الناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

التسريح ليس إصلاحاً للقطاع الصحّي في سورية/ سوسن جميل حسن

07 مارس 2025

صبر الشعب السوري كثيراً، كان صبره فوق التوقّعات، وتوّج صبره ونضاله بسقوط أكثر الأنظمة قمعاً وإجراماً في العصر الحديث، بعد أن وصمت أنظمة قمعية النصف الأول من القرن العشرين. ستالين وهتلر وموسوليني، من رموز الأنظمة القمعية المستبدّة، صاروا من حكايات التاريخ، بل ذُهل الشعب السوري ممّا لم يكن يعرفه من خفايا النظام البائد، على الرغم ممّا عاشه تحت سلطته القمعية وفساده المتمادي.

تركةٌ من التبسيط وصْفها بالثقيلة، بل هي أكبر من التوصيف، بلاد مدمّرة واقتصادٌ منهار ومجتمعاتٌ متهتّكة وحصار من كلّ صوب، فبعد أكثر من ثلاثة أشهر على سقوط النظام، ما زال الركود يخنق كلّ شيء، وتفاقمت أزمات المواطنين المعيشية. تفاقمت من دون وجود بصيص أمل بحلٍّ قريب، ربّما تحتاج سورية إلى معجزةٍ في وقتنا الراهن. يجثُم هذا الواقع المُعقّد فوق صدر الحكومة الانتقالية وصدر الشعب، فمن أين يبدأ العلاج؟… لا يتعلّق الأمر بالوضع الأمني فحسب، على أهمية هذه القضية ومكانتها في استحقاقات المرحلة، فهناك مشكلاتٌ أيضاً تصطفّ في المقدّمة ضرورةً قصوى، لا يمكن تجاهلها أو مقاربتها بيد قاسية، سورية تحتاج إلى الحُبّ والحنان، تحتاج إلى أمصالٍ تُمرّر عبر شرايينها التي أوشكت على الجفاف والتيبّس، تعيد إلى قلبها القدرة على ضخّ النسغ فيها، فالجوع ليس كافراً فحسب، الجوع ولَّادُ الفوضى التي يمكن أن تصل إلى حدّ الجريمة غير الموصوفة.

شهد الواقع السوري في الأسابيع الماضية عدّة حالات تسريح لموظّفي القطاع العام في عدة مؤسّسات، جديدها أخيراً تسريح عاملين عديدين في القطاع الصحّي في محافظة اللاذقية، وكان قد سبقها تسريح عاملين في القطاع نفسه في محافظة درعا، وبعدها في طرطوس. أمّا ما يتعلّق بتسريح عاملين في مديرية صحّة اللاذقية، وفي المستشفى الوطني، فيمكن لكاتبة هذه السطور الحديث عنه، انطلاقاً من عملها السابق نحو 30 عاماً في وزارة الصحّة، وفي مديرية اللاذقية تحديداً، وتزعم الكاتبة أنها تعرف الواقع الصحّي، بكل ما له وما عليه، بل مفاصل الفساد فيه، وكيف كانت القيادة الحزبية والفروع الأمنية تتدخّل في آلية العمل والتعيينات وغيرها، مثل باقي مجالات القطاع العام في سورية. ولكن لا يمكن إغماض العينين عن حقيقة ما كان يقدّمه المستشفى الوطني من خدمات للقاعدة الشعبية، التي باتت فيها رقعة المحتاجين إلى خدماته تزداد بتواتر كبير مع تردّي الأحول المعيشية للناس، وتدنّي دخولهم التي لم تعد تكفي لتأمين الحدّ الأدنى من الغذاء المقتصر على رغيف الخبز وكأس الشاي المُحلَّى بقليل من السكّر.

كان الضغط يزداد باطّراد على هذا القطاع الصحّي، شبه المجّاني، بما يقدّم من خدمات صحّية، في وقت تزداد فيه المشكلات الصحّية، وهي في ازدياد تماشياً مع قلّة الغذاء، وما يترتب منه من ضعفٍ للجسم وتراجع الجهاز المناعي لدى الأفراد، واستباحة للجسم من أمراض عديدة. صارت مراجعة الطبيب في عيادته الخاصّة، لأبسط شكوى صحّية، مكلفةً بما يفوق قدرة الفرد السوري، فكيف بالأمراض المزمنة التي يعانيها كثيرون في المجتمع؟ بل الأمراض التي تحتاج إلى تدخّل جراحي ينقذ المريض، وهذا من حقّه.

تراجع المستوى المعيشي، وشحّ الخدمات أو انعدامها، يجعلان من الأمراض الموسمية قنابلَ موقوتةً تهدّد صحّة المجتمع، ولقد حذّرت منظّمة الصحّة العالمية، في ديسمبر/ كانون الأول 2022، من خطر تفشّي وباء الكوليرا في سورية، وهذا الخطر قائم باستمرار، بل يزداد يوماً بعد يوم. ليس الكوليرا فحسب، بل أمراض كثيرة لا يمكن محاصرتها فيما لو تفشّت في المجتمع، في وقتٍ يفتقر فيه المواطنون إلى الخدمات الضرورية، من كهرباء وماء وصرف صحّي سليم وتدفئة، بل حتى ظروف سكن ملائمة.

لا يمكن تقويم مدى الحاجة إلى القطاع الصحّي في الأوقات المستقرّة في ما يخص الأمراض الوبائية، ومحاولة “التصحيح”، كما ترتئي الحكومة الحالية، بتسريح هذا العدد الكبير من العاملين، هذه مشكلة واجهها العالم في الدول المتقدّمة في أثناء وباء كورونا، وشاهدنا كيف وقفت الحكومات في حالة استنفارٍ حينها من أجل السيطرة على الوضع واستدراك النقص في العنصر البشري المتخصّص في هذا المجال، ما دفع هذه الحكومات إلى إعادة النظر في الواقع الصحّي لديها، وفي القوانين والأنظمة الضابطة لهذا القطاع، واستدراك النقص ومعالجة المشكلات، فكيف بدولة مثل سورية في واقعها الراهن؟ ما مصير المجتمعات في حال تفشّى وباء في هذه الفترة ولم يكن لدى المستشفيات (الحكومية تحديداً) ما يكفي من الكوادر البشرية لمواجهة هذا الوباء؟ الكوادر البشرية في القطاع الصحّي ليسوا أطباء وممرّضين فحسب، إنها شبكة متكاملة من الاختصاصات لا يمكن العمل إذا وجد نقص فيها أو ثغرة قد تبدأ صغيرةً ثمّ تتوسّع بسرعة مخيفة في مواجهة الأزمة الصحّية.

الأمن الصحّي، والأمن الغذائي، ضرورتان مجتمعيّتان، لا يمكن وضعهما في المرتبة الثانية في سلّم الأولويات. صحيحٌ أن السِّلم الأهلي ضرورة ملحّة في الوقت الراهن، إنما لا يمكن تحقيق هذا السلم بملاحقة الأطراف التي تسعى إلى تقويضه، ومصادرة السلاح واحتكاره في يد الدولة فحسب (وهذا مهمّ للغاية)، لكن عندما يرى المواطنون أنفسهم محاصرين أو مهدّدين بالجوع والمرض، من دون توافر الخدمات اللازمة، ومن دون قدرتهم على مواجهة هذه التهديدات بخسرانهم وظائفهم ومصادر عيشهم، بالنسبة للعاملين، وصعوبة الوصول إلى الخدمة الصحّية لدى العامّة، هذا سيُفاقم الأزمة، بل سيصبح سبباً آخر لضعضعة السِّلم الأهلي، وانعدام الأمن في المجتمع.

تبلورت، منذ العام 1946 الذي انطلقت فيه منظّمة الصحّة العالمية، فكرة أن الصحّة شأن عام، وصاغت مفهوماً اجتماعياً للصحّة يقوم على فكرة أن الصحّة حالة من اكتمال السلامة بدنياً وعقلياً واجتماعياً، وليست انعدام المرض مثلما كان شائعاً، ومن ثم هي حقّ مهمّ من حقوق الإنسان، على الحكومات توفيره وحمايته من دون تمييز على أساس العِرق أو الدين أو الجنس أو المعتقد السياسي أو الانتماء الطبقي، فكيف يمكن مقاربة أمور تتعلّق بهذا الحقّ في وقتٍ يعاني فيه الشعب في غالبيته الساحقة الفقرَ، والفقرُ أخطر ما يهدّد الإنسان، ويجعل سلامته ناقصةً، بل تتناقص باستمرار؟

معالجة الفساد أو الترهل الإداري، كما تراها الحكومة الحالية، وكما هو الواقع بالفعل في كثير من جوانبه، لا يكون بتسريح العاملين من دون تأمين موارد رزق بديلة، ومن دون تأمين خدمات مجتمعية بديلة أيضاً، خاصّة في القطاع الصحّي في وقتنا الحالي، فالمواطن السوري فقير، وصحّته مهدّدة بسبب الجوع وانعدام الأمن في معظم مجالات حياته، وهو في حاجةٍ ماسّة إلى الرعاية الصحّية، وغير قادر على تحمّل كلفتها، فكيف تجفّف منابع الرعاية الصحية بهذه الطريقة؟… لا يمكن القيام بأعباء الخدمات الصحّية المجتمعية بالأعداد القليلة التي أُبقيت على رأس عملها، فالحاجة كبيرة، والضغط أكبر، والمشافي العامّة ومديريات الصحّة كانت تقوم بالعبء الأكبر، وهي أصلاً كانت تعاني في سنوات الثورة وما خلّفه العنف فيها، تعاني مشكلة كبيرة تبدّت في هجرة كثير من الأطباء، وهاهم الأطباء السوريون في ألمانيا على سبيل المثال يشكّلون نسبةً وازنةً يقوم عليها القطاع الصحّي، بينما سورية تفتقر إلى خدماتهم وعلمهم وتخصّصاتهم.

مُجرّد تصور أن وباءً أو جائحةً ما يمكن أن تتفشّى في المجتمع، يثير القلق إذا ما كانت القدرات الخدمية في القطاع الصحّي محدودةً. لذلك، سيشكّل تسريح العاملين في القطاع الصحّي الحكومي بهذه الطريقة غير المدروسة أزمةً مجتمعيةً كبيرة، أزمة تضاف إلى أزمات أخرى، ربّما ستزيد الاحتقان في المجتمع السوري، وربّما أيضاً تؤدّي إلى انفجار الفوضى بطريقة لا يحتملها الواقع.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى