة العنصرية إلى قانون من خلال سن “قانون القومية” وجعلت من غير اليهود أي العرب مواطنين من الدرجة الثانية وبضمنهم طبعاً الدروز، وكذلك صادر الكنيست أراضيهم وسنّ قانون “كامينتس”، وبدأوا باستصدار أوامر هدم لبيوتهم التي بنيت على أراضيهم واعتبرتها دوائر التنظيم الإسرائيلية غير مرخصة، وهكذا ثبتّوا المقولة المتداولة بين الدروز أن “الدروز يهود بالواجبات وعرب بالحقوق”.

أما بالنسبة لدروز الجولان فحدث ولا حرج، وأنا لا أريد أن أعود إلى سنوات السبعين والثمانين والحكم العسكري الذي عانى منه أهل الجولان، ولا إلى أيام الإضراب الذي أعلنوه بعد ضم الجولان وحصار القرى وزج القيادات والناشطين في السجون، فقط سأذكركم بمشروع المراوح الأخير الذي لم ننتهِ منه بعد، والذي يهدف لمصادرة الآلاف من الدونمات من أراضينا الزراعية، وعندما وقف أهل الجولان بوجه هذا المخطط ضربتهم الشرطة بيد من حديد واقتلعت عيون بعض شبابهم وحطمت عظام الأخرين.

أما بالنسبة لدروز لبنان؛ فهل نسيتم بعد غزو إسرائيل للبنان في حزيران 1982، كيف استغل حزب الكتائب، الوجود الإسرائيلي للسيطرة على الجبل فاصطدم مع الدروز في معارك ضارية ووقفت إسرائيل بأحسن حال تتفرج على قتل الدروز وتدعم الكتائب بالسر، فقد تحالفت إسرائيل مع الكتائب وحاول الرئيس اللبناني حينها أمين الجميل تمرير اتفاق 17 أيار عام 1983، والذي أُسقط لاحقاً، وكلنا يذكر ظاهرة انشقاق بعض الجنود من دروز إسرائيل والالتحاق بدروز لبنان، الذي كان يقودهم الحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة الأستاد وليد جنبلاط.

أما بالنسبة لدروز السويداء؛ أين كان هذا العشق عندما قامت داعش بالتواطؤ مع النظام البائد، بالهجوم على قرى السويداء الشرقية في تموز/يوليو 2018، وقتلوا المئات وخطفوا النساء والأطفال؟ ألم يكن الدروز أحباءكم في حينه؟ وسلاحكم الجوي يسرح ويمرح في أجواء سوريا؟ هل كنتم عاجزين عن قصف داعش شرقي السويداء، وأين كنتم عندما هُوجم الدروز في جبل السماق في “قلب لوزة” في حزيران/يونيو 2015، وقُتل العديد منهم على أيدي المتطرفين الإسلاميين؟

سأكتفي بهذه الأمثلة فقط لأعّري عورة العشق المزيف أمام من يهتف لإسرائيل، كنتم دائماً تريدون تقسيم سوريا وإقامة دويلة درزية، على غرار ما فعلتم بجنوب لبنان لاحقاً (دويلة سعد حداد)، ونقل دروز الجليل والكرمل إلى الجولان لتسيطروا على قراهم، ولم تنجحوا بذلك بعد هزيمة العرب في حزيران/يوينو 1967، ودروز الجولان هم من أفشل التقسيم، وتعرفون ذلك جيداً. واليوم تريدون أن تستغلوا ضعف سوريا لتعيدوا الكرّة من جديد، على حساب الدروز، ولكن اعلموا أن أشراف السويداء وقيادتهم الدينية والزمنية سيفشلون مخططكم للمرة الثانية، فهم أحفاد سلطان باشا الأطرش الذي أفشل مخطط إقامة دولة للدروز في بداية العشرينات من القرن الماضي ووحد سوريا.

أنتم دولة تسعى وراء مصالحها ولا ضير في ذلك، كل الدول تفعل ذلك، ولكن كفّوا عن ظلم هذه الطائفة واستعمالها أداة لمشاريعكم، فلن تنجحوا، فقط ستثبتون طبيعتكم التي نعرفها على أنكم دولة استعمارية توسعية بامتياز، وستصلون إلى النتيجة التي وصل إليها نابليون عندما حاصر عكا وطلب من الدروز دعمه واعداً إياهم بإقامة دويلة لهم، فرفضوا ووقفوا ضده ففشل في فتح عكا.

وأخيراً أريد أن أقول لبعض إخواننا من باقي الطوائف؛ وآسف عل هذه اللهجة، والتي لم اعتَد عل استعمالها، ولكن وصلنا إلى مرحلة يجب أن نضع فيها الحقائق على الطاولة بكل صراحة، إن كتاباتكم التحريضية على الدروز لا تجعلكم وطنيين وأشراف، وتحول الدروز إلى عملاء، فتاريخ الدروز يشهد لهم، خصوصاً في السويداء، وليسوا بحاجة لشهادة أحد، بل بعملكم هذا للأسف تصبون الماء على يد إسرائيل ومشاريعها، عليكم الوقوف بجانب المستهدفين من إخوانكم بني معروف في التصدي لمشاريع التقسيم، فماذا يفيدكم إدانة الدروز إذا تقسمت سوريا؟

إن هذه التهجمات من البعض، والذين لا يعبرون حتماً عن الأشراف من باقي الطوائف وهم كثر، يذكرني بهزيمة حزيران 67، عندما أعلنت القيادة المهزومة أن من تبقى من سكان الجولان الدروز في أرضهم هم سبب الهزيمة، في حين هرب قائد الجبهة أحمد المير بلباس مدني وهو يمتطي حماراً، وذلك عندما أعلن وزير الدفاع آنذاك حافظ الأسد، سقوط القنيطرة قبل دخول الجيش الإسرائيلي إليها بساعات وعُرف ببلاغ ال66، لتثبت الأيام بعد سنوات من النضال، أن من حافظ على عروبة الجولان هم السكان الذين تمسكوا بأرضهم.

يجب أن يدرك الدروز وغيرهم، أن إسرائيل وكذلك الدول بشكل عام تحب مصالحها فقط،  وفي حال تعارضت مصلحتها مع  مصلحة أي مجموعة، تنقلب عليها فوراً، فانظروا إلى ما فعله نتنياهو وحكومته مع المخطوفين في غزة، فمع أن غالبيتهم هم من اليهود الإسرائيليين، ولكن عندما شكلت عودتهم خطراً على استمرار حكومته تركهم لمصيرهم، فتخيلوا ماذا يمكن أن يفعل مع غير اليهود!

المدن

—————————–

الاعتراف بالهزيمة تجنّباً لهزائم أكبر/ حازم صاغية

تحديث 05 أذار 2025

من البديهيّات التي يتطلّبها حلّ مشكلةٍ ما الاعتراف بوجودها، والمشكلةُ في لبنان هي الهزيمة. لكنّ «حزب الله» لا يعترف بأنّ هزيمة حصلت. أمّا الاحتلال والتدمير، وهما من نتائجها، كما أنّهما مَرئيّان جدّاً يستحيل إنكارهما أو الجدل فيهما، فيُردّان إلى شرّ شبه ميتافيزيقيّ يقيم في طبيعة عدوانيّة وغرائبيّة.

لكنّ الحزب يسأل الدولة اللبنانيّة أن تحرّر وتعمّر، أي أن تمحو آثار هزيمة قادنا إليها، وبعدما مُني بها قال إنّها لم تحصل. وهو إذ يقول ذلك، متنصّلاً من كلّ مسؤوليّة، يكون يعلن «نصره» على باقي اللبنانيّين، إذ يستحيل إعلان «نصر» كهذا حيال إسرائيل. وبهذا لا يكون الحزب يفعل غير رشّ الملح على جرح الانقسامات الأهليّة العميق.

والحال أنّ بعض الناطقين بلسانه باتوا يهدّدون، بلغة لا مواربة فيها، بما لا يقلّ عن حرب أهليّة تنتظرنا وراء الباب، وهذا فيما «المعتدلون» منهم يطالبون الدولة بمهمّة انتحاريّة، هي تكرار ما فعلته المقاومة، وإلّا كان الويل والثبور.

هذا التعطيل الداخليّ المعيق لكلّ شيء آخر، والمتسبّب بأذى غير محدود، يتغذّى على خلفيّة تزيد إضعافنا، لا سيّما في مواجهة التحدّي الإسرائيليّ الكبير. فنحن خارجون من تجربة مهترئة ومفلسة، لعب «حزب الله» الدور الأساسيّ في جعلها هكذا، ونجم عنها إمعان في تصديع النسيج الوطنيّ المهلهل. أمّا التعامل المسؤول مع حال كهذه فيستدعي، قبل كلّ شيء، أن نتحدّث بتواضع ومصارحة، وبروحيّة نقد ذاتيّ صادق، متمسّكين بما تبقّى من إجماعات بالغة الضآلة يحاول الحكم والحكومة الجديدان تمثيلها ورعايتها. والمؤكّد أنّ نهش هذين الحكم والحكومة والتشهير بهما، وهما لا يملكان حتّى الآن، وسط إدقاع شامل سبّبه الحزب وحربه، غير رساميل رمزيّة مبعثرة، إنّما يرقى إلى استدعاء للانتحار الجماعيّ.

فالنهج الذي يجمع بين إنكار الهزيمة ونفي المسؤوليّة الذاتيّة، والتشهير بالحكم والحكومة، وممارسة الغنج والدلع، وخصوصاً التحايُل والغشّ في أمر تسليم السلاح، مرشّح أن يغدو ذريعة لتوسيع التدخّل الإسرائيليّ في لبنان وتعميقه، ناهيك عن منع إعادة الإعمار حتّى لو توفّرت أدواته. وهذا ما سوف يكون آخر الهدايا المسمومة التي تقدّمها المقاومة للبنان، بل للطائفة الشيعيّة نفسها.

صحيح أنّ المطلوب دائماً، فيما يُراد نزع سلاح الحزب، إشعار الطائفة المذكورة بالاحتضان الوطنيّ، وعدم إشعارها بأنّها شريكة في هزيمة الحزب. لكنّ مفتاح هذه المهمّة الحيويّة يبقى في يد «حزب الله»: فهو إذا أقرّ بالهزيمة ووافق على نزع سلاحه، فتح الباب لطمأنة طائفته وشجّعها على تجديد الاندراج في الحياة السياسيّة. أمّا عدم الإقرار والتمسّك بالسلاح والتهديد بالحرب الأهليّة فتُبقي غير الشيعة متخوّفين، إن لم يكن من السلاح نفسه فممّا قد ينجرّ عنه ويترتّب عليه. وهذا ما يجعل الأخيرين، ممّن لا يملكون ترف طمأنة سواهم، يطلبون الطمأنة لأنفسهم فحسب.

يحدث هذا وسط مناخ إقليميّ ودوليّ قاتم. إذ لا بدّ من ملاحظة حجم الانتصار الإسرائيليّ على مستوى المنطقة، معطوفاً على تفسّخ العلاقات الأهليّة فيها، وعلى القحط السياسيّ الذي أحدثه نظاما الأسد و»حزب الله». فمع الهزيمة التي يلفّها الإنكار، تكثر البراهين على أنّ الدولة العبريّة تخطّط لأن تكون شرطيّ المنطقة، ولأن نكون نحن، في سوريّا كما في لبنان، حرس حدودها ودويلاتٍ عازلة تقف بينها وبين تركيّا.

فمن استراتيجيّة بناء المناطق الحدوديّة العازلة، إلى احتمال تجديد الحرب على غزّة والتهديد بمواصلتها «على سبع جبهات»، ثمّة ما لا يجوز الاستهانة به أو الردّ عليه بـ»المراجل» الفارغة. وها نحن نرى بأمّ العين كيف باتت اليد الإسرائيليّة طليقة في التلاعب بأحشاء بلدان المشرق وبدواخلها الطائفيّة والإثنيّة، كما يداهمنا فرز لا يكتفي بشقّ الجماعات، بل يعدم كلّ موقف «وسطيّ»، وكلّ محاولة تسوويّة «لصون ماء الوجه»، رسميّةً كانت أم على المستوى الفكريّ والثقافيّ.

وإذا حصل الأسوأ في سوريّا، أكان انطلاقاً من الجنوب أو من الشرق أو من الساحل، بات من شبه المستحيل أن ينجو لبنان بنفسه.

أمّا أحوال الدول الصغرى، في موازين يومنا الراهن، فلا يلزمنا الكثير من التكهّن في صددها بعد لقاء البيت الأبيض الشنيع بين الرئيسين ترمب وزيلنسكي. وأمّا ما تبقّى للبنان من صداقات وتأثير فيمكن تبديده حين نعرّضه لامتحان بالغ القسوة عنوانُه التمسّك بالسلاح غير النظامي وطلب المكافأة على انتصار لا يُقنع أنصاره أنفسهم. هكذا يفعل الحزب ومناصروه كلّ ما لا يُفعل بهدف البرهنة على أنّ السياسة والديبلوماسيّة لا تجديان، وما علينا سوى الإقدام على الانتحار الجماعيّ بتحوّلنا «كلّنا مقاومين».

لكنْ بدل أوهام رجوع الشيخ إلى صباه، وترجمتُها المباشرة التحايُل على القرار 1701، يغدو التكاتف بيننا، انطلاقاً من كوننا مهزومين ننوي ضبط الهزيمة عند الحدّ الذي بلغته، مهمّة المهمّات والممرّ الوحيد الضيّق إلى نهوض ما.

الشرق الأوسط

——————————-

القلق على سوريا/ طارق الحميد

تحديث 05 أذار 2025

هناك قلق على سوريا، من ناحية أمنها واستقرارها ووحدتها، ولأسباب عدة، وهو قلق مبرر، ورغم قناعتي الراسخة بأن سوريا اليوم أفضل بعد فرار المجرم بشار الأسد، لكن الطريق مليء بالذئاب، والأخطاء، وبعض الأخطاء أخطر من العدو، وتخدمه.

هناك قلق من التدخلات الإسرائيلية الشريرة، ودون أي مبررات تذكر، بل إنها محولات شريرة من إسرائيل ونتنياهو، من أجل تعقيد المشهد السوري، وإشعاله من أجل إغراق سوريا بالفوضى.

وهناك قلق من فلول النظام التي تُدعم الآن من بعض الدول الإقليمية، وليس بالضرورة تلك الدول نفسها، بل مكونات في داخلها، ففي لبنان هناك «حزب الله»، وفي العراق هناك الجماعات المحسوبة على طهران.

وبالنسبة لإيران فهي لا تخفي ألمها من سقوط الأسد الذي كان بمثابة شريان مشروع تصدير الثورة في المنطقة، وخط إمداد تمويل النفوذ الإيراني من لبنان إلى غزة، وصولاً إلى البحر المتوسط. وسبق لقائد قوات «الحرس الثوري» حسين سلامي قول ذلك علناً.

حيث قال إن سوريا تمثل «درساً مريراً لإيران»، مشيراً إلى تصريحات المرشد الأعلى بالقول: «سوريا ستحرر على يد شبابها الأبطال»، وأن ذلك «يتطلب وقتاً وصموداً عظيماً وعزماً راسخاً وإيماناً جميلاً». والتخطيط والمؤامرات على سوريا قائمة ومستمرة.

وقد يقول قائل إن القلق مبرر، ومنذ سقوط الأسد، وصعود «هيئة تحرير الشام»، وقناعتي أن قلة قليلة صادقة بهذا التقييم، بينما قلق كثر كان وما زال ذا دوافع مختلفة، خصوصاً من كانوا ينافقون «حزب الله» ويبررون له، أو من يدافعون عن «حماس» للآن.

وعليه، القلق على سوريا يتلخص في عدة نقاط، الأولى هي التردد في اتخاذ القرارات الداخلية الجادة السريعة لتسيير عجلة الحياة، وأهمها تشكيل حكومة كفاءات حقيقية، والاستعانة بكل الخبرات.

والثانية هي عدم الحرص على الشفافية من حيث إطلاع السوريين، والمحيط العربي، إعلامياً، أولاً بأول، على حقائق الأمور، وعبر إيجاز صحافي يومي، خصوصاً وأن الأحداث متسارعة، وكذلك إطلاع السوريين على حقائق أمورهم المعيشية والصعوبات.

الثالثة هي انكفاء سوريا الجديدة الآن، وبعد زخم الشهرين الأولين عربياً ودولياً، حيث لا بد من زيارات عربية وإقليمية ودولية للتحذير من الخطر الإسرائيلي والإيراني. وهنا مثال بسيط على ضرورة التعاطي مع الأحداث المهمة، حيث كان يفترض، وفور إعلان وليد جنبلاط رغبته زيارة سوريا بعد التصريحات الإسرائيلية عن الدروز، أن تسارع دمشق فوراً بقبول المبادرة، وترحب بالزيارة، وبأي لحظة، لأن من شأن ذلك تسليط الضوء على خطورة التدخل الإسرائيلي، وترسيخ الوحدة السورية.

الرابعة، كان يفترض بدمشق أن تذكر المجتمع الدولي عبر بيان بخطاب الشرع لترمب، وتصريحاته السابقة عن أن سوريا الجديدة منهكة من حروب لا طائل لها، وتذكر المجتمع الدولي بخطورة ما تفعله إسرائيل، وإيران وأتباعها.

وكذلك خطورة عدم تعليق، أو رفع، العقوبات على الداخل السوري، مع الإسراع بخطوات إصلاحية تحرج الجميع، وتثبت أن النظام الجديد جاد بجعل سوريا عضواً فاعلاً عربياً ودولياً، وعكس ما فعله الأسد، ومن هم على شاكلته من أعوان إيران.

هذه نصيحة محب، وحريص.

الشرق الأوسط

—————————–

ماذا تريد إسرائيل من سوريا… تغيير النظام أم محاربة النفوذ التركي؟/عبدالله سليمان علي

تحديث 05 أذار 2025

توسّع إسرائيل يوماً بعد يوم دائرة تدخلها في المشهد السوري، وسط تساؤلات عن الهدف الذي تسعى إليه، وما إذا كان متعلقاً فقط بترك بصمتها على سيناريو التقسيم الذي بات عدد كبير من السوريين يتعاملون معه على أنه قادم لا محالة، أم يأتي في سياق الصراع المكتوم بين تل أبيب وأنقرة على سوريا ورغبة الأولى في رؤية نظام حكم في دمشق ينأى بنفسه عن سياسة المحاور، وهو ما أكده لـ “النهار” قائد   فصيل سوري شارك في عملية “ردع العدوان”.

وكانت إسرائيل رسمت بالنار الأسبوع الماضي حدود المنطقة المنزوعة السلاح التي تريد إنشاءها في جنوب سوريا على مساحة أربع محافظات هي القنيطرة ودرعا والسويداء وجزء من ريف دمشق. وتدخلت بشكل فجّ في ملف مدينة جرمانا في ريف دمشق مهددة بالتدخل لحماية الدروز أثناء تحضير قوات الأمن العام لاقتحام المدينة على خلفية مقتل أحد عناصرها.

وشنت طائراتها أمس غارات على مواقع عسكرية في طرطوس ومشارف القرداحة في ريف اللاذقية. بعد ساعات من تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر أنه لا يحق للإدارة الجديدة في سوريا استهداف الدروز والكرد والعلويين، متذرعاً بأنها “ليست حكومة منتخبة بل مجموعة من الجهاديين”.

وطاولت الغارات الجوية كتيبة للدفاع الجوي قرب معمل الرائد للحديد على أوتوستراد طرطوس – اللاذقية، وكذلك مستودعاً للأسلحة قرب مدينة القرداحة. وذكرت مصادر لـ “النهار” أن المستودع كان يحوي صواريخ أرض – جو وصواريخ بحرية. وأفادت مصادر أخرى بأنه شوهد رتل روسي ينسحب من النقاط المستهدفة قبل وقت قصير، ما يشير بحسبها إلى وجود تنسيق روسي – إسرائيلي.

وبصرف النظر عن الهدف العسكري المباشر للغارتين، فمما لا شك فيه أنها تأتي في سياق الرسائل التي واظبت إسرائيل أخيراً على إرسالها إلى السلطات الانتقالية في سوريا ومفادها أنها لا تملك حرية الحركة في البلاد، وأن سيطرتها هشة، ومستقبلها غير واضح.

وللمرة الأولى ترافق الاستهداف مع انتشار إشاعة تفيد بإرسال الجيش الإسرائيلي رسائل تحذير إلى أهال من الساحل السوري قبل تنفيذ الغارة. وفيما أكد مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان  رامي عبد الرحمن وصول هذه الرسائل إلى بعض الهواتف في الساحل، رصدت “النهار” حملة نفي واسعة لذلك في مواقع التواصل الاجتماعي من أهالي الساحل. كذلك نُقل عن الجيش الإسرائيلي نفيه “إرسال رسائل تهديدية للساحل السوري”. وتبدو صيغة النفي غير واضحة لأن الرسائل المشار إليها كانت تحذيرية وليست تهديدية.

التطورات في الساحل سرعان ما تلتها تطورات في الجبهة الجنوبية التي تعتبرها إسرائيل الأكثر أهمية لأمنها. فقد وصلت قوات إسرائيلية مساء الاثنين إلى منطقة تل المال الاستراتيجية الواقعة بين محافظتي درعا والقنيطرة، وسط حديث عن تنفيذ إنزال جوي في المنطقة، وترافق ذلك مع دخول آليات إسرائيلية ثقيلة إلى بلدة مسحرة قاطعة الطريق الواصل إلى بلدة الطيحة في ريف القنيطرة. ويعد ذلك أبعد مدى وصلت إليه القوات الإسرائيلية على بعد حوالى 20 كيلو متراً عن مركز القنيطرة.

وفي خطوة ذات دلالة رمزية، خصوصاً وسط التجاذب الذي تشهده أوساط النخب الدرزية ووصلت أصداؤه إلى لبنان، سُجّل أمس أيضاً رفع العلم الإسرائيلي على دوار العنقود في مدخل السويداء من مجهولين، ورغم مسارعة الأهالي إلى إنزال العلم وإحراقه إلا أن رسالة رفعه كانت قد وصلت.

واستبعد القائد العام لجهاز مكافحة الإرهاب السوري الجنرال أنس محمد الشيخ الملقب بـ”أبو زهير الشامي” أن يكون هدف إسرائيل حماية أمنها القومي مما تقول أنه تهديد بسبب وجود تنظيم جهادي على حدودها.

وقال لـ”النهار” إن “سلطة هيئة تحرير الشام في دمشق اليوم ضعيفة والتهديد الذي قد تشكله ليس قريباً لكنه محتمل على المدى البعيد، لذلك فإن الهدف الحقيقي لإسرائيل هو إخراج التركي الذي سوف يرعى استقرار النظام الجديد بشكل يجعل من الصعب تغييره في ما بعد”.

وتأتي أهمية تصريحات الشيخ أنه كان في 8 تشرين الثاني/نوفمبر، أكد امتلاكه معلومات موثوقاً بها مفادها أن عام 2025 سيكون من دون نظام الأسد، وهو ما تحقق فعلاً في 8 كانون الأول/ ديسمبر رغم أن الأجواء السائدة لم تكن توحي إمكان حدوثه.

وفسر مصدر قريب من الجهاز لـ”النهار” معلومات الشيخ على أنها نتيجة علاقته بقيادة التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “داعش”.

وبحسب ما قال الشيخ لـ”النهار” في أول حديث له إلى وسيلة إعلامية منذ سنوات، فإن إسرائيل تستخدم موضوع وجود سلطة مصنفة ذات تاريخ متعلق بالإرهاب وتشكل تهديداً للأقليات، لكي تدخل الأراضي السورية برياً نحو العاصمة تحديداً.

 والهدف من ذلك هو توتير الأجواء مع تركيا للوصول إلى حافة الحرب  معها، في خطوة تستهدف استدراج تدخل مجلس الأمن لإصدار قرار يفرض انسحاب الطرفين من سوريا، وبالتالي قيام سلطة توافقية بحسب قرارات المجلس السابقة.

وأضاف: “لم تطلب الأقليات الحماية  من إسرائيل (باستثناء جهات يجري تشكيك في تبعيتها)، ومع ذلك تركز إسرائيل حالياً على الدروز وبشكل خاص في ضواحي دمشق (جرمانا)، ما يوحي رغبتها في الدخول إلى مناطق محيطة بدمشق والسيطرة على مداخلها ومطارها، مشيراً إلى أنها  ورقة ضغط سهلة ورخيصة جداً بعد دمار أسلحة الجيش بكاملها وحله، ولكنها ورقة ذات قوة سياسية كبيرة.

وقال من الناحية العملية لا توجد لدى إسرائيل وسائل ضغط أخرى لإخراج تركيا من سوريا عسكريا واستخبارياً، لافتاً إلى أن إسرائيل لم تقبل سقوط نظام الأسد التابع لإيران لكي تستبدل به نظام  الشرع الموالي لتركيا، والداعم – بحسب قوله- للجهاد الإسلامي وتحرير فلسطين (حماس) ما يجذب المجاهدين الإسلاميين من كل دول العالم إلى سوريا.

النهار العربي

——————————

تل أبيب تبتلع المزيد من أراضي سوريا.. تفرض احتلالًا وتعرض على المواطنين أعمالًا داخل إسرائيل

إبراهيم درويش

تحديث 05 أذار 2025

نشرت صحيفة “فايننشال تايمز” تقريرًا شارك فيه عددٌ من مراسليها، قالوا فيه إن سوريا يتم ابتلاعها من خلال التوسّع المستمر للجبهة الإسرائيلية الجديدة. وقالوا إن الجيش الإسرائيلي يستخدم الحفارات والدبابات والقنابل للسيطرة على أراضٍ سورية، وإعادة تشكيل الحدود.

وجاء في التقرير أن الدبابات الإسرائيلية تجول عند انقطاع التيار الكهربائي، شوارع مدينة البعث (سميّت أخيراً مدينة الشام) الرئيسية لِتُذكّر سكان المدينة أنهم ليسوا وحدهم.

وقد أصبح السكان المحليون معتادين على الدوريات الليلية التي دمّرت شوارعهم وأرصفتهم، وجرفت أراضيهم الزراعية، واخترقت بوابات المباني الحكومية المحلية التي شوهت حديثًا بشعارات غرافيتي جديدة بلغة لا يستطيعون قراءتها، أي العبرية.

ونقلت الصحيفة عن فاطمة، وهي معلمة في المدينة، عاصمة محافظة القنيطرة: “الدبابات في كل مكان. لم نعد نخرج ليلًا بسببها”.

ولكن هذه الدبابات لا تعود إلى حكام دمشق الجدد، ولا إلى أي من الفصائل المسلحة العديدة في البلاد، بل لإسرائيل. فمنذ الإطاحة بنظام بشار الأسد على يد الفصائل الإسلامية بقيادة الرئيس الحالي أحمد الشرع، في كانون الأول/ديسمبر، تقوم إسرائيل بحملة عسكرية عدوانية، حيث استولت على منطقة عازلة عمرها خمسة عقود “إلى أجل غير مسمى”، وقصفت ما تقول إنها أهداف عسكرية، واعتدت على مدن وقرى مثل مدينة البعث.

وفي الأسبوع الماضي، زاد قادة إسرائيل من التصعيد، وشجبوا قادة سوريا بأنهم “النظام الإرهابي للإسلام الراديكالي”، وهدّدوا بحملة عسكرية واسعة لو قامت قوات الحكومة بمهاجمة المجتمع الدرزي.

وكل هذه التهديدات، مع أن الإدارة السورية الناشئة بقيادة الشرع لم تصدر تهديدات ضد إسرائيل، أو قامت بأعمال استفزازية. وبخلاف هذا يسعى القادة الجدد للتواصل مع الغرب والقوى الإقليمية مؤكدين على أن تركيزهم لا ينصب على نزاع جديد، بل على إعمار البلاد وتوحيدها، بعد أكثر من 13 عامًا من الحرب الأهلية.

وتقول الصحيفة إن وراء الأفعال الإسرائيلية العدوانية خطة جديدة، على ما يبدو، لإعادة ترسيم الحدود، وبناء ميزان القوة الجديد مع جيرانها.

ففي أعقاب هجوم “حماس”، في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، عندما فشلت الجدران العالية، والقوات الجوية المتفوقة، ونظام الاستخبارات المتقدم، بمنع المسلحين من التسلل إلى جنوب إسرائيل، شرعت السلطات في توسيع وتقوية حدود إسرائيل بشكل كبير.

وقامت إسرائيل ببناء منطقة عازلة في داخل غزة، وسيطرت على خمس مواقع في داخل لبنان، وأرسلت قواتها إلى الضفة الغربية، ووضعتها في مخيمات اللاجئين، وأنشأت منطقة أمنية في جنوب-غرب سوريا. ونقلت الصحيفة عن مسؤول عسكري إسرائيلي قوله: “الدرس الأساسي هو أنك لا تستطيع السماح لجيش إرهاب على بابك”.

وتقول دارين خليفة، المستشارة البارزة في مجموعة الأزمات الدولية ببروكسل، إن إسرائيل “تعمل، وبشكل استباقي، على رفع الرهانات في المنطقة، وتحاول القضاء على أي مخاطر محتملة، وهي على استعداد لتحمّل الكثير من المخاطر في القيام بذلك، ودفع الحدود أكثر مما فعلت في الماضي”.

وتقول الصحيفة إن سكان مدينة البعث والمجتمعات المجاورة، التي يقطنها الآلاف من الناس يتحمّلون، العبء الأكبر.

فقد فرضت القوات الإسرائيلية احتلالًا فعليًا في قريتين على الأقل، ودمرت المباني الحكومية، وأجرت تعدادًا محليًا وسجلت بطاقات الهوية، بالإضافة إلى الاستيلاء على الأسلحة، وفقًا لسكان تحدثوا إلى الصحيفة. كما شاهد مراسلوها مواقع الدبابات الإسرائيلية والسواتر التي تم بناؤها حديثًا.

وبدأت القوات الإسرائيلية بتوزيع الطرود الغذائية على السكان، والتي تحتوي على الأرز والزيت والطعام المعلّب، إلى جانب البطانيات. وعرضت على المواطنين أعمالًا زراعية في داخل إسرائيل. وقد ترك هذا السكان أمام مأزق الموازنة بين حاجياتهم الأساسية، بعد سنوات من الفقر، ووصفهم بالخيانة، لو قبلوا.

وقال محمد، وهو شاب من بلدة الحميدية التي تتمركز فيها القوات الإسرائيلية: “إذا استمرت الأمور على هذا النحو، وإذا لم تنتعش الأعمال مرة أخرى ولم نحصل على أجورنا، فسيضطر الناس للعمل في إسرائيل، أليس كذلك؟” و”ما هو الخيار الآخر المتوفر لهم؟”.

ففي فترة الفراغ القصيرة التي أعقبت سقوط الأسد، شنت إسرائيل عدة غارات جوية على المواقع العسكرية السورية، حيث ضربت مئات الأهداف، بما فيها الأسلحة الثقيلة وأنظمة الدفاع الجوي والسفن البحرية، ما أدى إلى تدمير ما تبقى من جيش الأسد.

وفي السويداء، شاهدت “فايننشال تايمز” موقعًا عسكريًا تعرّضَ للقصف في كانون الأول/ديسمبر، ودمّرت مستودعات الأسلحة الخاصة به، وظهرت ذخائر غير منفجرة من بين الأنقاض.

وذهب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي شعر بالجرأة من سلسلة من النجاحات العسكرية ضد أعداء إسرائيل على مدى الـ 16 شهرًا الماضية، إلى أبعد من ذلك، في الشهر الماضي، وطالب “بنزع السلاح الكامل من جنوب سوريا”.

وبحسب تحليل “فايننشال تايمز” لصور الأقمار الاصطناعية، قامت القوات الإسرائيلية ببناء تحصينات ومواقع استيطانية، وتوسّعت في الدفاعات التي أقامتها العام الماضي. كما ضربت أهدافًا أخرى، بما في ذلك ما زعمت أنها أسلحة تابعة للنظام المخلوع في معقل الأسد الشمالي في القرداحة، يوم الاثنين.

وترى خليفة أن التعدي الإسرائيلي يمثل تهديدًا للحكومة الانتقالية السورية، و”يخلق المزيد من الضغوط العامة على السلطات في دمشق لتصبح أكثر عدوانية في صد الإسرائيليين، الأمر الذي لا يمكن إلا أن يغذي دائرة العنف”.

 وندد الشرع، الرئيس السوري المؤقت، بـ“التوسع العدواني” لإسرائيل في قمة جامعة الدول العربية، يوم الثلاثاء، ووصفه بأنه “تهديد مباشر للسلامة والأمن في المنطقة ككل”، وحذّرَ من أنه “سيقوّض استقرار المنطقة”.

إلا أن الحكومة الانتقالية، التي لم تنخرط رسميًا بعد مع جارتها، أظهرت القليل من القدرة أو الرغبة في مواجهة إسرائيل. ويخشى كثيرون في مجتمعات مثل مدينة البعث، حيث كان معظم السكان موظفين حكوميين في عهد الأسد، أن تعاقبهم الحكومة الجديدة لعدم وقوفهم مع الثورة.

ومن جانب آخر صوّرت إسرائيل جهودها العسكرية بأنها محاولة لحماية الطائفة الدرزية في جنوب سوريا. وقال وزير الدفاع يسرائيل كاتس، يوم السبت، إن إسرائيل “لن تسمح” لدمشق “بإيذاء الدروز”. وحذّرَ من أنه إذا حدث ذلك “فإننا سنتسبّب لها بالأذى”.

ورفض كثيرون من دروز سوريا تعهد نتنياهو بحمايتهم باعتباره حيلة. وقال يحيى الحجار، زعيم حركة رجال الكرامة الدرزية البارزة في السويداء: “تُدلي إسرائيل بهذه التصريحات لحماية نفسها، فهي تهتم بالأقليات، كما تدعي، من أجل الاستفادة منها”.

وقال الحجار، متحدثًا من منزله في قرية شنيرة في محافظة السويداء: “لم نطلب من نتنياهو أن يعتني بالدروز، نحن نرفض أي مشروع تقسيم يحاول فرضه على البلاد”.

القدس العربي

————————————

========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى