سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعنصوص

دمشق بعد 45 عاماً  -5 حلقات-/ بشير البكر

دمشق بعد 45 عاماً (1/5): ليلة هروب الدكتاتور/ بشير البكر

01 مارس 2025

يبدو أنك تحلم. حدثت نفسي، حينما انتصف ليل السبت السابع من ديسمبر/ كانون الأول الماضي. احترتُ بين أن أطفئ جهاز التلفزيون وأنام، أو أن أواصل التنقّل بين المحطّات الفضائية لمطاردة أخبار التطورات السورية. وفي لحظة ما، أخذني النعاس وغفوتُ فوق الكرسي، لأستيقظ في الثالثة فجراً على صوت ارتطام صحنٍ كبير على أرض المطبخ، بفعل قفزة القطّة، ردّدتُ على نحو عفوي “انكسر الشر”. أحسستُ أن أمراً مهمّاً حصل، ليس من عادة القطّة أن تفشل في وزن خطاها، عندما تقفز من مكان نحو آخر، هي على قدرٍ من المهارة، جعلتني أشكّ بأنها تقصّدت كسر أكبر الصحون في المطبخ كي توقظني، بعد أن يئستُ من أن أسايرها، عندما استبدّ بها ضجر السجن داخل جدران البيت، بسبب البارد القارس في الخارج.

طالما أن “الشر انكسر” لن أنام، أو ألمّ شظايا الصحن، قبل أن يتبين لي ما يحمله الصباح من مفاجآت. أخذَتْ الرسائل الهاتفية النصّية تتوارد، ولم أكترث، قرّرت ألّا أنظر فيها، فأنا أراقبُ التلفزيون، أريد أن أستوعب ما يحصل رغم تأتأة المذيعين، وعدم ارتياح عديدين منهم لاقتراب قوات عملية ردع العدوان من دمشق، وكنتُ بين الصاحي والنعسان، حين سمعتُ صوت أحد المذيعين يعلن “هروب بشّار الأسد من دمشق”، فكان ردّ فعلي أن جفلت جفلةً كأن لا بعدها ولا قبلها، وطار من يدي جهاز التحكّم بالقنوات، وصمت الجهاز.

فركتُ عينيَّ مرّة وأخرى، كانت الخامسة فجراً في باريس. الليل لا يزال جاثماً، ولم يخرُج أحدٌ في شوارع دمشق ليصرخ إن الأسد هرب، كما حصل في تلك الليلة، حين هبط تونسيٌّ إلى شارع الحبيب بورقيبة وهو ينادي بصوتٍ مرتفع “بن علي هرب”. هرب بشّار، بدأت أستوعب بأنه لم يكن مستحيلاً ذلك الذي كنّا نتخيّله في الأوقات المستقطعة من أحلامنا، لكنه يشبه المعجزة، أدرتُ التلفزيون، وبقيتُ أتنقل من محطّةٍ إلى أخرى، وأنا غير مصدّق، بينما كانت القطّة تتمطّى مرحاً على الكرسي المجاور، وهي تنقل نظرها بيني وبين شاشة التلفزيون.

في الساعة السابعة، بدأت تتوارد الصور الأولى من دمشق، ميزّت من بينها ساحة العباسيين، التي وصل إليها بعض المقاتلين والآليات العسكرية. وحدة حال بين الأهالي والمقاتلين، وهم يلتقطون الصور التذكارية. أحسستُ بأن تلك الصور سوف تدخل التاريخ، لأنها سجّلت أول لحظات فرح دمشق بالخلاص من الأبد الأسدي. وعلى الفور، بدأت تستبدّ بي حالة من الغيرة، تمنّيت لو أني على مسافة قريبة لأنزل إلى الشارع، وأطلق المشاعر المكبوتة منذ عدة عقود.

مرّ 45 عاماً على خروجي من سورية. طوال هذا الوقت لم أزرها، أو أحمل جواز سفرها، وحتى دخول مقرّ دبلوماسي سوري في الخارج. عشتُ بعيداً عن عائلتي وأصدقائي، وبقي التواصل في حدود ضيقةٍ جداً، مخافة أن أتسبّب في أذىً لأحد بعد أن جرى تعميمُ اسمي على أربعة أجهزة أمنية، والحدود البرّية، والجوية، والبحرية.

لم أرتكب جريمةً كي تضعني الأجهزة على لائحة المطلوبين. صحيح أني غادرت البلد بطريقة غير نظامية، لكن سجلّي العدلي كان نظيفاً، كما أني لم أنتمِ لأي حزب سياسي، ولديّ أصدقاء من الأحزاب السياسية كافة. ومع ذلك، بتُّ على لائحة المطلوبين. كان يكفي أن أُبدي رأياً سياسياً مخالفاً، أو أشارك في تجمّع تضامني مع سجين سياسي، أو أكتب مقالاً أنتقدُ فيه القمع، أو أوقّع على البيان الذي دان ذبح مخيّم تل الزعتر، حتى أُصنّف بين المعادين المتآمرين على الوطن. وعلى هذا، جرى إسقاط حقّي في جواز السفر والعودة الآمنة إلى سورية، وكانت عائلتي تطلُب مني ألّا أرجع مهما كانت التطمينات، لأني إذا سلّمتُ نفسي للأجهزة لن أخرج حياً.

ومن بين التّهم الجاهزة، التي كانت مسجّلة ضدي موقفي مع الثورة الفلسطينية، لأني انضممتُ إلى إعلامها في بيروت عام 1980، وتأييدي لها في الدفاع عن القرار الوطني المستقل، الذي كان النظام السوري يحاول بكل السبل مصادرته، وذات يوم أخبرني إعلاميٌ من النظام بأنهم قد يتساهلون معي بكل شيء، إلا تأييدي ياسر عرفات!

قررتُ أن أزور سورية، بعد أن أسقطت الثورة نظام أجهزة الأمن والخوف والسجون والمقابر الجماعية والأسلحة الكيماوية. ورغم أن الآلاف كسروا حاجز الغربة الطويلة، وذهبوا إلى البلد، ومنهم أصدقاء لي تشاركنا الأسباب نفسها في النأي، فإن حالةَ مشاعرٍ مختلطة بقيت تلازمُني، سجلتُ بعض يوميّاتها على صفحتي في “فيسبوك”، وفي مقالاتي في صحيفتَي العربي الجديد والمدن، منذ بدأت الفصائل المسلحة العملية العسكرية ضد قوات النظام في السابع والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني.

لم يكن ممكناً لي أن أقصد سورية في الأيام والأسابيع الأولى، فلا طيران إلى دمشق، باستثناء الهبوط في مطار بيروت، ومنه برّاً إلى دمشق. ونظراً إلى ذلك، تضاعفت أسعار تذاكر السفر التي بدأت تنفد بسرعة، بسبب هجوم وسائل الإعلام العالمية، وهو ما أدّى إلى ازدحام شديد على الفنادق التي لم تكن مهيأة لتوفير التدفئة والكهرباء والإنترنت لعديدٍ من الصحافيين.

كان عليّ الانتظار حتى يبدأ مطار دمشق العملَ، وتباشر شركات الطيران العالمية، إلا أنّ أياً منها لم تبادر إلى هذا سوى الخطوط الجوية القطرية، وبعد حوالى أسبوعين تبعتها الخطوط التركية والأردنية. ومع ذلك، بدت الرحلات محجوزة مسبقاً وبأسعارٍ عالية، وكذلك الأمر بالنسبة للفنادق في دمشق. وبعد شهرين على سقوط النظام، بات أمر السفر أسهل قليلاً، وبدأت مقاعد شاغرة تتوفّر على رحلات الطيران. ولكن الأسعار بقيت مرتفعة، بما في ذلك إيجارات غرف الفنادق. وفي هذا الوقت، بدأ حماس أصدقاء كثيرين اتفقت معهم على زيارة دمشق جماعةً يتراجع، خاصّة أن شهر رمضان المبارك يقترب، وأغلبهم يفضل ألّا يسافر، ويبقى بجوار عائلته في باريس أو لندن. وخامرني شعور بأني كلما أجلت الأمر فقد حسُّ الاحتفال نكهته، وكان هاجسي أن أشارك أهل بلدي حالة الفرح التي تكبر، بلا حدود مع كل يوم يمرّ، وتعم في كل بيت على امتداد الجغرافيا السورية، وأحد مظاهرها عودة آلاف من أمثالي، حرمهم النظام السابق من أحد أبسط حقوقهم في دخول بلادهم والخروج منها من دون رقابة، إذ عمل على تحويل سورية إلى سجن كبير، لا شبيه له.

لم يكن على جدول أحدٍ من السوريين في الخارج السفر إلى دمشق في العام الذي انقضى (2024). كانت المعطيات تؤكد العكس، وكان من المرتقب أن يكون 2025 عام تعويم النظام، وإعادة العلاقات معه عربياً ودولياً، وقد بدأت دول عربية وأوروبية إعادة افتتاح سفاراتها، وأخذت شركات دولية تستعد من أجل إعادة الإعمار.

تركتُ دمشق نحو بيروت برّاً، وها أنا أعود إليها جوّاً. وصلت إليها يوم 19 فبراير/ شباط قادماً من مطار حمد الدولي في الدوحة. وكان في بالي إذا لم أرجع في يوم إلى مطار دمشق مباشرة فسيكون ذلك عن طريق بيروت. ورغم أنني عشتُ أعواماً في لبنان، وتعرّفت على جغرافيته وأهله، إلا أني لم أقترب من النقطة الحدودية مع سورية في منطقة المصنع، تهيّبتُ على الدوام أن أصل إليها، واكتفيتُ بالنظر إلى الجبال العالية التي تفصل لبنان عن سورية، كأنني كنت أخاف أن يمتدّ الطريق أمامي على استقامته، ويورّطني في مغامرة غير محسوبة، سلكتُ الطريق مرّات كثيرة حتى مدينة شتورا، ولم أذهب إلى أبعد من ذلك.

 ها أنا بعد زمن طويل في مطار دمشق. سقط الخوف وحلّت مكانه مشاعر لا يمكن ترتيبها على نحو منطقي، كي تتحوّل إلى برنامج زيارة المكان الذي حرَمنا الأبدُ الأسديُّ من حقّنا فيه، ومنع علينا أن نعيش علاقة صحّية مع بلدنا، أن ندخل ونخرج من دون خوف، نزور أهلنا وأقاربنا وأصدقاءنا، نرجع إلى قرانا ومدننا. نشمّ هواء البلاد ونحسّ حرارة شمسها وبرودة أجوائها الشتائية، ونأكل خبزَها ونشرب ماءها ونسمع أغانيها وقصصها وأشعارها، وأن يحسّ أولادنا بأن لهم جذوراً في تلك الأرض.

وضعتني رحلة الطائرة إلى مطار دمشق مباشرةً مع سورية. صعدت إلى الطائرة في الدوحة، وأنا أحسّ بالفرح لأني سأهبط في مطار دمشق من دون أن أواجه رجال أمن النظام السابق، والكابوس الذي ظل يتكرر في مناماتي، أهبط في مطار دمشق، ويستقبلني رجل أمنٍ على باب الطائرة، يقودني إلى أحد فروع المخابرات. انتقل لي هذا الرُّهاب من روايات أغلبية السوريين الذين كانت تعتريهم مشاعر خوف، حين تبدأ الطائرة بالنزول في دمشق، لا تفارقهم حتى مغادرة المطار. ولّدت هذه الهواجس لديَّ قناعةً بأن سورية البلد الوحيد الذي يحسُّ أهله بمشاعر رعبٍ وهم يدخلونه عائدين من الخارج، بينما تثير العودة إلى البلد فرحة للقاء الأهل والأصدقاء. وهناك كابوس آخر لا يقلّ إثارة للرعب، أن المسافر قد يدخل البلد، ولا يتمكّن من المغادرة، وهذا حصل مع من وجدوا أنفسهم مطلوبين لمراجعة أكثر من فرع أمني، وأمضوا إجازاتهم في مراجعات وتحقيقات ودفع رشاوى، ثم غادروا ولم يكرّروا الزيارة.

تمثل العودة من الدوحة إلى دمشق، بالنسبة لي، لحظة مهمة، تتوّج التقدير لما قدمه دولة قطر للقضية السورية طوال أعوام الثورة، وليس مصادفة أنها اليوم في مقدّمة الدول التي وضعت ثقلها إلى جانب التحوّل الجديد في سورية، من أجل مساعدة هذا البلد على النهوض من الوضع الصعب، وهذا لا يُلغي  شعور الامتنان نحو بيروت، فمطارها شكّل نافذة للسوريين، القادمين إلى بلدهم ومغادريه. لكلّ قادم من الخارج في طريقه نحو دمشق وقفة شكرٍ لهذا الممرّ الذي سمح لمئات آلاف السوريين أن يحلّقوا بعيداً، هرباً من الطغيان، أو يرجعوا لجمع شمل عائلاتهم على أرض لبنان. لا يمكن اليوم أن يمرَّ السوريُّ من لبنان من دون أن يحسّ بالامتنان له وشعبه الذي عوضهم عن الحرية المفقودة، وحنان الأهل.

—————————–

دمشق بعد 45 عاماً (2/5): أول خطوة لاستعادة المواطنة/ بشير البكر

03 مارس 2025

شتُ، قبيل السفر إلى دمشق، حالة من التهيّب في الذهاب نحو اللحظة. فرحٌ لأني سأتمكّن من زيارة بلدي بعد 45 عاماً، وخائفٌ من انكسار الصور الكثيرة التي عشت عليها طوال هذا الوقت، وتغذّت منها مشاعري وأوهامي عن الوطن والمنفى. وبين هذين الهاجسين تأرجح تفكيري كثيراً، وتبدلت مشاعري، مرة يرتفع معدل “الأدرينالين”، وأخرى يرجع إلى الصفر. وكلما تأخر وقت الزيارة فترت همّة السفر، وتراجعت حماسة الأيام الأولى.

أنزل في مطار دمشق، فأجد الناس ينتظرون ذويهم. مضى على بدء عودة السوريين شهران وأسبوع، ولم تتراجع أعداد المسافرين والمستقبلين. لا أمكنة شاغرة على الطائرات من الدوحة وإسطنبول إلى دمشق. وكي يجد المسافر مقعداً بسعر معقول عليه أن ينتظر أكثر من شهر. زحمة كبيرة، كل سوري لم يزر سورية منذ عام 2011 وقبله يخطط لذلك. والسؤال الأول الذي يسأله السوري للسوري في الخارج، هل زرت البلد بعد سقوط النظام؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، يحسُد الآخر صاحبه على تحقيق هذا الحلم، ويستفيض معه بالأسئلة. وأنا أستمع للحوارات باهتمام وفضول، يلحّ عليّ هاجس قوي، يجب أن أذهب إلى دمشق، قبل أن يستولي عليّ إحساس بأني تغرّبت من جديد، وأخذت تراودني مشاعر رفض فكرة الغربة مرّتين.

أتوجه لصعود الطائرة من الدوحة باتجاه دمشق، يأخُذني الفضول لقراءة ملامح المنتظرين في الصالة، لا يبدو أن أحداً من المسافرين انتظر مثلي كل هذا الوقت كي يرجع. حين سمع مني أحدُهم رقم 45 عاماً صفن قليلا، ثم بادرني بالقول: أنت، إذن، من شباب جماعة الإخوان المسلمين الذي فرّوا من سورية عام 1980. … ولم ينتظر مني أن أشرح له أن القمع لم يُجبر الإسلاميين وحدهم على مغادرة البلد.

بعض المسافرين على الرحلة ذاتها أعرفهم، سالم المسلط، الرئيس السابق لائتلاف قوى المعارضة والثورة السورية، وابن مدينتي الحسكة. ورغم روابط كثيرة مشتركة بين أهلنا، فهذه هي المرّة الأولى التي ألتقيه بها، ونتبادل الحديث، ونأتي على الوضع الصعب في منطقة الجزيرة التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ونتفق على أن أبناء هذه المنطقة من العرب مقصّرون تجاهها، وساهم غيابهم عنها في أن تملأ الفراغ أطرافٌ أخرى، بعضها قادم من وراء الحدود.

أدخل دمشق مسكوناً بمشاعر خاصة، مصدرها بُعدي الطويل عن البلد. لم يسبق لي أن نزلت في هذا المطار، سافرتُ منه مرّة واحدة عام 1978 باتجاه مطار القامشلي. كان بدائياً حينذاك، ثم تطور، ولكن ليس إلى حدّ أنه يليق بعاصمة دولة مثل سورية، ولا بالقياس إلى المطارات التي في دول الجوار. المدرّجات والطرقات الداخلية عامرة بالحفر، ولم تتم صيانتها منذ زمن طويل. على الفور، تذكّرت مطار عدن (في جنوب اليمن)، في زمن الاشتراكية، كل ما تراه العين يحيل إلى القطاع العام، الذي ينخرُه الفساد والكسل.

ظلّت مسألة إهمال المطار تثير استغرابي، حتى بدأتُ أتقدّم نحو المدينة على الطريق العام، فبدأت تطالعني تفاصيلُ ذاتُ وقعٍ قاس. لا أتذكّر شيئاً من التفاصيل بين المطار والمدينة. ولكن لا علامات توحي بأن هذا الطريق يقود المسافر إلى قلب دمشق. يشير لي شقيقي سعيد على اليسار، “هناك الست زينب”. كانت المنطقة عسكريةً ولم تعد، وصار بإمكان الناظر أن يلاحظ بساتين الغوطة، وبعض شجيرات اللوز المزهرة.

أول ما تقع عليه العين داخل المطار وخارجه أن هذه البلاد منهكة جدّاً. هناك متغيّراتٌ كثيرة في دمشق. كنتُ مدركاً أني لن أجد المدينة كما تركتُها، فالزمن سيفعل فعله. وخشيتُ في أوقاتٍ كثيرة أن أعود ولا أتعرّف إليها. ولحسن الحظ، ليس في وسع أحدٍ أن ينتزع من المدينة قلبها، وأحشاءها الداخلية. كل ما يمكن أن يفعله أن يوسّع مداها، ويضيف إليها لمسة خاصة حسب الإمكانات ومقتضيات التوسّع العمراني. لكن ما حصل هنا العكس، كأن من حكموها كل هذا الوقت لم يفكّروا بتطويرها، وأهملوا مرافقها خلال العقد الأخير على نحو فاضح. ويقول الخبير الاقتصادي مدير مركز حرمون للدراسات المعاصرة سمير سعيفان إن دمشق عادت نصف قرن في ظل حكم آل الأسد. وهذا تقدير تكتشفه العين حين تتفحّص بعض الأبنية والشوارع التي عبث بها الزمن ولم تتدخّل جهة من أجل حمايتها.

يتساءل القادم عن سبب إهمال النظام وحلفائه الإيرانيين مطار دمشق، الذي استخدموه من أجل وصولهم إلى البحر الأبيض المتوسط. لا إجابة، ويبقى الإحساس الذي لا يقبل الشك أنهم كانوا يحسبون وجودهم أصبح نهائياً، وكلما تراجع حال دمشق، وتآكل عمقها المديني، صارت السيطرة عليها وتكييفها أسهل.

سرعان ما تتبدّد الصدمة على شباك ختم جوازات السفر، ترحيب واهتمام من الفريق المشرف على الأمن. مجموعة من الموظفين لا توحي مظاهرهم بأنهم شرطة حدود، بل أفراد عائلة حضروا لاستقبال العائد. ويكاد لطف هؤلاء الموظفين يُنسي الزائر أن أهلاً جاؤوا لاستقباله، وينتظرونه في الخارج، بعدما قطعوا مسافات طويلة من الحسكة إلى دمشق. الترتيبات العفوية وغياب الفظاظة تجعلان العائد يحسّ بأنه يدخل إلى بلده متمتّعا بحقّ الاحترام كمواطن. هنا تبدأ أول خطوة في استعادة المواطنة التي سلبنا إياها حكم عائلة الأسد.

أسلّم للشرطي جواز سفري الفرنسي، ويتلو عليّ تفاصيل هويّتي من جهاز الكومبيوتر، اسم الأب والأم. ويضع الختم على الجواز، ويعيده لي وهو يبتسم. هذا كل شيء؟ نعم، أهلا وسهلا والحمد لله على السلامة مرّة ثانية، مرّة لأنك رجعت، وأخرى لأنك نجوْت. أنت مطلوبٌ لأربعة فروع أمنية.

وصلت إلى وسط المدينة. ومن هناك قرّرت أن أبدأ تلمّس دربي تدريجياً. وبعدما وضعت أغراضي في الفندق (في حي الصالحية)، اعتذرت من الأهل بعد نهاية مراسم الاستقبال العائلية، وخرجتُ إلى الشارع لأمشي في شوارع المدينة وحيداً. عاد بي الوقت حوالي نصف قرن إلى الوراء، حين وصلت إلى دمشق فجراً للمرّة الأولى قادماً من حلب، وانتظرت حوالي ساعتين كي ينبلج النور لأقصد منزل الشاعر بندر عبد الحميد.

كنتُ في ذلك الوقت أتعرّف إلى المدينة التي لم تكن لدي فكرة مسبقة عنها سوى ما كان يرويه عنها القادمون من زوراها من الأهل والأقارب، الذين كانوا يقصدونها لمراجعاتٍ على أعلى المستويات، أو العساكر الذين كانوا يقضون الخدمة الإجبارية على الجبهة، ويمضون الإجازات في دمشق يتجولون في شوارعها، يقصدون الحمامات الشعبية، ويتفرّجون على واجهات محلات الألبسة والأحذية والزبائن في هذا الحي الذي يتمتّع بسحر خاص، تجتمع فيه كثير من مزايا جاذبية دمشق، ذات الصفات التي تفتن الحواس.

أمشي في الشام بلا خريطة طريق. أحاول أن أوقظ الذاكرة البعيدة. لا أريد أن أقارن بين اليوم والأمس البعيد، ولا أبحث عن الفروقات، بل ملاحظة التحوّل الذي أصاب المدينة التي تعرّضت لهزّات سياسية كبرى طوال العقود التي غبت فيها عنها. تركت لقدميّ أن تقوداني من أول الصالحية إلى آخرها، من عند ساحة عرنوس وحتى ساحة المرجة. استسلمتُ للعبة إعادة تركيب المشهد من جديد، في البحث عما مكث، وما استجدّ. أتأمّل ملامح الناس، المحلّات، فجأة أتوقف. تأتيني ذكرى من الماضي البعيد تعيدني إلى الوراء، هنا كانت مكتبة ميسلون التي تحوّلت إلى محل لبيع الألبسة، هناك صالة مسرح الحمرا باقية في مكانها، ولكنها تبدو مهملة أو أن المسرح بات ترفا في بلد كاد أن يصل إلى حافّة المجاعة. وغير بعيدٍ صالة سينما الكندي، تبدو كأنها مغلقة، هي التي شكلت الوعي السينمائي لأجيال، ابتداء من سبعينيات القرن الماضي، حيث كانت مواكبة للنتاج السينمائي العالمي. وعلى بعد مائة متر، مطعم القنديل الذي تملكه عائلة المحامي الشهير نجاة قصاب حسن، كان يعجّ بالمثقفين الذين غادروا مقهى النجمة عام 1978 بعدما تحوّل إلى مطعم. ويبدو الفارق كبيراً بين الأمس واليوم. ساحة مقهى القنديل واسعة نظيفة، لكنها اليوم شبه مكبّ نفايات، والمحل مغلقٌ بسبب خلاف بين الورثة. مقهى الروضة صامد واتّسع فضاؤه، ولكنه بات أشبه بمدخنة، وبات العنوان الرئيسي في المدينة لكل قادم من الخارج، يقابله على الطرف الآخر من شارع الصالحية مبنى البرلمان، عيادة طبيب كنت أزور جاره مكتب محاماة ابن مدينتي مروان صبّاغ، أول من حدّثني عن ياسين الحافظ، وحزب العمّال، وحين خرجت من مكتبه ذات يوم استوقفني رجل أمن وسألني عن سبب الزيارة، فاخترعت له قضية قانونية.

مبنى البرلمان في مكانه. حاولتُ الدخول، لم يوافق الحارس، طلب موافقة رسمية. … سكنتُ بجواره، غير بعيدٍ في شارع تحتلّه محلات صاغة الذهب، في الطابق الأرضي تشاركنا عدة غرف منفصلة، تتوسّطها حديقة ذات نافورة، نتزوّد منها بالماء البارد صيفاً. ومن بين الشركاء الصديق والزميل في كلية الزراعة الشاعر المثنى الشيخ عطية. وكلما مررتُ قرب البرلمان، رأيت أعضاءه يتبخترون في الحي. وصادفت عدّة مرّات بعض الذين يمثلون مدينتنا البعيدة الغنية، التي ترفد الدولة بالنفط والقمح والقطن، ولكنها منسيّة. لم يفعل أولئك الموظفون شيئاً، كانوا ينتظرون الحصول على سيارات مجانية ورواتب باهظة ومكاتب من أجل عقد الصفقات.

ساحة المرجة في مكانها، لم يطرأ عليها تبدّل كبير سوى الاكتظاظ، وعدم النظافة، في الطريق أمر أمام مقهى هافانا، لا أكاد أصدّق. لم أكن أتخيّل اللحظة. سألت قبل ثلاثة أعوام القاص زكريا تامر في إحدى زياراتي له في أكسفورد إن كان يعتقد أننا سنلتقي في مقهى هافانا، الذي قابلته فيه عام 1978. أجاب: لا أظنّ، سنموت جميعا في الخارج، ولن نبلغ هذا الحلم. … من هنا أوجّه إليك تحية، وأقول لك إن دمشق بانتظارك، أنت ابن المدينة العريقة وأحد حاملي ذاكرتها، لقد قرّرت نيابة عنك أن أزور كل الأماكن التي حدّثتني عنها، طفولتك، شبابك، مقاهيك، وطرق مشاويرك اليومية، أنت ومحمد الماغوط، في حواري دمشق العتيقة داخل السور.

تعبتُ في نهاية اليوم الأول، ولم أبتعد عن هذا الحي الذي يقع في قلب دمشق. أردت أن أتناول العشاء في المنطقة، لكن شقيقي سعيد أصرّ أن نقصد منزله في حي المزّة. أسماء كثيرة تغيّرت، لكن الأمكنة لا تزال تحتفظ ببعض ملامحها القديمة. أخذنا النقاش إلى شؤون عائلية قاده سعيد الذي يصغرني، الباقي الوحيد من أشقائي على قيد الحياة، الأكبران توفيا، فرحان بسبب عدم وجود تنفس اصطناعي في المشفى، وموسى نتيجة تشخيصٍ خاطئ، والأصغر محمّد قتلته مليشيات الدفاع التابعة للنظام في الحسكة بطلقة في رأسه عام 2013.

جيل جديد من الشباب، من أولاد أشقائي وشقيقاتي، والهاتف لا يهدأ من الحسكة وخارج سورية. ترحيبٌ وتحياتٌ وتمنياتٌ بالسلامة، كأني عائد من الحج أو خارج من السجن. سائق التاكسي حين علم أني أمضيت 45 عاما في الخارج، قال لي “لك في ذمّة هذا البلد الكثير”، قلت له إن العكس صحيح، ولدي رغبة بأن لا أشغله عن شقّ طريقٍ بصعوبة وسط سيول من السيارات. ولذا فضلت النزول من التاكسي والمشي على الأقدام وسط شوارع كانت تعجّ بالإنارة والجمال، لكنها معتمة بسبب عدم توفر الكهرباء.

قرّرت في اليوم الثاني أن أترك البرلمان خلفي وأتّجه إلى ساحة النجمة، قبل أن أنتقل إلى حيي ابو رمانة والمالكي، في الطريق إلى فندق الميريديان وقصر الضيافة القديم ومنازل سكن حكّام البلد في السابق، من ضباط ووزراء ومدراء عامين وإعلاميين ومثقفين من بطانة النظام. أقف على الناصية، أمام مقهى النجمة سابقاً، على اليسار حي الشعلان الذي أخذ اسمه في مطلع عشرينيات القرن الماضي من كنية شيخ “الرولة” نوري الشعلان، أحد أفخاذ قبيلة عنزة، التي استقرّ قسم منها في سورية.

آثار صدمات العقد الماضي واضحة على حي الشعلان، الذي كان قد عرف ازدهاراً في مرحلة نمو دمشق العمراني والثقافي في ستينيات القرن الماضي. لحق قدرٌ من التعب بالبنية التحتية، وهذا ملحوظ في الطرقات والأرصفة وواجهة البيوت والمقاهي والمطاعم، التي باتت، بسبب انهيار القدرة الشرائية، تشبه تلك التي في الأحياء الشعبية. جاءني، وأنا أتجوّل هنا، انطباع بأن بعض أحياء المدينة انتقلت إلى حال ريفي، لأنها لم تخضع لأي صيانة، ولم تصمُد منها سوى الأبنية التي تعود إلى العهدين العثماني والفرنسي، وقد زاد من قتامة الصورة غياب عمّال النظافة عن بعض الشوارع.

سورية، دمشق في 17 ديسمبر 2024 (فرانس برس)

شارع في دمشق (17/12/2024 فرانس برس)

لم يكن أحد يتجوّل في حي أبو رمانة بحرّية، فقد كان مزروعاً برجال الأمن، بعضهم بلباس مدني، وآخرون بألبسة مرقّطة ينتمون إلى قوات سرايا الدفاع التابعة لرفعت الأسد، شقيق الرئيس الأسبق حافظ الأسد، الذي كان اسمُه وحده يبعث على الخوف. وكان المرء كلما صعد أكثر في هذا الحي يزداد قلقه وترتفع درجة ضغطه وارتباكه من العيون الأمنية المسلطة عليه، لأنه يقترب من القصر الجمهوري القديم، الذي لم يكن أحد يجرُؤ على ذلك، فالمنطقة التي يقع فيها تعد المربع الأمني الأكثر حراسة في سورية، ومن حوله تدور روايات الخوف. وقد عاش أهالي الأحياء التي تعد سكن الطبقات ما فوق الوسطى، ومقرّات السفارات، حالة من التوتّر الدائم، بسبب وجود هؤلاء الحكّام المزعجين والشرسين، وتنفسّوا الصعداء عندما انتقل الأسد الأب إلى القصر الجمهوري الجديد المعروف بقصر الشعب، على طرف جبل قاسيون، والذي بنته شركة أوجيه المملوكة من رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، وقدّمه هدية للأسد عند اكتمال بنائه عام 1988.

سيراً على الأقدام من هناك نحو جامعة دمشق، مروراً بنهر بردى الذي “يجري ويصفّق” رغم أن مجراه المائي تراجع كثيراً، بسبب الجفاف وسياسات الاستنزاف العشوائي للمياه خلال العهد الماضي، لكنه بات أنظف بفضل حملة الدفاع المدني، بعد أن كان قد تحوّل مكبّاً للنفايات. وفي الطريق، يطالعنا المتحف الحربي، وفي جواره المتحف الوطني، الذي افتتح أبوابَه بعد وقتٍ قصيرٍ من تحرير دمشق من نظام الأسد، وتديره سيدة متخصّصة، ريما خوام، وهو يشهد إقبالاً من زوار سوريين يبدو على بعضهم أنهم يكتشفون هذا الوجه الغائب من سورية. وثمّة ارتياح لأن هذه الثروة لم تتعرّض لمصير نظيرتها في العراق بعد سقوط بغداد عام 2003، رغم أن قسماً كبيراً منها تعرّض للنهب من لصوص الآثار في النظام السابق.

غير بعيدة عنه جامعة دمشق العريقة، التي صار الدخول إليها من بوابة أمنية في عهد آل الأسد، بعد أن كانت مشرعة الأبواب، رغم الانتشار الأمني الكثيف، بدءاً من مقصف الآزروني على المدخل من اليمين، الذي كان مجاوراً لمقر اتحاد الطلبة، الذي تحول في تلك الأيام نقطة أمنية سرّية، وما زلت أتذكّر أن زملاء جرى اعتقالهم من المقصف تحت تهديد السلاح، واحتجازهم في مقر الاتحاد، بانتظار سيارة أمن لنقلّهم إلى الفرع.

تبدو الجامعة كأنها انتقلت من زمن إلى آخر، وهي التي كانت أحد معاقل الحراك الديمقراطي، وشكّلت كلية الحقوق بؤرة للنضالات، منذ الاستقلال عن فرنسا. باتت اليوم مفتوحة الأبواب، لا مخابرات ورجال أمن يروّعون الطلبة والكادر التعليمي والزوار. هناك حالة تفاعل طلابية عالية مع العهد الجديد، روح جديدة تسري في أرجاء الجامعة، نقاشات بأصوات عالية، من أجل إصلاح وضع التعليم الذي تدهور بشكل كبير وتنظيف الجسم التدريسي من المُخبرين الذين كانوا يسلمون الطلبة المعارضين لأجهزة الأمن، ومن الفاسدين الذين كانوا يتاجرون بالأسئلة ويتلقّون الرشاوى لترفيع الطلبة الفاشلين.

العربي الجديد

———————————–

دمشق بعد 45 عاماً (3-5) … حي القصاع الوجه المدني/ بشير البكر

04 مارس 2025

دمشق مغرية للمشّاء، مدينة ذات ثراء عُمراني وتنوّع ثقافي يبهجان العين، وينعشان الذاكرة والخيال. هنا لا تتعب العين من الفُرجة، ولا تمل من النزهة والسفر بين الحاضر والماضي. يزداد منسوب إغراء التجوّل لدى من عرفها، ولم يرجع إليها منذ زمن بعيد، ولا يزال مسكونا ببعض تفاصيلها. يسير من دون دليل، أو هدف محدد، يقوده الحنين إلى أماكن لم يكن يظنّ أنه سيرجع، ذات يوم، إلى تفقّد أحوالها وتحوّلاتها، وما خلّفه الاستبداد من آثار على البشر والحجر.

صار في وسع من يمارس متعة المشي أن يسير على قدميه في دمشق بحرّية من دون أن يغير الرصيف بين دقيقة وأخرى، أو يضطرّ إلى العودة أدراجه بسبب الحواجز الأمنية التي كانت تكتفي، في أبسط الأحوال، بطلب الأوراق الرسمية. وقد يتعرّض العابر إلى التعنيف والاعتقال لأنه ارتكب خطأ الدخول إلى منطقة أمنية محظورة، قد تكون مركزاً أمنياً أو عسكرياً أو سكن أحد الضباط الكبار.

الأرصفة التي هي ملك المارّة لم تعد لهم… كانت في زمن النظام البائد محجوزة من رجال الأمن، واليوم تتشاركها السيارات وماسحو الأحذية، والبسطات الخاصة بتصريف العُملة. ويبدو أن الجهات التي تمارس هذا النشاط على هامش الاقتصاد قد وظفت لهذا الغرض عشرات الشبان التركمان، ونثرتهم في وسط دمشق.

 يتذكّر سكّان دمشق في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي أطوار تحوّل المدينة إلى دوائر أمنية، وثكنات عسكرية، داخلها مزروع بفروع الأمن التي تجاوزت في عددها 13 جهازاً، ومحيطها مطوّقٌ بمعسكرات سرايا الدفاع، وسرايا الصراع. الأولى يقودها رفعت الأسد والثانية أحد أقاربه. وباتت بعض أحيائها مربّعات أمنية معزولة كليا، أو محرّمة على المشاة، مثل المالكي القريب من القصر الجمهوري القديم.

لم يكن من الممكن الاقتراب من وزارة الداخلية ومبنى الأركان وآمرية الطيران، أو حتى النظر في اتجاه فرع أمني، ولفظ اسم الرئيس في الشارع. كانت أرصفة دمشق وحدائقها ومقاهيها تشبه تلك التي في المدن الأخرى في العالم، لكنها تغيّرت تدريجيا بعد عام 1970، ودخل البعد الأمني في التفاصيل، تم نصب حواجز حديدية وإسمنتية على الأرصفة تمنع الانتقال من رصيفٍ إلى آخر، وبات في كل مقهى ومطعم ووسيلة نقل وإدارة، بما في ذلك المرافق الجامعية، عناصر أمن يتجسّسون على الناس، يتنصّتون على المحادثات، ويراقبون الحركة، ويعاملون السكان بفظاظة وقسوة.

يجد من يسير في شوارع دمشق اليوم أن حواجز العهد البائد الحديدية والإسمنتية ما زالت موجودة، لكنها فقدت وظيفتها، وصار المرور أمام مبنى وزارات الرعب أمراً عادياً. صحيحٌ أن هناك حراسات في الشوارع أمام بعض المباني الرسمية، لكنها لا تتدخّل في حركة المارّة، التي خف توتّرها، واختفت من الوجوه ملامح الخوف، وبات في وسع من أراد أن يلتقط الصور أن يفعل هذا من دون أي مانع من الحرس، الذين يمكن أن يصوّروا العابر، إذا رغب بصورة تذكارية، أمام أحد المباني التي أخافت السوريين قرابة نصف قرن، ودخلت في تفاصيل يوميّاتهم، وتحوّلت إلى كوابيس بالنسبة لبعضهم.

نزلتُ نحو المرجة، وتقصّدتُ أن أتجه صوب الساحة التي تقع حسب المصطلح الدمشقي خارج السوق، والتي بقيت على الدوام نقطة اللقاء بين الجديد والقديم، وقد أخذت هذا الطابع منذ أواخر العهد العثماني، في أيام السلطان عبد الحميد، الذي أدخل إلى دمشق الطابع الأوروبي في البناء. وجعل منها مقرّ دار الحكومة والبلدية، حيث مبنى محطة الترامواي، والتلغراف والثكنة الحميدية. وهنا عرفت دمشق أول ظهور لدور السينما والمسارح في ثلاثينيات القرن الماضي، والمقاهي الشعبية التي استمرّت، مثل “الكمال”.

ورغم مرور الزمن لم تتخلّ المرجة عن طابعها الشعبي، أو تنزع عنها شخصيّتها القديمة، حتى الفنادق التي نشأت فيها في ثمانينيات القرن الماضي بقيت وفية للتاريخ، بعمارتها، فاتحة صدرها للوافدين إلى العاصمة، من خلال فنادقها الشعبية، ومطاعمها، ومقاهيها، ومركزها في وسط المدينة، لكنها تحوّلت بعد سقوط النظام إلى مركزٍ مكتظٍّ جدا، يلتقي فيه أبناء المحافظات الشرقية، الرقّة، دير الزور، والحسكة. وهناك من يقول إن آلاف الفتيان والرجال والنساء حضروا إلى دمشق بعد سقوط النظام، يبحثون عن أقارب في السجون. وكان أغلب هؤلاء لا يستطيعون زيارة دمشق خوفاً من سوقهم إلى الخدمة في الجيش.

 ليس بعيداً عن المرجة يقع سوق الحميدية، الذي يعود تاريخ بنائه إلى الفترة ذاتها، وأخذ اسمه حين تشييده من اسم السلطان عبد الحميد الأول، بطول حوالي ثلاثة كيلومترات، وهو مدينة تجارية صناعية في قلب دمشق، تضم عدّة أسواق في سوق واحد، وقد نافس أسواق الشرق الأوسط قاطبة، بما في ذلك بازارات إسطنبول، وهو اليوم يضجّ بالحركة، وعلى من أراد زياراته أن يتسلح بالصبر، لأنه لن يتمكّن من السير بسهولة بسبب الاكتظاظ الشديد، كما لو أن دمشق بأكملها جاءت تتسوّق. ويأمل التجار الكبار بأن يعود السوق إلى الزمن الذي كان فيه محطّة أساسية لتسوق أهل بلاد الشام من لبنان وفلسطين والأردن، ولكن المسألة معلقة بتوجّهات الإدارة الجديدة، ونظرتها إلى الاقتصاد، وموقع دمشق التجاري من المنطقة والعالم. وفي الأحوال كافة، يحتاج الأمر إلى جهد جبّار لإعادة سوق الحميدية إلى ما كان عليه ذات يوم.

تقود نهاية سوق الحميدية إلى معبد جوبيتر، ومنه إلى المسجد الأموي، وحارات دمشق العتيقة. وهنا تبدأ رمزية أخرى للمدينة، إذ لطالما بادر كل الذين حكموا سورية إلى زيارة هذا الصرح، الذي يحمل اسم بني أميّة، بناة الدولة الإسلامية الأولى على أسس حديثة. اختاروا دمشق عاصمة لها، وفي عام 706 ميلادية قرّر الخليفة الأموي السادس الوليد بن عبد الملك بن مروان بناء المسجد وسط دمشق. ووثّق المؤرّخ ابن عساكر في كتابه “تاريخ دمشق” أن قبر معاوية موجود بالقرب من جدار الجامع الأموي، في المكان الذي كان يجتمع فيه قرّاء القرآن السبعة، شرقي مقصورة الصحابة، في حين تنفي رواياتٌ أخرى ذلك، وتحدّد أماكن أخرى، لكن مكان الضريح المتفق عليه هو في مقبرة الباب الصغير بدمشق، والذي وثقت تسجيلات كثيرة مصوّرة لزوار شيعة من العراق وإيران عند أسواره، وهم يوجّهون له الشتائم ويضربونه بأحذيتهم.

الجامع الأموي صرح ديني يتجاوز الشعائر، يزوره المسلمون وغير المسلمين. يستقبل عادة المصلّين الذين يأتون من الجوار. وبعد سقوط النظام، لعبت الرمزية دورا مهمّا، خاصة لقادمين من أماكن مختلفة، يريدون الصلاة في المسجد ردّ فعلٍ على ممارسات النظام الطائفية، وإباحة إهانة رمزية أهل المكان والبلد. وهنا يمكن ملاحظة مسألة مهمّة، أن النظام السابق لم يتشدّد حيال بناء المساجد وارتيادها، لكنه لم يترك للناس سوى المظاهر الدينية، ووجّه العبادات وفق منظور المشايخ الذين أيدوا حكمه، وسكتوا عن الاستبداد، وهؤلاء منقطعو الصلة بإسلام الشارع ذي الطابع الشعبي المديني، الذي ظلّ غير راضٍ عن الرقابة على الشعائر والمعتقدات وممارسة التمييز الطائفي، وهو يجد في العهد الجديد متنفّساً. وهناك حالة من الترقّب، وانتظار أن تتّضح توجّهات الإدارة على هذا الصعيد، ولا سيما أنها منعت تعاطي الكحول في الفنادق المملوكة للدولة، وأوقفت عمل معملي الكحول في السويداء وحمص، ووجّهت المطاعم والمقاهي من أجل الإغلاق في نهارات رمضان.

زرتُ الجامع الأموي يوم الجمعة، في 21 من الشهر، قبل صلاة الظهر. سلكتُ طريق سوق الحميدية، فوجدتُ كل المحلات مغلقة، واكتظاظاً لفئات عمرية مختلفة، أغلبها من الشباب، متجهة إلى الصلاة في الجامع، واللافت عدد الأجانب من آسيا الوسطى. ولكن حركة المصلين ليست بزخم الأيام الأولى بعد سقوط النظام.

من هناك إلى حارات دمشق القديمة في الطريق إلى الجانب الآخر من المدينة، حيث ملعب العبّاسيين أحد العلامات البارزة، ومن ثم أحياء القصاع والتجارة وشارع بغداد، التي تحتاج جولة خاصة، فهنا أحد مراكز ثقل دمشق المدنية، الذي تأسّس في بدايات القرن الماضي، وأخذ ينمو في الستينيات على يد الطبقة الوسطى ذات الغالبية المسيحية. أحياء قريبة من وسط المدينة، وعلى اتصالٍ بأطرافها، كما لو أنها اختارت أن تكون الجسر بين قلب دمشق القديمة في أحياء الميدان وجوبر، والأخرى الحديثة كالمزّة الواقع في الطرف الغربي، والذي دخلت عليه لمسة عسكرية، بسبب مطار المزّة العسكري الذي بنته سلطات الانتداب الفرنسي، وفي السبعينيات من القرن الماضي تهافت ضبّاط العهد الأسدي ورجال أعماله على السكن فيه.

يبدو القصاع منهكاً، ليس كبقية الأحياء التي سكنها مسؤولو العهد البائد، نال عقوبة كونه أحد وجوه المدينة التي تعكس طراز مرحلة، كانت فيها سورية تتجه إلى الحداثة في التفكير والعمران والنواحي الاجتماعية. وثمّة ملاحظة مهمّة أن الفجور في نمط البناء السلطوي لم يتمكّن من التغطية على جمال مرحلة الستينيات صاحبة الروح الحية، التي بدأ يتجلّى فيها إبداع الشخصية السورية، قبل أن يسيطر الوجه العابس المرعب، الذي جاءت به الأسدية التي تكره المدينة والمدنية، وتعمل على كسر كل ما يشدّ النسيج الاجتماعي، ويهدم صورة دمشق في عين أهلها، والذين ينظرون إليها من الخارج، والدليل أن نظام الأب والأبن لم يكن هاجسه بناء مرافق حيوية تخدم المدينة وتوفّر الراحة لسكّانها وزوّارها، فمطار دمشق الدولي لا يليق بعاصمة بأهمية دمشق.

يكتشف من يسير في هذا الجزء من المدينة أن هذه الأحياء تختزن ذاكرة المكان بقوة، وعرفت نهوضاً وتطوّراً في زمن ليس بعيداً، فهي مبنية وفق هندسة مدنية حديثة التخطيط على صعيد الطرقات والحدائق، ومن يتمعّن في الوضع الذي آلت إليه هذه المنطقة يكتشف، ببساطة، أنها متروكة ومهملة، بسبب تراجع الاقتصاد، ولكن هناك ما يشبه عملية الانقطاع القسري غير المدروس والمتدرّج في الفضاء الحضري، بسبب انتشار نمطٍ هجينٍ من البناء، يتنكّر لشخصية المدينة.

تشكّل أحياء التجارة، القصاع، باب توما، عمق دمشق المديني الذي لم ينجح في تهميشه هجوم العسكرتاريا المتخلفة التي حكمت سورية، ولم تترك خلفها سوى القبح والمقابر الجماعية. ويعبّر هذا عن قوة المجتمع في دمشق، وقدرته على الدفاع عن شخصيته، وصعوبة أن يُخضِعه حاكم مهما بلغ من الاستبداد.

العربي الجديد

———————————-

دمشق بعد 45 عاماً 4-5: الحرية من دون أجهزة مخابرات/ بشير البكر

05 مارس 2025

دمشق خالية من العسكر والشرطة. وعلى عكس ما جرت عليه الأحوال في العهود الماضية، لا يعثُر المتجوّل في شوارعها على مظاهر عسكرية، حتى النوادي الخاصة بالجيش مغلقة ومُقفرة. وقد كانت، في السابق، تكتظّ بأصحاب النجوم التي تلمع على الأكتاف، وكانت الأوسمة تزيّن الصدور والمسدّسات تتدلّى على الخصور. لا أحد من هؤلاء في المدينة، كلهم تبخّروا ليلة سقوط النظام، بعدما دمّروا البلد، ونهبوه، ولم يتركوا خلفهم سوى الفقر وأجزاء من البلد محتلة.

لا أحد في دمشق يتأسّف على حكام الأمس القريب، أو يذكُرهم بكلمة خيرٍ واحدة، حتى العناصر من ذوي الرتب الدنيا، الذين كانوا يعملون عيوناً وآذاناً للنظام، وجدوا فرصة كي يتحرّروا من عبء المهام التي كانت ملقاة على عاتقهم، وهم يحسّون بانكسار، نتيجة نظرة المجتمع السلبية لهم.

تبدو المدينة كأنها تعيش حالة تسيير ذاتي على مستوى غياب أجهزة الشرطة، التي بدأت تعود تدريجيا، ويظهر أثر غيابها على مستوى السير العشوائي الخانق، بسبب كثرة السيارات، وتوفّر الوقود، ونزول أسعاره. ويقول كثيرون من المارّة إن المدينة لا تتحمّل هذا القدر من السيارات، وتدريجيا يصبح التنقّل فيها صعباً، نظراً إلى عدم وجود طرقات كافية وحديثة.

الحواجز التي كانت تقطع أوصال المدينة باقية، لكن من دون عناصر المخابرات والأمن والفرقة الرابعة، الذين كانوا يرابطون عليها طيلة الوقت. وقد ترك اختفاء هؤلاء حالة من الارتياح العام، وعادت الحركة طبيعية في الشوارع بعدما زال الخوف.

وبدورهم، عناصر الأمن الذين يرتدون أزياء مدنية، اختفوا كليا، ولكثرة التجاوزات بات الناس يعرفونهم. كتّاب التقارير الذين كانوا يتجسّسون على الناس في المقاهي والمحلات العامة لا أثر لهم، ويحدثنا صحافيون في مقهى الروضة عن الماضي المرعب، بلا خوف أو تلفت أو حساب لوجود مندوبين دائمين للأمن، كانوا يداومون في المقهى من أجل تسجيل أسماء الحضور كل يوم، ونقل تفاصيل حياة المقهى.

سقط الخوف مع التماثيل التي كانت منتشرة في الساحات، تعبيراً عن خرافة “الأسد للأبد”. صار الناس يتكلمون بصوت عال، كأنهم استردوا ألسنتهم، التي صادرها القمع أو حرمها النطق طيلة عدة عقود. حيثما ذهب المتجول في دمشق، يجد من يذم العهد البائد. لكل أسبابه. ولا يقتصر الأمر على الذين فقدوا بعض أفراد من عائلاتهم، أو تعرّضوا للتمييز، وفقدوا أعمالهم أو مصادر دخلهم وبيوتهم.

عدد ملحوظ من الذين عاشوا في كنف النظام، واستفادوا منه، ركب موجة النقد، وتقمّص بعضهم دور الضحية، وبعض آخر صار في طليعة ناقديه. ونتيجة مبالغة شخصيات كانت تعدّ من بطانة نظام الأسديْن، تم وصف هؤلاء بـ”المكوعين”، كونهم غيّروا مواقفهم من مديح الأسد ونظامه إلى هجائه، أو تصوير أنفسهم مخدوعين خضعوا للتضليل. وبرز في هذا فنانون وصحافيون معروفون كانوا من مروّجي النظام السابق ومدافعين عن جرائمه، ومنهم من كانوا في طليعة المدعوين للحوار الوطني، وهو ما أثار ردات فعلية سلبية من زملاء لهم، تأذّوا من صلاتهم مع نظام الأسد.

 نظام علّم الناس التلوّن وتغيير المواقف بسهولة. هكذا يقول لسان حال بعض من سجنهم النظام السابق، وعذّبهم، ومنعهم من العمل بحرية وكرامة. وهم لا ينظرون إلى هذه الفئة إلا بازدراء، ويطالبون بعدم التغاضي عن أفعالها ومواقفها التي ألحقت الضرر بالناس، وزيّنت صورة النظام ودافعت عن جرائمه الكبيرة وسجونه المنتشرة في كل مكان، واستخدامه الأسلحة الكيميائية ضد أطفال الغوطة عام 2013. وثمّة من يدعو إلى التمييز بين الذين أيّدوا النظام بدافع الخوف ومن حملوا لواءه، وقاتلوا بسلاحه، وآذوا الآخرين، وهذه الشريحة واسعة، وهي تتوزّع على المجالات كافة، تجدها في التجارة، التعليم، الإعلام، والثقافة والفن.

همّ كبير يجلس على صدر كل سوري، يتمثل في ملف المعتقلين والمغيّبين قسريّاً والسجون والمقابر الجماعية. يقول كل من قابلتهم في دمشق إن جرائم العهد البائد أفسدت الفرح بسقوط النظام. وترابط في ساحة المرجة مجموعات من الأهالي تبحث عن أي معلومة تخصّ ذويهم المفقودين، الذين جرى اعتقالهم بعد عام 2011، لا أحد يبحث عن المعتقلين في الفترات التي سبقت ذلك، كما لا يأتي أحدٌ على سجن تدمر الرهيب الذي دمّره تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في عام 2015. يتركّز كل البحث على سجن صيدنايا، وتلك التابعة للفروع الأمنية، وخاصة للقوى الجوية وفرع فلسطين، التي ذاع عنها أن الداخل إليها مفقود.

يتجاوز هذا الملف طاقة المنظّمات الإنسانية، ولا يبدو أن سورية قادرة وحدها على أن تعالجه، إنه يحتاج أنماطاً مختلفة من الخبرات المتخصّصة في التعامل مع حالات شبيهة في بلدان أخرى، وقد تبيّن أن الأرقام التي في حوزة هيئات حقوق الإنسان غير نهائية بخصوص أعداد المغيّبين قسرياً منذ عام 2011، وتحتاج المسألة إلى جهد دولي كبير، يذهب في عدّة اتجاهات، تبدأ في تحديد العدد الكبير من المقابر الجماعية، واستخراج الجثث وتصنيفها وتحديد هويات الأشخاص، والعمل على مساندة ذويهم نفسياً، ومن ثم إحالة كل هذه القضايا إلى العدالة. وهناك جهد تقوم به منظّمة الدفاع المدني السوري، ولكنها لا تستطيع النهوض بهذه المهمّة وحدها، وهذا ما أعلنه رئيسها رائد الصالح.

هناك من يكتفي بالتظاهر من أجل قضايا تخصّ المعتقلين. يبدو أن هؤلاء لا يريدون أن ينخرطوا أكثر من ذلك في هذه المرحلة. رحّبوا بالتغيير لكنهم يراقبون الخطوات اللاحقة. بعض هؤلاء كتّاب وصحافيون وفنانون، رجال أعمال، كبار في السن وشباب، نساء ورجال. إنهم ينظرون إلى ظاهرة “التكويع” جزءاً من التحوّل الجديد، الذي لا يزال يتبلور يوماً بعد آخر، ويتعاملون معها من منظور أن المشهد متحرّك، ويحتاج إلى جهد كبير كي يستقرّ، وهذا يتطلّب مشاركة الجميع وعدم الاكتفاء بالفرجة، وتوجيه الانتقادات من وراء زجاج المقهى.

هناك عدّة ظواهر يمكن رصدها في الشارع. الأولى أن الجميع يتكلم بلا رقابة، لكن الكلام يبدو أن تلعثماً يعتريه، لأن المجتمع السوري الجديد لا يزال يحبو، وهو يتدرّب على صوغ جمل مفيدة. ولا يعدّ غياب المخابرات من سورية أمراً عادياً، فالناس التي عاشت أكثر من نصف قرن ممنوعة من التعبير عن آرائها، وتزن الكلمة قبل أن تنطقها، تتكلم اليوم من دون أن تتلفت إلى اليمين والشمال والوراء. لم يعد للحذر مكان، بعدما اختفت آذان النظام وعيونه. هناك حالة من التعويض، يجب أن تجد الطرق المناسبة، من خلال تشكيل أحزاب سياسية، وإصدار صحافة مستقلة. ومن هنا يمكن تفسير حالة الاستعجال التي تتلخّص في الإلحاح على تحقيق كل الطلبات خلال 24 ساعة، الحرية، الكهرباء، الغاز، خفض الأسعار، رفع الرواتب، محاسبة المُجرمين، ومواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على الأراضي السورية.

تتمثل الظاهرة الثانية في أن عدد طالبي المناصب كبير، والمعسكرين في دمشق بانتظار تولي وظائف عليا في ازدياد باستمرار، وتجلى ذلك في مؤتمر الحوار الوطني الذي انعقد يومي 24 و25 الشهر الماضي (فبراير/ شباط). العيون منصبّة على قطاعات الإعلام، وأكثر من يتدافعون بالمناكب هم الصحافيون، كثر من بينهم يتنافسون على وظيفة الناطق الرسمي، وحين اختفى من الواجهة من كان يتولّى هذه المهمة، عبيدة الأرناؤوط، زادت الطلبات، وارتفعت بورصة المتطوّعين ومرشّحي أنفسهم.

التنافس على أشدّه بين الصحافيين الذين يحسبون أنفسهم على الثورة وأولئك الذين كانوا يعملون في المؤسّسات الحكومية، وبعضهم من فلول النظام. وصار عددٌ من صحافيي الفئة الأولى يقدّم إفادات مجّانية عن صحافيي الفئة الثانية، الذين لا يزال بعضهم يحتل موقعه، وأخذوا ينشرون غسيلهم الوسخ، يريدون طردهم واحتلال مناصبهم. هناك من يطمح لأن يتسلّم التلفزيون، وآخرون الإذاعة ومؤسسة السينما والصحف الرسمية. وعلى العموم، ليست هناك رؤية إعلامية واضحة للدولة الجديدة، وهناك مقرّبون منها يجزمون بإلغاء وزارة الإعلام في الحكومة المقبلة المرتقب إعلانها في غضون منتصف مارس/ آذار الجاري، وتشكيل مجلس أعلى للإعلام.

هناك مؤشّرات على تشكّل جوقة من المادحين للسلطات الجديدة، من إعلاميين وفنانين ورجال أعمال، باتوا معسكرين في محطات التلفزيون، ومقهى الروضة، لا عمل لهم سوى التبرير، وقمع الرأي المخالف.

الظاهرة الثالثة، أن حديث الأقليات لا يحظى بتجاوب كبير داخل أغلبية أوساط ناشطي هذه المكوّنات. ويبدو المصطلح مذموماً، وغير مستحبٍّ من معارضين سبق أن تعرّضوا للسجن، والاعتقال، والنفي، وإسقاط حقهم في جواز السفر، أو مغادرة البلد. لسان حال هؤلاء يطالب بدولة مدنية لكل السوريين، لا تمييز فيها لا سلبي ولا إيجابي. وثمّة آراء دارجة على وسائل التواصل وفي جلسات السياسيين والمثقفين، ترى أن طرح الفكرة جاء من الخارج، ولم يسبق للسوريين أن رأوا فيها ما يناسب الحالة السورية، وهناك ما يشبه الإجماع على أن إثارتها من أطراف خارجية يخفي أهدافا سياسية من أجل التدخّل في الشأن الداخلي السوري، ويطمح هؤلاء لإضعاف سورية من خلال تقسيمها إلى طوائف وإثنيات ذات مرجعيات خارجية، ولكن رفض مبدأ المحاصصة الطائفية أو العرقية يجب أن يقابله رفض المحاصصة السياسية، من الأطراف العسكرية التي أسقطت النظام، وتجاوز الشعار الدارج في بعض الأوساط “من يحرّر يقرّر”.

الظاهرة الرابعة أن عدد المتفرّجين كبير، وينتظرون جلاء الصورة أكثر كي ينخرطوا، في الوقت الذي يتزايد فيه عدد الداعين إلى دعم المرحلة الجديدة بلا شروط كبيرة، وجلهم لا يريدون مناصب أو مكافآت أو تعويضاً عما لحق بهم، يتّسم خطابهم بالحرص على مصلحة البلد، وتحصين التجربة، ومنح الإدارة السياسية فرصةً حتى تمكن محاسبتها، ويروْن أن التصعيد ضدّها في هذه المرحلة يعرقل عملها في مواجهة الأولويات الداخلية الكثيرة. لكن الانتظار لن يطول، وسوف تشكل التعيينات المقبلة في الحكومة والمجلس التشريعي والمناصب العليا نقطة فصل. وفي حال لم يتحقق الحد الأدنى من الطموحات والآمال، فسوف تقف قطاعات عدّة في صف المعارضة، وتسحب تأييدها الإدارة الجديدة، وهناك من بين المنتظرين من بدأ الاستعداد للعب هذا الدور، وهو يردّد أنه مؤيد ونقدي في الوقت ذاته.

الظاهرة الخامسة أن الإدارة الجديدة على خبرة متواضعة في بعض المجالات، وخاصة الإعلام، ولا تولي اهتماماً كبيراً بالصحافة، وتعتمد على وسائل التواصل في توجيه الرأي العام. كما أنها غير مهتمّة بالمجال الثقافي، وقد مضى أكثر من شهرين على وجودها، وعيّنت وزراء جدداً لكل الوزارات، باستثناء وزارة الثقافة ذات الدور المهم، فهي ليست دار نشر للكتب، بل تشمل المسارح والسينما والموسيقى والمتحف ودور النشر ومعارض الكتب …إلخ، وهناك جيش من صانعي المشهد، الذي وظفه عهد الأب والابن لتصدير صورة زاهية نحو الداخل والخارج.

الظاهرة الأبرز من بين كل الظواهر، وهي كثيرة، الدور الكبير الذي تلعبه وسائل التواصل والمؤثرون في توجيه الرأي العام. ويبدو أن أعوام الغربة أكسبت السوريين خبرات واسعة في هذا الميدان، حيث لم يكن أمامهم سوى هذه الفضاءات الافتراضية للتلاقي والحوار ومتابعة الأخبار. ولا يحتاج المرء أن يتابع صفحات بعض المؤثرين حتى يعرف ماذا يحدُث في البلد، فالأخبار المنقولة عن هذا العالم في كل مكان وعلى كل لسان، وكل من يخبرك نبأ لا يقول إنه استقاه من صحيفة أو قناة تلفزية، بل من “فيسبوك” الذي يعد الأكثر رواجاً. واللافت هنا نقاش الأخبار بالتفاصيل من أقصى سورية إلى العاصمة، وهذا أمر لا بد أنه يحتاج انتباهاً شديداً.

لكل المحبطين والمتفائلين والمتحمسين، والذين يقفون على مسافة منهم، القلقين والخائفين، وما بينهم، يصدُق قول المثقف مأمون غنامة، “نحن اليوم في حالة العراء الوطني والسياسي والتاريخي. المهم أنه أصبحت لدينا أرض نقف عليها”. هذه نقطة البداية لكل من يهمّه أن ينهض البلد، وتبدأ عملية إعادة إعمار مؤسسات الدولة التي هدمها حكم عائلة الأسد، الذي حول سورية إلى مزرعة.

هلّ رمضان الكريم، رائحة الكعك تفوح من بيوت دمشق، التي تقترب من الربيع. جالسة كالدهر على سفن جبل قاسيون، يعبرها التاريخ، وهي ثابتة في مكانها، كـ”التفاح بين شجر الوعر” (نشيد الأنشاد).

العربي الجديد

—————————————

دمشق بعد 45 عاماً (5/ 5): ملاحظات برسم العهد الجديد

بشير البكر

06 مارس 2025

يستمع القادم من بعيد إلى دمشق، في كل مكان، إلى أصوات سورية الجديدة، تعلن فرادى ومجتمعة ولادةً جديدة لهذا الشعب العنيد، الذي ضحّى وصبر على الجوع والتمييز والتهجير، وسلك كل الدروب، برّاً وبحراً وجواً، هرباً من حرب إبادة، تعدّدت أساليبها وأدواتها، وكادت تنجح في تغيير تركيبة سورية، وربطها بإيران طائفياً، أمنياً، اقتصادياً، وسياسياً.

الحديث بصوتٍ عال والنقد لا يفسدان فرح الحرية من نظام الطغيان، ونهاية المشروع الإيراني. ومن يجالس السوريين الذين لم يغادروا البلد، ودخل بعضُهم السجون، يسمع منهم ملاحظاتٍ كثيرة على خطوات التحول. وهي ليست على موجةٍ واحدة، بعضها وجيهٌ وحريصٌ على نجاح التجربة، وآخر متسرّع، لا يأتي من دراسة المعطيات. وبين هذه وتلك، هناك من يحاول أن يشكّك بكل ما جاء بعد سقوط النظام السابق، ولا يحتاج المراقب إلى عناءٍ ليفهم من أي مكانٍ تنطلق سهام هذا النوع من النقد، الذي يتلطّى وراء الموضوعية، وذلك النابع عن حرص بعدم التفريط بالانتصار.

وهناك إجماعٌ على أن العهد الجديد لن يستقيم أو يستقرّ على قاعدة صلبة إلا بإطلاق الحريات، وسماع المسؤولين الشكاوى الكثيرة عن التجاوزات. وثمّة نشاط ملحوظ من داخل سورية في متابعة لأخبار التعدّيات، في بعض المناطق المختلطة طائفياً، مثل حمص، التي تعدّ حالة خاصة بين المدن السورية، ففيها حدثت أكبر نسبة من أعمال القتل والتسريحات من الوظائف، ولا تزال بعض دوائر الدولة مغلقة بسبب ذلك، أو نتيجة مخاوف من تداعيات الانفلات في بعض الأرياف.

في نظر أكثر المتفهمين ما يحصل من تجاوزات، أن سورية تعيش نتائج الوضع السابق الذي راكم قدرا هائلا من العداوات بين السوريين. وعلى هذا، هناك من يستسهل عملية الثأر أو تحصيل حق ضائع، وهذا أمر تتحمّل مسؤوليته الدولة، التي تحتاج وقتاً كي تبسط سلطتها، كما أنه يرتبط بإقرار مبدأ العدالة الانتقالية وتفعيله بسرعة، لما له من تأثير كبير على محاسبة العهد السابق، والحفاظ على السلم الأهلي وتحقيق الاستقرار.

لا يقف النقد عند توجيه الأصابع نحو ما يصدُر من تصرّفات غير مدروسة، أو حصول أعمالٍ لا تجد تفسيراً، وهي نابعة من استغلال ثغراتٍ في بعض الإجراءات. وهناك ملاحظتان مهمتان توجّهان إلى السلطات الجديدة. الأولى أن الغالبية العظمى من التعيينات في وظائف مؤسّسات الدولة من لون سياسي واحد، إما من هيئة تحرير الشام مباشرة، أو القريبين منها.

الملاحظة الثانية، ضعف خبرة لدى عديد ممن يديرون مؤسّسات الدولة، وينعكس ذلك في قرارات مرتجلة، ومن ذلك صدور قرار عن رئيس الوزراء محمد البشير بحل المؤتمر العام لاتحاد الصحافيين وتكليف مكتب مؤقت مكانه.

هذان مثالان، من بين أمثلة كثيرةٍ تدل على عدم دراسة القرارات جيداً، ورفض الاستعانة بمتخصّصين ومحترفين من خارج الأطراف التي أسقطت النظام، فقرار حل اتحاد الصحافيين يبدو عادياً من الناحية الشكلية، نظراً إلى العلاقة التي كانت بين مكتبه والنظام السابق، ولكنه من الناحية العملية تعبير عن توجّه إلى التدخل في عمل الصحافة، ومن بعدها الهيئات النقابية، التي يجب أن تكون مستقلة عن الدولة في المرحلة المقبلة.

 وتعج وسائل التواصل الاجتماعي بشهاداتٍ لكفاءاتٍ سورية قصدت دمشق من الخارج كي تضع خبرتها تحت تصرّف الإدارة الجديدة، لكنها لم تلق أي تجاوب، وقد برّر مسؤولون هذا الصدّ بأن مهمّة الأجهزة التي تقوم بتسيير المؤسسات حالياً تقتصر على تسلم الملفات من موظفي العهد القديم. ولذلك يجب عدم إصدار أحكام على رفض التواصل مع أصحاب الخبرة من المعارضين، الذين عاش بعضهم في المنفى، أو دخل سجون العهد الأسدي. وعلى هذا، يجب انتظار تشكيل الحكومة، التي ستقود الدولة في المرحلة الانتقالية.

رغم وجاهة هذا التبرير، إلا أنه لا يصمد كثيراً أمام مظاهر ولّدت انطباعات سلبية في الداخل والخارج، منها إهمال الحقل الثقافي كليّاً، حيث لم تعيّن الإدارة الجديدة وزيراً للثقافة، ويبدو أن هذا نابع من عدم وجود وزارة أو دائرة ثقافية في حكومة الإنقاذ في إدلب، لكن ذلك لا يعفي من تكليف شخصية ثقافية بإدارة الوزارة، التي تعد من الوزارات المهمة في سورية. وقد نُشر على وسائل التواصل أنه جرى تكليف الوزيرة السابقة ديالا بركات بتسيير شؤون الوزارة، ثم نفت وزارة الإعلام الخبر، قبل أن يثبت أنه صحيح، من دون أي إشارة إلى تفعيل عمل الوزارة، التي تترتب عليها مسؤوليات في تحريك الجو الثقافي، واستثمار موقع سورية الثقافي ومكانتها من أجل رفع العقوبات.

ثمّة من يعزو الارتجال وعدم المهنية في قراراتٍ عديدة إلى عدم تشكيل الحكومة التي ينتظر أن تكون تركيبتها من التكنوقراط، وأن أحد الأولويات لدى الإدارة الجديدة إيجاد حلول سريعة للمشكلات الاقتصادية الملحّة، من خلال تحديد رؤية متماسكة، ورسم خريطة طريق واضحة المعالم، ومن ذلك التحكّم بأسعار المواد الأولية، وتوفير الخبز والمحروقات، ووقف التذبذب في سعر صرف الليرة أمام الدولار. وما لم تنجح الحكومة في تقديم علاج سريع لهذه المسألة، سوف يخسر المواطن جزءا من مدّخراته بالعملة الصعبة، والمطلوب اتخاذ قراراتٍ تقود نحو تثبيت قيمة العملة الوطنية من دون أن يتحمّل المواطن الفاتورة.

من الاقتصاد إلى السياسة، ينتقل النقاش إلى مؤتمر الحوار الوطني، بعدما شكل رئيس الجمهورية أحمد الشرع اللجنة التحضيرية له. وقبل أن تنعقد الجلسات في المحافظات، ومن ثم المؤتمر العام في دمشق يومي 24 و25 من الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، هناك عدة آراء حول العملية. هناك من يعتبرها بداية جيدة على طريق تنفيذ الأجندة التي طرحها الشرع في خطابه بنهاية شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، وحدّدها بتشكيل حكومة انتقالية، ومجلس تشريعي، وإصدار إعلان دستوري. وهناك من شكّك بتمثيلية اللجنة، وخاصة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي قالت إنه جرى استثناؤها من الحوار، مع أنها تعارض الانخراط في الدولة الجديدة، وتضع شروطاً لذلك، يعدّها المسؤولون السوريون تعجيزية، وتحاول الحصول على مكاسب عبر الاستقواء بالخارج، بما في ذلك إسرائيل، وهو ما تنفيه “قسد”.

وحصلت اللجنة على قدر كبير من الانتقادات بسبب غياب المعايير في اختيار المشاركين، حيث اعتمدت لوائح من بين المعارضين المتوافرين في كل المناسبات، وأسقطت كثيرين من الشخصيات ذات التاريخ النضالي والكفاءة، كما أن توجيه الدعوات جرى على نحو سريع، ولم يترك مهلة كافية للوصول إلى العاصمة، خاصّة للمقيمين خارج سورية.

لا ينتهي الحديث في جلسات الصحافيين والسياسيين والمثقفين في دمشق. هناك جوع للكلام، تحرّرت الألسن من عقدة الخوف المزمن، ولم تعد هناك رقابة على الرأي المخالف، الذي كان  يُلحِق بصاحبه ضرراً كبيراً. ومهما يكن من أمر، لا يمكن اختصار الوضع بالحوارات التي تدور، سواء على شاشات التلفزيونات التي استقرّت في ساحة الأمويين، أو في المقاهي.

تتفاوت داخل الفنادق الخدمات حسب التصنيف، وتبقى الكهرباء والماء الساخن والإنترنت الأكثر إلحاحاً. ولا يختلف الوضع عن ذلك في المنازل، بين فئات محدودة ذات دخل جيد يمكنها من دفع مقابل خدمات جيدة، والغالبية العظمى التي تجد صعوبة كبيرة في شراء المحروقات للتدفئة، وتقتصد في استهلاك الخبز، ربطة بدلاً من اثنتين في اليوم، أي أنها تحاول توفير 50%.

إذا لم يخرج الزائر من وسط دمشق ويعاين الوضع على الأرض، لن يستوعب حجم الدمار الذي لحق بالبلد، والفقر الذي يعيشه السوريون، وصعوبة إعادة الإعمار وإطلاق الحياة الاقتصادية من جديد. حياة الفندق، وجلسات المقاهي ومتابعة قنوات التلفزة، وزيارة مكاتب مسؤولي الإدارة الجديدة، وضاحية دمّر السكنية الراقية تقدم صورة خادعة، لا بد من الذهاب إلى ريف دمشق الذي دفع الثمن الأكبر في الثورة.

ليست زيارة داريا والهامة والمعظمية ومخيم اليرموك سهلة جداً، وتحتاج إلى خطة، فهذه المناطق شهدت قتالاً استمرّ أعواماً، وبعضها بات غير صالح للسكن، ويحتاج إعادة إعمار من الصفر، وهذا ما يؤخّر عودة آلاف من اللاجئين في الخارج، وحتى الذين يعيشون في مخيّمات في محافظتي إدلب وحلب يعدّون حياة المخيمات أقل صعوبة من العودة إلى منازل مدمّرة تفتقر لكل الخدمات الأولية.

الملاحظة من زيارة داريا، دوما، وحرستا في ريف دمشق، أن الحديث عن الدمار لا ينقل الصورة الكاملة عن الكارثة، مهما امتلك من أدوات تعبير، وينطبق عليه قولٌ واحدٌ أنه يفوق الوصف. ولذا أمام النهوض بمهمّة إعادة البناء، تسهل كل المهمات الأخرى. عمل شاق يواجه المسؤولين عن رفع آثار الدمار وتعمير عشرات آلاف البيوت التي جرى تدميرها وتهجير أهلها.

شاهدتُ أفلاماً كثيرة عن الحروب، وغطّيت عدة حروب، وعشتُ جانباً من الحروب في لبنان، ولكني لم أشهد دماراً كالذي عاينته اليوم في المدن الثلاث، ولدي انطباع بأن الكاميرا مقصّرة في نقل الصورة الحقيقية لما حلّ بريف دمشق.

الحكومة المفترض أن ترى النور في شهر مارس/آذار الحالي، محلّ رهان السوريين قاطبة، فنجاحها في مصلحة البلد، وفشلها ينعكس على حاضر البلد ومستقبله. ولذلك يُنتظر منها أن تكون، قبل كل شيء، تمثيلية وفق المفاهيم التشاركية والتنوّع، التي تحدّث عنها عديدون من مسؤولي العهد الجديد. أن تتجنّب المحاصصة، واللون الواحد، وتضم كفاءات تمتلك رؤىً لحل المشكلات والنهوض بسورية.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى