سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 07 أذار 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:

سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

——————————-

كيف انفجر الوضع من جرمانا إلى الإقليم: حديث عن تمرُّد مسلح في سوريا يؤجج الصراع على مركز القرار الدرزي في المنطقة/ عروة خليفة، رشا النداف

    article

06-03-2025

        شهدت جرمانا يوم الجمعة الفائت أحداثاً بدأت بخلافاتٍ شخصية وانتهت إلى تفجير توتّرٍ في كامل الإقليم، حيث ساعدت الحادثة على ظهور توتّراتٍ سابقة إلى السطح، تشمل صراعاً على النفوذ في مناطق الدروز ضمن سوريا وفي المنطقة، كما كانت فرصةً مثاليةً بالنسبة لإسرائيل كي تًغذّي تصريحاتها حول «الحاجة لحماية الدروز في سوريا».

        يوم الجمعة الماضي 28 شباط (فبراير)، ونتيجة تصاعد الخلاف في المدينة، اضطر وجهاء ومشايخ من جرمانا، ومن ثمّ وجهاء وزعماء مجموعات عسكرية محلية من السويداء، إلى إصدار مواقف علنية، في محاولةٍ لتهدئة الاحتقان في المدينة، والذي عزّزته تصريحاتٌ إسرائيلية عن عزم دولة الاحتلال «التحرّك لحماية الدروز» في المدينة الملاصقة لدمشق، والتي ينتمي غالبية سكّانها الأصليين إلى الطائفة الدرزية، مع حضورٍ واسعٍ لأبناء مناطق وطوائف أخرى في واحدةٍ من أكثر المناطق اكتظاظاً في محيط العاصمة السورية.

        حاولت المرجعيات الدرزية في المدينة التأكيد فوراً على رفضها للبيانات الإسرائيلية، كما قال ربيع منذر، الناطق باسم مجموعة مدنية تُعرّف عن نفسها باسم «مجموعة العمل الأهلي في جرمانا»، في حديثٍ مع الجمهورية.نت قبل أيام، كما زار سليمان عبد الباقي وليث البلعوس وآخرون كممثلين عن بعض فصائل السويداء العسكرية، الرئيسَ السوري خلال المرحلة الانتقالية أحمد الشرع لـ«نقاش التطورات المتسارعة مع إسرائيل والتأكيد على تمسّك أبناء الجبل بوحدة الأراضي السورية ورفض أي تدخل خارجي». في المقابل، أشارت مصادر من السويداء إلى أنّ هذا التصعيد جاء نتيجة تصاعد الحديث عن تواصلٍ لبعض الأطراف في المحافظة مع إسرائيل، وهو ما اعتبرته تلك المصادر أمراً مرفوضاً بشكل قاطع.

        لم يتوقّف الأمر عند الحدود السورية، إذ أدّى تفجّر الخلاف والدخول الإسرائيلي على هذا الخط إلى تفعيل إنذاراتٍ كثيرة في المختارة، مقرّ الزعيم الدرزي اللبناني والرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، حيث أُعلِن يوم الإثنين الفائت عن اجتماعٍ طارئ للمجلس المذهبي الدرزي في لبنان، وخرج منه جنبلاط بتصريحاتٍ تتّهم شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز في إسرائيل موفق طريف بمحاولة احتكار تمثيل الدروز في المنطقة بدعمٍ من الصهيونية، وحذّر وليد جنبلاط من أنّ هذه اللحظة أخطر من السابع عشر من أيار، في إشارةٍ إلى الاتفاق الذي وصل إليه الرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميل مع الإسرائيليين عام 1983، بعيد غزوهم لبنان وإخراج منظمة التحرير منه في عام 1982. وخصّ جنبلاط في حديثه لبنان وسوريا، مُستثنياً الدروز في فلسطين. وتشير أدلّةٌ إلى أنّ الذي استدعى استنفار جنبلاط في لبنان «أكبر» من مجرد تصريحاتٍ أدلى بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مؤخراً بخصوص الدروز في سوريا.

        من جهته، كان الشيخ موفق طريف قد أجرى مجموعةً من اللقاءات في العاصمة الأميركية واشنطن في الثالث عشر من شهر كانون الثاني (يناير) بداية هذا العام، ركّزت على أوضاع الدروز في سوريا بعد سقوط نظام الأسد. وقال طريف للصحفيين هناك: «إنّ حالة عدم اليقين في جنوب سوريا تتطلّبُ مشاركةً ومراقبةً دولية. لا يمكن تحقيق الاستقرار في سوريا دون ضمان استقرار وحقوق المجتمعات الدرزية التاريخية»، وذلك بحسب ما نقلته وسائل إعلام إسرائيلية.

        وأجرى طريف بداية شهر آذار (مارس) الجاري زيارةً ثانيةً إلى واشنطن من أجل حضور أعمال مؤتمرٍ تنظّمه مجموعة ADL التي تنشط في قضايا محاربة معاداة السامية، وألقى خطاباً في الحدث إلى جانب آخرين من بينهم وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت.

        لكن ما يقف فعلياً وراء تصاعد الخلافات الدرزية والتوترات بين أبرز الفاعلين السياسيين والدينيين الدروز، والتي لم تكن جديدةً غير أنها ظهرت إلى العلن، هو حدثٌ جرى في العاصمة الأميركية واشنطن بداية شهر شباط (فبراير) الماضي، ويبدو أنّه تسرّب مؤخّراً إلى الدوائر السياسية في المنطقة.

        علمت الجمهورية.نت بأنّ خلدون الهجري، قريب الزعيم الديني في السويداء حكمت الهجري وممثّله في الخارج، التقى مسؤولين أميركيين في واشنطن خلال شهر شباط (فبراير) الماضي بصفته «ممثّلاً سياسياً للشيخ حكمت الهجري»، وعرضَ عليهم خطةً لتنفيذ تمرّدٍ مسلّح على حكومة أحمد الشرع، تقوده قواتٌ مرتبطةٌ بحكمت الهجري من السويداء، وبمشاركةٍ من قوات سوريا الديمقراطية في شرق سوريا ومجموعاتٍ علوية من الساحل السوري، وبدعمٍ إسرائيلي، بحسب ما قال خلدون الهجري في تلك الاجتماعات.

        وتحدّثت الجمهورية.نت مع خمسة مصادر سورية وأميركية، بعضها كان مُطّلعاً على تفاصيل الاجتماعات بشكلٍ مباشر، وبعضها عَلِمَ من خلال الدوائر المُقرّبة من الشيخ حكمت الهجري بتفاصيل الخطة التي عرضها خلدون الهجري، والتي لم تحظَ بموافقةٍ رسميةٍ من الولايات المتحدة حتى اللحظة، وفق ما أفادت به مصادر مُطلعة تحدّثت إليها الجمهورية.نت.

        لم يوضح خلدون الهجري خلال حديثه في الاجتماعات مَن هي تلك المجموعات التي تساندهم في الساحل ومدى جاهزيتها، كما لم يكن هناك أيُّ دليلٍ على وجود موافقةٍ نهائيةٍ من قوات سوريا الديمقراطية ولا على خطّةٍ تفصيليةٍ حول ما استعمل خلدون الهجري كلمة «انقلاب» لوصفه.

        وتواصلت الجمهورية.نت مع مستشارين لدى الشيخ حكمت الهجري للحصول على تعليقٍ حول هذه المعلومات، وتمّ توجيهنا للتواصل مع خلدون الهجري بشكلٍ مباشرٍ كونه الشخص المعنيُّ بالموضوع، وردّاً على المعلومات التي عرضناها قال خلدون الهجري للجمهورية.نت: «هذا أمرٌ طبيعيٌّ في السياسة. كل المواضيع قابلةٌ للطرح والنقاش». وأضاف في حديثه: «‎ولكن في الموضوع العسكري تحديداً، كان طرح إحدى الدول وليس طرح أحد المكونات السورية، و‎نحن طلبنا معرفة رأي الإدارة الأميركية في هذا الخصوص، وهل هي داعمةٌ لهكذا أمر. ‎وبالمجمل متوافقون مع الإدارة الأميركية في الرؤية حول إعطاء فسحةٍ للدبلوماسية والحوار، إذ لا يمكن القول إنّ كل الاعضاء في الإدارة الانتقالية صالحين، ولا يمكن القول عكس ذلك. ولكنّ التعنّت في اتخاذ رؤية أو قرار حول عدة تفاصيل يُعيدنا إلى الحقبة الماضية». وأكد خلدون الهجري في حديثه مع الجمهورية.نت على أنّه «لا يوجد أي تنسيق مع الأطراف السورية نحو حلول عسكرية في المرحلة الحالية، وإنما التوجّه فقط نحو الدبلوماسية والحوار لإنتاج حكومةٍ تشاركية وطنية ودستورٍ عصري يضمن حقوق وأمان جميع  المكونات السورية، دون إقصاء وبأقصى سرعةٍ ممكنة، وذلك قبل تفاقم الوضع إلى ما لا تحمد عقباه».

        ويمثّل خلدون الهجري المقيم حالياً في الولايات المتحدة الشيخَ حكمت الهجري خارجياً، وسبق له إجراء محادثاتٍ ولقاءاتٍ باعتباره «الممثّل الخارجي للشيخ حكمت الهجري»، تحديداً بعد انطلاق الاحتجاجات في السويداء ضد نظام الأسد البائد ووقوف الشيخ حكمت الهجري العلني إلى جانبها.

        من جهةٍ أخرى، أصدر ثائر منصور الأطرش، وهو حفيد سلطان باشا الأطرش، بياناً أول أمس الثلاثاء قال فيه: «لا تزال مخططات التفريق قائمة، وجاهزة في الأدراج، وتخرج منها عند الحاجة، وأداةُ تنفيذِ تلك المشاريع هو الكيان الصهيوني». وأضاف المهندس ثائر الأطرش، عضو تجمّع النداء الوطني الجامع في بيانه: «كما كان أهلنا على مدار تاريخ هذه المنطقة السيفَ المُدافعَ عن وحدة سورية، لن نقبل اليوم أن نكون الخنجر الذي يطعنها في خاصرتها. ونحن ندرك ذلك من موقع التأكيد على حقيقةٍ تاريخيةٍ ثابتة، وكلُّ صوتٍ مُغايرٍ لذلك لا يُمثّل إلا نفسه».

        وبحسب المصادر التي فضّلت عدم الكشف عن هويتها بسبب «حساسية الموضوع» كما وصفت، فقد أجرى خلدون الهجري لقاءاتٍ مع أعضاء كونغرس ومسؤولين أميركيين، وذلك بعد أيامٍ من زيارةٍ أجراها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى واشنطن في الثاني من شباط (فبراير)، حيث عرض نتنياهو خلال الزيارة «ورقةً بيضاء» إسرائيلية حول سوريا، وكانت وكالة رويترز قد نشرت تقريراً أكّدت فيه تقديم تل أبيب لتلك الورقة التي تنظر إلى التحالف السوري التركي كتهديدٍ لأمنها القومي.

        مصادر في واشنطن قالت للجمهورية.نت إنّ مسؤولين إسرائيليين قالوا بشكلٍ صريح للإدارة الأميركية إن  حكومة الشرع المتطرفة بحسب وصفهم، وبتحالفها مع تركيا، ستكون بصدد تشكيل جيشٍ يحارب إسرائيل خلال عشرين عاماً من الآن، وهو ما يُعدُّ التهديدَ الأبرز على أمن إسرائيل القومي في المنطقة.

        في ما يخص قوات سوريا الديمقراطية، وهي قواتٌ عسكرية يسيطر على القرار فيها حزب الاتحاد الديمقراطي PYD، فقد قال مسؤولٌ عسكريٌّ فيها، وبالتوازي مع الاتصالات التي أجراها خلدون الهجري بداية الشهر الفائت، لقناة روداو إنّ قوات سوريا الديمقراطية «تحظى بقبول السويداء والساحل السوري». وأضاف محمود حبيب، الناطق باسم قوات الشمال الديمقراطي المنضوية في قوات سوريا الديمقراطية خلال حديثه للقناة التي تبث من إقليم كردستان العراق: «لدى كثيرٍ من الطوائف والإثنيات في سوريا ترحيبٌ بقوات سوريا الديمقراطية، وهي مقبولةٌ أكثر وتستطيعُ فرض السلم والأمن بدون عنف وبدون تمييز».

        وطلبت الجمهورية.نت تعليقاً من مجلس سوريا الديمقراطية حول المعلومات التي حصلت عليها وحول ورود اسمها في المسألة، ولكنّنا لم نحصل على إجابةٍ حتى لحظة نشر هذا التقرير.

        وفي اتصالٍ مع خضر الغضبان، القيادي في الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني الذي يترأسه تيمور جنبلاط، نجل الزعيم السياسي الدرزي وليد جنبلاط، أشار إلى أنّ الاجتماع الاستثنائي للمجلس المذهبي الدرزي عُقِد في سياق التصريحات الإسرائيلية، باعتبارها تُشكّل «عناوين عريضة لا يُمكن السماح بمرورها مرور الكرام». وأضاف الغضبان في حديثه مع الجمهورية.نت: «نتمنّى على قسد (قوات سوريا الديمقراطية) عدم التدخل في شؤون السويداء الداخلية، وأن تُبقي العلاقةَ مع مكونات سوريا ضمن إطار الدولة الموحدة»، مؤكداً على أنّ «أيّ سعيٍ لتشكيل ما يسمى تحالف الأقليات لا يصبُّ في مصلحة أحد». واعتبر الغضبان أنّ هذا «مخططٌ سعى إليه حافظ الأسد سابقاً وتصدّى له كمال جنبلاط، وهو سببُ الخلاف الرئيسي بين كمال جنبلاط وحافظ الأسد، والذي أدى إلى اغتياله».

        وأشار الغضبان في حديثه مع الجمهورية.نت إلى أنّ «هذا التحالف يصبُّ في مصلحة إسرائيل التي تهدف إلى تحويل الدول المحيطة بها إلى كياناتٍ مذهبيةٍ وطائفية متناحرة فيما بينها، في حين أنه لن يصبّ في مصلحة السوريين عموماً وحتى الكرد أنفسهم»، موكّداً على «حقّ الأكراد في طلب ضماناتٍ لحقوقهم في سوريا».

        ووجّه الغضبان رسالةً إلى شيخ عقل الطائفة الدرزية في إسرائيل موفق طريف عبر الجمهورية.نت، ردّاً على ادّعائه تمثيل دروز المنطقة، مؤكّداً على أنّ طريف «لم يكن يوماً حليفاً للدروز في لبنان ليكون اليوم حليفهم في سوريا». وقال الغضبان: «يريد الشيخ طريف اليوم تحويلَ الدروز من أصحاب أرض إلى حرس حدود. إذا كان هو يرتضي بذلك فنحن لن نرضى».

        من جهته، قال سعود الأطرش، وهو حفيد سلطان باشا الأطرش، في حديثٍ مع الجمهورية.نت إنّ مسألة طلب دعم إسرائيل أمرٌ مرفوضٌ رفضاً قاطعاً: «بالنسبة لنا كأبناء جبل العرب ومحافظة السويداء، فهذه القصة حتماً مرفوضة، وغير مقبولة على الإطلاق». وأكّد سعود الأطرش على أنّ «أبناء جبل العرب عبّروا عن رفضهم لهذه الفكرة، وكانوا ضدَّ هذه الأصوات الداعية لأيِّ شكلٍ من أشكال التعاون مع إسرائيل».

        كما علمت الجمهورية.نت بوجود حراكٍ شعبيٍّ واسعٍ يقوده أبناء المنطقة الجنوبية عموماً، وذلك للتنسيق بين محافظات الجنوب ومع باقي عموم سوريا لـ«خلق حالةٍ توافقيةٍ بين عموم السوريين والتّصدي لأيّ مشروعٍ قد يُؤثّر على وحدة سوريا، وذلك بخلق جسور تواصلٍ بين المدنيين بمعزلٍ عن الانقسامات التي يؤجّجها المتصارعون على النفوذ الشخصي»، بحسب ما قاله لنا أحد منسّقي هذه المجموعة والمتحدّثين باسمها. وأضاف المُنسّق في حديثه بأنّ «الشعب السوري المُنهك استطاع أن يحتشد ويبدأ بالتواصل فيما بينه لإعلاء صوتِه في حقه بتقرير مصيره وللتذكير بالثورة وأهدافها التي أعلنت عنها لحظة انطلاقها. الشعب السوري قرّر أن يتواصل مع بعضه عن طريق الشارع والحراك». وأشار المتحدث إلى أنّ هذه المجموعة بدأت حشدَ السوريين لتنفيذ احتجاجاتٍ ضد المخطط الإسرائيلي، وتحت شعار: «شعب واحد، مصير واحد».

        إلى ذلك، أشارت مصادرُ متقاطعة للجمهورية.نت، بالإضافة إلى مستشارين لدى الشيخ حكمت الهجري، إلى أنّ الحكومة السورية كانت على علمٍ بالاتصالات التي أجراها خلدون الهجري، وقامت بعدها بالتواصل مع الشيخ حكمت الهجري من خلال مندوبين عنها لإعلامه بذلك وسؤاله عن تفاصيل تلك الاجتماعات. بدوره، نفى الشيخ حكمت الهجري تلك التصريحات في حديثه مع مندوبي الحكومة السورية، وهو ما يتعارض مع ما أقرّ به السيد خلدون الهجري في حديثه مع الجمهورية.نت، ومع المعلومات التي أكّدتها المصادر المتقاطعة المُطّلعة على الاجتماعات التي أجراها خلدون الهجري.

        حاولت الجمهورية.نت التواصل مع مسؤولين في الحكومة السورية للحصول على تعليقٍ حول الموضوع، لكنّنا لم نحصل على جوابٍ حتى لحظة كتابة هذا التقرير.

موقع الجمهورية

——————————–

من يلعب بمصير علويّي الساحل السوري؟/ حازم الأمين

07.03.2025

الدرس السني العراقي ضروري لعلويي سوريا، لا بل إن ثمة فارقاً يجعلنا أكثر قلقاً عليهم، ذاك أن سنة العراق هم أقلية كبرى ولهم مدنهم الكبيرة الممتد عمقها خارج العراق، أما علويو سوريا فهم جماعة ريفية مع أقليات في مدن حمص واللاذقية وطرطوس، فيما الرابطة المذهبية ضعيفة مع عمقهم المذهبي الشيعي، وعلويو لواء اسكندرون، لم يذكروا منذ سقوط نظام الأسد.

أخطأ من توهّم أن ما يحصل في جنوب سوريا يتيح له أن يفتح ثغرة في ساحلها. فالتوقيت المريب لهجمات “الفلول” على مواقع وحواجز القوى العسكرية للسلطات السورية الجديدة في ريف مدينة اللاذقية، يؤشر، على الأقل، إلى أنه استجابة لأمر متزامن مع الخيارات التقسيمية التي بدأت تلوح في أكثر من مكان.

الأمر يتعدى خطأ تكتيكياً، فهو لعب بمصائر الأقليات قبل أن يكون تهديداً لوحدة سوريا الهشّة والضعيفة، مشهد “المجاهدين السُنة” المتقاطرين إلى اللاذقية يبعث فعلاً على القلق. صحيح أن تفادي المجزرة هو مهمة السلطة الجديدة، واختبار لها، لكن المتسبب بالمجزرة هو جماعة “الفلول” ممن لم يبتلعوا بعد حقيقة أن نظام الأسد سقط إلى غير رجعة، وألا مكان، حتى الآن، لطموحات المنكفئين إلى دويلة الساحل.

الحديث عن دور إيراني في تحريك “جيش الفلول” يبدو منطقياً على رغم عدم وجود قرائن موثّقة سوى بيان  نشرته وكالة “مهر” يعلن تشكيل فصيل “أولى البأس”، لكن في الوقت ذاته ومنذ سقوط النظام، توجّه إلى اللاذقية وريفها، وتحديداً إلى مدينة جبلة، عشرات الآلاف من ضباط جيش النظام السوري وجنوده. هذا الجيش الذي اختفى بلحظة واحدة ما أن غادر بشار الأسد وعائلته إلى موسكو، من غير المنطقي أن يتلاشى وينصهر في بيئة “مهزومة” من دون أن يعود ليستيقظ في بؤر أهلية يستطيع التحرك فيها. لنا على هذا الصعيد بتجربة السقوط في العراق درس كبير.

لعب الجيش في العراق بعد حلّه أدواراً دموية هائلة، ووُظِّف من قوى إقليمية أبرزها النظام السوري البائد. وهنا علينا أن ننتبه الى حقيقة أن أكثر من دفع أثمان استيقاظ جيش النظام في العراق هو البيئة السنية العراقية التي تحرّك فيها هذا الجيش.

كل مدن السنة في العراق تعرضت لحروب ضارية انتهت بهزيمة “الفلول” هناك، وبدمار هائل شملها كلها بدءاً من الموصل ومروراً بتكريت وسامراء ووصولاً إلى الأنبار.

الدرس السني العراقي ضروري لعلويي سوريا، لا بل إن ثمة فارقاً يجعلنا أكثر قلقاً عليهم، ذاك أن سنة العراق هم أقلية كبرى ولهم مدنهم الكبيرة الممتد عمقها خارج العراق، أما علويو سوريا فهم جماعة ريفية مع أقليات في مدن حمص واللاذقية وطرطوس، فيما الرابطة المذهبية ضعيفة مع عمقهم المذهبي الشيعي، وعلويو لواء اسكندرون، لم يذكروا منذ سقوط نظام الأسد.

المعلومات حتى الآن تأخذنا إلى أن من أخذ القرار بفتح النار في الساحل السوري لم يكترث إلى احتمالات المجزرة التي قد ترافقه. وما يضاعف من القلق حيال احتمال دور إيراني هو ألا أفق سياسيّ لهذه الخطوة سوى فتح احتمالات حرب أهلية على مصراعيها. فعودة نظام الأسد ليست ممكنة طبعاً، والمواجهة الأهلية لن تكون متكافئة بأي شكل من الأشكال، والمؤشرات القادمة من طهران تأخذنا إلى أن الجناح “الانتحاري” في النظام أطاح الوجوه الإصلاحية. وأمام هذه الحقائق يبدو الأفق مفتوحاً أمام احتمالات “عراقية”.

من قرر أن ينتزع القاعدة البحرية في اللاذقية من جماعة الهيئة، يعرف أن بقاءه فيها لن يدوم، وهذا ما حصل فعلاً. فساعات قليلة واستُعيدت القاعدة من أيدي “الفلول”، إذاً الأمر ينطوي على مغامرة غير محسوبة، وثمة من لا يكترث للأثمان وللدماء طالما أنه خارج الحدود.

أما العنصر الذي لم يتضح موقعه بعد في هذه المواجهة فيتمثل بالوجود الروسي في قلب هذه الحرب، ذاك أن قاعدة حميميم ليست بعيدة من موقع الاشتباكات، وهي من جهة تأوي عدداً من ضباط النظام السابق ممن لجأوا إليها، ومن جهة أخرى تمثل الدولة التي تسعى الى علاقات غير متوترة مع النظام الجديد. وقد يكون من المبكر توقع الدور الروسي في هذا المشهد، لكن موسكو لطالما انتظرت حتى يكتمل المشهد لتحدد موقعها منه. ومرة أخرى لن يكون فلاديمير بوتين إلى جانب المهزوم.   

درج

—————————-

اللاذقية وخطر اندلاع حرب أهلية

الجمعة 2025/03/07

أدى حدثان متواليان في ريف مدينة اللاذقية إلى اشتعال بوادر حرب أهلية في المدينة. تمثل الحدث الأول في قيام دورية كبيرة من الأمن العام بمحاولة اعتقال أحد المطلوبين من ريف جبلة، بينما وقع الحدث الثاني عندما هاجمت ميليشيا مسلحة حاجزاً للأمن العام في قرية بيت عانا بريف جبلة، ما أسفر عن مقتل ثمانية من عناصره. عقب ذلك، انطلقت تعزيزات أمنية نحو مدينة جبلة وريفها لملاحقة المسلحين الفارين، مما أدى إلى اندلاع اشتباكات عنيفة وصفت بأنها منظمة. واجهت القوات مقاومة كبيرة في الريف، مما استدعى تدخلاً بالمروحيات لتأمين التقدم. وفي تطور مفاجئ، ظهر طيران حربي نفاث ونفذ طلعات منخفضة فوق جبلة وريفها واللاذقية، ما زاد من التوتر. وبعد ساعات، اندلعت مظاهرات رفعت شعارات تُطالب بإسقاط الجولاني وأخرى ذات طابع ديني في طرطوس وجبلة المدينة، قادها أفراد من الطائفة العلوية. في المقابل، خرجت مظاهرات داعمة للهيئة والأمن العام، ما زاد من حالة الانقسام الأهلي. وأظهرت المظاهرات المناوئة اعتراضاً على قصف الجيش التابع للسلطة الجديدة بالطيران لقرى في ريف جبلة.

مع حلول المساء، بدأت هجمات جديدة استهدفت حواجز الأمن العام في اللاذقية، وخاصة في منطقة الدعتور، وفي ريف اللاذقية مثل القرداحة، إضافة إلى هجمات على طريق دمشق-اللاذقية. وامتدت الاشتباكات إلى داخل المدينة، حيث تمكن مناوئون للحكم من السيطرة على القيادة البحرية في نواحي المدينة. تصاعدت حدة المواجهات مع استخدام أسلحة متوسطة، ما أدى إلى حالة من الفوضى في اللاذقية وجبلة.

انكفاء الأهالي في طرطوس

في طرطوس، انكفأ الأهالي عن الطرقات بعد أن منعت الهيئة خروج المظاهرات خشية تفاقم الصراع الطائفي. أما في اللاذقية، فقد اختلط تحرك الأهالي مع الحركات المسلحة في الشوارع، ما دفع قوات الأمن العام إلى إطلاق النار في الهواء لتفريق المتظاهرين، وسط مخاوف من اقتحام أحياء العلويين. ومع تصاعد القلق من اندلاع حرب شوارع بين السنة والعلويين، منعت قوات الأمن العام مناصريها من التجمهر لدعمها، محاولةً احتواء الأزمة ومنعها من التفاقم، حيث تكررت المحاولات خلال ساعات المساء. في ظل هذه التطورات، أصدرت وكالة “سانا” تصريحاً متأخراً على لسان مدير الأمن العام في اللاذقية، المقدم مصطفى كنيفاتي، أكد فيه أن حاجزاً للأمن العام في قرية بيت عانا بريف جبلة قد تعرض لهجوم، مما أدى إلى تفاقم الاشتباكات. جاء البيان متأخراً مع اشتداد المعارك وانتشارها في مناطق متفرقة، ما عزز حالة الفوضى ورفع منسوب الشكوك حول ظهور تنظيمات عسكرية منظمة قادرة على استهداف مراكز الأمن العام.

تلا ذلك ظهور بيان عسكري لما يُسمى المجلس العسكري لتحرير سوريا وذلك في تمام الساعة السادسة مساء، حيث نُشر أحد البيانين عبر “أكس”، بينما ظهر الآخر عبر مقطع مصور لمسلح سابق في الحرس الجمهوري يُدعى فتيحة. أُعلن في البيانين، بطريقة أو بأخرى، تمرد على السلطة القائمة، مما أدى إلى تصاعد وتيرة الاشتباكات وظهور دعوات لدعم التنظيمين. وكان اللافت أن البيان الصادر عن المجلس العسكري لتحرير سوريا جاء موقعاً باسم العميد الركن غياث سليمان دلا، أحد المقربين من ماهر الأسد والعامل السابق في الفرقة الرابعة. انتشرت مظاهرات في عدة مناطق سورية دعماً للهيئة، وترافقت مع دعوات غير رسمية لإعلان الجهاد ضد فلول النظام في الساحل. في المقابل، نشط إعلام النظام وصفحات مؤيدة للإدارة العسكرية في بث مشاهد لأرتال عسكرية قيل إنها تتجه نحو الساحل، في محاولة لإظهار السيطرة على الوضع.

مجموعات مسلحة في حمص

في الوقت نفسه، شهدت مدينة حمص ظهور مجموعات مسلحة أطلقت النار على أبنية في أحد الأحياء، وسط أنباء عن استهدافها لمناطق ذات غالبية علوية، ما زاد من التوتر الطائفي في البلاد، خصوصاً بعد انتشار مقاطع فيديو لمسلحين مكشوفي الوجوه يتعهدون بمعاقبة العلويين. بحلول الساعة العاشرة مساءً، ومع صدور بيان رئيس الجمهورية وتصريح الشرع، تم فرض حظر تجوال شامل في محافظتي اللاذقية وطرطوس، حيث أُغلقت المداخل الرئيسية وسط تشديد أمني مكثف. في الوقت نفسه، بدأت تعزيزات عسكرية بالوصول من مدن مختلفة إلى الساحل. وأثناء توجهها، تعرضت إحدى الأرتال لكمين على طريق M4، مما أدى إلى اندلاع اشتباك سريع قبل أن تتمكن القوات من تجاوز المنطقة والوصول إلى اللاذقية.

ومع دخول التعزيزات، تجددت الاشتباكات داخل المدينة واستمرت لأكثر من ست ساعات متواصلة. وخلال هذه المعارك، تمكنت قوات الأمن العام من استعادة السيطرة على القيادة البحرية ومطار سطامو، وفقاً لبيان رسمي نشرته وكالة “سانا”. بحلول الساعة السادسة صباحاً، لم يتوقف إطلاق النار في اللاذقية، حيث استمر إطلاق النار الحي في منطقة شارع الثورة وامتداد منطقة الدعتور، مما جعل التغطية الإعلامية صعبة. وفي تمام الساعة السابعة صباحاً، انتظمت أرتال عسكرية في قلب مدينة اللاذقية، بينما أكدت الإدارة العسكرية عبر “تليغرام” أن عمليات التمشيط في أرياف اللاذقية وطرطوس ستكون دقيقة ومختلفة عن السابق.

تتعامل الإدارة العسكرية مع التصريحات السياسية والعسكرية التي صدرت عن الساحل بحزم، وتعتبرها جزءاً من معركة جديدة للحفاظ على أمن الساحل واستقراره. في السابعة صباحاً بدأت تنتشر الأرتال العسكرية على امتداد ريفي اللاذقية وطرطوس وبدأت بعمليات تفتيش وصفت بالنشطة والكبيرة، مع استخدام لسلاح متوسط داخل مدينة اللاذقية في اشتباكات مازالت مستمرة حتى الآن.

تداعيات سياسية واجتماعية

يمكن رصد تداعيات اجتماعية وسياسية واضحة لمحاولة قوى عسكرية منظمة ومدعومة، حيث يبرز غياب الأنشطة السياسية، واتساع الهوة بين السلطة والعلويين، إلى جانب قرارات الفصل التعسفي للموظفين، وعدم الاهتمام بملف تعويض الأمنيين والعسكريين. كما أن بعض التصرفات الخاطئة من عناصر الهيئة تزيد من ابتعاد العلويين عن سلطة دمشق، التي باتت مطالبة بوضع إطار قانوني واضح لتنظيم وضع المطلوبين، يشملهم ضمن قانون عقوبات واضح ومنظم، إلى جانب إبراز قدرة العدالة الانتقالية وأثرها.

إضافة إلى ذلك، هناك حاجة لوضع خطة حقيقية لإعادة العسكريين من المراتب الدنيا، وتعويض ضحايا الجيش بعد 2011، حيث أصبح العلويون كتلة مهمشة ومنسية، يتم إقصاؤها تدريجياً دون رؤية واضحة لمستقبلهم في المعادلة السياسية والعسكرية.

——————————

ست خطوات.. كيف يمكن للاتحاد الأوروبي تجنب فشل الانتقال السياسي في سوريا؟

2025.03.06

نشر معهد “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية” تقريراً تحدث فيه عن التحديات السياسية والاقتصادية الشديدة التي تعرقل عملية الانتقال السياسي في سوريا، مشيراً إلى ست خطوات يتعين على الاتحاد الأوروبي اتخاذها لدعم استقرار البلاد.

وقال التقرير إنه بعد سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، يعيش السوريون بين الأمل والقلق، إذ تواجه البلاد تحديات سياسية واقتصادية تهدد استقرارها. ورغم التفاؤل الأولي، بات السوريون يشعرون بالقلق حيال المستقبل، حيث زار “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية” البلاد ورصد حالة عدم اليقين المتزايدة.

ويرى الأوروبيون في التحول السوري فرصة استراتيجية لعكس مسار الصراع الذي أدى إلى موجات الهجرة والإرهاب، لكن ذلك يتطلب استثماراً جاداً في استقرار البلاد. ومع انشغال أوروبا بدعم أوكرانيا، فإن تجاهل سوريا قد يمنح روسيا مجالاً لتعزيز نفوذها في شرق المتوسط، خصوصاً أن السوريين ينظرون إليها بشكل أقل سلبية مقارنة بإيران، ويبدون استعداداً للتعامل معها إذا لبت احتياجاتهم.

من جهة أخرى، تواجه الحكومة السورية الجديدة اختباراً صعباً في إدارة المرحلة الانتقالية. فرغم إطلاقها حواراً وطنياً شاملاً نسبياً، فإن افتقاره إلى الشفافية وسرعة تنفيذه أثارا مخاوف بشأن توجه الجماعة نحو إحكام قبضتها على السلطة، بدلاً من تحقيق شمولية حقيقية في الحكم.

وعلى الصعيد الاقتصادي، ازداد الوضع سوءاً مع تراجع الإيرادات، لا سيما بعد انهيار تجارة “الكبتاغون” وفقدان النفط الإيراني، كما ارتفعت أسعار الخبز عشرة أضعاف.

وتعجز الإدارة السورية عن دفع رواتب الموظفين، ما أدى إلى تفاقم الفقر وغياب الخدمات الأساسية. فضلاً عن ذلك، فإن غياب مؤسسات أمنية فعالة أدى إلى تصاعد الجريمة والاختطاف، ما يهدد بموجة جديدة من الاضطرابات، في وقت يسعى “تنظيم الدولة” إلى استغلال حالة الإحباط الشعبي.

وبناءً على ذلك، أكد “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية” أنه يتعين على العواصم الأوروبية أن تكثف بشكل عاجل تركيزها على المساعدات لتحقيق الاستقرار في سوريا، قبل أن تضيع الفرصة، وقبل أن تؤدي خيبات الأمل السياسية والاقتصادية إلى عرقلة مستقبل أكثر استقراراً، مشيراً إلى ست خطوات يمكن للأوروبيين اتخاذها في هذا الخصوص.

زيادة الدعم المباشر والفوري للخدمات الأساسية

وفق التقرير، ركز الأوروبيون حتى الآن على تخفيف العقوبات، ولكن هذا الانفتاح لا يمكن أن يلبي الاحتياجات الفورية لسوريا. لذا، يتعين على الاتحاد الأوروبي وشركائه، مثل بريطانيا والنرويج، تقديم مساعدات سريعة ومباشرة لتسهيل العمليات الإنسانية، وتوفير الخدمات الأساسية، ودفع الرواتب للمساعدة في إبقاء البلاد واقفة على قدميها.

ولا ينبغي أن تكون هذه المساعدات مشروطة بالتقدم السياسي، لأن سوريا معرضة لخطر الانهيار الكامل، الأمر الذي قد ينهي أي احتمالات للانتقال الإيجابي.

كما يتعين على الأوروبيين تقديم دعم فوري لقطاع الكهرباء، نظراً لتأثيره على الظروف المعيشية والاقتصاد والبيئة الأمنية (مثل توفير الإضاءة في الشوارع).

ويحتاج جزء كبير من البنية التحتية للكهرباء في سوريا، والتي تعتمد على تقنيات غربية، إلى إصلاحات فورية يمكن للشركات الأوروبية أن تدعمها. إضافة إلى ذلك، يحتاج قطاعا الصحة والمياه، وهما من الخدمات العامة الأساسية، إلى مساعدات مباشرة.

وإذا كانت الجهات الفاعلة الغربية غير راغبة في تقديم دعم أوسع للحكومة السورية، فيمكنها بدلاً من ذلك دعم الوزارات العاملة في هذه المجالات.

تكثيف المشاركة مع الحكومة السورية

ذكر التقرير أن الحكومة السورية تلعب لعبة موازنة دقيقة، إذ تركز على تعزيز قوتها، في حين تسعى إلى اكتساب الشرعية الخارجية. وينبغي للأوروبيين، الذين تباطأ انخراطهم المكثف الأولي مع دمشق، استخدام موقف الحكومة السورية لمواصلة الضغط عليها من أجل تحقيق عملية سياسية شاملة.

ويمكن للأوروبيين أيضاً الضغط من أجل مشاركة أكبر للأمم المتحدة في دعم العملية السياسية التي يقودها السوريون، واستخدام الشروط الأطول أجلاً لتحفيز هذا الهدف السياسي، وربط الحوافز، مثل تمويل إعادة الإعمار واتفاقيات التجارة المواتية، بتحقيق تقدم سياسي.

تعزيز ودعم المجتمع المدني

تمتلك منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية مساحة جديدة للعمل في جميع أنحاء البلاد، وستكون أساسية في تشكيل مستقبلها السياسي والاجتماعي والاقتصادي بشكل إيجابي.

وفي حين يخشى بعض السوريين انتقاد الحكومة الجديدة، فإنها تراجعت بالفعل عن العديد من القضايا، بما في ذلك طبيعة المناهج الدراسية، استجابةً للضغوط. لذا، سيكون دور منظمات المجتمع المدني السورية حاسماً لمنع الحكومة الجديدة من إحكام قبضتها على السلطة، وضمان مستقبل أكثر شمولاً.

ومع تأثير تخفيضات تمويل “الوكالة الأميركية للتنمية الدولية” على المنظمات غير الحكومية السورية، يتعين على الأوروبيين زيادة الدعم لهذه المجموعات، وتزويدها بالمساعدات المالية والفنية والقدرات اللازمة لترسيخ دورها في سوريا الجديدة.

تسهيل دعم الحوكمة

يتعين على الدول الأوروبية تسهيل دعم الحوكمة للإدارة السورية الجديدة، والضغط على الحكومة السورية للاعتراف بالقيود المفروضة على قدراتها. وهذا يتطلب التواصل مع الجهات الفاعلة السورية خارج كوادر الحكومة، بما في ذلك في المجال الأمني.

كما يمكن للأوروبيين تقديم دعم فني متزايد، وتعزيز القدرات للمساعدة في معالجة التحديات الفورية، مع الاستفادة من زيادة التنسيق الدولي.

ورغم أن الأوروبيين لا يسعون إلى تكرار اعتماد غزة على الدعم الخارجي في الأمد البعيد، فإنهم قادرون على العمل على إنشاء هيئة دولية جديدة، على غرار “لجنة الاتصال المؤقتة”، التي نسقت توجيه المساعدات إلى الفلسطينيين. وينبغي أن يشمل هذا تحديد البلدان التي ستتعاون مع قطاعات ووزارات معينة.

جعل تخفيف العقوبات أكثر فعالية

رغم الترحيب بالإعفاءات الحالية من العقوبات التي تمنحها الولايات المتحدة وأوروبا، فإنها لا تزال ضيقة للغاية، بحيث لا تعالج التأثير السلبي للعقوبات الأميركية الأوسع نطاقاً.

ويتعين على الأوروبيين، إلى جانب مجلس التعاون الخليجي، الضغط على واشنطن لتوسيع الإعفاءات، وإثبات أن هناك مصلحة مشتركة في استقرار سوريا. كما ينبغي تجديد “الترخيص الأميركي العام 24” على المدى الطويل، إذ ينتهي في تموز، ما سيمكن من تقديم الدعم المالي الذي تشتد الحاجة إليه.

تشكيل تحالف دولي بشأن سوريا

شدد تقرير “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية” على أن تأمين الدعم الأميركي لهذا المسار يتطلب التصدي للمعارضة الإسرائيلية المزعومة لتخفيف العقوبات، والتي تهدف، إلى جانب الضربات العسكرية المستمرة، إلى إبقاء سوريا ضعيفة، ومنع تعزيز النفوذ التركي.

ويتعين على الأوروبيين التأكيد لنظرائهم الإسرائيليين والأميركيين أن استمرار الضغط سيؤجج الصراع، ويشكل تهديداً أعمق للمصالح الغربية والإسرائيلية، بما في ذلك منح إيران مساحةً أكبر لتعزيز نفوذها في سوريا.

وسعت الحكومة السورية الجديدة إلى تخفيف التوتر مع إسرائيل، وتحقيق توازن بين النفوذ التركي والتواصل مع الجهات الفاعلة الأخرى. لذا، يرى التقرير أن الفرصة متاحة لخفض التوترات الإقليمية، وأن الموقف الدولي الموحد لدعم الاستقرار السوري هو الوسيلة الأفضل لمعالجة المصالح الأمنية العالمية.

التقرير الأصلي على الرابط التالي

https://ecfr.eu/article/the-road-ahead-six-ways-europeans-can-urgently-support-a-stable-syria

تلفزيون سوريا

————————-

فورين أفيرز: المضي قدماً في سوريا يعني النظر إلى الخلف

ربى خدام الجامع

2025.03.06

بعد شهور على قيام هيئة تحرير الشام المقاتلة المعارضة بإذهال العالم عبر إسقاطها لدكتاتورية بشار الأسد في مطلع شهر كانون الأول من عام 2024، أصبحت سوريا تواجه عدداً من الأمور المقلقة الملحة، فقد دمرت الحرب البلد ومزقتها، وأكثر من 90% من سكانها أصبحوا يعيشون تحت خط الفقر، كما تداعى الاقتصاد، وتدمرت البنية التحتية الأساسية للبلد. ولهذا يجب على قادة سوريا الجدد، وعلى رأسهم زعيم هيئة تحرير الشام سابقاً، أحمد الشرع، والذي أصبح الآن رئيساً مؤقتاً لسوريا، ومحمد البشير، رئيس الوزراء المؤقت، أن يكافحا فلول تنظيم الدولة في الشرق، إلى جانب التفاوض مع قوات سوريا الديمقراطية في الشمال، واحتواء المتطرفين الأيديولوجيين ضمن صفوفهما، وفي هذه الأثناء، يجب على الشرع وغيره من كبار الشخصيات في الحكومة المؤقتة أن يقنعوا قادة العالم بأن لديهم نية بالتخلي عن أصولهم المتطرفة.

ولكن هنالك قضية ملحة أخرى تواجه الحكومة التي لم تلتفت إليها إلا قليلاً حتى الآن، ألا وهي المطالبة المنتشرة بين عموم السوريين بالعدالة والمحاسبة، فقد كان نظام الأسد، مسؤولاً عن ما لا يعد ولا يحصى من الانتهاكات الصارخة التي حدث أوقحها خلال فترة القمع العنيف للثورة الشعبية التي انطلقت في عام 2011 ثم خلال الحرب التي أعقبتها. ولقد قدرت منظمات حقوقية سورية ودولية بأن النظام أخفى قسرياً ما لا يقل عن 150 ألف سوري وعرض للتعذيب والقتل آلافاً غيرهم في سجونه سيئة الصيت. ومنذ سقوط الأسد في دمشق، اكتشفت قوات الأمن والمدنيون ومنظمات المجتمع المدني ما لا يقل عن 18 مقبرة جماعية، وذلك بحسب ما أعلنته منظمة الخوذ البيضاء التطوعية التي تعرف باسم الدفاع المدني السوري.

تعهدت الحكومة المؤقتة بإقامة العدل فيما يخص تلك الجرائم، بيد أن إحقاق العدل ليس بالمهمة السهلة، لأن العدالة الانتقالية، أو السبل التي تستعين بها المجتمعات بأدوات سياسية وقضائية لتعالج إرث النزاعات السابقة والانتهاكات الحقوقية التي ارتكبتها أنظمة بائدة، يجب أن تنطلق عندما تكون المطالبة الشعبية بالمحاسبة في أوجها، وعندما تكون الأدلة ماتزال متوفرة. بيد أن الإجراءات التي تفرض على عجل، أو التي تضعها مؤسسات متقلقلة يمكن أن تؤدي إلى نتائج تفتقر إلى النزاهة والشفافية والشرعية، كما قد تؤدي في النهاية إلى تعميق الانقسامات الاجتماعية بدلاً من تخفيفها وزيادة التشكيك بالدولة بدلاً من قطع الشك باليقين، وهذا يعني بأنه يجب على الحكومة السورية أن تخلق حالة توازن بين المطالبة الملحة بالعدالة وبين الحاجة لوضع أسس راسخة في بداية الأمر من أجل إقامة مؤسسات دولة جامعة وقوية، إذ على مدار عقود، عمل النظام القضائي في سوريا على ترسيخ سلطات نظام الأسد، من دون أن يلتزم بحكم القانون. وهذا النظام بوضعه الحالي يفتقر إلى القدرة وثقة الشارع به على معالجة انتهاكات النظام السابق وانتهاكات العناصر المسلحة الأخرى، ومن بينها تنظيم الدولة.

وللسير على طريق العدالة الانتقالية بصورة ناجحة، ينبغي على القادة الجدد لسوريا أن يعيدوا تنظيم السلطة القضائية في البلد حتى تلاحق كبار مرتكبي الانتهاكات الحقوقية خلال حقبة الأسد والحرب السورية. ومن الضروري أن تحرص الحكومة وأن تعطي الأولوية لرغبات الضحايا وأهاليهم، وهذا يعني تشكيل مؤسسات جديدة مثل تأسيس مكتب معني بالمفقودين ولجنة لتقصي الحقائق يجري ربطها بالضحايا، إلى جانب الاعتراف بالجرائم السابقة بشكل رسمي، وتعيين قضاة سوريين وأجانب في المحاكم وذلك ليفصلوا في الجرائم وليستعيدوا الأصول المسروقة، إلى جانب تأسيس صندوق للتعويضات، وذلك لأن العدالة الانتقالية في جوهرها تقوم على الحكم على الجرائم التي وقعت في الماضي، مع جبر ضرر الضحايا، ولا أحد يعرف ثمن تلك الانتهاكات والتجاوزات أفضل من هؤلاء الذين تعرضوا لها.

مواكبة المستجدات

خلال البحث في أكثر من عشر دول تعرضت لنزاعات في السابق على مدار عشرين عاماً، تبين لنا بأن الأشكال الفعالة للعدالة الانتقالية بوسعها أن تعمل كقوة تنشر الاستقرار وذلك بفضل معالجتها للمظالم، وتسهيل عملية إحقاق الحق بالنسبة للضحايا، مع الترويج لحالة التماسك الاجتماعي. وأظهر بحثنا خلال العام الفائت والذي ضم بيانات حول العدالة الانتقالية مأخوذة من 99 دولة، بأن مأسسة شكل معين للمحاسبة يمكن أن تحد من احتمال وقوع انتهاكات حقوقية مستقبلاً كما تعمل على ترسيخ الديمقراطية. ثم إن السعي السريع يمكن أن يظهر مدى التزام الحكومة الجديدة بحكم القانون، إلى جانب ترسيخ الشرعية بين المواطنين، ومنع ظهور حالات السعي لتحقيق العدالة بآليات ذاتية خارج إطار القضاء أو وقوع هجمات انتقامية.

غير أن الإسراع المبالغ فيه لإقامة العدالة الانتقالية يمكن أن يخلق مشكلات أيضاً، فلو وضعت الحكومة السورية الجديدة عملية لإحقاق العدالة الانتقالية من دون أن تلبي احتياجات الضحايا قبل ذلك، وضمان المشاركة المحلية، وإقامة مؤسسات قضائية تتمتع بشرعية، فإنها عندئذ قد تقوض ثقة الشارع بما يضعف في نهاية الأمر الجهود الساعية لتحقيق حالة المحاسبة. إذ في العراق مثلاً، أسست الولايات المتحدة سلطة الإئتلاف المؤقتة التي كانت تمثل الحكومة الانتقالية بعد إسقاط صدام حسين في عام 2003، وهذه السلطة أسست آليات لمحاسبة أفراد من النظام السابق على الفور، وشملت تلك الآليات إقامة محكمة خاصة لمحاكمة صدام وغيره من كبار المسؤولين، إلى جانب وضع عملية عرفت باجتثاث البعث والتي تهدف لاستبعاد أفراد من حزب البعث الذي كان صدام عضواً فيه من المناصب العامة في الدولة. ويعتبر التدقيق الأمني الذي يمارس على موظفي الدولي إجراء عادياً ضمن الجهود الساعية لإقامة العدالة الانتقالية، ولكن تبين لنا في العراق بأن تطبيق عملية اجتثاث البعث بشكل متسرع مع عدم التشاور مع الضحايا في هذا الشأن أديا لتنفيذ عملية اتسمت بالغموض والظلم، لأنها سرحت في نهاية الأمر الآلاف من الموظفين الأكفاء وأصحاب الخبرة واستبعدتهم من المناصب في الدولة، وهذا ما دمر مؤسسات الدولة وعمق الانقسامات الطائفية.

وفي دول أخرى، أسهمت هشاشة الحكومات الجديدة أو الانتقالية وقدرة المجرمين على التمسك بمناصبهم السلطوية بإضعاف الجهود التي تعمل على إقامة عملية محاسبة أو اعتراض سبيلها، إذ على سبيل المثال احتاج تطبيق آليات العدالة الانتقالية في كمبوديا بعد الخمير الحمر لعشرات السنين، وكذلك الأمر في تشيلي بعد الحكم الديكتاتوري لأوغستو بينوتشيه، وفي السلفادور بعد الحرب الأهلية، إذ في كل حالة من تلك الحالات، منعت هياكل السلطة الراسخة والتسويات السياسية عمليات العدالة الانتقالية من أن تبدأ أعمالها، ما أدى إلى إطالة أمد حصانة المجرمين وتأخير شفاء الضحايا ومجتمعاتهم بالتبعية، وقد يعبر ذلك التأخير عن الخوف من احتمال أن تتسبب عملية السعي لإحقاق العدالة في وقت مبكر جداً، لاسيما المحاسبة الجنائية، إلى تجدد العنف. إذ في جنوب أفريقيا على سبيل المثال، تبدى القلق تجاه المحاكمات الفورية التي أقيمت لانتهاكات حقوق الإنسان التي مورست بموجب قانون الفصل العنصري لأن هذه المحاكمات يمكن أن تزعزع استقرار العملية الانتقالية، وبالنتيجة أسس ذلك البلد لجنة الحقيقة والمصالحة التي حرصت على خلق حالة توازن بين العدالة وحفظ السلم.

ثم إن ضعف التطبيق يمكن أن يعيق إقامة العدالة الانتقالية بشكل فعال، إذ بعد أن أنهت اتفاقية دايتون حرب البوسنة في عام 1995 وأسست منظومة حكم جديدة، شرعت الكيانات الأجنبية والوطنية لمحاكمة مجرمي الحرب، إلا أن جهودهم البطيئة والتي لم تكتمل في نهاية المطاف، لم تعالج معظم الحالات، كما كانت الشفافية تنقصها، وكذلك تطبيق العملية على وجهها الصحيح. ثم إن وجود تناقضات في المحاكمات والأحكام الصادرة، إلى جانب قصور المشاركة العامة ومحدوديتها ضمن هذا السياق خلقا إحساساً بالحرمان والتجريد من الحقوق بسبب هذه العملية، بعد أن تعرضت جماعات عرقية معينة لظلم وإقصاء، وفي نيبال، وبعد الحرب الأهلية مع الثوار الماويين، وفي أوغندا، بعد النزاعات مع جماعة جيش الرب للمقاومة، وهو عبارة عن مجموعة مقاتلة متمردة، أعطيت المساعي لتحقيق العدالة الانتقالية أولوية كبرى، بيد أن النتيجة كانت نفسها وتمثلت بغياب العدالة الشاملة، وهذا ما خلق شقاقاً بين الضحايا، وعمق الانقسامات المجتمعية بدلاً من أن يعمل على إصلاحها.

ختاماً، يمكن القول إن الخيار بالنسبة لسوريا اليوم لا يقع ما بين تأجيل العدالة الانتقالية أو الإسراع إلى تحقيقها، بل يتمثل بالبدء بتلك العملية الآن مع وضع استراتيجيات مدروسة على المدى البعيد وهذه الاستراتيجيات تقوم على الدروس المستفادة من المساعي المماثلة التي بذلت في دول أخرى شهدت عمليات انتقالية صعبة. ولذلك، يجب على الحكومة السورية الجديدة أن تتحرك بسرعة كافية لتلبية مطلب الشارع بالنسبة للمحاسبة المبكرة، مع ضمان تنفيذ تلك العملية بموجب ما يناسبها من مشاورات ومشاركة وشرعية. وعبر تكريس الجهود للتعامل مع الضحايا ومجتمعاتهم، يرجح للسلطات الحاكمة الجديدة أن تحقق نتائج تعكس الوقائع والتطلعات المحلية مع إعادة بناء ثقة الشارع بمؤسسات الدولة.

بدأ معظم الضحايا في سوريا بالتعبير عن رغباتهم قبل كل ذلك، إذ خلال الأيام الأولى لسقوط نظام الأسد، نظم المعتقلون المحررون من سجن صيدنايا المعروف باسم “المسلخ البشري”، مع أهالي الآلاف من المختفين قسرياً على يد قوات الأمن التابعة للأسد احتجاجات بصورة يومية في ساحة الأمويين وسط دمشق، طالبوا فيها بمعرفة مصير أحبائهم، كما دعوا إلى محاكمة مرتكبي الجرائم، وأعربوا عن سخطهم لتركيز الحكومة على كبار المسؤولين فحسب، وأعلنوا بأن مساعي الحكومة لم تكن شاملة ولا شفافة برأيهم. كما طالب ممثلون عن المتظاهرين وأهالي المفقودين بلقاء الشرع ليفضوا له بهمومهم بشكل مباشر، وهذا ما حدث أخيراً في الأول من شباط، بعد مرور شهرين تقريباً على انطلاق الاحتجاجات. بعد ذلك تعهد الشرع بمواصلة الحوار مع الأهالي وإعطاء الأولوية لمطالبهم.

تقدم من دون اتساق

خلال الشهر الأول من تولي القادة الجدد في سوريا للسلطة، تجنبوا أي ذكر صريح لمصطلح “العدالة الانتقالية”، وفي المقابلات التي أجريت مع الشرع، أكد بشكل مستمر على الحاجة لخلق حالة توازن ما بين المحاسبة والمصالحة. وفي حواره لقناة العربية في أواخر شهر كانون الأول الماضي، أكد الشرع على أن الحكومة الانتقالية على الرغم من أن العفو أولويتها، ماتزال ملتزمة بمحاكمة الشخصيات التابعة لنظام الأسد التي تورطت بالتعذيب والقتل وغيرها من الجرائم، وشدد على استهداف كبار المجرمين. لكن الشرع حذر أيضاً من التركيز الكبير على العقاب لأن ذلك قد يتسبب بظهور دوائر انتقام مفرغة إلى جانب تقويض الاستقرار. ومؤخراً صرح بأن إهمال حق الضحايا بإنصافهم يهدد السلم هو أيضاً، وفي أواخر شهر شباط أعلن عن وجود مخططات تسعى لتشكيل هيئة معنية بالعدالة الانتقالية، من دون أن يدلي بأي تفاصيل عنها.

قام الشرع بخطوات مهمة لتطمين الأقليات في سوريا، وخاصة العلويين والمسيحيين، إلى جانب الموالين للنظام البائد، من أنهم لن يتحولوا إلى موضوع لأعمال الانتقام والعقاب. وعلى الرغم من أن هيئة تحرير الشام كانت جماعة إسلامية مقاتلة، أكد الشرع في مرات كثيرة على التعايش وإعادة بناء مؤسسات الدولة، إذ في اليوم الذي تلا سيطرة الهيئة على دمشق، أصدرت قيادة العمليات العسكرية الموحدة التابعة للمعارضة السورية عفواً على كل جنود الاحتياط ضمن القوات المسلحة التابعة للأسد، ومنعت تنفيذ أي هجوم ضدهم، كما أقامت هيئة تحرير الشام ما يعرف بمراكز المصالحة حيث يمكن لعناصر الجيش والشرطة والمخابرات ضمن النظام البائد إلى جانب عناصر الميليشيات الموالية للأسد أن يسلموا سلاحهم وأن يسجلوا للحصول على بطاقة هوية مدنية مؤقتة. وعلى الرغم من تركيز الحكومة المؤقتة على المصالحة، حدثت حالات انتقام وثأر متفرقة. ففي مدينة مصياف الواقعة في شمال غربي سوريا، أطلق مسلحون مجهولو الهوية النار على ثلاثة قضاة علويين فأردوهم قتلى، كما قتل كثير من المسؤولين السابقين في الحكومة وموالين معظمهم علويون، فما كان من الحكومة المؤقتة إلا أن استنكرت أعمال القتل هذه وتعهدت بمحاكمة الجناة.

وبنهاية كانون الأول الماضي، جعلت الحكومة المؤقتة من تحديد أماكن وجود”فلول النظام البائد” الذين لم يتقدموا للمصالحة في مراكز التسوية أولوية لها، وسرعان ما تحولت تلك الجهود إلى حملة واسعة تبنتها القيادة الموحدة للعمليات العسكرية التي أصبح هدفها القبض على عناصر النظام البائد في عدد من المدن في البلد، ومن خلال تلك العمليات، جرى اعتقال العشرات من كبار المجرمين، كان بينهم عاطف نجيب، الذي ترأس الأمن السياسي في عهد الأسد، والذي نسبت إليه عملية تعذيب الأطفال في محافظة درعا، بما أن عملية التعذيب هذه هي التي أسهمت في انطلاق ثورة عام 2011. كما ألقت السلطات أيضاً القبض على المتورطين في مجزرة التضامن التي حدثت في عام 2013، والتي نفذتها قوات تابعة للنظام عبر إعدام ما يقرب من 300 مدنياً بشكل جماعي ووحشي وذلك في أحد أحياء دمشق التي خضع جزء منها لسيطرة المعارضة (وقد صور الجناة بأنفسهم تلك المجزرة التي حظيت باهتمام كبير على نطاق واسع)، بيد أن تلك الحملة أسفرت أيضاً عن اشتباكات مع جماعات تابعة للنظام السابق، كما تسببت بحدوث إصابات في بعض الأحيان. والمثير للجدل أيضاً هو أن هذه الحملة استهدفت بعض الجنود العاديين لدى النظام البائد، معظمهم اعتقل بناء على شبهات، وهذا ما أثار مخاوف تجاه نزاهة تلك العمليات ونطاقها، غير أن هذه النتائج التي تفتقر إلى الاتساق تؤكد على ضرورة وجود عمل إطاري شامل وإجراءات واضحة ومؤسسات ذات كفاءة تعمل على معالجة تلك الحالات.

عملت الحكومة الانتقالية أيضاً على تقليص أعداد العاملين في مؤسسات الدولة، إذ سرحت قرابة 400 ألف موظف وهمي زعمت أنهم لا يسهمون إلا بقدر ضئيل في عمل بيروقراطية الدولة، فمنذ شهر كانون الثاني الماضي، طردت السلطات من دون أي إجراءات مسبقة الآلاف من موظفي الدولة المحرومين من أي وسيلة للطعن بتلك القرارات، وهذا ما تسبب بخروج عشرات المظاهرات في عموم البلد. وعلى الرغم من أن إصلاح القطاع العام ضروري ومطلوب على الفور، فإن تلك الإجراءات خلت من الشفافية والإجراءات العملية المناسبة، وهذا ما أثار مخاوف تجاه احتمال كونها مجرد ستار يغطي عمليات التطهير الطائفية. وفي حال استمر الوضع على هذا المنوال، فإن الحكومة ستخاطر بتكرار بعض الأخطاء التي ارتكبت عند اجتثاث البعث من العراق، مما سيتسبب بتبديد واسع لثقة الشارع بها.

علقت الحكومة أيضاً عمل المحاكم المدنية في سوريا قبل أن تعيد فتحها في أواسط شهر كانون الثاني، وأعلنت بأنها ستعيد هيكلة النظام القضائي، وشكلت لجاناً لمراجعة القوانين والإجراءات المتبعة حالياً، وفي تلك الأثناء، بقيت قوانين النظام البائد نافذة. كما أعلن وزير العدل الجديد بأن كل القضاة والموظفين سيبقون في مواقعهم وسيتقاضون رواتبهم الشهرية، باستثناء 87 قاضياً من محكمة مكافحة الإرهاب التي أنشأها الأسد في عام 2012 ووجهت لها انتقادات كثيرة كونها استهدفت المعارضين والناشطين. وبدأت وزارة العدل بقبول طلبات القضاة الذين سرحوا ظلماً في عهد نظام الأسد، أو الذين استقالوا احتجاجاً على القمع.

ينبغي للنظام القضائي أن يؤدي دوراً واضحاً في عمليات التحقيق وتوجيه التهم ومقاضاة الأشخاص الذين جرى اعتقالهم على خلفية جرائم النظام البائد، ويعود ذلك بصورة أساسية لعدم وجود قوانين خاصة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. غير أن الحكومة الجديدة أبدت اهتمامها بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية فيما يتصل بالمقاضاة على تلك الجرائم، إلى جانب استعدادها للتعاون مع اللجنة الدولية للمفقودين وذلك فيما يتصل بحراسة المقابر الجماعية وجمع عينات الحمض النووي من أهالي المفقودي، وإجراء تحليل جنائي لتحديد هوية الضحايا.

تتصل كل تلك الإجراءات بالعدالة الانتقالية، لكنها حتى الآن لا تمثل جزءاً واضحاً وشاملاً ورسمياً من عمل إطاري يسعى لمحاسبة نظام الأسد على عنفه، ولقد أبدت القيادة الجديدة حتى الآن تفضيلها لأن يكون عمل القيادة يسير من القمة إلى القاعدة، إذ اعترف الشرع بأن أعضاء الحكومة الانتقالية من “اللون ذاته” ما يعني بأن غالبيتهم إسلاميون تابعون لحكومة هيئة تحرير الشام السابقة في محافظة إدلب، وأكد على أن هذا التجانس ضروري في المرحلة الأولى من العملية الانتقالية، وذلك للمحافظة على وحدة البلد وللعمل على تطبيق السياسات التي باتت سوريا بحاجة ماسة لها وبشكل سريع. كما تعهد الشرع بتشكيل حكومة قائمة على مشاركة أكبر مستقبلاً، وبوسعها أن تضمن لإجراءات المحاسبة أن تعبر عن خبرات وتجارب جميع المجتمعات المتضررة، بيد أن المراقبين والناشطين المحليين شككوا بوفاء الشرع بهذا الوعد.

عندما تكون هناك إرادة

أتى أشمل مقترح للعدالة الانتقالية في سوريا عن طريق المحامي البارز أنور البني المتخصص بحقوق الإنسان والذي تعرض للسجن والتعذيب على يد نظام الأسد، وفي عام 2022، لعب دوراً مهماً في محاكمة أنور رسلان بألمانيا، الذي كان ضابطاً سابقاً لدى النظام، وذلك على الجرائم التي ارتكبها ضد الإنسانية. تقوم خطة البني على إقامة عدد من الكيانات الجديدة بينها المختلط، والمحاكم المتخصصة بحقوق الإنسان والتي تتبع لمبادئ المحكمة الجنائية الدولية، مع تعيين قضاة سوريين وأجانب فيها، إلى جانب تخصيص صندوق لتعويض الضحايا وأهاليهم، تدعمه الدولة والمساعدات الدولية والأصول التابعة للمجرمين التي تم وضع اليد عليها، إلى جانب تشكيل لجان للمصالحة تعمل على معالجة الانقسامات المجتمعية، وتحكم في النزاعات المحلية، وتسهم في الكشف عن مصير المفقودين، وتقدم الدعم النفسي للضحايا، فضلاً عن تأسيس مكتب للتواصل وذلك للترويج للجهود التي تبذلها الحكومة في مجال العدالة الانتقالية ولتعزيز ثقة الشارع بتلك الجهود وتعاونه معها، إلى جانب إقامة مكتب لتخليد ذكرى الضحايا يعمل على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان وتكريم الضحايا من خلال نصب تذكارية أو تسمية مناطق بأسمائهم، مع إدخال تاريخ الجرائم في حقبة نظام الأسد ضمن المناهج الدراسية.

تعتبر خطة البني شاملة وطموحة، غير أن تطبيقها أو تطبيق ما يماثلها من حيث المجال يتطلب إرادة سياسية، وموارد ضخمة، وترتيباً دقيقاً، وعلى الرغم من أن الحكومة الانتقالية لم تعرب عن استعدادها لتبني النموذج الذي طرحه البني، فإن عناصر من تلك الخطة تتوافق مع الجهود الوطنية والدولية الجارية في الوقت الراهن. والأهم من ذلك تشديد البني على العدالة التي تركز على الضحايا وعلى المصالحة على المدى البعيد والتي يمكن تحقيقها على نطاق واسع، وخاصة في حال استعداد الحكومة الانتقالية للعمل على مراحل وضمان عنصري الحقيقة والانفتاح.

من خلال احتجاجاتهم الكبيرة التي خرجت إلى ساحة الأمويين، أعرب ضحايا نظام الأسد عن رغبتهم بالحصول على إجابات أشمل، ولذلك يتعين على الحكومة الجديدة أن تبدأ بوضع آليات للاعتراف رسمياً بجرائم نظام الأسد وللبدء بجبر الضرر الذي خلفته، وعادة يأتي ذلك على شكل مكاتب مخصصة للمفقودين تعمل على البحث عن أماكنهم أو معرفة أي شيء عن مصيرهم، إلى جانب تشكيل لجان لتقصي الحقائق والتي تعمل على وضع سجلات بالتواريخ لانتهاكات حقوق الإنسان، وتحديد المسؤولية المترتبة على تلك الانتهاكات، وتقديم توصيات بشأن جبر الضرر أو إدخال إصلاحات على السياسات لمنع تكرار تلك الانتهاكات.

يجب على الحكومة الانتقالية أيضاً أن تخلق حالة توازن ما بين المطالبة بالمحاسبة السريعة على الجرائم، وبين الحاجة لإعادة هيكلة القضاء في سوريا، لأن تأسيس حكم قضائي مستقل تماماً يعتبر أمراً ضرورياً لتنظيم انتخابات حرة، وإدارة النزاعات السياسية، وإعادة تأهيل الاقتصاد، بما أن الاستثمار الدولي يرتبط عادة بالثقة بالنظم القانونية الموجودة في البلد. وهذه الطريقة هي أنجع طريقة بالنسبة للضحايا الساعين لجبر ضررهم، وبالنسبة للدولة فيما يتعلق بمحاسبة المجرمين. ولذلك، يجب على الحكومة أن تنفذ إصلاحات قضائية في أسرع وقت ممكن، وفي هذه الأثناء يجب عليها أن تجهز لمحاكمة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان. وعلى الرغم من أن مقاضاة الجناة من ذوي الرتب المتدنية قد يعطي الضحايا إحساساً بتحقيق العدالة بشكل فوري، فإن بحثنا كشف بأن مقاضاة المسؤولين الكبار كان له الأثر الأكبر في نهاية المطاف، لأن تلك المحاكمات تنقل رسالة مفادها بأنه لا أحد فوق القانون، كما تحقق سابقة قانونية مهمة، وتعزز ثقة الشارع بمؤسسات الدولة.

اعترفت الحكومة الانتقالية بالحاجة الملحة لوجود محاسبة وعدالة، لكن في حال فرضها لإجراءات لا يعتبرها الشارع منصفة وشاملة، فإن تلك العملية لابد أن تفضي لنتائج عكسية. وعبر تبني نهج قائم على مراحل يبدأ بإجراءات تعمل على حفظ الأدلة وتلبية احتياجات الضحايا، بوسع قادة سوريا الجدد أن يخلقوا حالة التوازن الصحيحة في هذا المضمار. ومع تزايد زخم العدالة الانتقالية، ستتوفر بين أيديهم موارد ليضعوا من خلالها قواعد مؤسساتية راسخة من أجل المقاضاة وجبر الضرر وإجراء إصلاحات أوسع داخل الدولة. غير أنه من عادة الحكومات الهشة التي تأتي بعد النزاعات أن تسعى للاحتفاظ بالتأييد الشعبي، من دون أن تلتزم كثيراً بمسألة العدالة والمحاسبة، وهنا يكمن خطراً حقيقياً يتمثل باحتمال عودة النزعات الاستبدادية إلى الظهور. وفي حال فشل مساعي العدالة الانتقالية أو التلاعب بها لأغراض سياسية، عندئذ قد تشهد سوريا تجدداً للقمع والفساد والعنف. أما ضمان الشفافية وثقة الشارع فيعتبران أساسيين لمنع الانزلاق من جديد نحو هوة الديكتاتورية.

المصدر: The Foreign Affairs

تلفزيون سوريا

——————————

الدستور السوري: معركة الحرية أولًا/ سميرة المسالمة

7 مارس 2025

تعيش سورية اليوم مرحلة تأسيس دستور ينظم الحياة فيها، بدءا من الإعلان الدستوري المؤقت، لضبط الفترة الانتقالية الحالية، وصولًا إلى ضبط القوانين التنفيذية الناظمة. ومن الطبيعي، أن يسهم مفكرون وقانونيون ومتخصصون في طرح رؤاهم، للإضاءة على المحددات الأساسية التي تؤسس لعمل توافقي يحمي الحقوق الطبيعية، وينهي العمل بنظام حكم شمولي، لتجنب ما كان سائدًا خلال العقود الستة الماضية، فالسوريون بحاجة إلى جني ثمار ثورة راح ضحيتها مئات آلاف الشهداء والمغيبين، وتشرد بسبب عنف النظام الأسدي نحو نصف الشعب السوري.

والأفكار التي يطرحها معنيون بالبحث وهي مجردة من أي اصطفاف سياسي أو ديني تزيد من وضوح الرؤية عند المؤسسين أو المكلفين بكتابة النصوص الدستورية، وخاصة عندما تكون اللجان المعينة ليست ذات اختصاص أكاديمي دقيق بما كلفت به، رغم أنها قد تكون من ذات المجال الدراسي الحقوقي، لهذا فإن الاستعانة بالخبراء واستشارة طيف واسع من العاملين على مدار العقود بهذا الشأن لا ينتقص أو يقلل من مكانة أحد، إذ تستخدم كبرى منصات البحث الأكاديمي عمليات تقصي الآراء لما تضيفه من حداثة وسد للثغرات التي قد تحدث في أي عمل.

لهذا يحسب لمن يطرح بجرأة ومهنية ورؤيا وطنية العناوين الأساسية التي ترفع عن الإعلان الدستوري وما يتمخض عنه لاحقًا من تعديلات في القوانين حالة التشتت والغموض والانفلات التأويلي وفيض الشروحات، حيث يجب أن تكون كل عبارة فيها جامعة مانعة، من هنا علينا تقدير ما شاركنا به الدكتور عزمي بشارة على صفحته في فيسبوك في 30 ديسمبر/ كانون الأول 2024 حين أكد على ضرورة أنه “يفترض أن يعلن السياسيون عن موقفهم منها لأنهم سوف يشاركون في صنع الدستور، أو قد يستفردون بصنعه، فالدستور لا يكتب نفسه”، داعيا في ذات الوقت إلى تأكيد المساواة بين المواطنين بغض النظر عن الجنس أو الدين أو المذهب.

وهذه المقاربة لحقيقة ما يريده الشعب السوري، قد لا تتحقق، في ظل الإبقاء على شعار يتداوله العامة “من يحرر يقرر” وتدافع عنه حملات موجهة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تشجع مثل هذه العبارات على الاستفراد بالحكم، وتهميش النضال السلمي لحساب السلاح فقط، متمثلين لعقل الفصائلية التي أعلن الرئيس السوري أحمد الشرع ضرورة الانتقال منها إلى عقل الدولة، وهو لن يتحقق إلا بصياغة إعلان دستوري يتوافق مع إرادة السوريين في دولة مؤسسات وقانون وحقوق مواطنة متساوية متجاوزة فكرة الأغلبية الحاكمة، لأنها في كل مكان قد تكون متغيرة، أو  كما عبر عنها “أغلبيات طارئة” ويجب أن تكون الدساتير فوقها، إذا أرادت السلطة الحالية أن تبقى حاكمة لكل السوريين، وليس لمن يقبل فكرة عجائبية بعد ثورة حرية دامت 14 عامًا مفادها أن “من يحرر يقرر”.

إن أي محاولة لصياغة إعلان دستوري أو دستور، قابل لفتح الاحتمالات في تأويلاته حول قضايا جوهرية (تتعلق بالحياة والمساواة وحقوق المرأة والطفل والحريات الشخصية والجمعية والفصل بين السلطات، وطرق بناء الموازنات المالية والاقتصادية، وطبيعة العلاقات الخارجية وآلية انتقال السلطة ومدة الفترة الانتقالية) من شأنه أن يربك المجتمع ويحيلنا من جديد إلى مناقشة حقوق المواطنة من أصغر معانيها إلى أوسعها، ما يمكن أن تتعدد به أشكال وطرق الاعتراض عليه، وهو ما قد يأخذنا إلى حالة فوضى، قد لا تحمد عواقبها، في دولة هشة اقتصاديا، ومرتبكة اجتماعيًا، وتتربص بها فلول من الفاسدين والمنتفعين من نظام مخلوع، وتلعب أصابع العدو الاسرائيلي بأساسيات استقلالها، وهذا ما عبر عنه بشارة في ذات منشوره: “إن الخطاب الغامض أو الموارب بشأن هذه القضايا الجوهرية يهدد بإعادة إنتاج حالات التوتر والاعتراضات التي شهدتها البلاد سابقًا”.

ولعل القلق الذي يعبر عنه كثير من الضالعين في الشأن الحقوقي والقانوني لا يفترق في شيء عما سبق من تحذيرات، فقد نقلت عدة وسائل حقوقية عن المحامي أنور البني تنبيهه إلى جملة من الأخطاء التي شابت ما تم تسريبه من أفكار حول الإعلان الدستوري المعد، في خلط واضح من المعدين (إذا صح التسريب) بين الإعلان الدستوري، والدستور الذي يجب أن يوافق عليه كل السوريين: “إنه يشكل مشروع دستور لم يصوت عليه أحد، وليس إعلان دستوري مؤقت للمرحلة الانتقالية” منوها إلى أن قضايا مثل شكل الدولة ومصادر التشريع وعلم الدولة وغيرها من أساسيات بناء الدولة، يتم التصويت مستقبلا عليها، وهي ليست من صلاحيات اللجنة، إضافة إلى وجود خلط في وظيفة البرلمان الذي سيتم تعيينه لا انتخابه مع البرلمان المنتخب.

من جانبه قدم الدكتور سام دلة، وهو المعني أكاديميًا في صياغة الدساتير، عبر منبره في وسائل التواصل الاجتماعي، وصفة مجربة بنى الآباء المؤسسون للولايات المتحدة النظام الدستوري بموجبها، وهي (الحرية) لأنها تضمن أهم قيمة يملكها الانسان، و(الفصل بين السلطات) مع التوازن فيما بينها، و(الفيدرالية) التي تكفل توزيع السلطات، “وهي هنا لا تعني التقسيم لأنها حرصت على بقاء الجيش والخارجية والتوازن في العلاقة بين المركز والهيئات المحلية”، و(دولة القانون) التي تكفلها استقلالية مطلقة ومكانة مقدسة للقضاء، مشيرا إلى أن التأكيد على “الديمقراطية” كمصطلح لم يكن ضمن أولويات الآباء المؤسسين لأنها تتحقق ضمنًا بوجود ما سبق.

لهذا فإن فتح النقاش حول قضية الدستور بشكله المؤقت “الإعلان” أو الدائم “الدستور”، بين مختصين ومفكرين وعاملين في الشأن العام وحقوق الإنسان من خارج اللجنة، له أهمية كبرى، وهو ضرورة وطنية، وتوجيه العمل إلى ما يتناسب وإرادة كل السوريين وعلى اختلاف مرجعياتهم، لتصبح القضايا الجوهرية جميعها واضحة، لأنها كما قال بشارة في منشوره الذي فتح الجدال واسعا “الحقيقة أن ما يحددها هو القيم والمبادئ التي توجه الدستور”، وهذه لن تكون إلا بمشاركة واسعة لمختلف الشرائح المختصة والقادرة على التعبير عن رأيها بصراحة وشجاعة… وحينها تكون سورية حرة وموحدة قولًا وفعلًا ومواطنين.

*كاتبة سورية.

ضفة ثالثة

———————-

سياسة إيران المشبوهة.. خطر يهدد الاستقرار الإقليمي/ علي أسمر

2025.03.07

تثير السياسة الإيرانية في المنطقة، ولا سيما تجاه تركيا، العديد من التساؤلات حول أهدافها الحقيقية ومدى انسجامها مع المتغيرات الإقليمية المتسارعة.

تصريحات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بشأن إيران لم تأتِ من فراغ، بل جاءت استنادًا إلى معطيات ومعلومات متراكمة تؤكد تورط إيران في أنشطة مشبوهة تهدد استقرار المنطقة، وخصوصًا في سوريا والعراق.

إيران ودعم الميليشيات.. نهج مستمر رغم التحولات

على مدى العقود الماضية، تبنّت إيران سياسة تعتمد على دعم الفصائل المسلحة كأداة رئيسية لتعزيز نفوذها الإقليمي. يبرز هذا النهج بوضوح في العراق وسوريا ولبنان واليمن، حيث قامت طهران بتمويل وتسليح جماعات موالية لها لتحقيق مصالحها الجيوسياسية. لكن المتغيرات الحالية تجعل من هذا النهج مخاطرة كبيرة، خصوصًا مع تصاعد الضغوط الأميركية والإسرائيلية وتزايد الاستياء الإقليمي من سياسات إيران التوسعية.

تقارير استخباراتية وإعلامية متعددة تؤكد أن الحرس الثوري الإيراني يعقد اجتماعات سرية في شمال العراق تهدف إلى زعزعة استقرار الحكومة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، بالإضافة إلى تقديم دعم متجدد لبقايا النظام السابق. هذا التدخل الإيراني يعكس استمرار الرهان على الفوضى كوسيلة للحفاظ على النفوذ، في وقت بدأت فيه معظم القوى الإقليمية تتجه نحو الاستقرار وإعادة الإعمار.

ليس هذا جديدًا على السياسة الإيرانية، فقد سبق أن سمعنا عن تزويد الحرس الثوري الإيراني لحزب العمال الكردستاني بطائرات مسيّرة، وهي خطوة تعكس بوضوح استهداف أنقرة بشكل غير مباشر. فإيران، رغم تعاونها الرسمي مع تركيا في عدة ملفات، تتبنى في المقابل سياسات مزدوجة تضعها على مسار التصادم مع المصالح التركية. من هنا، يمكن فهم زيارة مدير جهاز المخابرات التركية إبراهيم كالن إلى طهران قبل شهر، والتي يبدو أنها جاءت في محاولة لفهم طبيعة هذه التحركات الإيرانية المشبوهة وتقييم مدى خطورتها على تركيا والمنطقة.

المعادلة الإقليمية الجديدة.. إيران في مأزق استراتيجي

اليوم، تقف إيران أمام واقع إقليمي مختلف، حيث لم يعد بإمكانها الاعتماد على نفس أدوات الماضي للحفاظ على نفوذها. الآن يوجد توافق دولي على أن “حقبة الميليشيات انتهت”، وهذا التوافق الدولي يحمل دلالات عميقة تتجاوز الموقف التركي، إذ يعكس تغيرًا في النظرة الإقليمية إلى الدور التخريبي الذي تلعبه إيران عبر دعم الجماعات المسلحة.

التحولات في السياسة الأميركية أيضًا تلعب دورًا مهمًا في تضييق الخناق على إيران، فالإدارة الأميركية الحالية تتبنى نهجًا أكثر صرامة تجاه طهران، وهو ما قد يدفع إسرائيل إلى تصعيد ضرباتها ضد المواقع الإيرانية في اليمن والعراق. في هذه الحالة، لن تجد إيران دعمًا إقليميًا، بما في ذلك من تركيا، التي قد تنأى بنفسها عن أي مواجهة محتملة بين طهران والغرب.

ومع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تتجه السياسة الأميركية نحو نهج أكثر صرامة وعدائية تجاه إيران، حيث تعهدت الإدارة الجديدة بإعادة فرض الضغوط القصوى على طهران، مستهدفة برنامجها النووي ونفوذها الإقليمي المتنامي. العقوبات الاقتصادية قد تعود بقوة، مع احتمال تصعيد عسكري غير مباشر عبر دعم أوسع لحلفاء واشنطن في المنطقة. كما أن العلاقة المتوترة بين إيران وإسرائيل قد تشهد مزيدًا من التصعيد بدعم أميركي أكبر. في ظل هذه التطورات، تبدو طهران أمام خيارات صعبة بين المواجهة أو التفاوض وفق شروط أكثر صرامة.

التناقض الإيراني.. خطاب معادٍ لإسرائيل وسياسات تزعزع الاستقرار في سوريا

المفارقة في السياسة الإيرانية أنها ترفع شعار مناهضة إسرائيل، لكنها في الوقت نفسه تساهم في زعزعة الاستقرار في سوريا الجديدة، كما تفعل إسرائيل عبر غاراتها الجوية. هذا التناقض يضع إيران في موقف حرج، إذ كيف يمكن لها تبرير دعمها لميليشيات تقوّض الحكومات الوطنية بينما تدّعي الدفاع عن سيادة الدول؟ هذا السؤال يتطلب من طهران إجابة واضحة، خاصة في ظل انكشاف أنشطتها المشبوهة في العراق وسوريا.

هل تعيد إيران حساباتها؟

العلاقات التركية-الإيرانية تتسم دائمًا بمسارين متوازيين: الأول دبلوماسي إيجابي وظاهر للعلن، والثاني متوتر وخفي، يظهر بين الحين والآخر في شكل أزمات سياسية وأمنية. وبينما تحاول أنقرة الحفاظ على قنوات التواصل مع طهران، فإنها في الوقت ذاته لن تتساهل مع أي تهديد مباشر لمصالحها الأمنية.

وعليه، فإن المرحلة القادمة تتطلب من إيران إعادة تقييم استراتيجياتها بما يتوافق مع المتغيرات الإقليمية الجديدة. فالاعتماد على الميليشيات لم يعد وسيلة فعالة للنفوذ، خصوصًا مع تنامي الضغوط الدولية والإقليمية ضد هذا النهج. إذا استمرت طهران في سياساتها الاستفزازية في سوريا والعراق، فإنها قد تجد نفسها في عزلة متزايدة، وحتى حلفاؤها التقليديون قد يضطرون إلى اتخاذ مسافة من سياساتها.

في ظل هذه المتغيرات، على إيران أن تدرك أن اللعبة القديمة لم تعد مجدية. استمرارها في دعم الميليشيات ومحاولة زعزعة الاستقرار في الدول المجاورة سيؤدي في النهاية إلى تصعيد سياسي وعسكري لن تكون قادرة على تحمله. تركيا، بدورها، لن تبقى صامتة إذا شعرت بأن المصالح الإيرانية تتعارض مع استقرارها وأمنها القومي.

لذا، فإن إعادة النظر في الاستراتيجيات والتكيف مع الشروط الجديدة باتت ضرورة حتمية لطهران، فالعالم اليوم لا يحتمل المزيد من الفوضى، وأي دولة تواصل الرهان على دعم الجماعات المسلحة ستجد نفسها في عزلة تامة.

تلفزيون سوريا

—————————–

مخططات إيران في سوريا.. انتقام مؤجل من تركيا ورهان على الصراع الطائفي/ ضياء قدور

2025.03.07

بعد أسابيع قليلة من سقوط نظام الأسد، خرج المرشد الأعلى للنظام الإيراني، علي خامنئي، ليصف سقوط الأسد بالفوضى، متوعداً بهزيمة وشيكة للثوار السوريين. وفي خضم تعليقه على التطورات في أعقاب سقوط أهم حلفائه في المنطقة، أشار خامنئي إلى أن “الشباب السوري ليس لديه ما يخسره؛ فجامعته غير آمنة، ومدرسته غير آمنة، منزله غير آمن، شارعه غير آمن، وحياته غير آمنة”، بحسب زعمه، داعياً لظهور من وصفهم بـ “المجموعة الشريفة والقوية” لهزيمة الثوار السوريين. كان هذا الخطاب، بكل تأكيد، يحمل في طياته نبرة استعلائية وغروراً يفضح الوجه الحقيقي للنظام الإيراني، الذي لا يضيق صدره بمأساة الشعب السوري بقدر ما يبحث عن ملاذات استراتيجية أخرى في ظل الضغوط الداخلية والإقليمية.

خطاب خامنئي ذاك لم يكن موجهاً فقط إلى العلويين، بل كان يحاول أن يخاطب خوفهم العميق من المزاعم واسعة النطاق حول “الإبادة الجماعية الوشيكة”، وهي المزاعم التي حرص النظام السابق وجهات أجنبية عديدة على تنميتها على نطاق واسع داخل المجتمع العلوي، معتمداً على الرغبة في تعزيز الهيمنة الإقليمية عبر إدخال الجماعات المحلية في دوامة من الرعب النفسي والاضطراب الذي يمكن أن يزرع الحقد والتفرقة.

وعندما أطلق خامنئي تصريحاته تلك، كان متأكداً من أن أي طريقة، مهما كانت حكيمة وحذرة ومنضبطة، للتعامل مع الواقع العسكري والأمني في الساحل السوري، ستتأثر بالطبع بهذا العامل النفسي المزروع. هذا العنصر النفسي كان من شأنه أن يحرك الأحداث نحو أفق خطير، حيث تكتسب الحرب الطائفية في سوريا زخماً مع مرور الوقت، ما يصب في مصلحة طهران وأجنداتها الانتقامية. ذلك أن إغراق المجتمع السوري في حالة من الذعر والتشويش سيعزز من قدرة طهران على السيطرة على المشهد وتحقيق أهدافها السياسية في المنطقة.

كان هدف خامنئي من تحريك وكلاءه في سوريا واضحاً، وهو اللعب بآخر الأوراق المميتة في جغرافية لفظت نفوذه مرة واحدة وللأبد: إثارة ردة فعل مجتمعية غاضبة ومبالغ فيها لما يعتبر أنه دليل دامغ على الإبادة الجماعية الوشيكة. وكان يكمن في هذا تكتيك دموي يهدف إلى توظيف مشاعر الخوف بشكل ممنهج عبر وضع المدنيين كدروع بشرية لصالح بقايا النظام البائد، مما يسمح لإيران بالحفاظ على وجودها في سوريا لأطول فترة ممكنة.

نظرة على “حركات المقاومة” الناشئة المدعومة إيرانياً في سوريا

هذا النهج أكدته الحملات المتكررة التي قادتها فرق وزارة الدفاع وقوات الأمن العام، التي تعرضت هناك لكمائن غادرة، بدأت كهجمات متفرقة وغير منسقة وانتهت اليوم بتمرد ناشئ أكثر تنظيماً وتنسيقاً ووحشية، استغل الظرف الإقليمي ودعوات الفدرلة والتقسيم التي رسمت مخططاتها التصريحات الإيرانية والإسرائيلية معاً.

وكانت هذه الأحداث بمنزلة إشعال فتيل حرب باردة طويلة الأمد في المنطقة، حيث تصبح سوريا ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الدولية والإقليمية.

في لقاء له مع صحيفة “فرهيختغان” الإيرانية قبل أيام فقط من بدء هذا التمرد، زعم علي أكبر ولايتي، مستشار خامنئي، أن الاستعدادات للتفكك قد بدأت في سوريا، متوقعاً أن تشهد سوريا اندلاع حرب أهلية في أي لحظة! هذه التصريحات، التي تحمل في طياتها إشارات تهديدية، تشير إلى النية الإيرانية المتعمدة لتحفيز فوضى إقليمية عارمة وتوجيهها لتحقيق مكاسب سياسية ودينية في المنطقة.

قبل ذلك، كانت مواقع إيرانية، قد أعلنت عن تأسيس ما سمته “جبهة المقاومة الإسلامية في سوريا”، مدعية أن هدفها هو حماية المواطنين السوريين في بداية شهر كانون الثاني الماضي.

ومن النقاط المثيرة للاهتمام التي يجب ملاحظتها هو تشابه شعار “جبهة المقاومة الإسلامية في سوريا” مع شعار ميليشيات “المقاومة العراقية” المنشأة حديثاً ذات الأصول الخفية التي تعود ملكيتها لطهران.

ومع الإعلان عن وجود هذه المجموعة، ارتفع عدد المجموعات التي أعلنت عن تأسيس نفسها لمحاربة الحكومة السورية الجديدة إلى مجموعتين بعد سقوط بشار الأسد، إذ أعلنت قبل ذلك مجموعة تسمى نفسها “المقاومة الشعبية السورية” عن وجودها، وأوضحت أن هدفها هو استهداف فصائل هيئة تحرير الشام المسلحة وغيرها من الفصائل الثورية السورية.

وكان من الواضح أن شعار ما يسمى “المقاومة الشعبية” بعيد كل البعد عن الشكل المتعارف عليه لميليشيات مدعومة إيرانياً، حتى أن تصميم الشعار بدائي وخالي من العمل الجرافيكي.

وكانت أولى عملياتها المعلنة رسمياً ببيان في حي الحمدانية في مدينة حلب في مطلع شهر كانون الثاني الماضي، مما أوحى أن الأمر ربما يعود لعمل اعتباطي مستعجل.

وهناك مجموعات أخرى من ذات الطابع أعلنت عن وجودها كجبهة تحرير جنوب سوريا، والتي روجت لها ذات المنصات المدعومة إيرانياً، مما أعطى لمحة أن مصدر هذه المجموعات هو جيش إلكتروني واحد. ورغم أن معظم بياناتها كانت تشمل عبارات مواجهة الكيان الإسرائيلي واستعادة الأراضي التي توغلت فيها إسرائيل مؤخراً إلا أنها مهمتها الرئيسية كانت موجهة ضد قوات حكومة دمشق.

وقبل أيام قليلة فقط من تشابك المخططات الإقليمية لبدء هذا التمرد الضخم، روجت بقوة وكالة أنباء “فارس” لبيان نشره ما يسمى القائد العام لـ”جبهة المقاومة الإسلامية” على منصاتها الرسمية. وأعلن البيان أن هدفه هو مواجهة “المخططات الانفصالية للولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا، والمخططات التي يتم تنفيذها بالتنسيق الكامل مع المسلحين الحاكمين في دمشق”، مما يدل على أن إيران تعكف على إعادة بناء شبكة من الجماعات العسكرية التي تضمن استمرار هيمنتها في سوريا، باستخدام أساليب الحرب غير التقليدية التي تعزز من وجودها بشكل غير مباشر عبر وكلاء محليين.

    شماری از گروه‌های مقاومت حاضر در سوریه، با اعلام تشکیل «جبهۀ مقاومت اسلامی سوریه» تأکید کردند هدف آنان، مقابله با طرح‌های تجزیه‌طلبانۀ آمریکا، رژیم صهیونیستی و ترکیه و طرح‌هایی است که با هماهنگی کامل شورشیان مسلح حاکم بر دمشق اجرایی می‌شود.

    — خبرگزاری فارس (@FarsNews_Agency)

    March 4, 2025

الانتقام من تركيا من خلال تحويل سوريا لمستنقع

في مقال مطول لها تحت عنوان (انتهاء شهر عسل أردوغان في سوريا، ما هو وضع سوريا بدون بشار الأسد؟) نُشر الأربعاء الماضي، توقعت صحيفة “فرهيختغان” الإيرانية أن تتحول سوريا لمستنقع لتركيا في أعقاب خسارة إيران نفوذها هناك وإضعاف روسيا.

وذكرت الصحيفة أن نطاق نفوذ الرئيس السوري الشرع ما زال يشكل شريطاً ممتداً من الشمال إلى الجنوب في الغرب، ويشمل مدناً كبرى مثل حلب وحماة وحمص ودمشق.

وفي محاولة منها لتضخيم المعضلة، بينت الصحيفة أن المنطقة الوحيدة التي يسيطر عليها الشرع أكثر من مناطق سيطرة الأسد السابقة هي إدلب؛ متوقعة أن يواجه الشرع الآن مشكلات في محافظتي اللاذقية وطرطوس الساحليتين، أكبر من المشكلات التي واجهها الأسد في محافظة إدلب.

وقللت الصحيفة من تصريحات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان حول أن بلاده تمتلك 80 ألف جندي من القوات المسلحة في سوريا، معتبرة أن هذا الحد الأقصى لقدرة المسلحين الذين تدعمهم تركيا لن يكون كافياً لبسط السيطرة والنفوذ.

وقارنت الصحيفة هذا العدد بأعداد ميليشيات أخرى تدعمها طهران في المنطقة، إذ قدرت عدد قوات الحشد الشعبي العراقي بنحو 120 ألف عنصر على الأقل، والتقديرات القصوى تضع هذا العدد عند 300 إلى 400 ألف عنصر، وقدرت عدد قوات “حزب الله” ما بين 50 و100 ألف عنصر.

وخلصت الصحيفة إلى أن الأرقام تظهر أن القوة العسكرية للمسلحين المدعومين من تركيا في سوريا ليست عالية جداً، على الرغم من كل الدعم.

وفي تبرير للخسارة المريرة التي منيت بها طهران في أعقاب عملية ردع العدوان، بينت الصحيفة أن ما أدى إلى سقوط نظام الأسد في واقع الأمر هو ضغط العقوبات، والحرب النفسية، والاستخدام المكثف للأسلحة الدقيقة في معركة حلب، والأهم من ذلك كله، المؤامرة والمساومات الدولية والإقليمية التي لعبت فيها عناصر من قوات النظام المخلوع وحزب البعث دوراً، بحسب ادعائها.

وزعمت فرهيختغان أن مستوى القدرة القتالية لمقاتلي “هيئة تحرير الشام” انكشف في هجومهم الأخير على قرى حدودية مع لبنان، حيث فشلت في مواجهة الحد الأدنى من قوات المقاومة اللبنانية التي كانت منظمة على شكل قوات قبلية، بحسب زعمها.

واستنتجت الصحيفة أن الاشتباكات الحدودية أظهرت أنه إذا أعاد “حزب الله” بناء نفسه في الأشهر أو السنوات المقبلة وتقلص التهديد العسكري من جانب إسرائيل، وإذا تم التخطيط للأمر بشكل صحيح، فإنه سيكون قادر على خلق مشكلات كبيرة لـ”تحرير الشام” من حمص إلى دمشق واستعادة هذه المناطق بمساعدة “المقاومة الشعبية السورية”، بحسب زعمها.

وخلصت الصحيفة إلى القول بأن العديد من الأمور ليست في أيدي أنقرة حتى في سوريا نفسها، زاعمة أن تركيا حققت اليوم أقصى ما كان بوسعها أن تحققه بإسقاط الأسد، لكن لا توجد أي مؤشرات على الأمن أو الربحية الاقتصادية، متوقعة أن تتحول سوريا لمستنقع ونقطة تآكل دائمة بالنسبة لتركيا.

تلفزيون سوريا

—————————–

أنا أعتذر”… ولكن/ رشا عمران

07 مارس 2025

لا يمكن لصاحبة هذه السطور سوى احترام أصحاب حملة “أنا أعتذر” السورية، التي تنتشر حالياً في وسائل التواصل الاجتماعي، ذلك أن مَن أسّسوا هذه الحملة مجموعة من المعارضين القدماء لنظام الأسدين (الأب والابن)، وسُجنوا في معتقلات الأسد قديماً وحديثاً، ولا يمكن لأحد أن يشكّك في وطنيّتهم أو في أهداف هذه الحملة، التي تُتداول للتوقيع من أبناء الطائفة العلوية حصراً في سورية، في محاولةٍ منهم للمساهمة في تحقيق السلم الأهلي أو تعزيز الوحدة الوطنية في سورية، التي تبدو كما لو أنها على أبواب حربٍ أهليةٍ حقيقية، بمعنى حربٍ بين المكوّنات المجتمعية لا حرب دولة ضدّ الشعب، كما حدث خلال الخمسة عشر عاماً الماضية.

ذريعة القائمين على هذه الحملة أن النظام السوري اعتمد (أكثر ما اعتمد) في حربه الماضية، على الطائفة العلوية التي شكّلت ما يشبه العضد القوي لحمايته من الانهيار، من خلال تجنيده فقراءها في قوى الأمن والجيش لربطهم هم وعائلاتهم به، ومن خلال تطوّع قسمٍ لا يُستهان به من شبابها في مليشيات طائفية ارتكبت من الجرائم والمجازر ما لا يمكن التغاضي عنه، أو منح العفو لمرتكبيه منهم بذريعة “عفا الله عمّا مضى”، من أجل حماية السلم الأهلي.

ربّما هذا ما دفع القائمين على الحملة لإطلاقها؛ إحساسهم بالمسؤولية من منطق انتمائهم بيولوجياً لطائفة تُتَّهم بأنها “طائفة “الإجرام” و”طائفة القتل” و”طائفة المجازر” و”طائفة النظام القاتل”، رغم أن الموقّعين على الحملة هم ممّن وقفوا مع الثورة منذ بدايتها، ونُكِّل بهم وبعائلاتهم، واحتملوا ما احتملوه من الإهانات والتهديدات والارتكابات من شبّيحة العهد البائد، بوصفهم “خونة الطائفة” بقدر “خيانتهم للوطن”.

ورغم النبالة الواضحة في أهداف هذه الحملة، إلا أن مطلقيها تعرّضوا (كما العادة) للشتائم والتخوين من ذباب إلكتروني يشتغل منذ سقوط النظام على التحريض الطائفي الموجّه نحو طرفَين، العلويّين والأقلّيات من جهة، والأكثرية من جهة ثانية. ويستهدف غوغائيو الطرفَين، ممّن يرون في هُويَّاتهم الطائفية ما يمايزهم عن غيرهم، وممّن يعتقد واحدهم أن مظلوميته تتفوّق على مظلومية الآخر، وكأنّ السوريين حالياً في سباق لتكريس مظلوميات لا يُدرِك أصحابها أنها ستأخذهم جميعاً مع سورية، نحو الفناء.

على أن خطر حملة كهذه لا يقف عند تخوين أصحابها، ولا عند التشكيك بنياتهم، بل يتجاوزه إلى تكريس التعميم النمطي التجريمي للطائفة العلوية بأكملها، وإلقاء تبعات ما حصل كلّه عليها وحدها، ما يعني تبرئة باقي المجرمين من غيرها، وإعادة تدويرهم في الحكم والدولة الجديدة بعد “تكويعهم”، وتقديمهم فروض الطاعة اللازمة. ما يعني أيضاً إقصاء طائفةٍ بأكملها عن كلّ شيء، بمن فيهم أبرياؤها وثوريّوها ومناضلوها، والتعامل معهم بوصفهم جزءاً من هذه الكتلة الصمّاء الموصومة بالإجرام، وهذا بكلّ حال مطلب بات بعض مثقّفي سورية ينادون به صراحةً: اجتثاث الطائفة العلوية على طريقة اجتثاث البعث، من دون أيّ إدراك لما سيسبّبه ذلك من خطر كبير على سورية.

يشكّل العلويون ما يقارب 10% من عدد سكّان سورية حالياً. هؤلاء، في حال اجتثاثهم كما يطالب بعضهم سوف يتحوّلون قنبلةً موقوتةً بيد أيّ دولة لا تريد لسورية الاستقرار، وما أكثر هذه الدول. واجب الدولة حالياً هو حمايتهم، لا بوصفهم أقليّةً، بل بوصفهم مواطنين. واجب الدولة معاقبة المجرمين منهم تحت بند العدالة الانتقالية، التي تعاقب كلّ المذنبين، واجب الدولة حمايتهم من الانتقام العشوائي بسبب التحريض اليومي. واجب الدولة إعادة تأهيل من لم يشارك منهم في ارتكاب الجرائم، ومن لم تتلطّخ يده بدم إخوته. واجب الدولة، التي أتت بعد ثورة الكرامة والعدالة، أن تعدل بينهم وبين باقي الشعب. واجبها أن تعاقب المذنبين كلّهم وتتبنّى الأبرياء كلّهم. ولا يحدث هذا إلا بالمواطنة (فقط بالمواطنة) القائمة على تطبيق القانون على الجميع من دون تمييز، ومن دون استثناء، بعد ذلك تصبح الاعتذارات ذات فائدة وتؤتي نتائج حقيقية، ذلك أنها سوف تسهم في إعادة بناء العقد الاجتماعي بين السوريين، أمّا الآن فهي ليست سوى صرخة يائسة وخافتة وسط ضجيج غوغائي لا يُصغي لأيّ صوت عاقل.

العربي الجديد

——————-

التسريح ليس إصلاحاً للقطاع الصحّي في سورية/ سوسن جميل حسن

07 مارس 2025

صبر الشعب السوري كثيراً، كان صبره فوق التوقّعات، وتوّج صبره ونضاله بسقوط أكثر الأنظمة قمعاً وإجراماً في العصر الحديث، بعد أن وصمت أنظمة قمعية النصف الأول من القرن العشرين. ستالين وهتلر وموسوليني، من رموز الأنظمة القمعية المستبدّة، صاروا من حكايات التاريخ، بل ذُهل الشعب السوري ممّا لم يكن يعرفه من خفايا النظام البائد، على الرغم ممّا عاشه تحت سلطته القمعية وفساده المتمادي.

تركةٌ من التبسيط وصْفها بالثقيلة، بل هي أكبر من التوصيف، بلاد مدمّرة واقتصادٌ منهار ومجتمعاتٌ متهتّكة وحصار من كلّ صوب، فبعد أكثر من ثلاثة أشهر على سقوط النظام، ما زال الركود يخنق كلّ شيء، وتفاقمت أزمات المواطنين المعيشية. تفاقمت من دون وجود بصيص أمل بحلٍّ قريب، ربّما تحتاج سورية إلى معجزةٍ في وقتنا الراهن. يجثُم هذا الواقع المُعقّد فوق صدر الحكومة الانتقالية وصدر الشعب، فمن أين يبدأ العلاج؟… لا يتعلّق الأمر بالوضع الأمني فحسب، على أهمية هذه القضية ومكانتها في استحقاقات المرحلة، فهناك مشكلاتٌ أيضاً تصطفّ في المقدّمة ضرورةً قصوى، لا يمكن تجاهلها أو مقاربتها بيد قاسية، سورية تحتاج إلى الحُبّ والحنان، تحتاج إلى أمصالٍ تُمرّر عبر شرايينها التي أوشكت على الجفاف والتيبّس، تعيد إلى قلبها القدرة على ضخّ النسغ فيها، فالجوع ليس كافراً فحسب، الجوع ولَّادُ الفوضى التي يمكن أن تصل إلى حدّ الجريمة غير الموصوفة.

شهد الواقع السوري في الأسابيع الماضية عدّة حالات تسريح لموظّفي القطاع العام في عدة مؤسّسات، جديدها أخيراً تسريح عاملين عديدين في القطاع الصحّي في محافظة اللاذقية، وكان قد سبقها تسريح عاملين في القطاع نفسه في محافظة درعا، وبعدها في طرطوس. أمّا ما يتعلّق بتسريح عاملين في مديرية صحّة اللاذقية، وفي المستشفى الوطني، فيمكن لكاتبة هذه السطور الحديث عنه، انطلاقاً من عملها السابق نحو 30 عاماً في وزارة الصحّة، وفي مديرية اللاذقية تحديداً، وتزعم الكاتبة أنها تعرف الواقع الصحّي، بكل ما له وما عليه، بل مفاصل الفساد فيه، وكيف كانت القيادة الحزبية والفروع الأمنية تتدخّل في آلية العمل والتعيينات وغيرها، مثل باقي مجالات القطاع العام في سورية. ولكن لا يمكن إغماض العينين عن حقيقة ما كان يقدّمه المستشفى الوطني من خدمات للقاعدة الشعبية، التي باتت فيها رقعة المحتاجين إلى خدماته تزداد بتواتر كبير مع تردّي الأحول المعيشية للناس، وتدنّي دخولهم التي لم تعد تكفي لتأمين الحدّ الأدنى من الغذاء المقتصر على رغيف الخبز وكأس الشاي المُحلَّى بقليل من السكّر.

كان الضغط يزداد باطّراد على هذا القطاع الصحّي، شبه المجّاني، بما يقدّم من خدمات صحّية، في وقت تزداد فيه المشكلات الصحّية، وهي في ازدياد تماشياً مع قلّة الغذاء، وما يترتب منه من ضعفٍ للجسم وتراجع الجهاز المناعي لدى الأفراد، واستباحة للجسم من أمراض عديدة. صارت مراجعة الطبيب في عيادته الخاصّة، لأبسط شكوى صحّية، مكلفةً بما يفوق قدرة الفرد السوري، فكيف بالأمراض المزمنة التي يعانيها كثيرون في المجتمع؟ بل الأمراض التي تحتاج إلى تدخّل جراحي ينقذ المريض، وهذا من حقّه.

تراجع المستوى المعيشي، وشحّ الخدمات أو انعدامها، يجعلان من الأمراض الموسمية قنابلَ موقوتةً تهدّد صحّة المجتمع، ولقد حذّرت منظّمة الصحّة العالمية، في ديسمبر/ كانون الأول 2022، من خطر تفشّي وباء الكوليرا في سورية، وهذا الخطر قائم باستمرار، بل يزداد يوماً بعد يوم. ليس الكوليرا فحسب، بل أمراض كثيرة لا يمكن محاصرتها فيما لو تفشّت في المجتمع، في وقتٍ يفتقر فيه المواطنون إلى الخدمات الضرورية، من كهرباء وماء وصرف صحّي سليم وتدفئة، بل حتى ظروف سكن ملائمة.

لا يمكن تقويم مدى الحاجة إلى القطاع الصحّي في الأوقات المستقرّة في ما يخص الأمراض الوبائية، ومحاولة “التصحيح”، كما ترتئي الحكومة الحالية، بتسريح هذا العدد الكبير من العاملين، هذه مشكلة واجهها العالم في الدول المتقدّمة في أثناء وباء كورونا، وشاهدنا كيف وقفت الحكومات في حالة استنفارٍ حينها من أجل السيطرة على الوضع واستدراك النقص في العنصر البشري المتخصّص في هذا المجال، ما دفع هذه الحكومات إلى إعادة النظر في الواقع الصحّي لديها، وفي القوانين والأنظمة الضابطة لهذا القطاع، واستدراك النقص ومعالجة المشكلات، فكيف بدولة مثل سورية في واقعها الراهن؟ ما مصير المجتمعات في حال تفشّى وباء في هذه الفترة ولم يكن لدى المستشفيات (الحكومية تحديداً) ما يكفي من الكوادر البشرية لمواجهة هذا الوباء؟ الكوادر البشرية في القطاع الصحّي ليسوا أطباء وممرّضين فحسب، إنها شبكة متكاملة من الاختصاصات لا يمكن العمل إذا وجد نقص فيها أو ثغرة قد تبدأ صغيرةً ثمّ تتوسّع بسرعة مخيفة في مواجهة الأزمة الصحّية.

الأمن الصحّي، والأمن الغذائي، ضرورتان مجتمعيّتان، لا يمكن وضعهما في المرتبة الثانية في سلّم الأولويات. صحيحٌ أن السِّلم الأهلي ضرورة ملحّة في الوقت الراهن، إنما لا يمكن تحقيق هذا السلم بملاحقة الأطراف التي تسعى إلى تقويضه، ومصادرة السلاح واحتكاره في يد الدولة فحسب (وهذا مهمّ للغاية)، لكن عندما يرى المواطنون أنفسهم محاصرين أو مهدّدين بالجوع والمرض، من دون توافر الخدمات اللازمة، ومن دون قدرتهم على مواجهة هذه التهديدات بخسرانهم وظائفهم ومصادر عيشهم، بالنسبة للعاملين، وصعوبة الوصول إلى الخدمة الصحّية لدى العامّة، هذا سيُفاقم الأزمة، بل سيصبح سبباً آخر لضعضعة السِّلم الأهلي، وانعدام الأمن في المجتمع.

تبلورت، منذ العام 1946 الذي انطلقت فيه منظّمة الصحّة العالمية، فكرة أن الصحّة شأن عام، وصاغت مفهوماً اجتماعياً للصحّة يقوم على فكرة أن الصحّة حالة من اكتمال السلامة بدنياً وعقلياً واجتماعياً، وليست انعدام المرض مثلما كان شائعاً، ومن ثم هي حقّ مهمّ من حقوق الإنسان، على الحكومات توفيره وحمايته من دون تمييز على أساس العِرق أو الدين أو الجنس أو المعتقد السياسي أو الانتماء الطبقي، فكيف يمكن مقاربة أمور تتعلّق بهذا الحقّ في وقتٍ يعاني فيه الشعب في غالبيته الساحقة الفقرَ، والفقرُ أخطر ما يهدّد الإنسان، ويجعل سلامته ناقصةً، بل تتناقص باستمرار؟

معالجة الفساد أو الترهل الإداري، كما تراها الحكومة الحالية، وكما هو الواقع بالفعل في كثير من جوانبه، لا يكون بتسريح العاملين من دون تأمين موارد رزق بديلة، ومن دون تأمين خدمات مجتمعية بديلة أيضاً، خاصّة في القطاع الصحّي في وقتنا الحالي، فالمواطن السوري فقير، وصحّته مهدّدة بسبب الجوع وانعدام الأمن في معظم مجالات حياته، وهو في حاجةٍ ماسّة إلى الرعاية الصحّية، وغير قادر على تحمّل كلفتها، فكيف تجفّف منابع الرعاية الصحية بهذه الطريقة؟… لا يمكن القيام بأعباء الخدمات الصحّية المجتمعية بالأعداد القليلة التي أُبقيت على رأس عملها، فالحاجة كبيرة، والضغط أكبر، والمشافي العامّة ومديريات الصحّة كانت تقوم بالعبء الأكبر، وهي أصلاً كانت تعاني في سنوات الثورة وما خلّفه العنف فيها، تعاني مشكلة كبيرة تبدّت في هجرة كثير من الأطباء، وهاهم الأطباء السوريون في ألمانيا على سبيل المثال يشكّلون نسبةً وازنةً يقوم عليها القطاع الصحّي، بينما سورية تفتقر إلى خدماتهم وعلمهم وتخصّصاتهم.

مُجرّد تصور أن وباءً أو جائحةً ما يمكن أن تتفشّى في المجتمع، يثير القلق إذا ما كانت القدرات الخدمية في القطاع الصحّي محدودةً. لذلك، سيشكّل تسريح العاملين في القطاع الصحّي الحكومي بهذه الطريقة غير المدروسة أزمةً مجتمعيةً كبيرة، أزمة تضاف إلى أزمات أخرى، ربّما ستزيد الاحتقان في المجتمع السوري، وربّما أيضاً تؤدّي إلى انفجار الفوضى بطريقة لا يحتملها الواقع.

العربي الجديد

——————————-

استراتيجية عقود الإدارة في تنمية الاستثمار والاقتصاد السوري/ حسن الشاغل

2025.03.06

إن عملية إعادة بناء الاقتصاد في سوريا تحتاج إلى أدوات فعالة، فالبنية التحتية مدمرة بشكل شبه كامل، ووفقًا لتقرير صادر عن فريق “منسقو الاستجابة” السوري مطلع عام 2025، المنشور على موقع قناة سوريا، والذي أجرى إحصائية للدمار الحاصل في البلاد عبر أدوات استقصائية متنوعة، وخلص التقرير إلى تضرر 161 منشأة صحية، وتهدم 892 مدرسة، وتخريب 4626 كيلومترًا من الطرق، وتدمير 51 جسراً. و511 فرناً، 66 برج اتصالات، و72 محطة مياه.

وبحسب تقرير نشرته منصة الطاقة المتخصصة، تضرر ما يزيد على 50% من البنية التحتية للمنظومة الكهربائية، بما في ذلك 59 محطة تحويل. وقدرت كلفة الأضرار المباشرة لقطاع الكهرباء في سوريا بـ40 مليار دولار.

وتعد القواعد الصلبة التي يبنى عليها الاقتصاد غير موجودة في سوريا في الوقت الحالي، فالموارد الطبيعية لا سيما النفط مازالت خارج سيطرة الحكومة، وعمليات التصدير تكاد تكون معدومة، ولا تملك الدولة احتياطيات من الذهب والنقد الأجنبي، والاستثمار المحلي والخارجي المباشر في سوريا غير مطروح في الوقت الحالي عند غالبية المستثمرين، لأن الدولة في فترة التأسيس، وتعمل على سن قوانين وإجراءات تنظم الاستثمار وعمل المستثمرين.

وتشجيع الاستثمار في سوريا يعد تحديًا استراتيجيًا يتطلب مزيجًا من الحلول المحلية والدولية، نظرًا لحجم الدمار الكبير الذي لحق بالبلاد نتيجة الحرب التي طالت لسنوات. وبالتالي الحكومة السورية تواجه تحديات اقتصادية كبيرة، لكن هناك بعض الأدوات التي يمكن أن تستخدمها لتخفيف الأزمة وتحقيق بعض التحسن، ولو بشكل محدود. وتتناول في هذه المقالة “استراتيجية عقود الإدارة”، كإحدى الأدوات التي يمكن أن تعتمد عليها الحكومة السورية لتنمية الاقتصاد عبر الاستثمار بعقود الإدارة.

ما هي عقود الإدارة؟

عقود الإدارة، هي إحدى أدوات التعامل بين القطاع العام والخاص، ويتم العمل بها عبر إبرام اتفاقات تمنح بموجبها الدولة المؤسسات ذات الثقل المتوسط مثل مصانع النسيج والصناعات الغذائية إلى شركات خاصة تديرها بموجب عقد، وعلى أن يتم تطوير هيكلية هذه المصانع من قبل الشركات الخاصة لقاء حصولهم على نسبة من الربح، مع التأكيد على محافظة الدولة على ملكية تلك المؤسسات.

ويمكن أن تمول الشركات التي تدير مؤسسات الدولة عبر اكتتاب عام، ويُسمح للمواطنين على عمومهم بالمساهمة فيها. وتكون غايتها الأساسية تنفيذ مشاريع إعادة الإعمار بالشراكة مع شركات دولية ذات خبرة فنية، لتكون بمثابة رافعة فنية لهذه للشركات المحلية.

ويكون تأسيس هذه الشركات المساهمة عبر تشجيع المستثمرين المحليين بإنشاء شركات متخصصة بإعادة الإعمار، وطرح هذه الشركات للمساهمة العامة حتى يتسنى للمواطنين المشاركة والكسب، وذلك من شأنه أن يحقق مكاسب وإيرادات مالية ستبقى داخل البلاد، وهي رأس مال وطني.

شروط تطبيق استراتيجية عقود الإدارة

وعقود الإدارة تعد إحدى الأدوات التي قد تؤتي بثمارها في تشجيع الاستثمار وتأسيس البنية التحتية لسوريا ومؤسساتها. وتطبيق هذه الاستراتيجية يتطلب بعض الشروط وأهمها:

– سن القوانين والإجراءات الناظمة التي تنظم عملية تطبيق عقود الإدارة بين القطاع الخاص والدولة.

– وصول الدولة إلى مستوى متوازن من الاستقرار السياسي والأمني، حيث إن أي نظام مالي يحتاج إلى بيئة مستقرة لضمان استمرارية المعاملات الاقتصادية.

– وضوح شكل الاقتصاد السوري في المرحلة المقبلة، حيث إن الحديث عن اقتصاد حر وتنافسي يعني أن الأسواق ستكون جاهزة لاستقبال استثمارات جديدة.

عقود الإدارة بديلاً عن الخصخصة

طرحت فكرة خصخصة مؤسسات الدولة كجزء من الحل وكجزء من الانتقال إلى السوق. وتُعرَّف الخصخصة بأنها عملية نقل ملكية الخدمات والمرافق من ملكية القطاع العام إلى ملكية القطاع الخاص. والهدف العام من هذه العملية هو تعزيز عملية الدورة الاقتصادية، وفتح المجال أمام المنافسة في السوق، الأمر الذي ينبغي أن يكون له أثر إيجابي على المستهلكين، حيث إن المنافسة بين الشركات سيتمخض عنها انخفاض في أسعار السلع والخدمات فضلا عن ارتفاع الجودة.

خصخصة المؤسسات الحكومية لا سيما السيادية منها أو المتعلقة بالكهرباء والماء والموانئ قد تكون لها انعكاسات سلبية على المواطنين لا سيما الطبقة الفقيرة، لذلك قد يتم طرح استراتيجية عقود الإدارة بدلاً من الخصخصة، عبر منح مؤسسات الدولة لشركات خاصة إدارة بعض القطاعات، مع الحفاظ على الملكية للدولة.

تأسيس صناديق تدعم استراتيجية الإدارة

تأسيس صناديق دعم الاقتصاد يُعتبر أداة مالية قوية تساعد الدول في التعامل مع الأزمات الاقتصادية وتحقيق التنمية المستدامة. هذه الصناديق تعمل على إدارة الموارد المالية بحرفية، ما يساعد على الاستقرار الاقتصادي والنمو، ومن أجل مواجهة الأزمات الاقتصادية، ودعم المشاريع والاستثمارات الوطنية الاستراتيجية.

وفي الحالة السورية، يعتبر تأسيس صندوق تحت بند دعم الاقتصاد الوطني أصبح حاجة ملحة. ومن خلاله يمكن دعم الشركات المساهمة المحلية بنسبة معينة، لتعزيز قدرتها على إدارة المشاريع الكبرى في الدولة.

بالنتيجة، سوريا تواجه تحديات اقتصادية ثقيلة، ويحتاج حلها إلى جهود متضافرة سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية. وطرح العديد من الخبراء الاقتصاديين خيارات لإدارة الملف الاستثماري والاقتصادي السوري، وأبرزها التعامل عبر نظام BOT والذي يعني قيام شركة بتولي عملية البناء والتشغيل لمشروع ما ومن ثم نقل الملكية للدولة بعد فترة زمنية يحددها الطرفان. وطرح البعض نظام التمليك الكامل للمستثمرين وهو شبيه بالخصصخة. وتناولنا في هذه المقالة استراتيجية عقود الإدارة التي قد تكون أحد الخيارات الاستراتيجية للدولة السورية للمضي بعملية منح الاستثمارات للشركات الوطنية.

———————————–

 دمشق بعدسة واسعة.. الجمال في الفوضى/ سامر القطريب

2025.03.06

حلقت طائرات “الدرون” في سماء دمشق للمرة الأولى بعد سقوط نظام الأسد، لتبرز لقطات عدسات الكاميرا الواسعة جمال المدينة التي تنيرها أضواء السيارات ليلا، في حين اختفى عامل الزمن والجانب المظلم منها الذي عادة ما يظهر في اللقطات القريبة للعدسة.

يرى بعض الفلاسفة والفنانين أن هناك نوعا من النظام الكامن في الفوضى، إذ يمكن أن تتشكل فيها أنماط غير متوقعة، مما يخلق جمالا فريدا يعكس تعقيدات الحياة البشرية، بما في ذلك الصراع، والعواطف، والتجارب المتنوعة. ويمكن أن تحمل هذه الفوضى جمالا عميقا لأنها تعبر عن الواقع الذي يعيشه الناس.

يعيش سكان دمشق وزوارها السوريون اليوم، تجربة جمالية غامرة، من خلال تأثير المدينة على المشاعر والتجارب الإنسانية بعد سقوط نظام الأسد وسقوط عنفه النفسي. فالمدينة تغير شكلها وطفت روحها بما يؤثر على الحالة النفسية للأهالي، في الأيام الأولى للسقوط بدا بحسب الصور المتداولة أن الجميع يضحك ويغني والجميع متفائل بوجه تاريخ المدينة الجديد بعد انتصار الثورة.

ارتباط الثورة السورية بمفهوم الجمال يكمن في التحولات العميقة التي تعيد تعريف معايير الجمال وتصوراته عبر الزمن والمجتمعات. هذه الثورة التي ترتبط بتغيرات اجتماعية وثقافية وفنية، تتحدى المفاهيم التقليدية للجمال وتقدم نماذج جديدة تتلاءم مع 13 عاما من النزاع، لتعيد دمشق تعريف الجمال، من خلال ما عانته من حرب ودمار في السنوات الماضية، وتعلن أن الجمال اليوم هو في البساطة وفي الفوضى، وتبني مفهوم الجمال بطرق تتجاوز المظاهر الخارجية لتشمل الجوانب الثقافية، الفكرية، والأخلاقية المتصارعة في شوارعها. هذه التحولات التي تعكس دائما القيم والتحديات التي تواجه المجتمعات في لحظة معينة من التاريخ غالبا ما تكون لحظات تحوّل.

يعارض الجمال الطبيعي كرمز للحرية القيد، وقد ظهر هذا الجمال في الأدب وفي الرومانسية الأوروبية التي ربطت الطبيعة بالحرية والروح​. وفي حين أن الجمال والاستبداد مفهومان متناقضان لكنهما يتفاعلان بطرق معقدة عبر التاريخ والثقافات، حيث يرتبط الجمال بالحرية والإبداع والتعبير الفردي، ويسعى الاستبداد عادة إلى تقنينه أو توظيفه لخدمة مصالحه، مما يخلق علاقة توتر بينهما.

فرض النظام المخلوع قيودا على الإبداع من خلال الرقابة والتحكم في القيم الجمالية المقبولة، ما أدى إلى قمع التنوع الفكري والثقافي، وتحويل معايير الجمال لتصبح استبدادية بحد ذاتها، حين تُفرض بشكل قسري من قبل المجتمع أو من قبل الثقافة نفسها. مثلا، الهيمنة الإعلامية الحديثة روجت لمعايير جمال ضيقة تفرض صورة مثالية للمرأة والرجل، ما يقيد التعددية الجمالية وحرية التعبير​. أما بالنسبة للجمال في مفهوم السلطة المخلوعة، فقد كانت تلتصق بمفاهيمها عن الوطن والمقاومة والقتال ودحر الإرهاب.. إلخ.

وحدث سابقا في دمشق أن كرهها أهلها وهجروها وهجّروا منها وتحولت شوارعها إلى ثكنات عسكرية يتجول فيها أمراء الحرب والميليشيات، وعاث فيها الفساد وانتشرت المخدرات والجرائم وسكنها الخوف، وتحول سجن صيدنايا إلى أحد أبرز رموزها قبل أن تختفي هذه المظاهر وتتحول مراكز الموت إلى ما يشبه المتاحف وأماكن لالتقاط الصور التذكارية.

بعد السقوط، تحمل دمشق بداخلها ارتباكا وفوضى ولكنها تمثل أيضا الطاقة وإمكانية التحول والتجدد، لأن الفوضى تفسر بالتعبير عنها، فالفوضى التي مثلها السرياليون على سبيل المثال لم تكن فوضى المجتمع الذي مزقته الحرب فحسب، بل كانت فوضى النفس المعذبة بنفس القدر أيضا، وهذا ما رسمه بابلو بيكاسو “فوضى العقل الباطن”.

وكانت لوحة “غيرنيكا” لـ بيكاسو دقيقة وواقعية في الأسلوب ولكنها تميزت بالتناقضات التي تتحدى خيال المشاهد، من خلال الألوان الغامضة والشكل المشوه. في حين كانت الأشياء السائلة مثل الساعات الذائبة أو صور الهلوسة رموزا للفوضى الداخلية التي تتشكل على القماش، في لوحة سلفادور دالي التي تحدثت عن هشاشة الوقت والانفصال عن الواقع وهذا ما يعيشه زائرو دمشق.

تخرج المدينة اليوم بجمالها العاري كبيان عالمي ضد أهوال العنف وقوته الفوضوية المدمرة التي سببها نظام الأسد، وتجسد كل ما يصاحب الفوضى من اضطراب وذعر وحركات عاطفية وجسدية. جمال دمشق اليوم يظهر في كل شيء ناقص منها لتكون أقرب إلى مشاهد سينمائية يديرها المخرج الصربي أمير كوستاريكا في فيم “أندر غراوند”، فدمشق اليوم شخصية قائمة بحد ذاتها، فيها شوارع ومقاه مملوءة بالأغاني والاحتفالات وشوارع تسير فيها الجنازات وشوارع ترتفع فيها تراتيل القرآن، وفي شوارع أخرى يمكن أن تعيش كوميديا سوداء فوق المقابر الجماعية قبل أن تندمج مع الفوضى الكلية.

أنسنة المدينة تقود أيضا إلى رؤية قسوتها، وجفاف العواطف فيها وتصلب قلوب أهلها زمن الديكتاتورية الأسدية عندما انفصلت المدينة إلى مركز يعيش يومياته وريف يشتعل، وهو ما جرى في حلب أيضا عندما انقسمت المدينة على ذاتها وأصبحت شرقية وغربية. تذكر المشاهد الواقعية في دمشق بفيلم مالينا لـ جوزيبي تورناتوري، ومالينا هي سيدة جميلة انتهك حرمتها جميع سكان مدينتها، قبل أن يحترموا جمالها البسيط المنهك عقب سقوط الديكتاتورية وهنا يقول لنا تورناتوري إن المدينة بقيت كما هي تحمل آثار الماضي وندوبه، لكنّ الناس هم الذين تغيروا، ربما للأفضل!

——————————–

 الانتقال من الشرعية الثورية إلى التعددية.. الشبكة السورية تطرح رؤيتها السياسية

2025.03.06

أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، اليوم الخميس، تقريراً يحدد رؤيتها لتحقيق التعددية السياسية وإنشاء هيئة العدالة الانتقالية، في إطار التحول السياسي الذي تشهده سوريا بعد سقوط نظام الأسد في 8 من كانون الأول 2024.

وأكد التقرير أن المرحلة الانتقالية تمثل نقطة تحول حاسمة في إعادة بناء النظام السياسي، حيث ينبغي أن تستند إلى أسس التعددية والمشاركة الشعبية، مع ضمان احترام حقوق جميع مكونات المجتمع.

وأشار إلى أن نجاح هذه المرحلة يعتمد على بناء مؤسسات قوية، ووضع إطار دستوري واضح يمنح العملية الانتقالية الشرعية، إلى جانب تحقيق توافق وطني يضمن الاستقرار ويحول دون نشوب صراعات جديدة.

التحديات أمام المرحلة الانتقالية

حدد التقرير تحديات رئيسة تواجه الانتقال السياسي في سوريا، أبرزها:

    ضعف مؤسسات الدولة والتفكك الإداري.

    انعدام الثقة بين مكونات المجتمع.

    التدخلات الخارجية والتأثيرات الإقليمية والدولية.

    الأزمة الاقتصادية والاجتماعية العميقة.

    الانتقال من الشرعية الثورية إلى نظام سياسي تعددي مستقر.

    اقرأ أيضاً

    رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو – المصدر: الإنترنت

    لماذا تريد إسرائيل لسوريا أن تصبح دولة فاشلة؟

خارطة الطريق للمرحلة الانتقالية

وضع التقرير تصوراً للمرحلة الانتقالية يضمن تحقيق العدالة والمساءلة، وترسيخ مبادئ التشاركية وحقوق الإنسان، وتعزيز التعددية السياسية، من خلال الخطوات التالية:

    تشكيل هيئة حكم انتقالية وتكون برئاسة السيد أحمد الشرع رئيس الجمهورية في المرحلة الانتقالية، مما يضمن تمثيلاً أوسع لمختلف القوى السياسية والمجتمعية.

    إصدار إعلان دستوري مؤقت ينظم المرحلة الانتقالية، ويحدد صلاحيات المؤسسات المختلفة لضمان وضوح المسار السياسي.

    تشكيل حكومة انتقالية تعمل على إعادة بناء مؤسسات الدولة وإدارة شؤون البلاد خلال الفترة المؤقتة.

    صياغة دستور جديد يعبر عن تطلعات الشعب السوري، ويضمن الحقوق والحريات الأساسية.

    إجراء انتخابات حرة ونزيهة تكفل مبدأ التداول السلمي للسلطة، وتتيح لجميع السوريين فرصة اختيار ممثليهم بشكل ديمقراطي.

التحول من الشرعية الثورية إلى التعددية السياسية

وأكد التقرير على ضرورة الانتقال من الشرعية الثورية إلى التعددية السياسية وفق نهج مدروس قائم على إعادة هيكلة الدولة، وضمان مشاركة فاعلة لمختلف القوى الوطنية، وترسيخ أسس الحكم الرشيد، وذلك من خلال:

    إرساء المعايير التشاركية في المؤسسات.

    إصلاح هياكل الدولة لضمان استقلاليتها وكفاءتها.

    بناء نظام سياسي تعددي يحترم حقوق جميع الأطراف.

    استمرار وتعزيز الحوار الوطني كوسيلة لتحقيق التوافق.

    ترسيخ ثقافة التعددية والانفتاح السياسي.

تشكيل هيئة الحكم الانتقالية

تُعد الخطوة الأولى نحو الانتقال السياسي التعددي تشكيل هيئة حكم انتقالية تضمن عملية تحول منظمة وشاملة، تمهد الطريق نحو استقرار مؤسسي حقيقي. وأكد التقرير على أهمية الاستفادة من تجارب دولية سابقة في إدارة المراحل الانتقالية، خاصة تلك التي قامت على مبادئ التمثيل العادل، والشرعية السياسية، والفعالية المؤسسية.

في السياق السوري، يمثل تشكيل هيئة حكم انتقالية بقيادة السيد أحمد الشرع رئيس الجمهورية في المرحلة الانتقالية، خطوة أساسية نحو تحقيق الاستقرار وإعادة بناء الدولة، لعدة أسباب رئيسة، من بينها:

    ضمان تمثيل أوسع لمختلف القوى السياسية والمجتمعية.

    التعامل مع التحديات المعقدة للمرحلة الانتقالية بآليات مؤسسية واضحة.

    تعزيز الشرعية السياسية محليًا ودوليًا.

    دعم آليات العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية.

    التمهيد لإرساء حكم ديمقراطي مستدام.

    كسب دعم المجتمع الدولي لإعادة الإعمار والاستقرار.

وشدد التقرير على ضرورة اختيار أعضاء هيئة الحكم الانتقالي وفق معايير صارمة تشمل الكفاءة، والنزاهة، والشرعية الثورية، مع ضمان تمثيل لجميع الأطياف السياسية والمجتمعية. وأكد أيضًا أهمية اعتماد آليات شفافة لاختيار الأعضاء، تشمل مشاورات موسعة بين القوى السياسية والجهات الفاعلة، بالإضافة إلى تشكيل لجان مستقلة للتحقق من مؤهلات المرشحين وضمان توزيع المقاعد وفق معايير سياسية وجغرافية عادلة.

كما أوضح التقرير أنَّ هيئة الحكم الانتقالية يجب أن تتمتع بصلاحيات واضحة ومحددة، لمنع إعادة تمركز السلطات، وأن يتم تشكيلها ضمن جدول زمني محدد يوازن بين سرعة التنفيذ وفعالية المشاورات السياسية. وأكد التقرير أنَّ المجتمع الدولي يمكن أن يلعب دورًا داعمًا دون التدخل المباشر، عبر تقديم المساعدة الفنية واللوجستية لتعزيز نجاح المرحلة الانتقالية.

الإعلان الدستوري كإطار قانوني للمرحلة الانتقالية

يرى التقرير أنَّ إصدار إعلان دستوري مؤقت يمثل خياراً أكثر حكمة من الشروع المباشر في صياغة دستور دائم أو تعديل الدستور السابق، إذ يوفر مرونة قانونية تتيح إدارة المرحلة الانتقالية دون تعطيل المسار السياسي بسبب الخلافات الدستورية. كما يسمح بتأجيل النقاشات الدستورية الكبرى إلى مرحلة لاحقة، مما يمنح جميع الأطراف فرصة لإجراء حوار وطني موسّع حول مستقبل النظام السياسي.

ويوضح الإعلان الدستوري أهداف المرحلة الانتقالية بشكل دقيق، بما في ذلك:

     تعزيز الوحدة الوطنية وضمان التوافق السياسي.

    الاعتراف بشرعية الهيئات الانتقالية ووضع أطر عملها.

    إرساء مبادئ الحكم الرشيد، مثل السيادة الشعبية، وسيادة القانون، وتعزيز السلم المجتمعي، وإنهاء النزاعات الداخلية.

    تحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية.

حماية الحقوق والحريات الأساسية

يؤكد التقرير على ضرورة أن يتضمن الإعلان الدستوري بنودًا واضحة لحماية الحقوق الأساسية لجميع المواطنين، بما في ذلك:

    الحريات المدنية والسياسية، مثل حرية التعبير والتجمع والتنظيم السياسي.

    حظر جميع أشكال التمييز على أساس العرق، أو الدين، أو الجنس، أو التوجه السياسي.

    ضمان الحق في اللجوء إلى القضاء، والحق في المشاركة السياسية.

    إنشاء الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية لمتابعة قضايا المساءلة والمصالحة.

كما شدد التقرير على أهمية تضمين خارطة طريق واضحة لإصلاح المؤسسات الأمنية، وآليات مرنة لتعديل الإعلان الدستوري، بحيث يكون قادرًا على الاستجابة للتحديات المستجدة خلال المرحلة الانتقالية.

تشكيل الحكومة الانتقالية وصياغة الدستور

وأشار التقرير إلى أنَّه مع تعيين السيد أحمد الشرع رئيسًا للجمهورية خلال المرحلة الانتقالية، وتشكيل هيئة الحكم، وإقرار الإعلان الدستوري، تبدأ مرحلة جديدة تركز على تشكيل حكومة انتقالية تتولى إدارة شؤون البلاد، وتنفيذ أحكام الإعلان الدستوري، ووضع الأسس اللازمة للتحول الديمقراطي في سوريا.

وفقًا للرؤية المطروحة، يقوم الرئيس أحمد الشرع بإعداد قائمة المرشحين للمناصب الوزارية، والتي تُعرض على هيئة الحكم لمراجعتها. يمكن للهيئة الموافقة على الترشيحات، أو إدخال تعديلات عليها، أو رفض بعض الأسماء في حال عدم استيفائها معايير الاختيار التي تشمل الكفاءة، والنزاهة، والتوازن بين الاستقلالية والانتماء السياسي، مع ضرورة تجنب الإقصاء أو عسكرة الحكم.

حدد التقرير صلاحيات الحكومة الانتقالية، والتي تشمل:

    الإشراف على العملية الانتخابية.

    إصلاح قطاع الأمن.

     إدارة الخدمات العامة.

    وضع سياسات اقتصادية فعالة.

     التحضير لإجراء الانتخابات.

    إرساء العدالة الانتقالية.

صياغة الدستور والانتقال إلى نظام ديمقراطي مستقر

بعد تشكيل الحكومة الانتقالية، تبدأ مرحلة محورية تتمثل في صياغة دستور دائم من خلال لجنة تأسيسية، بهدف ضمان انتقال سياسي مستقر يؤسس لنظام ديمقراطي يحكم سوريا على المدى الطويل. يحل الدستور الجديد محل الإعلان الدستوري المؤقت، ويعمل على:

    إرساء الشرعية السياسية والقانونية.

     تكريس الحقوق والحريات الأساسية.

     وضع الإطار القانوني للانتخابات.

     تحديد أسس عمل السلطات الثلاث: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، مع ضمان الفصل بينها لتحقيق التوازن ومنع الاستبداد.

تتشكل اللجنة التأسيسية بإحدى الطرق التالية:

    الانتخاب المباشر من قبل الشعب.

    التعيين من قبل هيئة الحكم الانتقالية بالتشاور مع القوى السياسية والمجتمع المدني.

    مزيج من التعيين والانتخاب لضمان التمثيل العادل والتنوع.

بغض النظر عن الآلية المعتمدة، يجب أن تستوفي اللجنة معايير صارمة عند اختيار أعضائها، بحيث تضم:

     خبراء قانونيين متخصصين في الشؤون الدستورية.

     ممثلين عن الأحزاب السياسية.

     ممثلين عن المجتمع المدني.

     ممثلين عن المناطق الأكثر تضررًا من النزاع.

    الانتخابات ونقل السلطة إلى حكومة منتخبة

ذكر التقرير أنَّ الانتخابات البرلمانية والرئاسية تُعد المحطة الأخيرة في العملية الانتقالية، حيث يتم نقل السلطة إلى حكومة منتخبة ديمقراطيًا، مما يعزز الاستقرار السياسي ويمنح الشرعية للنظام الجديد.

ولضمان نزاهة الانتخابات، يجب أن تُجرى وفقًا للمعايير التالية:

    تحقيق درجة عالية من الشفافية.

    ضمان النزاهة والاستقلالية في الإشراف على العملية الانتخابية.

    تحقيق التمثيل الشامل لكل فئات المجتمع السوري.

     توفير بيئة آمنة وعادلة تتيح مشاركة جميع السوريين دون قيود أو ضغوط سياسية.

التوصيات للمرحلة الانتقالية

أولًا: توصيات إلى الحكومة الحالية

    تنفيذ عملية الانتقال السياسي وفق آليات واضحة ومحددة:

    الاستفادة مما ورد في التقرير لضمان انتقال تعددي يضمن الشرعية.

    وضع خارطة طريق تتضمن خطوات عملية وإجراءات تنفيذية ضمن أطر قانونية واضحة.

    تحديد جداول زمنية دقيقة لتنفيذ خطة الانتقال السياسي:

    وضع مواعيد محددة وقابلة للتنفيذ لكل مرحلة، لضمان الالتزام وتجنب الفراغ السياسي.

    تشكيل لجنة إشراف مستقلة لمتابعة تنفيذ الخطة وضمان الشفافية والمساءلة.

ثانيًا: توصيات إلى المجتمع الدولي

    تقديم الدعم الفني والمالي مع ضمان السيادة الوطنية:

    توفير مساعدات تقنية ومالية لدعم بناء مؤسسات الحكم وتعزيز قدرتها في مجالات الإدارة العامة، والقضاء، والأمن، والاقتصاد.

    تمويل مشاريع إعادة الإعمار لضمان تنمية شاملة، مع التأكيد على عدم فرض أجندات سياسية خارجية.

    دعم مسار العدالة الانتقالية لضمان تحقيق الإنصاف للضحايا.

    تعزيز عمليات المراقبة والاستشارة مع احترام القرار الوطني:

    توفير خبرات دولية محايدة لضمان نزاهة العملية الانتخابية ومنع التلاعب بإرادة الناخبين.

    تقديم استشارات قانونية لدعم صياغة دستور جديد يعكس تطلعات جميع السوريين.

    دعم المجتمع المدني السوري في بناء ثقافة المواطنة والديمقراطية لضمان الاستقرار وحماية حقوق الإنسان.

ثالثًا: توصيات إلى المجتمع المدني السوري

    التنسيق مع الحكومة الانتقالية:

    إنشاء قنوات تواصل بين المجتمع المدني والحكومة لضمان التنسيق الفعّال في تحقيق أهداف الانتقال السياسي.

    تنفيذ مشاريع خدمية وتنموية بالتعاون مع السلطات المحلية لتعزيز ثقة المواطنين في العملية الانتقالية.

    تقديم مقترحات للحكومة الانتقالية لضمان شمولية السياسات وعدالتها.

    المشاركة الفاعلة في الرقابة وتعزيز الشفافية:

    تكثيف المشاورات الوطنية حول عملية الانتقال لضمان توافقها مع تطلعات السوريين.

    مراقبة أداء الحكومة الانتقالية عبر آليات رقابية مستقلة لضمان الشفافية والمساءلة.

    تعزيز دور الإعلام المستقل في تغطية مراحل الانتقال وكشف أي انتهاكات تعيق تحقيق التعددية والاستقرار.

تلفزيون سوريا

———————–

الدراما المؤسِّسِة: لماذا لا نكتفي من المسلسلات التاريخية؟/ محمد سامي الكيال

تحديث 07 أذار 2025

توجد سوق كبيرة لاستهلاك الدراما التاريخية في الدول الناطقة بالعربية، وليس فقط الأفلام والمسلسلات المصرية والسورية، التي تصدّرت هذا النوع لعقود طويلة، وجلبت استثمارات خليجية كبيرة للصناعة، وإنما أيضاً الأعمال المُنتجة في تركيا وإيران، التي دخلت السوق الناطقة بالعربية بفضل الدبلجة السورية واللبنانية.

بالطبع، صناعة الدراما أوسع من الأعمال التاريخية، وتحوي أنواعاً وتصنيفات كثيرة، إلا أن هناك خصوصية لمعالجة التاريخ، أو الجو التاريخي، في الثقافة الجماهيرية المرئيّة، وهي خصوصية يمكن اختصارها بكلمتين: الأيديولوجيا المُثقَّلة.

يُقدّم التأريخ، وهو نمط كتابي يتسم بالأصل بعديد من فنون السرد الملحمي، كثيراً من العناصر الدرامية، التي يمكن استغلالها لإنتاج أعمال فنيّة «ضخمة» وناجحة؛ كما أنه يمنح المتلقين شعوراً قوياً بالارتباط مع الأحداث والشخصيات، بوصفها أصول عالمهم المعاصر، بما فيه من عناصر الهوية، الذات والآخر، السياسة والدين. ولذلك يصعب إقناع الجمهور بأن ما يشاهده مجرّد عمل فني تخيّلي، بل هو رواية حاسمة في حياته، يتعلّق بها انفعالياً، ويجب أن تكون صادقة من وجهة نظره، وإلا سيحتج، لأنه يتعرّض للخداع و»تزوير التاريخ»، ولذلك نتائج وخيمة، منها النيل من الأمة، أو الهوية، أو الدين.

المسألة ليست أن المتلقين يعتبرون المسلسلات مصدراً لتعلّم التاريخ، ولكنهم يعون أنها جانب من الرواية الرسمية، أو شبه الرسمية، التي يجب أن لا تخالف ما هو مستقر وراسخ ثقافياً، وعليها أن تتماشى مع ما تعلّموه سابقاً، عبر وسائل أخرى، مثل المدارس والمؤسسات الدينية والخطابات السياسية المرتبطة بالدولة. وبالفعل، ربما لا يكون الجمهور على خطأ، فمنذ بداية إنتاج الأعمال التاريخية، في مصر بالتحديد، استُخدمت لتكريس روايات الدولة المصرية، عن «الإسلام» والتوحيد والتاريخ المصري؛ ثم دخلت سوريا على الخط، عبر ما يسمى «الفانتازيا التاريخية» في البداية، وهي أعمال، رغم اعترافها بفانتازيتها، طابقت تماماً السرد القومي العربي، عبر تقديم قبائل عربية تواجه عدواً ما، غير عربي. ثم تطوّرت الأعمال السورية لتصبح أكثر تاريخية واحترافية، ولكن دون أن تفارق السرد القومي/الإسلامي، المُوافق عليه سلطوياً، ربما مع تضمين بعض الإشارات والإسقاطات «الناقدة للأوضاع» الراهنة. ومنها عبارات إنشائية، كانت تُقال وتُغنى في بعض المسلسلات، مثل «إن الطغاة كانوا دائماً سبب الغزاة»، في مسلسل «ملوك الطوائف» عام 2005، من كتابة وليد سيف وإخراج حاتم علي. وكانت إشارات وإسقاطات مرضي عنها سلطوياً، خاصة بعد غزو العراق عام 2003.

برزت الدراما التاريخية الإيرانية في ما بعد، عبر قصص الأنبياء أساساً؛ والتركية التي اهتمت بالمرويات العثمانية. ومع أن الإيرانيين والأتراك قدّموا، في الأعمال المدبلجة، سرداً يخالف قليلاً ما هو مألوف عقائدياً وقومياً في الدول الناطقة بالعربية، إلا أن ذلك الاختلاف لم يكن صدامياً، ونال قبولاً متفاوتاً بين شرائح كبيرة من المتلقين. وفي كل الحالات، المصرية والسورية، بالتمويل المحلّي أو الخليجي؛ أو الإيرانية والتركية، فنحن أمام سرد أيديولوجي، قومي وديني، يتعلّق بأوضاع ونزاعات الحاضر أساساً، وروايات الدول، والقوى السياسية المركزية فيها، ولذلك فإن الاحتجاج، الذي قد يثيره هذا العمل أو ذاك، احتجاج سياسي أساساً. وكلمة «سياسي» في المنطقة، تعني، في حالات كثيرة، طائفيا أو إثنيا، وربما عشائري؛ ولها غالباً علاقة بـ»الإسلام»، أو بالأصح الإسلام السياسي.

هل استمرار الدراما التاريخية دلالة إذن على حيوية السرد القومي/الإسلامي، وضرورته على المستوى السياسي والمجتمعي؟ وهل يمكن أن نرى أعمالاً تاريخية خارجة عن أطر ذلك السرد؟ إذا كانت الإجابة «لا»، فمتى سنكتفي من الدراما التاريخية؟

خيالات بني أميّة

كان لبني أميّة أهمية مركزية في السرد القومي العربي، في سوريا خاصةً، لسببين، فرضهما التبسيط الأيديولوجي عن التاريخ: الأول أن دولتهم كانت «سوريّة» بشكل ما، فعاصمتهم الإمبراطورية، التي «فتحت العالم»، كانت دمشق؛ والثاني أن حكمهم كان «عربياً خالصاً»، لا أثر فيه لنفوذ أقوام أخرى. الصراع الطائفي في المنطقة أضاف سبباً ثالثاً للهوس ببني أميّة، وهو المناكدة المذهبية بين السنّة والشيعة. بالطبع يمكن القول إن كل تلك الأسباب لا علاقة لها بأي قراءة منضبطة للتاريخ، أو حتى معرفة بالملل والنحل الإسلامية، ونشأتها وتطورها، ولكنها فاعلة أيديولوجيا بشدة في الحاضر، ولدرجة قاتلة.

اليوم يعود بنو أميّة، ولكن ليس من بوابة القومية العربية، وإنما عن طريق سجال في سوريا، لا يمكن وصفه إلا بالسخيف، بين أنصار سلطة الأمر الواقع وخصومها؛ وكذلك مسلسل «معاوية»، وهو «إنتاج عربي مشترك ضخم، بميزانية مئة مليون دولار»، أثار بعض الاحتجاجات في مصر، وتم منعه في العراق، وقد سبق تأجيل عرضه لسنتين، ويبدو أننا صرنا في الوقت المناسب للعرض في رمضان الحالي. هل هذا مرتبط بانكسار النفوذ الإيراني في المنطقة، وهزيمة معظم الميليشيات المرتبطة به؟ بغض النظر عن الإجابة، فإننا أمام سرد تاريخي/درامي جديد، يحاول مواكبة التغيرات في المنطقة. وهو لا يختلف بنيوياً عن غيره، من زاوية أنه يريد أن يؤصّل وضعاً قائماً، أو تسعى بعض القوى الإقليمية إليه، في التاريخ الإسلامي وصراعاته، عبر تقديم شخصيات وحوادث، بطولية وملحمية، تساهم في إعادة ترتيب العالم الرمزي للجمهور، بما يتناسب مع ذلك الوضع. بالطبع، لا بد أثناء ذلك من بعض «أنسنة الشخصيات التاريخية» و»الأدوار المركّبة»، وما إلى ذلك من المقولات الدارجة في الدراما العربية.

نقول «إعادة ترتيب» العالم الرمزي، وليس إعادة بنائه، فذلك النوع من الدراما يخطو دائماً في حقل ألغام، إذ إنه مضطر دوماً لتسويق نفسه في بلدان كثيرة، ولكل بلد منها مؤسساته الدينية، وهيئاته الإعلامية والرقابية، وأيديولوجيا الحكم الخاصة به، والتي قد تتفق على نقاط أساسية معيّنة، ولكن لكلٍّ منها «حساسياته» الخاصة، ولذلك فمهمة صانعي الدراما شديدة الصعوبة: أن يكونوا محافظين إلى أقصى درجة ممكنة، لكي يتماشوا مع «الثوابت» و»الحساسيات»؛ وأن يحاولوا، في الوقت نفسه، تحقيق تغيير طفيف، في النظر إلى الحوادث والشخصيات التاريخية، التي يعالجونها، بما يتفق مع المنظور الأيديولوجي المطلوب. ربما كان الموقف المحافظ شبه مستحيل، وذلك لأن التقليد المترسّخ، بهمّة سلطات الدول القومية في المنطقة، يقوم على نزع إشكالية أي حدث أو شخصية تاريخية، وتقديمها في روايات بسيطة، وضمن ثنائيات خير وشر واضحة؛ فيما على صانعي الدراما أن يقدّموا شيئاً جديداً، على الأقل على المستوى السردي والفني، ولذلك، فستعتبرهم أطراف كثيرة مهرطقين، رغم أنهم لا يفعلون أكثر من العمل ضمن شروط المادة الأيديولوجية الثقيلة، المترسّخة سلفاً. قد يكون هذا معنى «إثارة الجدل» في المنطقة الناطقة بالعربية: بعض اللغط بين محافظين، لا يمكنهم أن يكونوا محافظين تماماً، مهما بذلوا من جهد، فالمثال الأعلى لمحافظتهم يعني الصمت تقريباً، أو التكرار البليد، الذي ربما يقول الصمت ما هو أكثر منه؛ وجمهور ينفعل مع هذا «التريند» أو ذاك، قبل أن تأتي موجة لغط أخرى. ليس كل هذا دليلاً على أي حيوية، لا في الخطاب، ولا في السياسة.

بالعودة إلى الداخل السوري، فربما سنجد مثالاً غريباً عن الحيوية: كثير من المقاطع القصيرة، والمنشورات السريعة، والأغاني الاستفزازية عن «بني أميّة»، التي تُنتج بشكل متسارع ولا مركزي، في وسط لا تميل سلطات الأمر الواقع فيه أصلاً إلى الإنتاج الفني والتلفزيوني، والإعلام المركزي. وتفضّل الإعلان عن نفسها عبر مواقع مثل «تلغرام»؛ وتقريب «الإنفلونسرز» و»البلوغرز»، بوصفهم الأكثر فعالية في نشر رسائل السلطة. ربما كان هذا هو «الجديد» الفعلي على مستوى الخطاب، إلا أنه «جديد»، بمعنى المهزلة التي تأتي تكراراً للمأساة، حسب عبارة ماركس الشهيرة، فحيوية الخطاب القومي/الإسلامي، التي أغرقتنا بالدراما التاريخية في العقود الماضية، خمدت؛ وإن بحثنا عن «حيوية» لهذا الخطاب حالياً، لن نجد إلا مواد مثل أغنية «بني أميّة أصلن دهب»، وهي ليست أكثر من تكرار ومعارضة طائفية للطميّة عراقية أقدم.

تاريخ بلا دراما

ربما لو لم يكن الشرط الأيديولوجي ضاغطاً على صنّاع الدراما، لشغلوا أنفسهم بأعمال فانتازية، تحاول تقليد مسلسلات شهيرة، مثل «لعبة العروش»، وعندها سيريحون أنفسهم، وجمهورهم، والتاريخ نفسه، من «إثارة الجدل» على الطريقة العربية. إلا أن هنالك عوائق كثيرة تعيق الخيال في المنطقة، فتجعل الجميع يودّون تقديم «فن هادف» لشيء ما.

من جانب آخر، فإن الخروج من ذلك الشرط الأيديولوجي المحافظ، متعذّر حتى على الرافضين له، بالتأكيد لن نرى دراما تاريخية تقدّم منظوراً وقراءة مختلفة للتاريخ، أو تسخر من الروايات السائدة. ولن نشاهد باللغة العربية أعمالاً فنية، مثل التي قدمتها «مجموعة مونتي بايثون» البريطانية، التي اشتهرت بسخريتها وتهكمها، الأقرب للسريالية، من كل مقدّس، تاريخي أو غير تاريخي. ربما الأجدى، في هذا السياق، ترك التاريخ وشأنه، وكذلك الفن، والتركيز على الأيديولوجيا، عبر نمط مختلف من التهكّم: إظهار الجهل والرثاثة، اللذين يدفعان كل تصوراتنا ومروياتنا عن التاريخ، في الدراما وغيرها. لا دولنا ولا حكّامنا ولا فنانونا، يقدّمون شيئاً عن «بني أمية»، أو «معاوية»، أو «تاريخ الإسلام»، وإنما «يتذكّرون» أيديولوجياتهم، ويَصِمونَ بها التاريخ وشخصياته. وتلك الأيديولوجيات يمكن تجريدها، وتلخيصها بعدد محدود من الجُمل، مصدرها غير عربي أو إسلامي أصلاً، بل أيديولوجيات قومية غربيّة، وصلت إلى المنطقة بطرق غير مباشرة غالباً، ومُسخت مسخاً، بعد أن فُصلت عن سياقها الفلسفي والتاريخي. وهذا منجم للسخرية.

وبعيداً عن التهكّم والمعارضة الساخرة، فربما لم تعد «الأمة»، التي تستعرض نفسها، وتقدّم أيديولوجياتها، عبر الدراما التاريخية، قابلة للاستمرار، إذ تعاني المنطقة الناطقة بالعربية من صدمات شديدة اليوم، سيكون لها انعكاسات كبرى على كل الصعد، من طبيعة الأنظمة السياسية، وحتى الثقافة الجماهيرية، ولا يمكن الآن توقّع ماهية المقبل. قد نبقى على مستوى الأغاني والمقاطع السورية والعراقية القصيرة، عن «بني أميّة» وغيرهم، ونظائرها في بقية دول المنطقة، التي تعبّر عن حالة شاملة من نزع التحضّر؛ وقد تنشأ خطابات وتعبيرات وفنون جديدة. في كل الأحوال، «التاريخ» الذي نعرفه يشارف على الانتهاء، أي تصوراتنا التقليدية عن الماضي، ورواياتنا المؤسِّسة، مع اضمحلال العالم المادي والرمزي لدول ما بعد الاستقلال. ربما يكون هذا مؤلماً، ولكن لا شيء فيما يموت يستحق الرثاء.

كاتب سوري

القدس العربي،

——————

تصاعد التنافس على سورية: لاعبون متعددون بأهداف مختلفة/ محمد أمين

07 مارس 2025

يشتدّ التنافس كما تؤكد الوقائع بين إسرائيل وتركيا وروسيا على فرض النفوذ بكل أبعاده في سورية التي خرجت منهكة من صراع امتد لنحو 14 عاماً، وفي مواجهة تحديات اقتصادية وسياسية وأمنية جمّة تُغري القوى الإقليمية للتدخل، لأسباب شتّى. وخرجت روسيا بعد سقوط حليفها بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي خالية الوفاض، حين كانت بحسب أغلب المراقبين للشأن السوري أكبر الخاسرين استراتيجياً، بعدما دعمته على مدى نحو تسع سنوات بكل السبل ليكون ضمانة لمصالحها في شرق المتوسط. وتحاول روسيا اليوم ترميم هذه الخسارة، من خلال التقرب من الإدارة الجديدة في دمشق، وعرض ضخ استثمارات كبيرة مقابل اتفاق جديد يُبقي على نفوذها العسكري في شرق البحر المتوسط، في قاعدتي حميميم وطرطوس. وبحسب تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، فان موسكو تحاول ترسيخ علاقتها مع الإدارة الجديدة في سورية، مستغلة التردد الأميركي الواضح في بلورة رؤية للتعاطي مع هذه الإدارة، التي تريد دعماً اقتصادياً واسع النطاق لمواجهة التدهور الاقتصادي الذي ورثته عن نظام الأسد.

النفوذ الروسي في سورية

يبدو أن موسكو تعرض استثمارات بمليارات الدولارات، وإمكانية تقديم اعتذار روسي للشعب السوري عن القصف الذي أدى إلى مقتل آلاف السوريين وأدى إلى تدمير جانب كبير من مرافقهم الحيوية. وفي خطوة تدل على حرص الروس على تقوية أواصر العلاقة مع دمشق في ظل الإدارة الجديدة، وإكسابها زخماً، تسلم المصرف المركزي السوري أمس الأول الأربعاء شحنة جديدة من العملة المحلية المطبوعة في روسيا. وهذه الأموال التي وصلت إلى دمشق من روسيا دفعة من اتفاق سابق أبرمه النظام المخلوع، لطباعة الليرة في موسكو. وكثرت المؤشرات في الآونة الأخيرة التي تدل على أن موسكو جاهزة لدفع ثمن بقاء نفوذها في سورية، بدءاً من اتصال الرئيس فلاديمير بوتين بالرئيس السوري أحمد الشرع، وزيارة أكثر من وفد روسي رفيع المستوى دمشق. بيد أن المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، قال في تصريحات صحافية الثلاثاء الماضي، إن بوتين لا يخطط حتى الآن للقاء الشرع. وعلى الرغم من أن الغرب ربط استمرار دعمه للإدارة الجديدة بتقليص النفوذ الروسي في سورية، إلا أن دمشق كما يبدو تسعى لعلاقات متوازنة مع الأطراف كافة لمواجهة التحديات الكثيرة، والتوصل لاتفاقيات جديدة مع الجانب الروسي مقابل دعم دبلوماسي واقتصادي وتعويضات عن الدمار الذي خلفته روسيا في سورية، وربما عسكري لجهة تسليح الجيش السوري الجديد، تحديداً بمنظومات الدفاع الجوي. ومن الواضح أن الإدارة الجديدة لا تربط التفاوض مع موسكو بتسليم بشار الأسد والذي منحه بوتين اللجوء، فمن المستعبد أن تعمد موسكو إلى تسليمه حالياً، إلا أن هذه الإدارة تطالب بأموال سورية يُعتقد أن الأسد أودعها في المصارف الروسية على مدى أعوام، وتطالب بإسقاط ديون روسية تراكمت خلال فترة الأسد.

ورجّح المحلل السياسي المختص بالشأن الروسي طه عبد الواحد، في حديث مع “العربي الجديد”، أن تنجح روسيا في إبرام اتفاقيات جديدة مع سورية بما يخص وجودها العسكري، مضيفاً: يبدو أن الرغبة مشتركة لدى موسكو ودمشق في بقاء الدور الروسي في سورية. وأعرب عن اعتقاده بأن المخاوف الإسرائيلية من النفوذ التركي في سورية “تصب لصالح بقاء الروس”، مضيفاً: تل أبيب تسعى إلى إبعاد الأتراك عن سورية من خلال الروس. وتابع: “هناك ثقة إسرائيلية بالجانب الروسي الذي لعب دوراً في ضبط الحدود السورية مع الكيان الصهيوني في الأشهر التي سبقت سقوط نظام الأسد. ربما يعود الروس إلى الجنوب السوري لتبديد مخاوف الكيان، إلا إذا كان يختلق هذه المخاوف للتوسع أكثر في الأراضي السورية”. وبرأي عبد الواحد، فإن روسيا “لن تقبل مبدأ دفع تعويضات لسورية”، مضيفاً: ربما تقدم مساعدات ولكن ليس تحت عنوان “تعويضات”.

طموح تركي

في مقابل الطموح الروسي بالمحافظة على العلاقات التاريخية التي تربط روسيا بسورية، بل وتعزيزها، يبرز طموح تركي في استثمار الدعم الكبير الذي قدّمته أنقرة لمعارضي الأسد وصولاً إلى تسلّمهم السلطة في دمشق في الثامن من ديسمبر الماضي، لفرض نفوذ متعدد الجوانب في سورية. ويبدو أن الجانب التركي يرى نفسه الأجدر بملء الفراغ الذي تركه سقوط نظام الأسد، لا سيما أن مخاوف أنقرة لم تتبدد مع سقوطه، فالخطر لا يزال ماثلاً على أمنها القومي مع بقاء “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) سلطة أمر واقع في شمال شرق سورية، تحظى بدعم أميركي وغربي كبير، ويقف حائلاً حتى الآن دون فرض سلطة الدولة السورية على نحو ثلث مساحة البلاد. وكان الجانب التركي داعماً كبيراً لفصائل المعارضة السورية التي أسقطت نظام الأسد، لذا من المرجح أن تعتمد هذه الفصائل التي شكلت السلطة الجديدة في البلاد على أنقرة في مجالات متعددة، خصوصاً الجانب العسكري لمواجهة الخطر الإسرائيلي المتزايد. واقتصادياً تريد أنقرة سورية سوقاً استهلاكياً كبيراً للمنتوجات التركية، فضلاً عن رغبتها في الحصول على القسم الأكبر من “كعكة” إعادة الإعمار للشركات التركية.

ورأى المحلل السياسي التركي هشام جوناي، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “تراجع النفوذين الإيراني والروسي في سورية خلّف خللاً وفراغاً”، مضيفاً: تركيا وقوى أخرى تريد ملء الفراغ بما يقطع الطريق أمام ظهور تنظيمات تهدد أمن المنطقة. وتابع: تركيا دولة مجاورة لسورية، ومن ثم ما يحدث في سورية يؤثر بشكل مباشر على الداخل التركي، لذا فإن التدخّل التركي طبيعي جداً. أنقرة حريصة على أمنها القومي. وأشار إلى أن “لا حدود جغرافية لروسيا وإيران وأوروبا مع سورية وإسرائيل دولة محتلة لأراض سورية”، مضيفاً: “الحديث عن التدخّل الإسرائيلي في سورية مختلف تماماً عن التدخّل التركي. الوجود التركي في سورية يساعد على استقرار وبناء الدولة لعودة ملايين اللاجئين السوريين في تركيا إلى بلادهم”. وبرأي جوناي هناك مصالح اقتصادية لتركيا في سورية، ولكن “الملف الأمني يأخذ حيّز الصدارة في الاهتمام التركي”، مضيفاً أن سورية مهمة فهي بوابة تركيا للعالم العربي، لذا اهتمام تركيا مفهوم، وهو لا يعتبر تدخلاً في شأن داخلي.

ولا يقتصر التنافس على النفوذ في سورية على الجانبين الروسي والتركي، فقد برز سعي حثيث من قبل الجانب الإسرائيلي لخلط الأوراق بل وبعثرتها في الجنوب السوري، وفي مناطق أخرى من خلال محاولة استغلال هواجس ظهرت بُعيد سقوط الأسد لدى بعض الأطراف في سورية. ويدل التغوّل والتوغّل الإسرائيلي في جنوب سورية على نيات فرض نفوذ وخلق واقع جديد يسمح لتل أبيب بالدخول في المعادلة السورية، تحسباً لمواجهة محتملة مع الجانب التركي، خصوصاً في ظل حديث عن دور تركي عسكري محتمل لمساعدة الإدارة السورية الجديدة في تشكيل جيش وتسليحه ليكون قادراً على الدفاع عن البلاد. ولا تواجه سورية تهديداً وخطراً عسكرياً واضحاً حالياً إلا القادم من الجانب الإسرائيلي، الساعي إلى إبقاء سورية دولة ضعيفة غير قادرة على الوقوف في وجه الأطماع الإسرائيلية ومحاولات تل أبيب تقسيم سورية.

إسرائيل وتركيا

في هذا الصدد، رأى المحلل السياسي فراس رضوان أوغلو، في حديث مع “العربي الجديد”، أن إسرائيل “هي المنافس البارز لتركيا في سورية”، مضيفاً: “التدخّل الإسرائيلي في سورية يتعارض تماماً مع المصالح التركية، وهذا من شأنه خلق صراع كبير بين أنقرة وتل أبيب في سورية”. وأعرب عن اعتقاده أن القوى الفاعلة اليوم في سورية هي “تركيا وقطر والسعودية”، مضيفاً: تأتي إسرائيل من الخلف لممارسة العبث والتشويش على هذه القوى. وفي الشمال الشرقي من سورية، تبقى الولايات المتحدة حاضرة بقوة من خلال قواعدها المنتشرة في ريفي الحسكة ودير الزور، فضلاً عن قاعدة التنف في المثلث الحدودي السوري الأردني العراقي. ولكن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم تتطرق حتى الآن للأوضاع الجديدة في سورية، ولم يتضح موقفها حيال الانسحاب أو عدمه من الشمال الشرقي، غير أن أي انسحاب أميركي من سورية يعزز أكثر من النفوذين التركي والروسي في سورية، التي باتت اليوم ميدان تنافس واسع على النفوذ الإقليمي والدولي، في ظل غياب دور عربي فاعل.

———————————-

موقف الرواية السورية/ سومر شحادة

06 مارس 2025

لا أظن أنَّ حضور السياسة مطلوب في الرواية في أيِّ مكان بالصورة التي يُلحُّ عليها قرّاء الرواية السورية. ويمكن للمرء أن يجد تفسيراً لهذا من داخل الفنّ نفسه. مسرحية “هاملت” مثالٌ نموذجي لاستخدام الفنّ في إعادة تمثيل الجريمة، إذ استخدمه هاملت كي يكشف المكيدة التي قام بها عمّه لقتل والده الملك. وشكسبير أحد أولئك الكبار الذين تجود بهم العصور سبيلاً لفهم الطريقة التي يؤثر بها الفنّ.

إذاً، طُلب من الرواية السورية أن تُعيد تمثيل الجريمة التي أحاقت بهذا الشعب. وباستعادة هاملت الذي كان يسعى إلى الانتقام، لا يغفل المرء أنَّ المسرحية تظهر أيضاً شرَّ هذه السّمة على مَن يحملها. بخصوص المسألة السورية التي تحمل كل ذلك التعقيد السياسي والاجتماعي والطائفي؛ أخالُ أنَّ ما ينتظره القارئ من الرواية، ليسَ الانتقام المجرّد، وإنّما تفكيك السردية التي قتلت السوريين، وحطَّمت مصائرهم. وقد انتظر القارئ السوري من الرواية العدالةَ التي لم يجدها في الواقع، فأرادها في الكتابة عن الواقع، في تصويره، وفي إعادة تمثيله.

لا شك في أنّ ما حدث في سورية هو ثورة، دفعها النظام – قبل أي أحد – إلى أن تصبح شكلاً من أشكال الاقتتال الأهلي والموت السياسي، والذي حسم بسقوطه في لحظة إقليمية. وأظنّ تعقيدَ موقف الرواية السورية التي أُسندت إليها وظيفة سياسيَّة الطابع، جاءَ من صعوبة أن يقف المرء وسطَ اقتتالٍ أهلي شمل أكبر عدد من سنوات المأساة السوريّة متنوعة الوجوه، خاصَّة أنَّه اقتتال أُسِّس بصورة رئيسيّة على تراكب المسألة الطائفية في شكل حكم عائلة الأسد. وهو حكم كان من السطوة – حتى قبل أن ينتهي إلى الشكل الإبادي – إلا أنه كان بمقدوره أن يبتلع الجميع في أطره الشموليّة التي فتكت بالمجتمع، وقد انتقلت من تمجيد الحزب، إلى تمجيد القائد، إلى تمجيد الرئيس وزوجته. من غير أن تمجّد جماعة بعينها. بل أقصى ما فعله نظام عائلة الأسد أنَّه استخدم الطوائف. أمرٌ انعكس في الاقتتال الأهلي، وفي تصويره في سرديّة الانتقام على أنَّه صراعٌ بين طوائف. وهذا شكلٌ خادعٌ لقراءة الواقع وتسويقه. وأخيراً أخال القراءة الانتقامية ليست أكثر من فشل في تقصّي حقيقة الواقع وتنويعاته.

لكن بالعودة إلى موقف الرواية السورية التي طُلب إليها القول السياسي، ومع اتّساع إمكانية القول السياسي الجديدة، ينبغي الاعتراف بأنَّ المساحة التي يعمل بها فن الرواية ليست مقتصرة على القول السياسي. وإنما شغف الفنّ هو رصدُ التحوّلات الاجتماعية التي ترافق التغيرات الكبرى، سواء داخل المجتمع ككل، أو داخل الجماعات، أو مع الفرد. ومهما بدا القارئ أو الظرف العام ملحاً في هيمنة السياسة على الأدب، إلا أنَّ التبنّي الأعمى لهذا الاتجاه؛ مجازفة بالنسبة إلى الروائي، وإرهاق للرواية، الفنّ الذي – لشيوعه ونجوميّة أصحابه وقدرته التسويقيّة – يُطلَبُ إليه ما يُطلب من السياسيّ والصحافي والحقوقي وعالم الاجتماع. تفاصيل تُثقل النص الروائي ما لم تحصل في سياقها الإبداعي.

في العقد الأخير، أصبحت الرواية السورية عموماً تنوء تحت ثقل ما هو سياسي على حساب ما هو جوهري في مصير الإنسان. وربما تساعد لحظةُ الحسم القلقة الروايةَ السورية على التحرَّر من ثقل السياسة، والالتفات إلى جوهر القصّ الفنّي، وإلى مصير البشر في المكان، وقد رسمته حروب وخطابات كراهية، وعنصريات، والكثير من الادّعاء السردي. وربما من المناسب أن يخفت لدى هاملت حسّ الانتقام، وأن ينادي على شهرزاد كي تقصّ لنا كيف جعلت من القاتلِ عاشقاً عبر قوة السرد.

* روائي من سورية

العربي الجديد

————————–

حاجات الرواية/ ممدوح عزام

07 مارس 2025

قال رينيه جيرار إنَّ جان بول سارتر أرادَ أن يلقّن القارئ، أو القرّاء، في رواياته، احترام الشخصيّات الروائية، وعدم الاعتراض عليها عندما تقدِّم وجهة نظرها، غير أنّه لم يترك للشخصيات في رواياته كامل الحرية في التعبير.

والمفارقة هنا شديدة الغرابة، فمن المعروف أنَّ فنّ الرواية في العالم قائمٌ على خلق شخصيّات حيّة، مكتملة الحريّة داخل النص، ومن الأفكار الشائعة في هذا الباب أن شخصيات الرواية تملك حريتها في مواجهة استبداد الروائي نفسه، وثمة من يتحدث مجازًا عن تمرّد الشخصية على إرادة كاتبها. ولهذا يمكننا أن نعترض على دور الكاتب الإله، أو الخالق، كما تميل إلى هذه التسمية كثير من مدارس الأدب، ومن الأدباء.

وقد يكون السبب أن سارتر، أو غيره من المفكرين، والفلاسفة، بل والشعراء، الذين كتبوا الروايات، لم يكن هدفهم فن الرواية، بل هدفوا إلى استخدام الرواية مطيةً لعرض أو لتقديم الأفكار التي يرغبون في قولها. وربّما كان هذا الدافع وراء تشديد سارتر على مبدأ الالتزام، وقد ترجم كتابه “الأدب الملتزم” إلى اللغة العربية في الستينيات من القرن العشرين، إبان انتشار الفكرة نفسها من طريقين، الفلسفة الماركسية، والفلسفة الوجودية، ولا فرق يذكر في تبنّي كلّ من الفلسفتين للمبدأ إلا في التطبيق الذي رافق القسر والترهيب والإبعاد أو الإهمال في الماركسية لكل من لا يلتزم بالتعليمات الفوقية، بينما حافظت الوجودية على حرية الاختيار للكاتب في حياته، دون أن تتسامح معه فكريّاً.

لكنَّ الأساس الذي ينطلق منه المفكّر مختلف تماماً عن ذلك الذي ينطلق منه الروائي، إذ بينما يسعى المفكر إلى اعتبار الرواية صنعة (وهو يستخدم عبارة “مجرد صنعة” للدلالة على انعدام قيمة الرواية كنوع مستقل ينبغي العمل وفق شروطه) تلبي حاجات أخرى لا علاقة لها بها: حاجات تربوية مثلاً، أو سياسية، أو اجتماعية. يعمل الروائي على خلق عالم موازٍ لعالمنا يحتوي كل شيء، ولا تشغله المطالب العامة وحدها.

وقد نافست رواية الالتزام الرواية الفنية في النصف الثاني من القرن العشرين، وتمكنت من زحزحتها إلى الوراء في سجلات القراءة، كان ذلك الزمن هو زمن الأيديولوجيات الكبرى والصغرى، وقد استخدمت الرواية بفاعلية قصوى في حروب الأفكار. بينما اندفعت اليوم رواية المغامرات الخيالية، ورواية الخيال العلمي، والرواية البوليسية (وكلها من تلك الفئة التي يطلق عليها في الغرب اسم “روايات محطة القطار” لأنها تقرأ أثناء السفر، أو لتزجية الوقت) لتزاحم الرواية الفنية أيضًا، في العالم كله، في الثقافات المحيطة بالمركز الأوروبي أو الأميركي، بحيث تشير إحصائيات المبيعات، في بلد مثل سورية مثلاً، إلى تصدر أسماء مثل دان براون أو غيوم ميسو أو غيرهما أرقام المبيعات في المكتبات والمعارض.

وهو ما يشير إلى التغيّر الذي طاول مكانة الأيديولوجيا والأفكار عامة. ستكون الرواية، دون الأنواع الأدبية الأخرى، محور الكثير من الندوات والنقاشات الفكرية والنقدية في الثقافة العربية والسورية، ولدى الروائيين العرب المثل والمبادئ ذاتها التي يجاهر بها الروائيون في مختلف الثقافات، بين من يؤيد فكرة أن تكون الرواية مطية الفكر والأخلاق، وبين أن تكون تمثيلًا كليًا للعالم.

* روائي من سورية

العربي الجديد

—————————

إحداث نافذة إسلامية بالبنوك السورية: المخاطر أعلى من الفوائد/ محمد كساح

الجمعة 2025/03/07

تختلف قراءات الخبراء الاقتصاديين في مشروع القرار الذي عممته حكومة تسيير الأعمال السورية، حول افتتاح نافذة إسلامية ضمن البنوك التقليدية. فبين من يعتقد أنه قرار إيجابي لكنه لا يشكل أولوية في ظل تعقيدات المشهد الاقتصادي الراهن، هناك من يرى أن القرار ليس مدروساً بما يكفي، نظراً لتأثيراته السلبية والإشكاليات التي قد يتسبب بها وضعه قيد التطبيق، ولأنه ينافي ما صرحت به الحكومة حول توجهها نحو اقتصاد السوق الحر.

وأصدرت رئاسة مجلس الوزراء تعميماً إلى المصارف التقليدية ومصارف التمويل الصغير، يتضمن مشروع قرار يقضي باستحداث نافذة إسلامية فيها، بحسب ما ذكرت صحيفة الحرية (تشرين سابقا) الحكومية.

ولفتت الصحيفة إلى أن التعميم “خطوة إيجابية في أبعادها ومؤداها، نظراً لنمو التعامل المصرفي الإسلامي في أغلب دول العالم، بما فيها الدول الغربية”، كما نقلت عن المدير السابق في المصرف العقاري أنس الفيومي، أن المصرف حاول سابقاً إحداث نافذة إسلامية لكنه واجه صعوبات بيروقراطية في قرارات المصرف المركزي.

مؤشر إيجابي

ويرى الخبير في الاقتصاد الإسلامي يحيى السيد عمر، أن تقديم خدمات مالية ومصرفية إسلامية في المصارف التقليدية السورية، “مؤشر إيجابي”، ومن شأنه زيادة الشريحة المستهدفة بالعمل المصرفي، خصوصاً أن شريحة واسعة من المجتمع السوري تفضل التعامل مع بنوك تعمل وفق النظام الإسلامي، لكنه يعتبر أن هذه الخطوة “ليست أولوية، في ظل وجود قضايا ملحة مثل معالجة قضية السيولة واستعادة ثقة المودعين والمستثمرين”.

ويضيف السيد عمر لـ”المدن”، أن هذه الخطوة تعد إيجابية لناحية إتاحة المجال للتعامل مع بنوك إسلامية إقليمية ودولية، كما ستنعكس إيجاباً على فاعلية العمل التمويلي في سوريا، خصوصاً في مجال التمكين الاقتصادي وتأسيس المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر.

لكن ومن جهة أخرى، يؤكد السيد عمر أن التحول الكامل والتام للعمل المصرفي الإسلامي، “قد لا يكون قراراً صائباً”، موضحاً أن هناك شريحة مهمة في سوريا تتعامل مع النظام المصرفي التقليدي، ويقترح أن يتم توفير خدمات مصرفية إسلامية وتقليدية، خصوصاً في حال البدء بإعادة الإعمار ودخول شركات أجنبية لا يمكن إلزامها بالتعامل مع البنوك الإسلامية، حيث تفضل هذه الشركات على الأغلب أن تتعامل مع البنوك التقليدية، لذلك لا بد من توفير كلا النوعين من الخدمات.

إشكاليات ومعوقات

ويعني التحول نحو النظام المصرفي الإسلامي، اللجوء إلى أدوات تشكل تلبية لحالة اجتماعية معينة، مثل المرابحة والمشاركة والمضاربة والاستصناع والإجارة المنتهية بالتمليك والإجارة الطويلة، وينظر المختصون بالاقتصاد الإسلامي إلى العملية المصرفية، كعملية هادفة لتنمية المجتمع، ولا تقتصر غايتها فقط على جمع الأرباح.

ويلاحظ الباحث ومدير منصة “اقتصادي” يونس الكريم، أن طبيعة عمل البنوك الإسلامية تختلف كلياً عن المصارف التقليدية، التي يتمثل عملها بمنح الفائدة من دون التدخل في العمليات التجارية الخاصة بالعملاء. ويؤكد لـ”المدن” أن فتح نافذة إسلامية يعني “تحول المصرف إلى شريك مع العميل”.

ويتطلب فتح نوافذ إسلامية، وفقاً للكريم، إحداث تغيرات تشريعية في القوانين الناظمة للعمل المصرفي، كما أن طبيعة رأس المال في البنوك التقليدية، تختلف عن نظيرتها الإسلامية، كما يختلف المودعون في كلا القطاعين، ما “يعقد من مسألة جمع النموذجين ضمن مصرف واحد”.

ويتوقع الكريم أن تنخفض نسبة الاستثمارات إذا تم تنفيذ هذا القرار، لأن منح المصارف هامش الدخول في الأعمال الاستثمارية وفق مبدأ المرابحة، يهدد قطاع الاستثمار وسرية المتعاملين مع البنوك، ما “يُعد أمراً بالغ الخطورة على الشبكة المصرفية السورية”.

ويلفت الكريم إلى أن تطبيق هذا النموذج الجديد، إضافة لكونه يواجه تعقيدات إدارية وتنظيمية من قبيل عدم وجود كوادر مهيئة للنشاط المصرفي الإسلامي المعقد، فإنه قد يشكل فسحة لهروب البنوك التقليدية نحو نظيرتها الإسلامية وانخراطها في تهريب الأموال والدخول في صفقات غير مشروعة، موضحاً أن القرار “قد يكون مغالطة كبيرة يصعب تنفيذها بالشكل المطروح”.

المدن

—————————-

سجينات بلا تهمة… نظام الأسد يبتز المعارضين بالنساء

“أريج” منصة للصحافة الاستقصائية

06.03.2025

يكشف التحقيق عن تعرض نساء وفتيات سوريات بين عامي 2011 و2017، للاعتقال باتهامات ملفقة تتعلق بالإرهاب أو الصلة بمطلوبين، بالإضافة إلى احتجاز أخريات من دون أي تهم واضحة، واستخدام بعضهن كورقة مساومة أو ابتزاز لعائلاتهن والضغط عليهم لتسليم المطلوبين. كما خضعت المعتقلات لتحقيقات قاسية داخل مقرات الأمن السورية، وتعرضن لتعذيب ممنهج شمل الصعق بالكهرباء، والضرب، والاعتداءات الجنسية، والترهيب النفسي لكسر إرادتهن.

سارة أبو شادي ومحمد طلبه

12 عاماً انتظرتها “أمينة” لتثأر من سجّانها الملقب بـ”أبو الموت”؛ الضابط الذي جردها من ملابسها بالكامل وتركها عارية أمام جنوده لنحو سبع ساعات داخل خيمة بالفرقة الرابعة، حيث تعرضت للضرب والإهانة أثناء الاستجواب حتى نزفت. مشاهد ظلت عالقة بذاكرتها “حية” كأنها حدثت اليوم. كانت تهمة “المرأة الستينية” أن نجلها البكر “حاتم”، معارض مطلوب من نظام الأسد، الذي حكم سوريا “بالوراثة” منذ تولي حافظ الأسد السلطة عام 1971، وحتى سقوط نظام ابنه بشار عام 2024. ألقت قوات النظام القبض على والدة حاتم، للضغط عليه حتى يُسلّم نفسه.

لم تكن أمينة أحمد كعكو سوى رقم في قائمة طويلة من الضحايا. فبحسب تحليل البيانات المسربة من فرع المخابرات الجوية (الأكثر قساوة في دمشق)، اعتقل نظام بشار الأسد ما يزيد على ألف و500 امرأة تعسفياً ما بين عامي 2011 و2017، باتهامات مُلفقة مثل “الإرهاب” أو من دون أي اتهامات بالأساس. لم تكن الاعتقالات سوى أداة ابتزاز للضغط على العائلات لتسليم أبنائها، أو لتحقيق مكاسب في مفاوضات تبادل المعتقلين. ورغم تسجيل أسماء الضحايا، لا يزال مصير آلاف المعتقلات مجهولاً حتى اليوم، في انتهاك صارخ للقانون الدولي.

من بين 17 امرأة وردت أسماؤهن في الوثائق، وافقت ست نساء فقط -من حماة وإدلب- على الحديث عن تجاربهن، في حين رفضت البقية الحديث، مفضّلات الصمت بعد معاناة طويلة في السجون، شهدن خلالها أقسى أنواع التعذيب والتنكيل.

جهاز المخابرات الجوية

أُسّس في ستينيات القرن العشرين.بدأ مهامه بحماية سلاح الجو، ثم توسع ليشمل الأمن الداخلي والسياسي.أحد أقوى الأجهزة الأمنية في سوريا، ويتمتع بسلطة واسعة وعلاقات مباشرة مع القيادة السياسية والعسكرية.متهم بقمع الاحتجاجات وممارسة انتهاكات حقوق الإنسان منذ اندلاع احتجاجات حماة في الثمانينيات، وأثناء الثورة السورية عام 2011.شهدت مقرات وأفرع المخابرات الجوية اعتقال آلاف السوريين والتنكيل بهم.

واجهت أمينة ساعات من التعذيب الشديد، رافضة الإفصاح عن أي معلومة تتعلق بنجلها حاتم. ومع تمسكها بالصمت، قرر ضابط التحقيق اللجوء إلى وسيلة ضغط أخرى، فأخذ هاتف زوجة أحد أبنائها، المعتقلة معها، واتصل بـحاتم.

في تلك اللحظات، كان الابن جالساً في منزله، غارقاً في التفكير بمصير والدته التي ظل يبحث عنها من دون جدوى، حتى سمع رنة الهاتف. رفع السماعة، فأخبره الضابط أن والدته محتجزة لدى الفرع، وعليه الحضور للإفراج عنها، وهدّده قائلاً: “إذا لم تُسلم نفسك، سنرسل لك والدتك وزوجتي شقيقيك مقطعتي الأوصال”.

لكنّ حاتم كان يدرك جيداً أنه حتى لو سلّم نفسه، فلن تفرج السلطات عن والدته ومن معها، لذا فقد الأمل تماماً في عودتهن. حينها، هدّد حاتم الضابط المتصل بأنه سيعرف هويته وسينتقم منه، ليأتيه الرد بنبرة باردة: “أنا أبو الموت… لا تهددني”.

رحلة النزوح والمأساة

عاشت أمينة كعكو مع عائلتها، التي تضم أبناءها وأحفادها في معضمية الشام، إحدى أكبر مناطق غوطة دمشق، التي تبعد نحو أربعة كيلومترات عن مركز العاصمة. كانت المدينة من أوائل المناطق التي انطلقت فيها شرارة الثورة السورية عام 2011؛ لذا وجدت أمينة نفسها محاصرة تحت نيران القصف العنيف. ومع اشتداد وطأة الحصار، اضطرت إلى الفرار مع زوجات أبنائها وأحفادها نحو إحدى مناطق جبل الشيخ.

استقرت العائلة هناك لبعض الوقت، حتى ساءت حالة إحدى زوجات أبنائها، التي كانت قد وضعت مولودها قبل ثلاثة أيام فقط. لم يكن أمامهن خيار سوى التوجه إلى دمشق لطلب الرعاية الطبية، غير مدركات أن رحلتهن ستنتهي خلف القضبان.

في العاشرة والنصف صباح يوم 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2012، وعند مرورهن بحاجز للفرقة الرابعة عند مفرق داريا، أوقفت قوات نظامية السيارة للتحقق من الهويات. دقائق مرت عليهن وكأنها دهر، قبل أن يأتي الأمر باعتقالهن جميعاً؛ أمينة، وزوجتا ابنيها، وحتى الأطفال الصغار، ووُجهت لها تهمة الارتباط بمطلوب أمني.

تكشف بيانات اعتقال السوريات، خلال الفترة 2011-2017، التي حصلنا عليها من داخل فرع المخابرات الجوية، أن نصف المعتقلات واجهن تهماً تتعلق بـالمسلحين أو الاشتباه الأمني، حيث بلغت نسبة “المتهمات بـالعلاقة مع مسلحين 27 في المئة، والمشتبهات فيهن أمنياً 23 في المئة”. في حين لم تُوجّه تهم واضحة إلى 16 في المئة من المعتقلات، وتم احتجاز 12 في المئة لمجرد كونهن قريبات لمطلوبين. كما استُخدمت 9 في المئة من المعتقلات كورقة مساومة في عمليات التفاوض والتبادل.

انعكست هذه الاتهامات في توزيعهن (المُتهمات) على الأقسام والجهات التي تولت التحقيق معهن داخل المقرات الأمنية المختلفة، حيث كان لكل من قسم التنظيمات والتيارات التكفيرية، وقسم التحقيق الأمني ومكافحة الإرهاب الدور الأبرز في إجراء التحقيقات واتخاذ القرارات.

ولم يكن الإخفاء القسري وسيلة جديدة في سوريا؛ إذ يعود استخدامه إلى فترة حكم الرئيس الأسبق حافظ الأسد في الثمانينيات، لكنّه بلغ ذروته خلال السنوات الأولى من الثورة السورية. ووفقاً لتقرير أصدرته الحركة السياسية النسوية السورية في أيلول/سبتمبر 2023، فإن الشبكة السورية لحقوق الإنسان وثّقت أكثر من 112 ألف حالة إخفاء قسري منذ عام 2011، من بينها نحو سبعة آلاف امرأة.

سلمى سيف، مسؤولة مبادرة “ناجيات من المعتقل”، أوضحت أن النظام كان يركز على توجيه تهم معينة لإلحاق الأذى بالمعتقلات وعائلاتهن؛ ومن أبرز هذه التهم “جهاد النكاح”، التي كانت شائعة بشكل خاص خلال الفترة التي قضتها سلمى داخل سجن عدرا بين عامي 2014 و2015. بالإضافة إلى ذلك، وُجّهت للمعتقلات تهم أخرى، مثل المشاركة في الثورة، وتمويل الإرهاب، وجرائم جنائية، واستدراج العساكر والضباط. حتى سلمى نفسها، وبسبب طبيعة عملها مديرة جمعية خيرية، اتُهمت بتمويل الإرهاب، ما أدى إلى اعتقالها لمدة عام.

قصص التعذيب داخل مقرات الاحتجاز جميعها مأساوية، تتنوع بين الصعق بالكهرباء، والضرب، والتعليق، والاعتداءات الجنسية، وهي الجريمة الأكثر شيوعاً داخل السجون، إلى جانب الإهانات اللفظية والترهيب. كانت التهديدات سلاحاً نفسياً يُستخدم “لكسر المعتقلات”، فكانوا يهددون الأم بأولادها، والزوجة بزوجها، ولم تسلم أي امرأة داخل السجن من هذه الأساليب. مثلما حدث مع أمينة، التي رفضت الإفصاح عن مكان نجلها حاتم، فتعرضت للضرب بأداة معدنية على يد “أبو الموت”؛ ما أدى إلى إصابتها بجروح استلزمت نحو 11 غرزة في رأسها.اتهامات مفبركة وتعذيب ممنهج داخل المعتقلات

أدى الصراع المستمر في سوريا إلى انتهاكات لا حصر لها لحقوق الإنسان، من بينها اختطاف النساء السوريات وإخفاؤهن قسراً. تأثرت النساء بشكل كبير بالثورة السورية، فاعتُقلت كثيرات منهن من منازلهن أو عند نقاط التفتيش، غالباً من دون توجيه أي تهم واضحة أو أي مبرر قانوني. وفي حالات كثيرة، تُترك عائلاتهن من دون أي معلومات عن مكان وجودهن أو مصيرهن، في حين تظل الأبواب مغلقة أمام أي محاولة للحصول على إجابات من السلطات.

توصلنا إلى ست فتيات من مدينة حمص -ضمن الحالات التي توصلنا إليها من خلال البيانات- اعتُقل بعضهن لمجرد ابتزاز عائلاتهن والضغط عليهن، في حين اعتُقلت أخريات بسبب ارتباطهن بالثوار. وبعد نحو عامين قضتها الفتيات داخل المعتقلات، تعرضت اثنتان منهن لانتهاكات جسدية، وأُفرج عنهن مقابل مبالغ مالية ضخمة.

وهو ما أكده العقيد المنشق أحمد الحمادي بأن النساء كانت تُعتقل أحياناً للضغط على عائلاتهن بغرض الابتزاز المادي، فكانت تُطلب مبالغ مالية ضخمة تصل إلى “الملايين” من أجل إطلاق سراحهن. وكان هذا يُعد بمثابة عمل إضافي للأفرع الأمنية؛ خاصة المخابرات الجوية والعسكرية.

إضافة إلى ذلك، كانت هناك عمليات انتقامية تتم عن طريق “الشبيحة”، وهي مجموعات شبه عسكرية تعمل لصالح النظام من دون أي وظيفة رسمية. في مدينة حمص، على سبيل المثال، اعتُقلت أعداد كبيرة من النساء والفتيات كجزء من هذه العمليات الانتقامية، فكان الشبيحة يقومون باعتقالهن من الأحياء التي يرتبط أفرادها بالثوار، ويُنقلن إلى أماكن مجهولة، وهي غالباً مقرات اعتقال سرية.

الفرقة الرابعة

تعد من أفضل تشكيلات الجيش السوري تدريباً وتجهيزاً.مجهزة بأحدث الآليات الثقيلة مثل دبابات “تي 72” الروسية.يبلغ عدد أفرادها نحو 15 ألف مقاتل.أسّسها رفعت الأسد شقيق حافظ الأسد عام 1984.ارتكبت مجازر بحق الشعب السوري تحت قيادة ماهر الأسد شقيق بشار الأسد.

وشهدت أعداد المعتقلات، وفقاً للبيانات، تطوراً ملحوظاً عبر السنوات؛ إذ أظهرت البيانات أن الاعتقالات بدأت بوتيرة منخفضة عام 2011، ثم ارتفعت في السنوات اللاحقة، لتبلغ ذروتها عام 2015، ثم انخفضت أعداد المعتقلات في عامي 2016 و2017.

الاعتقال كورقة تفاوض: كيف استخدم نظام الأسد النساء في صفقات المبادلة؟

وبينما أظهر تحليل البيانات أن عمليات الاعتقال شهدت نمطاً متقلباً، يتصاعد تارة وينخفض أخرى، لم تتوقف هذه الممارسات حتى اللحظات الأخيرة من حكم النظام، وفق شهادة مسؤولة مبادرة “ناجيات من المعتقل”، سلمى سيف، التي كشفت عن خديعة خاصة استخدمها النظام فيما يتعلق بقرارات العفو؛ إذ أكدت أن النظام استمر في استخدام الاعتقال كأداة ضغط، خصوصاً حين كان يخطط لإصدار عفو. وقبل إصداره، كان يعتقل بعض الأشخاص ويبقيهم لمدة شهر أو شهرين، ثم يطلق سراحهم تحت مسمى العفو، في حين لم يُطلق سراح المعتقلين في القضايا القديمة.

مسؤولية حاتم تجاه والدته وزوجتي شقيقيه جعلته يجمع نحو 600 شاب من أبناء قريته للهجوم على حاجز النظام التابع للفرقة الرابعة، حيث اعتُقلت والدته ومن معها. خطّط حاتم للانتقام من “أبو الموت”، لكنّه تراجع عن تنفيذ الخطة خوفاً من سقوط عدد كبير من الشباب في المعركة.

علم النظام بخطة حاتم، فأرسل إليه شيوخ مصالحة للتفاوض معه. حينها، أُفرج عن عدد من معتقلات المعضمية، لكن لم تكن من بينهن والدته أمينة، أو زوجتا شقيقيه مرام ومنال. رغم ذلك، قرر حاتم التراجع خوفاً على عائلته، على أمل أن يخرجوا في وقت قريب.

اتبعت الحكومة السورية نظام المبادلات عادة، فأفرجت مثلاً عن معتقلة من مدينة أريحا برفقة 45 امرأة أخرى ضمن صفقة تبادل، وكانت هذه المعتقلة والدة أحد قادة المجموعات المسلحة في المنطقة.

وأظهرت البيانات أن الاعتقال على أساس القرابة بدأ خلال عام 2013، حيث شهد تسجيل 54 حالة بحسب ما توفر لدينا من بيانات؛ وهى التهمة التي استمرت خلال الأعوام التالية. وظهر الاعتقال لأغراض التفاوض والتبادل والضغط بدءاً من عام 2014، الذي سجل 21 حالة، ليبلغ ذروته خلال عام 2015 مسجلاً 90 حالة اعتُقلت من أجل التفاوض عليها.

في تقرير لها، أكدت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا، التابعة للأمم المتحدة، أن استخدام الحكومة السورية السابقة للاعتقال التعسفي والتعذيب والإخفاء القسري بشكل منهجي لقمع المعارضة “يشكل جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب”. الأمر الذي أكده المحامي عبد الناصر حوشان، الباحث والكاتب في مجال حقوق الإنسان، بأن الأصل هو عدم توقيف أو احتجاز أي مواطن سوري من دون مذكرة قضائية، وهو ما ينص عليه الدستور. وأضاف أن النظام السابق كان يمارس الاعتقال خارج إطار القانون، ولم يكن يحترم الحريات وحقوق الإنسان؛ بما في ذلك حقوق الفئات الضعيفة.

أفرزت هذه الممارسات الانتقامية والوحشية تداعيات إنسانية ونفسية مأساوية، فكثير من المعتقلات، بعد الإفراج عنهن، واجهن واقعاً قاسياً؛ فبعضهن طُلّقن نتيجة ما تعرضن له، وأخريات لم يستطعن العودة إلى عائلاتهن فاخترن اللجوء إلى أماكن بعيدة. ومنهن من خرجن من المعتقل ولديهن أطفال لا تعرفن آباءهم. كما حدث مع “صفية”، التي كان زوجها يقاتل مع الجيش الحر في الغوطة، حيث اعتُقلت مع آخرين من أفراد الأسرة للضغط على زوجها. أثناء الاعتقال، تعرضت صفية وشقيقتا زوجها “للاغتصاب المتكرر”، وبعد خروجها من المعتقل، طلقها زوجها لفترة بسبب تعرضها للاغتصاب، لكنه عاد إليها لاحقاً.

درج

—————————————–

استراتيجيات تقنية معقدة للتضليل الإعلامي في سوريا/ جاد هاني

06-03-2025

        في صبيحة أحد الأيّام التي أعقبت سقوط النّظام السوريّ، ضجّت منصّات التواصل الاجتماعيّ بخبرٍ عاجل: «مجزرة مروّعة ضدّ مجموعة من جنودٍ من الطائفة العلويّة في إحدى قرى الساحل». كانت الصور التي رافقت الخبر بشعةً، وانتشرت كالنار في الهشيم، مثيرةً الذعر والغضب لدى الآلاف الذين شاركوا المنشور أو أعادوا تغريده دون تحقّق. وبينما اشتعلت التعليقات باتّهاماتٍ متبادلةٍ وإثارةٍ للنعرات الطائفيّة، انبرى بعض النشطاء الإعلاميّين للبحث عن دليلٍ ملموسٍ يؤكّد أو ينفي ما يجري تداوله. وبعد ساعاتٍ من المتابعة والتحقّق، تبيّن أنّ الصّور قديمةٌ تعود إلى حدثٍ مختلفٍ قبل سنوات، وأنّ القصّة مختلقةٌ بالكامل، وتهدف إلى إثارة الرعب وشيطنة قوى المعارضة الّتي كانت قد استلمت الحكم تواً.

        والحال أن سقوط الأسد قد فتح، خصوصاً بعد تحقُّقه دون ثأرٍ أهليٍّ أو اشتباكٍ دمويّ منفلت، نافذة أملٍ عظيمة أمام الشعب السّوريّ، متيحةً له فرصةً غير مسبوقة لاستعادة حياته السّياسيّة بحريةٍ وانفتاح، بعد عقودٍ مديدة من القمع المنهجيّ وهيمنة السّرديّات الأحاديّة على المشهد السّياسيّ والثقافيّ والمعيشيّ. وقد بلغت هذه السّيطرة ذروتها خلال سنوات الثورة، وتعزّزت أكثر مع تدويل الصراع في سوريا، حيث بات الاستقطاب نحو سرديّات الأطراف المختلفة جزءاً لا يتجزأ من المشهد التقسيميّ والحربيّ داخل المجتمعات السّوريّة.

        ومع أنّ سقوط النظام شكّل لحظةً فارقةً، فإنّ الحملات التحريضيّة لم تتأخر في الظهور، إذ عادت بقوةٍ دعواتٌ موجّهةٌ تهدف إلى إعادة صياغة الواقع وفق رواياتٍ تخدم مصالح جهاتٍ سياسيّةٍ معيّنة، أبرزها من القوى الّتي دعمت النظام المخلوع كإيران وحزب الله، ضدّ الإدارة الجديدة. وفي ظلّ فضاءٍ رقميّ متشابك، شهدت وسائل التواصل الاجتماعيّ موجةً جديدةً من التضليل الإعلاميّ، تقودها حساباتٌ افتراضيةٌ تعمل وفق استراتيجياتٍ معقّدةٍ لصناعة فقاعاتٍ معلوماتيّة، قادرةٍ على التأثير السّريع في الرأي العام، وزرع الفتنة، وجعل المشهد السّوريّ أكثر التباساً، واللعب على العصبيات والمخاوف الشعبيّة. والحال، أنّ هذا الصراع المعلوماتيّ بات أحد التّحديات الكبرى في المرحلة الجديدة، ومع هذا الواقع المتحوّل، يصبح تفكيك هذه الخطابات وكشف دوافعها ضرورةً ملحّةً لضمان بناء وعي مجتمعيٍّ متماسك، قادرٍ على الاستفادة من لحظة التغيير التاريخيّ، بدل أن يقع فريسةً لحملات التضليل الّتي تحاول إعادة تدوير رواياتٍ تجاوزها الزمن، وتطمح لخلق بيئاتٍ مشحونة تمنع التفكير النقديّ والتفاعل الموضوعيّ مع الأحداث.

        استراتيجيات التضليل الإعلاميّ بعد سقوط النظام الأسديّ

        مع انتشار الأخبار حول سقوط النظام، لعبت وسائل التّواصل الاجتماعيّ دوراً جوهريّاً في نقل الأحداث وتوثيقها بشكلٍ فوريّ، حيث انتشرت آلاف الصور ومقاطع الفيديو الّتي سَجّلت لحظاتٍ مفصليّة في تاريخ سوريا. لكن مع هذا الكمّ غير المسبوق من المحتوى البصريّ القادم من مختلف أنحاء سوريا، ظهرت تحدياتٌ جديدة تمثّلت في انتشار الأخبار المضلّلة وتصاعد المخاوف من تأثيرات فقدان السّيطرة على تدفق المعلومات هذا. ومع توقف الإعلام الرسميّ الذي لطالما ضخّ دعاية النظام لعقود، اختفى العديد من أبواقه من السّاحة الإعلاميّة، لتحلّ محلها الدعاية الّتي حاول بعضٌ من أبواق النظام وحلفائه نشرها في الفضاء الرقميّ، وقد انعكس ذلك في انتشار مشاهدٍ مثل نهب البنك المركزيّ، مجازر بحقّ أفراد الطائفة العلويّة، وعن مجازر متفرّقة (ترويجاً للخطاب المناهض للإدارة الجديدة)، وغيرها من البيانات الّتي اُشتُقّت من سياقها، أو أُسيء استعمالها، الأمر الذي عزّز حالة الفوضى.

        إلى جانب ذلك، حاولت الحسابات الموالية للنظام بعد سقوطه تأجيج المخاوف والانقسامات عبر نشر أخبار مضلّلة تتعلّق بأوضاع الأقليات والطوائف، (وإنّ كان بعضها مشروعاً)، سعيًّا لإثارة الذعر بشأن مستقبل البلاد. ورغم أنّ هذه الدعاية لم تؤثر في مجريات الأحداث على الأرض، إلّا أنها أسهمت في تعزيز الانقسامات، وتحويل الانتباه عن قضايا العدالة والمساءلة. وعادةً ما يتصاعد خطاب الكراهيّة عندما تُستغل لحظات الاستقطاب السّياسيّ (Political Polarization) الحاسمة لتحويل النقاش العامّ من حدثٍ جلّل إلى حادثةٍ أصغر تُسهّل تأجيج الانقسامات، ولعلّ المثال الأبرز على ذلك، كان لحظة سقوط نظام الأسد، حيث نشأت فرصة مواتية للاستقطاب، فعندما شعرت بعض الجهات، كفلول الأسد أو تحالفات مثل حزب الله وإيران، بأنّ مصالحها في خطر، اتجهت إلى اعتماد التضليل لخلق حالةٍ عامّة من «شيطنة» قوى المعارضة للأسد، وتستخدم مجموعة من الاستراتيجيات التضليليّة الّتي تخلق لدى المستعمل العادي انطباعاً بأنّ المعسكّر المنافس ضعيف أو يتعارض مع مصالحها الوجوديّة.

        أدناه، نستعرض أبرز الاستراتيجيات المستخدمة من قبل شبكات الجيوش الإلكترونيّة الموالية للنظام المخلوع وحلفائه بالاستناد إلى تقاريرٍ صدرت في السنة الأخيرة عن مركز سكايز للدفاع عن الحريات الصحافيّة والثقافيّة، المتعلق بشبكات الكراهيّة والأنماط الّتي تتقاطع في فضاءاتٍ رقميّة أخرى:

            وتيرة نشر مرتفعة: وتحديداً في أوقات مُنسّقةٍ مُسبقاً، مع احتمال استخدام تقنيات نشرٍ آليّة أو ضمن جداول.

            الاتساق اللّغويّ والسّرديّ: لوحظ وجود عبارات وتعابير متكرّرة، مما يعكس درجةً عاليةً من التنسيق في اللّغة المستخدمة في المنشورات. وقد شمل ذلك التعرف على مصطلحاتٍ تشمل أوصافاً ووصماً مثل «عصابات الجولاني»، «الدواعش»، والـ«تكفيريين»، وقد هيمنت هذه المصطلحات على المنشورات، مما يشير إلى احتمال وجود تنسيقٍ ويُمكن ربط هذا التنسيق بشبكاتٍ مؤيدةٍ للأسد وحزب الله الّتي ابتكرت وعمّمت هذه المصطلحات خلال فترات الثورة والصراع المُسلّح، ما يؤدي إلى خلق فقاعاتٍ معلوماتيّة، حيث يصبح نشر المحتوى يعزّز قناعات معينة ويعزل المستخدمين عن المعلومات البديلة.

            تقنيات التضخيم: من الملاحظ أيضاً الوتيرة غير العادية في إعادة النشر، والتّفاعل مع المنشورات المضلّلة، مما ساهم في اكتساب بعض المنشورات مدى انتشار غير متناسب مع عدد المتابعين. وذلك يُلاحظ خصوصاً على منصة X، أي عندما يكون للحساب عدد ضئيل من المتابعين لكن مع «reach» مرتفع.

            الإطارات المهيمنة على السّرد: يتمثّل في وجودٍ كثيفٍ لسرديات تعزّز مخاوف جماعيّة، مثل التنسيق مع إسرائيل لضرب المقاومة وغزو مناطق لبنانيّة، أو قتل ممنهج لأفراد الطائفة العلويّة، مما يُشير إلى ما يُشبه «نيّاتٍ مُبيّتة» لتشكيل الرأي العامّ. ويضمّ ذلك تكراراً للعناصر البصريّة مثل الصور والفيديوهات.

             التلاعب بالمحتوى: استخدام المعلومات الحقيقية في سياقاتٍ مضلّلة أو تركيب أخبار مزيفة بناءً على رواياتٍ غير دقيقة. ونشر الإشاعات وخلق أخبارٍ كاذبة تثير العواطف وتدفع الجمهور لاتخاذ مواقف متطرفة. وهنا يُمكن الاستشهاد بالشائعات الّتي حاوطت مصير «مزار السّيدة زينب» في الشامّ ، تارةً بادعاء إغلاقه أمام الزوار، وأخرى بمنع تأديته للآذان.

        تحليل نشاط الحسابات الافتراضيّة المضلّلة: خصائص هذه الحسابات

        تعتمد غالبية هذه الحسابات على هوياتٍ وهميّةٍ أو غير محدّدة المصدر، وتستخدم استراتيجيات وتكتيكات خبيثة، كما أسلفنا، لنشر معلوماتٍ مضلّلة بسرعةٍ وكثافة. وترتبط بعض الحسابات بوسائل وشخصياتٍ إعلاميّة تقليديّة مؤيدة لإيران وحزب الله والنظام السّوريّ المخلوع. وإن كانت حساباتٌ عديدة من الموالين للنظام الإيرانيّ (وفروعه كحزب الله) فضلًا عن «فلول» النظام،  تعمد على المساهمة في النشر أو الشحن البروباغنديّ ضدّ الإدارة الجديدة (وليس الانتقاد)، ويُلاحظ أيضاً وجود بعض الحسابات الموالية لنظام السيسي المناهض للإخوان المسلمين، الّتي كان لها مساهمة لا يُستهان بها في الحملة، نظراً للموقف السّياسيّ المصريّ الرسميّ من سقوط الأسد.

        لكن المُثبت أنّ من يتحرك بطريقةٍ منهجية ومنظّمة أكثر، هم الشبكات الموالية لإيران، وفي دراسة تحليل للشبكات الرقميّة التابعة لحزب الله التي أصدرتها سكايز مؤخراً، لوحظ مشاركة منظّمة لحسابات موالية لحزب الله في حملات تضليل تستهدف الشأن السّوريّ.

        أحمد بريمو، صحافيّ سوريّ ومؤسّس منصة تأكد – Verify Syria، يشير في حديثه إلى كون «أبرز السّمات المشتركة بين الحسابات الّتي تنشر معلومات مضلّلة هي أنّها إما حساباتٌ وهميّة أو لأشخاصٍ تنتحل شخصيات. في بعض الأحيان توحي بمعتقداتٍ معينة؛ أي أنها توحي بأن القائمين عليها من العلويين أو المسيحيين أو من الأقليات السّوريّة. على سبيل المثال، أتحدّث عن شخص اسمه شادي وسوف، وهو اسم اخترعه بنفسه، إذ أن هذا الاسم لا وجود له. أما الشخص الوحيد الذي يحمل اسم فادي وسوف، فقد تمكنا من التّعرف عليه والتّواصل معه والتحدّث إليه؛ ليتبين أنّه مسيحيّ وليس علوياً، ومن اللاذقيّة وليس من مناطق علوية. وكان موظفاً بوزارة الخارجيّة السّوريّة قبل سقوط النظام. وقد تعرض للكثير من الأذى نتيجة للتشويش الذي تعرض له باسمه، حتى أنّ حياته كانت مهدّدة؛ إذ أنه في إحدى الفترات نشر أحدهم صورته وقيل عنه: هذا هو فادي وسوف».

        «غرف الصدى»: رواياتٌ مُكرّرة لتعزيز الانقسامات

        سهولة نشر المحتوى على وسائل التّواصل الاجتماعيّ، الّتي كانت أداة رئيسيّة في نقل أحداث الثورة السّوريّة والصراع المُسلّح الذي تبعها، لعبت مجدّداً دوراً حاسماً في تغطية سقوط نظام الأسد. إلّا أنّ هذه المرة برزت تساؤلاتٌ ملّحة حول مصداقيّة المحتوى المنتشر، سواءً من قبل الأفراد العاديين أو خبراء التحقق من المعلومات. إذ أنّ هذه المنصات جعلت من الصعب التحقّق من دقّة المحتوى المنشور نسبةً للكمّ المهول من البيانات، ما أدّى إلى تضارب في الروايات، خصوصاً في الأيام الأولى من الحدث. وتحديداً على منصة X الّتي أصبحت منذ استملاكها من قبل إيلون ماسك، المُعلن عن دفاعه عن حرية التعبير، ملاذاً للمعلومات المضلّلة. وترى منظمة مراسلون بلا حدود (RSF) أن منصة X تمثّل التجسيد الحقيقيّ للتهديد الذي تشكله المنصات الإلكترونيّة على الديمقراطيات. وكشفت التحليلات الرقميّة التابعة لمركز إيكاد عن تورط حسابات إسرائيليّة وروسيّة وإيرانيّة، تعمل على نشر رسائل موجهة عبر منصات متعدّدة في دول مختلفة، مركزةً على الشأن السّوريّ. وقد أُعيد استخدام صور وفيديوهات قديمة بتقنيات الذكاء الاصطناعيّ لتضخيم رواياتٍ زائفة وإعادة تأطير أحداث تاريخيّة، ما زاد من صعوبة وصول الجمهور إلى الأخبار الصحيحة. كما عزّزت ظاهرة «غرف الصدى»، الّتي تجعل المستخدمين عرضة لسماع الروايات ذاتها مراراً، مما يرسّخ القناعات ويزيد الانقسامات. علاوةً على ذلك، استُخدمت مقاطع فيديو قديمة أو محرّفة في نشر الفتنة والكراهية خلال هذه الفترة الحساسة سياسيًاً.

        في المقابل، نشطت بعض الحسابات الّتي سعت لتشويه سمعة المعارضين، كأداة قمعٍ تُستخدم لإسكات الأصوات النقديّة في المشهد السّوريّ. وقد تعرضت الممثلة يارا صبري، على سبيل المثال، لحملات تخوين من بعض الجهات الموالية للحكومة الحاليّة، رغم مواقفها الداعمة للثورة السّوريّة وحقوق اللاجئين والمعتقلين. هذا الاستهداف طال أيضاً معارضين آخرين مثل جمال سليمان وسوسن أرشيد، حيث نُشرت مقاطع فيديو ومنشورات لتشويه صورتهم واتهامهم بما يتعارض مع القيم المجتمعيّة، بسبب مطالبهم المتعلقة بالديمقراطيّة وشكل الحكم ومطالبٍ سياسيّة أخرى. ولم تتوقف حملات التشويه عند الفنانين فحسب، بل شملت سياسيين وناشطين عادوا إلى سوريا بعد سقوط النظام، ليواجهوا هجوماً مماثلاً لمجرّد تعبيرهم عن رؤى مختلفة لسوريا المستقبليّة. ويجوز القول إنّ هذه الحملات تعكس حالةً من الاستقطاب الحادّ، حيث استُخدمت الشائعات والمعلومات المضلّلة لتقديم المعارضين كمنتفعين من الثورة.

        والحال، أن هذه الظاهرة ليست مجرد وسيلةٍ سياسيّة، بل تعكس ثقافة قمع متجذرة عزّزها نظام الأسد لعقود، حيث يُنظر إلى النقد كتهديدٍ للوحدة المجتمعيّة والاستقرار. في مجتمعٍ لم يعتد على التعدّدية، يصبح أيّ رأي مخالف عرضةً للتشويه، مما يعكس خوفاً من الحريّة الفرديّة ومن تفكيك سلطة تقليديّة قائمة على الولاء المُطلق، سواءً كانت سياسيّة أو اجتماعيّة أو دينيّة.

        الإعلام البديل، منصات التّحقّق، الجهات الفاعلة: في مواجهة المعلومات المُضلّلة والشحن البروباغنديّ

        في ظلّ الفوضى الإعلاميّة الّتي أحدثتها موجات الأخبار المضلّلة والمفبركة، برزت في السّنوات الأخيرة مبادراتٌ إعلاميّة بديلة ومنصات تحقّق مستقلة كخطوة ضروريّةٍ لاستعادة الثقّة في صفوف السّوريّين. بعد سقوط النظام القديم وتفاقم حجم الحملات الدعائيّة المنظّمة، ازدادت الحاجة إلى مؤسسات تقيّم صحّة المعلومات وتُقدّم تقارير موضوعيّة بعيداً عن الانحيازات السّياسيّة والإعلاميّة التقليديّة. وبينما حاول الإعلام السّوريّ البديل، الذي نشأ في المنفى وركّز على الشأن السّوري، أنّ يكون جسراً بين الحقائق والأخبار المضلّلة، برز دور منصات مثل تأكّد ومسبار وغيرهم من منصات التحقق لتقديم مرجعياتٍ موثوقة للمعلومات المتداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ.

        يتحدث يوسف الأمين، مدقق معلومات وأحد مؤسّسي منصة صواب في لبنان، عن أبرز سمات الحسابات الافتراضيّة الّتي تنشر المعلومات المضلّلة وتعمل على دعم سرديات معينة، سواء كانت لصالح النظام السّوريّ المخلوع أو لصالح أطراف أخرى: «خلال عملنا في منصة صواب، لاحظنا أنّ الصفحات الّتي تنشر المعلومات المضلّلة لا تتبع دائماً استراتيجيّة موحّدة أو جهة واحدة. فبعضها تنحاز بوضوحٍ لطرف معين، بينما تنشر صفحات أخرى أخباراً مضلّلة بشكلٍ عشوائيّ. ولكن الشيء المشترك بين هذه الحسابات هو عدم وضوح هويتها، والتكرار الممنهج للمعلومات عبر شبكات متعددة لإضفاء مزيد من ‘المصداقية‘ على المحتوى»، يقول يوسف الأمين هذا مشيراً إلى أنّ الحسابات تعتمد على هجمات منظمة ضدّ المعارضين السّياسيين والصحفيين، وتستخدم صوراً ومحتوى عاطفيّاً لتضخيم المشاعر والتحيزات لدى الجمهور.

        ويُضيف الأمين: «لاحظنا أن هذه الحسابات تُعيد استخدام موادٍ بصرية ومقاطع فيديو قديمة، أحياناً بتقنيات الذكاء الاصطناعيّ، لتضخيم رواياتٍ زائفة. على سبيل المثال، تمّ استخدام صور وفيديوهات تُظهر انتهاكات أو أحداث مأساويةٍ قديمة، وإعادة تأطيرها بطريقةٍ توحي بحدوثها في الوقت الراهن». وتطرق يوسف الأمين أيضاً إلى أنماط التضليل الإعلاميّ المتكرّرة الّتي رصدتها منصته، حيث أشار إلى تقرير نشر بعنوان الذكاء الاصطناعيّ خلال الحرب… صور مفبركة وفيديوهات مضلّلة، مؤكداً أن إعادة صياغة مشاهد متداولة باستخدام تقنيات التلاعب الرقميّ تُظهر كيف يمكن لصناع الأخبار المزيفة أن يُغيروا معاني المواد البصريّة لتناسب أجنداتهم.

        من جهته، يتحدث بريمو، عن تحديات مكافحة المعلومات المضلّلة على منصات التواصل وكيف تتداخل الشبكات المضلّلة عبر مختلف القنوات الرقمية: «من الصعب التنبؤ بدقّة بما سيحدث في عالم التضليل الإعلاميّ، لأننا كصحفيين نعتمد على متابعة مستمرة وتحليلٍ دقيق لما يتمّ نشره. لا توجد أدلة حاسمة على أن هذه الشبكات تابعة لإيران بشكلٍ مباشر، لكن لدينا أدلة قوية على أنّها مرتبطة ببعضها البعض وتعمل بتناغم على نشر الأخبار المضلّلة عبر فيسبوك، إنستغرام، تويتر، وأيضًا عبر تيليجرام». ويُشير بريمو إلى أنّ من أهم الأنماط الّتي يلاحظها هو استخدام صور وفيديوهات لانتهاكاتٍ حقيقية، يتمّ اقتطاعها من سياقها الأصليّ لتقديم سرديات زائفة. مثلاً: «كانت هناك حالات نشرت فيها فيديوهات لمشاهد إذلال وضرب وإهانة لأشخاص تمّ اعتقالهم خلال عملياتٍ أمنيّة بعد انتهاء مهلة تسوية الوضع. يتمّ اقتطاع هذه المقاطع من سياقها الكامل، ويُعاد نشرها مع إشارة إلى أنّ هؤلاء الأشخاص ينتمون لجماعاتٍ أو فصائل معينة، مما يؤدي إلى تأجيج التوترات وإثارة الانقسامات العرقيّة والطائفيّة».

        ويعتبر خلق «فقاعات المعلومات» من أبرز التّقنيات الّتي تعتمد عليها الحسابات المضلّلة. ويوضح الأمين كيف تعمل هذه الحسابات على حصر المستخدمين ضمن دوائر محددة لا يُعاد فيها سرد سوى الرسائل المتحيزة، مما يجعلهم أكثر عرضةً لتقبل الأخبار المضلّلة دون الرجوع إلى مصادر بديلة. «تكرار نفس المحتوى عبر شبكات متداخلة من الحسابات يؤدي إلى تأثير صدى يُضفي على الأخبار مظهراً من الانتشار الواسع والمصداقيّة، وهذا بدوره يُساهم في تشكيل فقاعةٍ معلوماتية تحصر المستخدم في دائرة محدودة من الرسائل الّتي تتماشى مع توجهاته المسبقة». وأوضح الأمين أن هذا الأسلوب ليس مجرد تكرار للمواد الإعلاميّة، بل يتضمن تعديلاً للنصوص والصور والفيديوهات بطرقٍ تجعل المحتوى يبدو أكثر إثارةً للمشاعر، ما يعزز تأثيره على الجمهور.

        وأضاف بريمو: «ثم هناك نمط آخر، حيث بعد انتهاء المحتوى الذي يظهر الإذلال أو الضرب، تبدأ هذه الحسابات في نشر تقارير عن عمليات خطف أو فقدان أو حتّى قتل، دون أيّ تحقّقٍ من صحّة المعلومات. هذا الأسلوب يؤدي إلى فقدان الثقّة لدى الجمهور، حيث أن الناس بعد فترة طويلة من التعرض لهذه الأخبار المضلّلة يصبحون متشكّكين حتّى في الحالات الّتي تكون فيها الوقائع صحيحة». وأوضح بريمو أنه في بعض الأحيان يستقبل الفريق تسجيلات صوتيّة أو فيديوهات يُزعم أنّها لضحايا عمليات خطف، ويقومون بإجراء ما يُسمّى بالتحقّق السّريع أو «الفحص»، حيث يتمّ الكشف عن التناقضات، مثل نسبٍ غير دقيقة للجنسيّة أو روابط مشبوهة مع أطراف سياسيّة معينة. وقد أشار إلى حالةٍ حيث تمّ نشر تسجيل صوتيّ يُزعم إنه لصاحب عملية خطف، تبين فيما بعد أنه تسجيل لرياضي معروف من خارج المشهد السّوريّ.

        ضرورة اعتماد نهج متعدّد المستويات لمكافحة المعلومات المضلّلة

        والحال أنّ دعم منصات التحقق المستقلّة يعدّ من الخطوات الأساسيّة لمواجهة المعلومات المضلّلة الّتي تنتشر في فترات الأزمات والحروب. ومع تزايد حجم الحملات الدعائيّة المنظّمة الّتي تنتهج استراتيجيات تلاعب متقدّمة، يصبح التعاون الدوليّ وتبادل الخبرات أمراً حيوياً لتعزيز القدرات المحليّة في هذا المجال. وفي هذا السّياق، يرى العديد من المراقبين أنّ التعليم الإعلاميّ وتوعية الجمهور بأهمية التحري والتثبت من مصادر المعلومات هي الأساس لمواجهة الظاهرة. كما أنّ إنشاء أطرٍ قانونيّة تنظم الإعلام الرقميّ وتفرض معايير الشفافيّة والمساءلة سيسهم بشكلٍ كبير في الحدّ من انتشار الأخبار الزائفة.

        وبينما تواصل منصات مثل صواب وتأكّد وغيرها جهودها في كشف التضليل وتحليل الأنماط الدعائيّة، يبقى التحدي الأكبر هو الوصول إلى جمهورٍ واسع وإيصال رسالة الثقّة في المصادر المستقلّة. ورغم أن الشركات العملاقة، مثل ميتا، تتبنى مؤخراً سياسات قد تقلّل من آليات التدقيق، فإن الدعم المستمر من المجتمع الدوليّ والمحليّ للمبادرات الصحفيّة البديلة يُعد خطوةً مهمة نحو تحقيق بيئة إعلاميّة أكثر شفافيةٍ وموضوعيّة.

        وهنا تكمن ضرورة اعتماد نهج متعدّد المستويات لمكافحة المعلومات المضلّلة، يجمع بين التعليم الإعلاميّ وتعزيز التفكير النقديّ في المدارس والجامعات، وتطبيق إطار قانونيّ ينظّم الإعلام الرقميّ ويضمن الشفافية والمساءلة. ذلك فضلاً عن دور الذكاء الاصطناعيّ الحيويّ في تطوير أدوات تقنيّة متقدّمة تُساهم في كشف المحتوى المزيف وحملات الكراهيّة وتقليل انتشاره. كما أنّ دعم منصات التحقق المستقلّة وتمويلها بشكلٍ يضمن حصولها على أحدث الأدوات التقنيّة، يعد من الخطوات الأساسيّة لتعزيز قدرتها على تقديم معلوماتٍ دقيقة وموثوقة. وبالإضافة إلى ذلك، يتعين على الجهات الدوليّة التعاون مع المنظمات المتخصّصة في مكافحة التضليل لتبادل الخبرات وبناء القدرات المحليّة من خلال برامج تدريبية للصحفيين وصناع المحتوى.

موقع الجمهورية

————————————

مشاريع صغيرة/ سلمان عزالدين

يبدو السوريون اليوم وكأنهم يعيشون بين صفحات قاموس سياسي.

على مدار الساعة، في مقاهيهم وفي بيوتهم وعلى شاشات هواتفهم الصغيرة، يتداولون العشرات من المفاهيم والمصطلحات السياسية المختلفة.. ولكن لا شيء فيها يخرج عن المألوف: مدنية، علمانية، ديمقراطية، تعددية، صبغة إسلامية، إسلام وسطي، النموذج التركي، ليبرالية..

غير أن مصطلحا جديدا (نسبيا)، وغير مألوف كثيرا في حكي السوريين، راح يعلو أكثر من سواه: الخصوصية الثقافية.

وإذا كان الأكراد السوريون هم أكثر من يستطيع إيضاح هذه الخصوصية، كونهم يتحدثون عن هوية قومية متمايزة ومعلنة، فإن سوريين آخرين يستخدمون المصطلح كيافطة تخفي حرجهم من استخدام تعبير آخر، لا يزال غير محبذ في علن الحياة السورية (وإن كان عزيزا وغزيرا جدا في سرها)، وهو: حقوق الطوائف والأقليات الدينية والمذهبية.

وكما هو معروف، فإنه في نصف القرن الذي حكمنا فيه حافظ الأسد وابنه كان الحديث العلني عن الطوائف والطائفية من المحرمات، على اعتبار أننا شعب واحد هو جزء من أمة واحدة تسعى إلى إقامة دولة كبيرة واحدة، وبالتالي فأي حديث عن مكونات ومذاهب وطوائف هو حديث تقسيمي مشبوه وعلامة على عمالة مؤكدة للاستعمار والصهيونية.. ولا نحتاج إلى براهين لتأكيد أنها كانت كذبة كبيرة، عرّاها نظام بشار نفسه بتنصيب نفسه حاميا للأقليات وقائدا لتحالفها!.

ومن هنا فإن صعود المصطلح الآن، في منظور كثيرين، يمثل نوعا من “الوعي المطابق للواقع”، حيث نرى الواقع كما هو لا كما تزينه لنا أيديولوجيا ما. فنحن بالفعل نتوزع على انتماءات مذهبية ودينية عديدة، صاغت عبر الزمن حساسيات ثقافية متباينة، عادات وتقاليد ورؤى متمايزة، دون أن يعني هذا الاعتراف عدم وجود إمكانية كبيرة لصياغة هوية وطنية جامعة تتجاوز هذه الخصوصيات دون أن تنفيها..

ومع ذلك يبقى المصطلح مثيرا للقلق ولشيء من الريبة، إذ يُخشى أن يتحول إلى ما يشبه نظام الملل والنحل، أو إلى محاصصة طائفية تعيق قيام الهوية الوطنية وتعطل فعالية الدولة.

تحتاج الخصوصية هذه، كي تكون آمنة، إلى نجاح مؤكد في أمرين، أولهما: الإعلاء من شأن الحرية الفردية وصيانتها تحت سقف القانون، وثانيهما: تأسيس ميدان سياسي عام متاح لجميع المواطنين من مختلف مشاربهم وانتماءاتهم الدينية والمذهبية والمناطقية..

ضمان الحرية الفردية يجعل الانتماء الطائفي خيارا طوعيا بعيدا عن القسر والإلزام، والميدان السياسي المفتوح للجميع يضعف الحدود بين الطوائف ويمنعها أن تكون صلدة ومُقسِمة، مقدما فرصة كبيرة للتلاقي على قواسم ومشتركات عامة، ما يحول دون نجاح هذه الطوائف في تشكيل هويات بديلة عن الهوية الوطنية الجامعة.. 

وإلا فالخصوصية الثقافية لن تعني سوى جعلنا أسرى طوائفنا وجنودا في خدمة طموحات

وجهائها وشيوخها.. وكما ضاعت الهوية الوطنية السورية، في عهد البعث، تحت وطأة المشاريع الموهومة الكبيرة، فقد تضيع الآن على يد المشاريع “الواقعية” الصغيرة..

الترا سوريا

—————————-

===================

عن نداء الله “الكردي” “عبدلله أوجلان” بإلقاء السلاح -مقالات وتحليلات

تحديث 07 أذار 2025

——————————

هل يغيّر نداء أوجلان المعادلة الكردية في سورية؟/ بشار نرش

07 مارس 2025

في نداء تاريخي يُمثّل تحوّلاً كبيراً، سواء في الاستراتيجية السياسية والعسكرية له ولحزبه، أو في سياق العلاقات الكردية التركية، التي أطّرتها سنوات من الحرب والسلام، أثارت دعوة زعيم حزب العمّال الكردستاني عبد الله أوجلان، إلى إلقاء الحزب سلاحه، وحلّ نفسه، والانخراط في العمل السياسي السلمي، والاندماج مع الدولة والمجتمع، موجةً واسعةً من الجدل بشأن مستقبل الحزب العابر للحدود، وسط تساؤلات عن مدى انعكاسات ذلك على مستوى المنطقة والفصائل الكردية فيها، لا سيّما قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، المسيطرة في شمال شرقي سورية، التي تعدّ امتداداً فكرياً وعسكرياً لحزب العمّال الكردستاني.

في هذا السياق، يرى باحثون ومختصّون عديدون أن نداء أوجلان يكتسب أهميةً خاصّة، ليس من أنه إعلان تحوّل في استراتيجية “العمّال الكردستاني” فقط، بل أيضاً لارتباطه الوثيق بالتحوّلات الجيوسياسية، التي تشهدها المنطقة، فاللحظة التي جاء فيها هذا النداء تتّسم بتعقيداتها العسكرية والسياسية، ما يجعل من الضروري تحليل تداعياته المحتملة، لا سيّما على الوضع في سورية، إذ تبرز “قسد” فاعلاً أساسيّاً ومهمّاً متأثّراً بهذا التحوّل.

سورياً، تعكس تصريحات قائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، التي أكّد فيها أن إعلان أوجلان يتعلّق بحزب العمّال الكردستاني فقط، ولا علاقة له بقوات “قسد” في سورية، سعياً واضحاً إلى فصل المسار السوري عن ذلك التركي، وتأكيد البُعد الوطني المحلّي لقوات “قسد”، في محاولة منه للمناورة في سردية ارتباط هذه القوات بحزب العمّال الكردستاني العابر للحدود، والحفاظ على التمايز بين “قسد” والحزب، سيّما في ظلّ الضغوط المتزايدة التي تتعرّض لها “قسد” من عدّة أطراف بعد سقوط نظام بشّار الأسد في سورية.

غير أنّ هذا التمايز الذي يسعى عبدي إلى ترسيخه، يواجه تحدّيات موضوعية، تتمثّل في طبيعة العلاقة العضوية بين “قسد” و”العمّال”، سواء على مستوى القيادات أو الأيديولوجيا أو البنية التنظيمية، ممّا يجعل من الصعب تحقيق قطيعةٍ كاملةٍ بين المسارين، وهو ما قد يتسبّب بأزمة داخلية بين الجناح المحلّي من “قسد”، الراغب بفكّ العلاقة مع جبال قنديل، والجناح الآخر الراغب في جعل القضية الكردية مجرّد رافعةٍ لمشروع “العمّال الكردستاني”، ويرى في الكفاح المسلّح الخيارَ الوحيدَ لتحقيق الحقوق الكردية.

لذلك، لا يمكن احتواء ارتدادات نداء أوجلان بمجرّد النأي بالنفس، وهو ما يدركه عبدي تماماً، الذي يرى نفسه أمام مفترق طرق، فإمّا رفض الدعوة لترك السلاح، وبالتالي متابعة النهج العسكري الذي اتبعه سابقاً، وهذا يعني استمرار النزاع والحرب، وبقاء “قسد” في مرمى الاستهدافين، السوري والتركي، في آن، الأمر الذي سيزيد من عزلة “قسد” الجماهيرية داخل الأوساط الكردية، لا سيّما أنّ هناك توجّها كرديا عاما في سورية والعراق وتركيا يدعم السلام، ويرفض استمرار النزاع والحرب، وكذلك سيزيد من عزلتها الإقليمية والدولية، وخصوصاً في ظلّ معلوماتٍ تفيد بأن الولايات المتحدة بقيادة ترامب تدعم مبادرة أوجلان بقوة، وفي حال فشلها، قد تمنح أنقرة الضوء الأخضر لتصفية “قسد” عسكرياً، وإنشاء منطقة آمنة على طول حدودها داخل سورية. أو الانخراط في حوار سياسي أوسع، قد يشمل الحكومة السورية واللاعبين الدوليين والإقليميين، للمضي قدماً في مسار المفاوضات، والقبول بنمط جديد للإدارة المحلّية يراعي حساسيات الواقع السوري ومعطياته، ويمهّد الطريق لخروج عناصر حزب العمّال من سورية، وتسوية أوضاع المحلّيين، وهو ما يُمثّل، حسب معظم المحلّلين العرب والكرد والأتراك، المَخرَج الأمثل لمختلف الأطراف، لأنه يجنّب المنطقة سيناريوهات أسوأَ، في رأسها المواجهة العسكرية، وما قد يتلوها من ارتدادات أمنية، سياسية، اجتماعية، إنسانية، تبدو الأطراف المحلّية بغنىً عنها خلال الظروف الحالية.

وعليه، طبيعة وشكل استجابة وتفاعل “قسد” مع دعوات أوجلان ستحدّدان طبيعة وردّة فعل دمشق من جهة، وأنقرة من جهة أخرى، إذ سيشكّل رفض دعوة إلى إلقاء السلاح شرعيةً قويةً لتركيا والحكومة السورية الجديدة باستهداف “قسد”، في حين أنّ الاستجابة الإيجابية قد تؤدّي إلى تهدئة الهواجس التركية والسورية، وبالتالي تقليل نسب التهديدات العسكرية المبنية على ارتباط “قسد” بحزب العمّال الكردستاني وتهديده للأمن القومي التركي من جهة، ولوحدة التراب السوري وإغلاق الباب أمام الطروحات الانفصالية من جهة أخرى.

يمكن القول إنّ نداء أوجلان يشكّل مساراً جديداً لأكراد سورية، يُهيّئ لهم مناخاتٍ سياسيةً جديدةً للدخول في حوارات مع الإدارة السورية بمعطياتٍ جديدة، للوصول إلى تفاهمات بعيداً من لغة الحرب والتدخّلات الخارجية. لذا، على قياداتهم، إذا ما أرادوا إيجاد حلّ سياسي سلمي للقضية الكردية، أن يجردوا حساباتهم بدقّةٍ قبل فوات الأوان، فالطريق نحو تسوية مستدامة يتطلّب خطوات تدريجية لبناء الثقة، خاصةً في ظلّ تعقيدات المشهد السياسي الإقليمي والدولي، وحتى ذلك الحين، سيظّل إعلان أوجلان محطّةً مهمةً، لكنّها ليست حاسمةً في تحديد مصير العلاقات الكردية – السورية أو الكردية – التركية.

—————————–

تركيا: حزب كردي يطالب بخريطة لتنفيذ دعوة أوجلان لحل «الكردستاني»

استطلاع رأي كشف تأييد غالبية الأتراك لها وتشكيكهم في إلقاء السلاح

أنقرة: سعيد عبد الرازق

أكد حزب «الديمقراطية والمساواة للشعوب» المؤيد للأكراد في تركيا عدم وجود خريطة طريق لما بعد دعوة زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان لحل الحزب وإلقاء أسلحته. وفي الوقت ذاته، كشف استطلاع للرأي عن تأييد غالبية الأتراك لدعوة أوجلان وعن اعتقادهم بأن «العمال الكردستاني» لن يتخلى عن السلاح وأن العمليات العسكرية التركية عبر الحدود ستستمر.

وأضافت: «ولهذا السبب نناشد الدولة والحكومة اتخاذ خطوة بشأن ما، حتى نتمكن جميعاً من رؤية كيف سيتم اتباع المسار… يجب على الحكومة أن تتولى دوراً حتى يمكن الكشف عن خريطة الطريق».

الدستور وقانون الإرهاب

وعما إذا كان هناك لقاءات جديدة ستعقد مع الأحزاب السياسية وكذلك مع الرئيس رجب طيب إردوغان، قالت تولاي حاتم أوغوللاري في تصريحات الأربعاء: «ربما نبدأ الأسبوع المقبل جولة على الأحزاب السياسية، وبطبيعة الحال، سوف تشمل هذه الجولات أيضاً أعضاء تحالف الشعب (حزبا العدالة والتنمية والحركة القومية)».

وأيد إردوغان مبادرة حليفه رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهشلي، التي أطلقها في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لجعل تركيا خالية من الإرهاب، عبر دعوة من أوجلان لحل «العمال الكردستاني» ونزع أسلحته، كما رحب إردوغان بدعوة أوجلان ووصفها بأنها «فرصة تاريخية» لهدم جدار الإرهاب في تركيا.

وعلى الرغم من أن إردوغان يترأس حزب العدالة والتنمية الحاكم، فإنه لم يستقبل بنفسه، وفد «إيمرالي»، عقب لقائه أوجلان في 28 ديسمبر (كانون الثاني)، وأناب عنه عددا من قيادات الحزب.

وقالت أوغوللاري إن هناك حاجة إلى تشكيل لجنة برلمانية، أو لجنة أخرى على غرار «لجنة الحكماء» التي تشكلت في عملية الحل الأولى بين عامي 2013 و2015، من أجل الاتفاق على التدابير التي ستتخذ في إطار عملية السلام.

وأضافت أوغوللاري: «إن عملية التحول الديمقراطي مشكلة ذات جذور عميقة، وقلنا إن دستور 1982 المعمول به حتى الآن ليس كافيا لتركيا، ويجب التوصل إلى أوسع توافق والتحضير لعملية وضع دستور ديمقراطي من خلال المجتمع بأكمله».

كما أكدت أنه يجب تغيير قانون مكافحة الإرهاب، لأن تعريف الإرهاب في تركيا يعد تعريفا إشكاليا، وفي بلد ديمقراطي لا يمكن أن يكون الاتهام بالإرهاب من خلال تغريدة، ولا يمكن أبداً اعتبار حرية الفكر والرأي مرتبطة بالإرهاب، كما هو في السياسة الحالية.

وعن مدى الحاجة إلى دستور جديد للبلاد، قال الرئيس المشارك لحزب «الديمقراطية والمساواة للشعوب» تونجر باكيرهان: «بطبيعة الحال، إذا تقدمت العملية فإن تركيا والشعب سيقرران هذه الحاجة ومحتواها، لكن المناقشات حول الدستور الجديد لا علاقة لها بالعملية الجارية حاليا، ولا يوجد حزب مستعد مثل حزبنا فيما يتعلق بالدستور، وهناك حاجة وهذه الحاجة تجب تلبيتها».

استطلاع رأي

وفي حين تتواصل أصداء دعوة أوجلان، كشف استطلاع للرأي نشرت نتائجه الأربعاء، عن تأييد 57.5 في المائة من الأتراك الدعوة، بينما قيمها 42.5 في المائة على نحو سلبي. وعبر 47.4 في المائة عن اعتقادهم بأن حزب العمال الكردستاني لن يتخلى عن أسلحته، بينما رأى 38 في المائة أن العملية قد تتغير بحسب مواقف المجموعات المختلفة داخل حزب العمال الكردستاني.

كما أظهر الاستطلاع، الذي أجرته شركة «أريدا» للأبحاث في الفترة بين 28 فبراير (شباط) الماضي و3 مارس (آذار) الحالي، بمشاركة 1220 شخصاً في جميع أنحاء تركيا، أن نسبة من يعتقدون أن دعوة أوجلان ستساهم في تحقيق السلام في البلاد بلغت 51.2 في المائة، مقابل 48.8 في المائة رأوا عكس ذلك.

وبحسب الاستطلاع، رأى 69.8 في المائة من المشاركين أن العمليات العسكرية التي تنفذها تركيا عبر الحدود لمكافحة الإرهاب يجب أن تستمر، ورأى 18.8 في المائة أن على تركيا أن تتخذ قراراتها وفقا لخطوات حزب العمال الكردستاني، وأكد 11.3 في المائة ضرورة وقف هذه العمليات.

————————-

مسار الحل السياسي في سوريا بعيون كردية/ أحمد الكناني

6 مارس 2025

تتوالى التصريحات الصادرة من الإدارة الذاتية شمال شرق سوريا تبعًا لمتغيرات المسار السياسي الذي تجريه الإدارة السورية الجديدة، أولها مفاوضات مباشرة مع قوات سوريا الديمقراطية “قسد” وصفت بالإيجابية، وآخرها على النقيض مؤتمر الحوار الوطني، والذي رفضته الإدارة والأحزاب الكردية ببيان خاص عبر عنه 35 حزبًا وكيانًا سياسيًا واجتماعيًا، معتبرين أن المؤتمر يفتقر للتمثيل الحقيقي لمختلف المكونات السورية، ولا قيمة لمخرجاته حسب وصفهم.

تصريحات الأحزاب السياسية والاجتماعية الكردية جاءت مفاجئة بعد جولات تفاوضية رحبت بها دمشق، خاصةً إعلان الإدارة الذاتية الموافقة على دمج “قسد” والمؤسسات التابعة ضمن هيكلية الجيش السوري، وتفعيل المؤسسات المدنية، والخدمية التابعة للدولة شمال شرق سوريا، عدا عن موافقتها على انسحاب المقاتلين الأجانب، ما يطرح العديد من التساؤلات حول النقاط السياسية الرئيسة التي تسعى الإدارة الذاتية إيصالها، ومسار الحل وفقًا للسياسة الكردية، والذي لم تتبناه دمشق حتى الآن.

الهوية والاعتراف الدستوري

يعتقد باحثون وأكاديميون كرد أن الأولوية في أي مسار للحل السياسي بما يتعلق بالأكراد، تنطلق من الاعتراف بالهوية التاريخية والتي تمتد لآلاف السنين، إذ عانى الكرد مظالم طويلة حرمتهم من الجنسية السورية لأكثر من نصف قرن على خلفية إحصاء عام 1962، والذي اعتبر مئات الآلاف من الكرد في الحسكة كأجانب. وحتى بعد تجنيسهم عام 2011، تعمد النظام البائد إقصائهم من كافة مناحي المشاركة السياسية والعمل الحكومي في سوريا كباقي السوريين.

يعتبر مدير المركز الكردي للدراسات، نواف خليل، أن أحد أبرز المطالب الكردية من الإدارة الجديدة متعلقة بالاعتراف الدستوري بوجود المكون الكردي، وعليه يندرج هذا الاعتراف بوجود بند واضح في الدستور يكفل إشراكهم بشكل حقيقي في البلاد عبر تمثيلهم بالبرلمان، والحقائب الوزارية والسيادية على وجه الخصوص، وإدارتهم للملفات الاقتصادية كباقي السوريين في وظائف العمل، ومراكز القرار.

وعلى الرغم من تأكيد الإدارة السورية الجديدة عبر تصريحاتها الرسمية بهوية المكون الكردي كجزء أصيل من الشعب السوري، يرى مدير المركز الكردي للدراسات في حديث لـ”الترا سوريا” أن التصريحات الحكومية وحتى الرئاسية تبقى في إطارها النظري، إذ لم تنفذ الإدارة الجديدة أي خطوة فعلية تجاه الكرد في سوريا، سيما وأن النظام السابق أدلى بنفس التصريحات ونفذ العكس.

شكل اللامركزية الكردية

تشير الأوساط السياسية الكردية إلى أنه ثمة فهم خاطئ في قضية اللامركزية الكردية من حيث انفصالها عن الدولة السورية، وهو ما ترفضه الإدارة الذاتية والمجلس الوطني الكردي جملة وتفصيلًا، إذ يرى الباحث السياسي الكردي، جوان سوز، أن: “تركيبة الإدارة الذاتية ليست انفصالية أو مقتصرة على الأكراد، إذا تعتبر الإدارة الذاتية بمثابة حكومة لمناطق متداخلة عرقيًا، ودينيًا، وطائفيًا، ولديها قوات عسكرية وهي قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وتعمل عبر مظلة سياسية تسمى مجلس سوريا الديمقراطية وهي لا تقتصر على الكرد، بل بداخلها مكونات عربية، وسريانية، وآشورية، وأرمنية وغير ذلك، وعليه فالاعتراف الدستوري باللامركزية هو اعتراف بالقوميات التي تتشارك مع الإدارة الذاتية”.

يفسر الباحث السياسي جوان سوز شكل اللامركزية في حديثه لـ”الترا سوريا” بالقول: “يمكن الحديث عن نظام إداري، وقضائي، وتعليمي، وعسكري، يتم ربطه وتطويره مع الحكومة المركزية، وتكون اللغة الكردية رسمية ومعترف فيها، كذلك الاعتراف بالجامعات التي تدرس اللغة الكردية، وهو مالم تقبل به الإدارة الجديدة، إذ صعدت مؤخرًا خلال اعترافها بجامعة إدلب دون جامعات شمال شرق سوريا، ما يعتبر ازدواجية في المعايير، وعليه اللامركزية مطلب رئيسي لتثبيته دستوريا”.

مخاوف أمنية وعسكرية

لا شك أن الإدارة الذاتية تواجه تحديات أمنية وعسكرية بعيدة عن المخاوف السياسية الخاصة بالهوية واللامركزية، إذ يركز الجيش التركي من ضرباته على مواقع “قسد”، فيما تواصل فصائل “الجيش الوطني”، الحليف لتركيا، هجمات مكثفة سيما على محور سد تشرين الاستراتيجي والذي يغطي حاجة المنطقة بالكهرباء والمياه.

ويعتبر مدير المركز الكردي للدراسات نواف خليل أن “عدم اتخاذ الإدارة الجديدة أي موقف رسمي لإيقاف هجمات الفصائل التي انضوت تحت صفوفها في وزارة الدفاع مؤشرًا سلبيًا في التعاطي مع الملف الكردي، عدا عن التغلغل التركي في الأراضي السورية وقطع المياه على مليون شخص في الحسكة، فيما يزيد الوضع تعقيدًا بملف التغيير الديمغرافي في بعض المناطق، إذ نزح قرابة 300 ألف كردي من عفرين، ولم يبق في رأس العين سوى 40 مسنًا كرديًا فقط، وعليه هناك مطالبات بإعادة النازحين لمناطقهم”.

رغبة في الحل السياسي

يضاف إلى المشهد السياسي الدور التركي، إذ يتوقع الصحفي المختص بالشأن التركي، سركيس قصارجبان، استمرار الضغوط التركية على الإدارة الذاتية سواء عبر قناة دمشق أو فصائل الجيش الحر أو بشكل مباشر، إذ يقول قصارجيان في حديثه لـ”الترا سوريا”: “كل الخطوات المطروحة تبقى قاصرة إلى حين تبلور صورة واضحة لمسار المصالحة الكردية ـــ التركية في تركيا”، مضيفًا “علينا انتظار تداعيات دعوة أردوغان في شمال شرق سوريا”.

وعلى الرغم من المخاوف التي تبديها أوساط كردية، إلا أن ذلك لا يعني غياب التوافقات العامة على مسار الحل السياسي، إذ يبدي جوان سوز الباحث الكردي مخاوفه من “مسألة اللون الواحد الذي تشكله الإدارة الجديدة، والتفرد بالقرار السوري”، آملًا في “حل شامل وعادل قائم على التعددية في البلاد”، لافتاً إلى “أهمية التقسيم العادل للثروات بكامل الأراضي السورية، في حال جرى كفالة الحقوق الدستورية والقانونية للكرد، كخطوة في إعادة الإعمار والنهضة الاقتصادية”.

وفي وقت فيه تشهد البلاد حقبة سياسية جديدة، تسعى دمشق فتح قنوات مستدامة للتواصل مع الإدارة الذاتية، لما للملف من ارتباطات اقتصادية من حيث الثروات النفطية والخضراء، وارتباطات سياسية دولية من حيث التواجد الأميركي الداعم للإدارة الذاتية، عدا عن الضغط التركي المناوئ لها، ما يعطي المسألة بعدًا دوليًا أكثر تعقيدًا في مسار الحل السياسي للقضية الكردية.

————————————

====================

عن التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة، ملف تناول “شهية إسرائيلية لتفتيت سوريا” -ملف متجدد يوميا

تحديث 07 أذار 2025

—————————–

سوريا وإسرائيل.. بين شهوة القوة وخيانة الضرورة/ أحمد عزام

2025.03.07

ما أسهل أن نتخيل إسرائيل وهي تعترض على ولادة سوريا جديدة، كأنها صاحبة الحق الحصري في رسم خرائط المنطقة وتقسيم مصائر الشعوب! في الحقيقة، لا يحتاج الأمر إلى خيال كبير، فالدولة العبرية لم تتعلم فن الحرب فحسب، بل أتقنت كذلك فن إبقاء أعدائها في حالة حرب دائمة.

والآن، إذ تهمّ سوريا الجديدة بأن تقوم من تحت الركام، تجد نفسها في مرمى الأطماع الإسرائيلية، لا لشيء سوى أن إسرائيل تعتقد أن الشرق الأوسط يجب أن يبقى خاضعًا لقانونها وحدها، وأن أي محاولة لمنافستها، ولو بمجرد النهوض، هي عمل عدائي يستحق العقاب.

ولأن إسرائيل تعتقد أن القانون الوحيد المسموح به في المنطقة هو “الجمود الخاضع لسلطتها”، فإنها تسارع إلى إعلان موقفها كأنها الوصيّ الشرعي على مستقبل سوريا، “لن نسمح للجيش السوري الجديد بالاقتراب من الجنوب!”تقولها وكأنها تصدر مرسومًا كونيًا، ثم تتابع هوايتها المفضلة: القصف بين الحين والآخر، فلا هي تشنّ حربًا مباشرة، ولا هي تسمح للسوريين بأن يبنوا بلادهم بسلام. لماذا؟ لأن القاعدة الذهبية في السياسة الإسرائيلية واضحة: لا تدع جارك ينهض، فإن نهض، فاجعله يعرج، فإن مشى، اقطع ساقه، ثم عاتبه على عدم قدرته على الركض.

ولكن، لنكن صريحين! إسرائيل لا تخشى جيشًا سوريًا جديدًا، فهي تمتلك ما يكفي من القوة لضمان تفوقها العسكري لعقود. إنما ما يخيفها حقًا هو سوريا المستقرة، سوريا القادرة على إعادة لملمة شتاتها وإقامة دولة مركزية قوية. إن هذا السيناريو، الذي قد يبدو بديهيًا لأي عاقل، يمثل كابوسًا استراتيجيًا لتل أبيب، لأنه سيعيد رسم قواعد اللعبة في المنطقة، وسيحرمها من ذريعة “الاضطرار” للتدخل المستمر في الشأن السوري وسيعني أيضاً نهاية عصر الفوضى المجانية الذي استغلته لعقود بذريعة منع تمدد المقاومة. إن إسرائيل، وبكل بساطة، لا تحب الجيران الأقوياء.

ولكن إسرائيل ليست وحدها في هذا المسرح العبثي. ففي الجنوب السوري، حيث تعيش درعا والسويداء على حافة التمرد الدائم، يبدو أن هناك قوى محلية لا تحتاج إلى كثير من الإقناع لكي تلعب دورها في هذا المشهد. بعض هذه الفصائل، التي لم تعتد طاعة دمشق منذ سنوات، تجد نفسها أمام معضلة وجودية: هل تسلم سلاحها لحكومة مركزية جديدة قد تفرض عليها سيادة القانون، أم تستمر في حالة اللادولة التي توفر لها امتيازات سلطوية؟

وهنا يأتي دور إسرائيل، لا كدور عسكري محتوم وحسب، بل أيضاً كعقل مدبّر يجيد استغلال الضعف البشري عند البعض لضمان أن يبقى الجنوب السوري خارج سيطرة دمشق لأطول فترة ممكنة. فكما علمنا التاريخ، لا يحتاج “الانتهازي” إلى أكثر من وهم القوة كي يبيع بلاده. وإسرائيل، بكل ما تمتلك من إمكانيات تجيد توزيع هذا الوهم بسخاء.

إنها معادلة قديمة قدم التاريخ: الفصائل التي تخشى فقدان امتيازاتها تبحث عن حماية خارجية، وإسرائيل التي تخشى استقرار سوريا تقدم تلك الحماية. إنها ليست خيانة مجردة بقدر ما هي استثمار انتهازي. فحين يُوضع السلاح في يد ميليشيا تخشى زوال نفوذها، يصبح الخوف أقوى من الولاء، ويصبح الانفصال أكثر جاذبية من الوحدة.

يعلم شعب السويداء –أبناء الكرامة حقاً لا مجازاً-  أن الأمن لن يأتي من قبل إسرائيل بل من وحدة السوريين أنفسهم، ويعلمون أكثر من ذلك أن بنيامين نتياهو صاحب الأطماع الاستعمارية الاستشراقية المتأصلة والذي لم تجف يداه من دم الفلسطينيين في غزة بعد لن يصبح فجأة مسؤول منظمة خيرية معنية بحقوق الإنسان والطوائف. ولكن هذه المعرفة لا تكفي إذ يجب على الشعب السوري في السويداء ودرعا معاً مواجهة بعض الفصائل العسكرية التي تبدو حتى الآن “متواطئة” ويجب أن يتطور الموقف الشعبي إلى احتجاجات يومية لدى كل أبناء ووجهاء المحافظة والذي يرفض أي محاولة لعزل السويداء نفسياً -قبل سياسياً- عن محيطها السوري.

أما بالنسبة للقيادة السورية الجديدة فإن الاكتفاء بالبيانات المنددة الخجولة أو إرسال برقيات بحبر أكثر سواداً لن يجعل إسرائيل تشعر بجدية الموقف السوري الجديد، ولن تنجو كل محاولات بناء الدولة إن لم تفكر الحكومة السورية الجديدة منذ الآن بتغيير أولوياتها من خلال الإصرار على تقوية الدفاعات وبناء تحالفات عسكرية عاجلة وإعادة ترتيب الوضع الداخلي ومهما اجتهدت القيادة السورية في إرسال التطمينات تلو التطمينات في أنها لن تكون مصدر قلق لجيرانها، يبقى المبدأ الإسرائيلي كما هو: “نحن نضرب لأننا نستطيع”. وقد أثبت التاريخ أن إسرائيل تصنع الذرائع بنفسها بالتالي هي ليست بحاجة إلى ذريعة، وحين تزداد وتيرة التطمينات المرسلة من قبل القيادة السورية فهذا بالنسبة لإسرائيل ضعف يجب استغلاله فالعدوان هو استراتيجية ثابتة لدى احتلال يدافع دائماً عن حقه في حماية كل قطعة أرض يحتلها وهي سياسة “الدونم دونم” التي لا تنتهي عند حد معين، بالتالي فالأمن بالنسبة لسوريا لن يأتي من التطمينات بل من القوة: إذ أنه في السياسة كما في الغابة، فالحمل الذي يظن بأنه يمكنه إقناع الذئب بعدم افتراسه، لا يفهم قواعد اللعبة.

إن سوريا الجديدة بكل مكوناتها التي هزمت أعتى دكتاتورية عرفها التاريخ الحديث، ومهما بدت هذه الـ “سوريا” هشة في بدايتها، ستتعلم كيف تميز بين أبنائها  الحقيقيين والانتهازيين. وستدرك أن من يعرض عليها خدعة “الأمان والسلطة” اليوم، إنما يزرع فيه فتيل انفجار الغد. أما إسرائيل، التي اعتادت أن تلعب دور القاضي والجلاد في المنطقة، فقد تجد نفسها أمام مفاجأة لم تحسب حسابها: سوريا لم تمت، و هي أيضاً لم تخرج من تحت الركام كي تعود إليه.

تلفزيون سوريا

————————

إسرائيل تدفع سوريا نحو أحد مصيرين.. ما هما؟/ إيهاب جبارين

6/3/2025

تشهد المنطقة اليوم تحولات جذرية تكشف عن طموحات إسرائيل في سوريا، حيث تتجاوز أهدافها المعلنة حدود الأمن القومي لتتلبس ثوبًا استعماريًا معاصرًا، يتستّر خلف ذرائع متعددة تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع الإقليمي في ظل تنافس دولي محموم.

في خطابه أمام الكنيست بتاريخ 3 مارس/ آذار 2025، أعلن بنيامين نتنياهو أن إسرائيل تواجه حربًا على سبع جبهات، مؤكدًا أن “النصر الكامل” يظل الهدف الأسمى، متمثلًا في استعادة جميع الأسرى، وتدمير قدرات حماس العسكرية والسلطوية، وضمان ألا تشكل غزة تهديدًا مستقبليًا.

لكن هذه التصريحات، التي تبدو دفاعية في ظاهرها، تتجاوزها الأفعال في سوريا، حيث تتكشف إستراتيجية طويلة الأمد تستعير أدوات الاستعمار الكلاسيكي لفرض هيمنة شاملة، مستغلةً الفوضى لمواجهة خصومها – وعلى رأسهم تركيا- ولدفع سوريا نحو مصيرين لا ثالث لهما: حرب أهلية مديدة، أو ترويضها بالقوة العسكرية.

جذور الإستراتيجية وأدواتها الاستعمارية

منذ انهيار نظام بشار الأسد في ديسمبر/ كانون الأول 2024، كثفت إسرائيل عملياتها العسكرية في سوريا، معلنةً نيتها إقامة منطقة نفوذ تمتد ستين كيلومترًا داخل الأراضي السورية، تحت ذريعة منع انتقال ترسانة الأسلحة الثقيلة إلى فصائل مثل هيئة تحرير الشام أو حزب الله.

لكن هذا الهدف الأمني ليس سوى ستار يخفي طموحًا استعماريًا أعمق، يعتمد على أساليب تاريخية أثبتت فاعليتها في كسر إرادة الشعوب.

فإسرائيل تسعى لتقسيم الشعب السوري عبر تعزيز الانقسامات الطائفية والقبلية التي تفاقمت بعد سقوط النظام، مستلهمةً تجارب القوى الاستعمارية مثل بريطانيا في الهند، حيث فرقت بين الهندوس والمسلمين؛ لضمان استمرار سيطرتها.

كما تعمل على قطع موارده الأساسية بالسيطرة على الأراضي الزراعية، ومصادر المياه، والمواقع الإستراتيجية، لتجعل السكان في حالة اعتمادٍ دائمٍ  شبيهٍ بما فعلته فرنسا في شمال أفريقيا لإضعاف الاقتصادات المحلية.

في الوقت ذاته، تتبنى إسرائيل سياسة تجهيل ممنهجة، حيث تشوه صورة الشعب السوري أمام العالم كمجتمع فوضوي غير قادر على الحكم الذاتي، مبررةً تدخلها كـ”قوة متحضرة”، في تكرار للخطاب الاستعماري الذي استخدمته أوروبا لتبرير احتلالها الشرق الأوسط وأفريقيا في القرن التاسع عشر.

هذا التشويه يترافق مع نشر قوة عسكرية ضخمة، تشمل قواعد دائمة ونقاط تفتيش، لإخضاع المنطقة بالقوة الغاشمة، بينما تسعى لخلق عملاء محليين عبر تقديم امتيازات لأفراد أو جماعات تقبل التعاون، ليكونوا أداة نفوذها داخل المجتمع السوري، كما فعلت بريطانيا مع النخب المحلية في مستعمراتها.

تركيا كتهديد وجودي وسوريا كذريعة

ما يضيف بُعدًا معقدًا لهذه الإستراتيجية هو خوف إسرائيل من تركيا، التي برزت كقوة رئيسية في سوريا بدعمها الصريح للنظام الجديد بقيادة أحمد الشرع.

فسوريا، التي تحوَّلت إلى حلبة صراع دولي تشارك فيها قوى عظمى كالولايات المتحدة وروسيا، أصبحت بالنسبة لنتنياهو ذريعة لمواجهة طموحات أنقرة الإقليمية، التي تهدد بإعادة تشكيل المنطقة لصالحها.

تركيا، التي تعزز نفوذها عبر دعم الفصائل الموالية لها في الشمال السوري، وتسعى لفرض نموذجها السياسي والاقتصادي، يُنظر إليها في تل أبيب كتهديد وجودي قد يفوق في خطورته النفوذ الإيراني المتضعضع حاليًا.

هذا الخوف يدفع إسرائيل لتثبيت وجودها في سوريا، ليس فقط لردع حزب الله أو إيران، بل لخلق توازن قوى يحدّ من هيمنة تركيا، التي قد تستغلّ الفراغ السوري لتعزيز مكانتها كقوة إقليمية عظمى.

حرب أهلية أو ترويض: مصير سوريا المحتوم

لكن طموح إسرائيل يتجاوز المواجهة مع تركيا إلى محاولة دفع سوريا نحو مصيرَين متوقعَين، يخدمان أهدافها الإستراتيجية على المدى البعيد.

    الأول، هو إشعال حرب أهلية طويلة الأمد، على غرار ما شهده لبنان بين 1975 و1990، حيث تستمر الانقسامات الداخلية والصراعات المسلحة لسنوات، مفككةً سوريا كدولة موحدة ومبددةً قدرتها على تشكيل تهديد لإسرائيل.

هذا السيناريو يتغذَّى على الفوضى الحالية، حيث تتعمد إسرائيل تعزيز التناقضات بين الفصائل السورية – كالنظام الجديد والمعارضات المسلحة- عبر ضربات تستهدف إضعاف الجميع تحت ذريعة تبني الدروز، مما يضمن استمرار النزيف الداخلي.

    الثاني، هو ترويض سوريا عبر رفع سقف الاعتداءات العسكرية على أراضيها، بضربات جوية وبرية مكثفة تدمر بنيتها التحتية العسكرية والمدنية، وتحولها إلى كيان مشلول أو خاضع، شبيهٍ بما حاولت فرنسا فرضه على الجزائر في القرن التاسع عشر قبل أن تواجه مقاومة شعبية عنيفة.

قولًا واحدًا، يؤكد نتنياهو تصميمه على تحقيق أهدافه، مهاجمًا حتى معارضيه الداخليين بأنهم يزرعون الفتنة، ويحطمون أهداف إسرائيل الإقليمية، في محاولة لتعزيز تماسكه السياسي أمام الضغوط الداخلية والخارجية.

فالصراع الداخليّ الذي يواجهه نتنياهو قد يدفعه لتصعيد أفعاله، ليس فقط لردع التهديدات، بل لتعزيز مكانته السياسية أمام منتقديه داخل إسرائيل.

وفعلًا، قد تتجاوز إسرائيل حدود الدفاع إلى فرض منطقة عازلة في جنوب سوريا، مدعومة بعمليات عسكرية واسعة، لخلق واقع جديد يحقق أهدافها الاستعمارية.

هذا التصعيد لا يقتصر على ردع الأعداء التقليديين، بل يهدف إما لتفكيك سوريا بحرب أهلية تضمن استنزافها، أو لإخضاعها بالقوة عبر ضربات مستمرة تجعلها عاجزة عن المقاومة، في إستراتيجية تجمع بين التدمير الممنهج والسيطرة المطلقة.

السياق الدولي والمخاطر المحتملة

تتذرع إسرائيل بضعف الموقف الغربي، الذي يصفه المسؤولون الإسرائيليون بـ”العمى” تجاه النظام السوري الجديد، بينما يتجاهلون هم أنفسهم الضغوط الدولية، حيث أُبلغت واشنطن بخططهم دون انتظار موافقتها، معتمدين على القوة العسكرية كأداة أساسية في ظل تراجع الدبلوماسية.

لكن هذه الإستراتيجية قد تنقلب على صانعيها، فرغم طموح إسرائيل العالي، فهي تحمل تناقضات قد تهدد استقرار المنطقة برمتها. فإشعال حرب أهلية في سوريا قد يتجاوز حدودها ليطال لبنان والأردن، مما يخلق أزمة إقليمية أوسع، بينما محاولة ترويض سوريا بالقوة قد تثير مقاومة شعبية عنيفة، كما حدث في تجارب سابقة.

كما أن المواجهة مع تركيا، التي تمتلك طموحات إقليمية مدعومة بقوة عسكرية واقتصادية متنامية، قد تؤدي إلى تصعيد مباشر بين الطرفين، يضع إسرائيل أمام خيارات أكثر تعقيدًا مما تتصور.

خاتمة: لحظة مفصلية وتداعيات طويلة الأمد

في المحصلة، تتجاوز نوايا إسرائيل في سوريا حدود الردع إلى طموح استعماري يستغل الفوضى لفرض واقع جديد، مستعيرًا أدوات القوة والتفرقة لتحقيق أهداف مزدوجة: مواجهة النفوذ التركي كتهديد وجودي، وإما تفكيك سوريا بحرب أهلية مدمرة، أو ترويضها باعتداءات عسكرية مكثفة تحوّلها إلى كيان مشلول.

إننا أمام لحظة تاريخية تتطلب تحليلًا معمّقًا ورؤية استشرافية، فالتداعيات لن تقتصر على سوريا وحدها، بل ستمتد لتعيد صياغة التوازنات الإقليمية لعقود قادمة.

لكن السؤال الأكبر يبقى: هل تستطيع إسرائيل، بكل قوّتها العسكرية، أن تحقق الهدف الذي تسعى إليه عبر هذه الإستراتيجية، أم أنها تزرع بذور صراع أعمق قد ينقلب عليها في نهاية المطاف؟

التاريخ وحده كفيل بالإجابة، لكن المؤشرات الحالية تنذر بمستقبل مليء بالتحديات لجميع الأطراف.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

محلل سياسي وخبير في الشؤون الإسرائيلية

الجزيرة

——————————

 إيكونوميست: هل تؤسس إسرائيل لواقع عسكري دائم في غزة ولبنان وسوريا؟

ربى خدام الجامع

2025.03.05

كان من المفترض مع شروق شمس اليوم الثاني من آذار أن تبدأ المرحلة الثانية لوقف إطلاق النار في غزة حيث اعتزمت حماس وإسرائيل على إنهاء الحرب رسمياً، غير أن إسرائيل رفضت البدء بالمحادثات التي تعهدت بخوضها بهدف التوصل إلى اتفاق في شهر كانون الثاني الماضي، وطالبت بتمديد المرحلة الأولى من الهدنة التي دعت فيها إلى إطلاق سراح أكثر من 59 أسيراً ما يزالون محتجزين لدى مقاتلي حماس، إلى جانب الضغط على حماس من أجل الموافقة على الاتفاقية بعد تعديلها، ولذلك قطعت إسرائيل الإمدادات من المساعدات عن قطاع غزة الذي دمر خلال الحرب.

“مناطق عازلة” وخروقات جديدة

يعتبر تجميد اتفاقية وقف إطلاق النار جزءاً من التحول الاستراتيجي الأكبر، في وقت أخذ الجيش الإسرائيلي يسعى للاحتفاظ بوجود أوسع له على المستوى الجغرافي الذي اشتمل على أراض ليست إسرائيلية، بما أن إسرائيل شرعت بتكوين ما تعتزم أن يصبح “مناطق عازلة” غير محددة البقعة على أربع جبهات، تضم غزة، وعلى الحدود مع لبنان وسوريا، وعلى الضفة الغربية.

أتى هذا التحرك إثر الفوضى التي ظهرت في تلك الأماكن، وبسبب الصدمة المديدة التي سببها هجوم حماس في تشرين الأول من عام 2023، وبضغط من الأحزاب اليمينية ضمن الائتلاف الحاكم الذي يترأسه بنيامين نتنياهو. ويدعم ذلك التوجه الثقة الجلية التي أبداها هذا الرجل فيما يتصل بدعم إدارة ترامب له، بما أنها لم تبد أي بادرة لمحاولة كبح جماح الجيش الإسرائيلي.

بيد أن هدنة غزة ليست اتفاقية وقف إطلاق النار الوحيدة التي خرقتها إسرائيل، إذ بموجب بنود الاتفاقية التي توسطت أميركا لتوقيعها بين حزب الله الذي كان يسيطر على أجزاء من لبنان إلى أن اندلعت الحرب بينه وبين إسرائيل خلال العام المنصرم، وبين الجيش الإسرائيلي الذي كان من المفترض أن يغادر الأراضي اللبنانية بحلول أواخر شهر كانون الثاني الماضي، طالبت إسرائيل بتمديد ذلك الاتفاق إلى أن يستكمل الجيش اللبناني سيطرته على المنطقة، ولكن حتى بعد تجاوز الموعد النهائي المحدد بالثامن عشر من شهر شباط الماضي، بقيت إسرائيل تحتفظ بخمسة مواقع محصنة في الجنوب اللبناني.

تبرر إسرائيل تأجيلها بالحاجة لحماية المستوطنات الإسرائيلية القريبة من الحدود، غير أن عودة قوات حزب الله إلى الجنوب قد تشكل وبكل سهولة خطراً على تلك المستوطنات من جديد، ولهذا أعلنت الحكومة الإسرائيلية أن جيشها سوف يخلي المواقع بمجرد تأكده من قدرة الجيش اللبناني على تأمين الحدود وإبعاد حزب الله (ولم يتضح بعد ما إذا كان الجيش اللبناني قادراً على الاضطلاع بتلك المهمة أم لا)، لكن إسرائيل لم تحدد أي موعد أو شروط واضحة للتأكد من تحقيق ذلك.

وفي الزاوية الواقعة في أقصى الشرق، عند مرتفعات الجولان، انهارت اتفاقية وقف إطلاق النار التي أبرمتها إسرائيل مع سوريا، فقد وقعت تلك الاتفاقية مع نظام حافظ الأسد في عام 1974، وعندما أسقطت قوات المعارضة السورية ابنه بشار في شهر كانون الأول الماضي، قطعت القوات الإسرائيلية حدود الجولان واحتلت أراضي سورية، والتبرير الأساسي لإسرائيل بالنسبة لذلك هو عدم وجود قوات معترف بها تحمي الحدود، ومنذ ذلك الحين، شكلت هيئة تحرير الشام حكومة في دمشق، لكنها لم تسيطر بشكل كامل على البلد ولهذا ما تزال جماعات مسلحة منافسة لها تنشط في سوريا.

كان ذلك أحد الأسباب التي دفعت الجيش الإسرائيلي للبدء في بناء مواقع عسكرية دائمة في سوريا، إذ في الثالث والعشرين من شباط الماضي أعلن نتنياهو أن إسرائيل: “لن تسمح لقوات هيئة تحرير الشام أو للجيش السوري الجديد بدخول المنطقة الواقعة جنوبي دمشق”، وطالب بعملية “نزع سلاح كامل لقوات النظام الجديد وذلك في الجنوب السوري ضمن محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء”.

وأخيراً، لم تلتزم القوات الإسرائيلية بالاتفاقيات القديمة في مدينتي جنين وطولكرم الفلسطينيتين في الضفة الغربية، حيث أجبر نحو أربعين ألفاً من المدنيين على الرحيل عن بيوتهم بسبب استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد الجماعات المسلحة الموجودة هناك، وتعتبر المدينتان جزءاً من (المنطقة أ) التي تخضع لسيطرة السلطة الفلسطينية بموجب اتفاق أوسلو الثاني الموقع في عام 1995. وفي 29 كانون الثاني، قال وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس إنه: “بعد استكمال العملية، ستبقى القوات الإسرائيلية في المخيم لضمان عدم عودة الإرهاب”.

“استراتيجية مختلفة لإدارة المخاطر”

أعلن مسؤولون أمنيون إسرائيليون أن الأحداث التي حصلت خلال السنة والنصف الماضية تقريباً تشير إلى أن البلد تبنى ما يسمى بـ “استراتيجية مختلفة لإدارة المخاطر”، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن ما ستقوم به إسرائيل لن يعتمد على تقييم استخباراتها لما يخطط أعداؤها القيام به على المدى القريب، بل على ما لديهم من إمكانات، أما حالياً، فإن توسع سيطرة ونفوذ الجيش الإسرائيلي قد يكون دائماً، مع تجنب أي انتقاد عنيف ضد ذلك. ومع تراجع حزب الله وحماس بعد الحملات الإسرائيلية المدمرة على غزة ولبنان، اختلفت أولويات حكومة هيئة تحرير الشام في دمشق وهي تحاول أن تتجنب انهيار الاقتصاد في سوريا، وسقوط البلد في حالة في الفوضى العارمة أو الحرب الأهلية.

خطر الحرب لم يختف بعد

بيد أن مصدر القلق المباشر يكمن في غزة، إذ قد لا تكون لحماس مصلحة كبيرة في استمرار الحرب في أثناء استعادتها للسيطرة المدنية على الشريط الساحلي مع إعادة بناء قوتها القتالية التي تعرضت لضربة شديدة، ولكن في حال استمرت تلك الجماعة على رفضها لتغيير بنود الاتفاقية، فإن إسرائيل ستعد العدة لهجوم عسكري كبير وهائل على غزة، ولهذا صرح الضباط الإسرائيليون أن ذلك قد يمهد السبيل أمام تلك الخطة التي كان دونالد ترامب أول من أعلن عنها، والتي تقضي بإخراج سكان غزة وبناء منطقة “ريفيرا” في الشرق الأوسط. ومن غير المتوقع أن يتخذ أي قرار بهذا الشأن إلى أن يعود مبعوث ترامب، أي ستيف ويتكوف، إلى المنطقة سعياً لعقد اتفاقية جديدة. بيد أن خطر اشتعال الحرب من جديد يلوح في الأفق.

وهنالك أيضاً تكاليف ستدفع على المدى البعيد، إذ في جنوبي لبنان، برر استمرار الوجود الإسرائيلي لحزب الله الاحتفاظ بإمكاناته العسكرية على الرغم من الضغط الذي مارسته الحكومة اللبنانية الجديدة والشارع اللبناني على هذا الحزب حتى ينزع سلاحه. أما بالنسبة لإسرائيل، فإن عبء الاحتفاظ بتوسع الوجود الإسرائيلي سيصبح أكبر بكثير، سواء على الصعيد المالي وكذلك على صعيد الاحتفاظ بمستويات التعبئة عالية بين صفوف جنود الاحتياط، بما أن معظمهم بدؤوا في الفترة الرابعة من خدمتهم طويلة الأمد وذلك منذ بدء الحرب على غزة، وكل ذلك يتوقف على استمرار الدعم من إدارة ترامب التي تتسم بالتقلب والتلون الذي أساء إلى سمعتها.

هذا ويمكن لتوسع النفوذ العسكري الإسرائيلي أن يهدد سلسلة من الفرص الفريدة التي تلوح أمام إسرائيل، إذ منذ أن وقعت إسرائيل أول معاهدة لها مع دولة عربية، ألا وهي مصر، في عام 1978، وهي تعمل على خلق حالة توازن بين حالة الردع العسكرية والمناورة الدبلوماسية، بيد أن تلك المعاهدة ومعاهدة أخرى غيرها وقعتها إسرائيل مع الأردن، صمدتا على الرغم من الأحداث التي عصفت بالمنطقة، والحكومتان الجديدتان في سوريا ولبنان تحرصان كل الحرص على التعامل مع الغرب وإثبات أن كلاً منهما لم تعد ملجأ لأذرع إيران، غير أن استمرار احتلال أراضيهما قد لا يكون خير بداية لتحسين العلاقات.

المصدر: The Economist

تلفزيون سوريا

————————

ماذا يريد قادة “الكيان الصهيوني” من سوريا؟/ مصطفى إبراهيم المصطفى

2025.03.06

رغم أن ما أنجزته عملية “ردع العدوان” جلب الفرحة للغالبية العظمى من السوريين، إلا أن قيادة هيئة تحرير الشام لهذه العملية أربك البعض من الذين لديهم موقف من الهيئة وقائدها (الرئيس الحالي لسوريا)، وهكذا اتفق أغلب هؤلاء مع المذهولين من أتباع النظام البائد على أن عملية التحرير لم تكن سوى عملية استلام وتسليم تنفيذا لتوافق دولي وإقليمي؛ وللكيان الصهيوني فيه اليد الطولى.

وفي تفسير الضربات الأولى التي نفذها سلاح الجو التابع للكيان الصهيوني قال مؤيدو النظام المخلوع إن هذا أحد بنود الاتفاق. ولكن ماذا عن كل هذا التمادي الصهيوني الذي ينم عن إرباك وتخبط واضحين؟

من غير قصد تسبب الكيان بإسقاط النظام المخلوع

في آخر ما أدلى به “نتنياهو”: إن عملية “البيجر” أدت إلى سقوط النظام السوري، قالها بطريقة تحمل في ثناياها شيئا من الأسف، فالكيان الصهيوني خلال الضربات التي نفذها في سوريا أثناء وجود النظام البائد لم يستهدف سوى الميليشيات الإيرانية، ولم توجه ضربة واحدة لقوات النظام البائد، باستثناء بعض الضربات التي وجهت لمطاري دمشق وحلب بهدف منع إيران من استخدام هذين المطارين في عملية الإمداد اللوجستي ونقل الأسلحة.

كما أن المسؤولين الصهاينة كانوا شديدي الوضوح في تصريحاتهم بأنهم كانوا يستهدفون الوجود الإيراني في سوريا، ولعلهم في هذا السلوك كانوا يقدمون خدمة جليلة للنظام السوري الذي أصبح يشعر – في الآونة الأخيرة – بالضيق من وجود هذه الميليشيات على الأراضي السورية، خاصة أن كل الأبواب التي فتحت له اشترطت عليه تحجيم النفوذ الإيراني. وعندما نعلم أن النظام البائد لم يكن يمتلك الجرأة لكي يطلب من نظام الملالي سحب ميليشياته من الأراضي السورية نستطيع أن نكتشف حجم الخدمة التي كان يقدمها الكيان الصهيوني للنظام البائد.

الخوف والتوجس أهم دوافع الصهاينة

منذ نشأته الأولى وجد الكيان الصهيوني نفسه في بقعة صغيرة من الأرض محاصرة من كل الجهات بشعوب معادية حتى النخاع، وهذا الواقع الجيوسياسي صبغ السياسة الصهيونية بمزيد من الخوف والتوجس، وهكذا بعد أن جاور الصهاينة نظاما فهموا أدق تفاصيله، وخاصة أن كل سياساته تتمحور حول هدف واحد هو الحفاظ على السلطة؛ وجدوا أنفسهم فجأة في مواجهة نظام جديد أثار في نفوسهم الشك والريبة، واعتبارا من اليوم الأول اختاروا التصعيد نتيجة شعورهم أن التصعيد يحقق لهم ميزات معينة، متسلحين باعتقاد فحواه: أن الطرف الآخر لن يخاطر بتصعيد الموقف. وعلاوة على التوجس من القادم الجديد يعتقد البعض أن ضغط الرأي العام في البيئة التي تعمل فيها حكومة نتنياهو تجبرها على تصعيد الموقف حتى وإن لم توجد الأسباب الموجبة، بينما يعتقد البعض الآخر أن التصعيد الصهيوني جاء كنتيجة للضغط الواقع تحته من طرف ثالث خارج دائرة الصراع، والمقصود هنا تركيا.

استغلال صهيوني لضعف الإدارة السورية الجديدة

تعددت الأسباب والنتيجة واحدة: عدوان مستمر وتصريحات استفزازية. ولكن ما يميز التصريحات للمسؤولين الصهاينة هو التخبط والارتباك، فهم في البداية من أجل انسحابهم من المناطق التي دخلتها قواتهم في الجنوب السوري طالبوا بضمانات تركية في خطوة تبدو أشبه بالاعتراف بالنفوذ التركي في سوريا، ثم ما لبثوا أن التجؤوا لخطوات استفزازية وكأنهم يريدون إيصال رسالة للحكومة السورية الجديدة بأن تركيا غير قادرة على حمايتكم، وللحكومة التركية أنه في سوريا لنا الكلمة الفصل وليس لكم، ثم قيل إن الصهاينة التجؤوا إلى موسكو وإلى واشنطن للتوسط من أجل إبقاء سوريا تحت النفوذ الروسي. وفي مجمل الأحوال يبدو أن الكيان الصهيوني يستغل ضعف الحكومة السورية الجديدة التي استلمت بلدا محطما أسوأ استغلال، فهم – على ما يبدو – ينتظرون دخول الوسطاء من أجل التوصل لتفاهمات واتفاقيات تكون نتيجتها الحتمية تقييد الحكومة السورية بقيود تشبه تلك التي وضعت على مصر على إثر اتفاق “كامب ديفيد”. لا قوات عسكرية في سيناء، ولا قوات عسكرية في الجنوب السوري.

الدولة العازلة خيار مطروح

الأخطر من ذلك أن الكيان الصهيوني يبدو أنه يلوح بخيار الدولة العازلة فيما لو فشل في تحجيم النفوذ التركي في سوريا، وفكرة الدولة العازلة ليست من وحي الخيال ففكرة العزل قديمة جدا ظهرت مع توسع القبائل البدائية وازدياد الصراع فيما بينها، حيث لجأت الكثير من هذه القبائل إلى ترك بعض الأراضي فارغة لمنع الاحتكاك المباشر فيما بينها، أما مصطلح الدولة العازلة فقد أطلق لأول مرة على أفغانستان عام 1883 حيث قامت بهذا الدور بين كل من الإمبراطورية البريطانية وروسيا القيصرية. وبالعموم يشير مفهوم الدولة العازلة إلى دولة ضعيفة صغيرة الحجم ليس لها سياسة خارجية خاصة بها، تتمركز بين دولتين قويتين أو أكثر وظيفتها منع النزاعات أو العدوان بين هذه الدول. بمعنى آخر؛ يبدو أن توغل القوات الصهيونية في الجنوب السوري ليس مجرد احتياطات أمنية مؤقتة كما ادعى المسؤولون الصهاينة، فمغازلة بعض المكونات الاجتماعية في تلك المناطق يشي بما هو أخطر من ذلك. أي لربما إن سارت الأحداث وفق نسق معين قد يلجأ الصهاينة لإنشاء دولة صغيرة في الجنوب تكون بمثابة الدولة العازلة بين سوريا الواقعة تحت النفوذ التركي وبين الكيان الصهيوني.

أخيرا، لا بد من التأكيد أن انهيار الدولة السورية الجديدة مازال يعتبر خطا أحمر لن يسمح بتجاوزه، وأن ما يحصل بمجمله لا يعدو عن كونه ضغوطا من أجل تشكيل الدولة الجديدة بشكل يتواءم مع رؤية القوى الدولية والإقليمية، فكما قلنا في مقال سابق: لا يمكن للسياسيين أن يفعلوا ببساطة ما تريده شعوبهم، أو حتى ما يريدوه هم أنفسهم إذا ما واجهت رغباتهم ضغطا دوليا قويا.

تلفزيون سوريا

————————–

تصاعد التنافس على سورية: لاعبون متعددون بأهداف مختلفة/ محمد أمين

07 مارس 2025

يشتدّ التنافس كما تؤكد الوقائع بين إسرائيل وتركيا وروسيا على فرض النفوذ بكل أبعاده في سورية التي خرجت منهكة من صراع امتد لنحو 14 عاماً، وفي مواجهة تحديات اقتصادية وسياسية وأمنية جمّة تُغري القوى الإقليمية للتدخل، لأسباب شتّى. وخرجت روسيا بعد سقوط حليفها بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي خالية الوفاض، حين كانت بحسب أغلب المراقبين للشأن السوري أكبر الخاسرين استراتيجياً، بعدما دعمته على مدى نحو تسع سنوات بكل السبل ليكون ضمانة لمصالحها في شرق المتوسط. وتحاول روسيا اليوم ترميم هذه الخسارة، من خلال التقرب من الإدارة الجديدة في دمشق، وعرض ضخ استثمارات كبيرة مقابل اتفاق جديد يُبقي على نفوذها العسكري في شرق البحر المتوسط، في قاعدتي حميميم وطرطوس. وبحسب تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، فان موسكو تحاول ترسيخ علاقتها مع الإدارة الجديدة في سورية، مستغلة التردد الأميركي الواضح في بلورة رؤية للتعاطي مع هذه الإدارة، التي تريد دعماً اقتصادياً واسع النطاق لمواجهة التدهور الاقتصادي الذي ورثته عن نظام الأسد.

النفوذ الروسي في سورية

يبدو أن موسكو تعرض استثمارات بمليارات الدولارات، وإمكانية تقديم اعتذار روسي للشعب السوري عن القصف الذي أدى إلى مقتل آلاف السوريين وأدى إلى تدمير جانب كبير من مرافقهم الحيوية. وفي خطوة تدل على حرص الروس على تقوية أواصر العلاقة مع دمشق في ظل الإدارة الجديدة، وإكسابها زخماً، تسلم المصرف المركزي السوري أمس الأول الأربعاء شحنة جديدة من العملة المحلية المطبوعة في روسيا. وهذه الأموال التي وصلت إلى دمشق من روسيا دفعة من اتفاق سابق أبرمه النظام المخلوع، لطباعة الليرة في موسكو. وكثرت المؤشرات في الآونة الأخيرة التي تدل على أن موسكو جاهزة لدفع ثمن بقاء نفوذها في سورية، بدءاً من اتصال الرئيس فلاديمير بوتين بالرئيس السوري أحمد الشرع، وزيارة أكثر من وفد روسي رفيع المستوى دمشق. بيد أن المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، قال في تصريحات صحافية الثلاثاء الماضي، إن بوتين لا يخطط حتى الآن للقاء الشرع. وعلى الرغم من أن الغرب ربط استمرار دعمه للإدارة الجديدة بتقليص النفوذ الروسي في سورية، إلا أن دمشق كما يبدو تسعى لعلاقات متوازنة مع الأطراف كافة لمواجهة التحديات الكثيرة، والتوصل لاتفاقيات جديدة مع الجانب الروسي مقابل دعم دبلوماسي واقتصادي وتعويضات عن الدمار الذي خلفته روسيا في سورية، وربما عسكري لجهة تسليح الجيش السوري الجديد، تحديداً بمنظومات الدفاع الجوي. ومن الواضح أن الإدارة الجديدة لا تربط التفاوض مع موسكو بتسليم بشار الأسد والذي منحه بوتين اللجوء، فمن المستعبد أن تعمد موسكو إلى تسليمه حالياً، إلا أن هذه الإدارة تطالب بأموال سورية يُعتقد أن الأسد أودعها في المصارف الروسية على مدى أعوام، وتطالب بإسقاط ديون روسية تراكمت خلال فترة الأسد.

ورجّح المحلل السياسي المختص بالشأن الروسي طه عبد الواحد، في حديث مع “العربي الجديد”، أن تنجح روسيا في إبرام اتفاقيات جديدة مع سورية بما يخص وجودها العسكري، مضيفاً: يبدو أن الرغبة مشتركة لدى موسكو ودمشق في بقاء الدور الروسي في سورية. وأعرب عن اعتقاده بأن المخاوف الإسرائيلية من النفوذ التركي في سورية “تصب لصالح بقاء الروس”، مضيفاً: تل أبيب تسعى إلى إبعاد الأتراك عن سورية من خلال الروس. وتابع: “هناك ثقة إسرائيلية بالجانب الروسي الذي لعب دوراً في ضبط الحدود السورية مع الكيان الصهيوني في الأشهر التي سبقت سقوط نظام الأسد. ربما يعود الروس إلى الجنوب السوري لتبديد مخاوف الكيان، إلا إذا كان يختلق هذه المخاوف للتوسع أكثر في الأراضي السورية”. وبرأي عبد الواحد، فإن روسيا “لن تقبل مبدأ دفع تعويضات لسورية”، مضيفاً: ربما تقدم مساعدات ولكن ليس تحت عنوان “تعويضات”.

طموح تركي

في مقابل الطموح الروسي بالمحافظة على العلاقات التاريخية التي تربط روسيا بسورية، بل وتعزيزها، يبرز طموح تركي في استثمار الدعم الكبير الذي قدّمته أنقرة لمعارضي الأسد وصولاً إلى تسلّمهم السلطة في دمشق في الثامن من ديسمبر الماضي، لفرض نفوذ متعدد الجوانب في سورية. ويبدو أن الجانب التركي يرى نفسه الأجدر بملء الفراغ الذي تركه سقوط نظام الأسد، لا سيما أن مخاوف أنقرة لم تتبدد مع سقوطه، فالخطر لا يزال ماثلاً على أمنها القومي مع بقاء “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) سلطة أمر واقع في شمال شرق سورية، تحظى بدعم أميركي وغربي كبير، ويقف حائلاً حتى الآن دون فرض سلطة الدولة السورية على نحو ثلث مساحة البلاد. وكان الجانب التركي داعماً كبيراً لفصائل المعارضة السورية التي أسقطت نظام الأسد، لذا من المرجح أن تعتمد هذه الفصائل التي شكلت السلطة الجديدة في البلاد على أنقرة في مجالات متعددة، خصوصاً الجانب العسكري لمواجهة الخطر الإسرائيلي المتزايد. واقتصادياً تريد أنقرة سورية سوقاً استهلاكياً كبيراً للمنتوجات التركية، فضلاً عن رغبتها في الحصول على القسم الأكبر من “كعكة” إعادة الإعمار للشركات التركية.

ورأى المحلل السياسي التركي هشام جوناي، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “تراجع النفوذين الإيراني والروسي في سورية خلّف خللاً وفراغاً”، مضيفاً: تركيا وقوى أخرى تريد ملء الفراغ بما يقطع الطريق أمام ظهور تنظيمات تهدد أمن المنطقة. وتابع: تركيا دولة مجاورة لسورية، ومن ثم ما يحدث في سورية يؤثر بشكل مباشر على الداخل التركي، لذا فإن التدخّل التركي طبيعي جداً. أنقرة حريصة على أمنها القومي. وأشار إلى أن “لا حدود جغرافية لروسيا وإيران وأوروبا مع سورية وإسرائيل دولة محتلة لأراض سورية”، مضيفاً: “الحديث عن التدخّل الإسرائيلي في سورية مختلف تماماً عن التدخّل التركي. الوجود التركي في سورية يساعد على استقرار وبناء الدولة لعودة ملايين اللاجئين السوريين في تركيا إلى بلادهم”. وبرأي جوناي هناك مصالح اقتصادية لتركيا في سورية، ولكن “الملف الأمني يأخذ حيّز الصدارة في الاهتمام التركي”، مضيفاً أن سورية مهمة فهي بوابة تركيا للعالم العربي، لذا اهتمام تركيا مفهوم، وهو لا يعتبر تدخلاً في شأن داخلي.

ولا يقتصر التنافس على النفوذ في سورية على الجانبين الروسي والتركي، فقد برز سعي حثيث من قبل الجانب الإسرائيلي لخلط الأوراق بل وبعثرتها في الجنوب السوري، وفي مناطق أخرى من خلال محاولة استغلال هواجس ظهرت بُعيد سقوط الأسد لدى بعض الأطراف في سورية. ويدل التغوّل والتوغّل الإسرائيلي في جنوب سورية على نيات فرض نفوذ وخلق واقع جديد يسمح لتل أبيب بالدخول في المعادلة السورية، تحسباً لمواجهة محتملة مع الجانب التركي، خصوصاً في ظل حديث عن دور تركي عسكري محتمل لمساعدة الإدارة السورية الجديدة في تشكيل جيش وتسليحه ليكون قادراً على الدفاع عن البلاد. ولا تواجه سورية تهديداً وخطراً عسكرياً واضحاً حالياً إلا القادم من الجانب الإسرائيلي، الساعي إلى إبقاء سورية دولة ضعيفة غير قادرة على الوقوف في وجه الأطماع الإسرائيلية ومحاولات تل أبيب تقسيم سورية.

إسرائيل وتركيا

في هذا الصدد، رأى المحلل السياسي فراس رضوان أوغلو، في حديث مع “العربي الجديد”، أن إسرائيل “هي المنافس البارز لتركيا في سورية”، مضيفاً: “التدخّل الإسرائيلي في سورية يتعارض تماماً مع المصالح التركية، وهذا من شأنه خلق صراع كبير بين أنقرة وتل أبيب في سورية”. وأعرب عن اعتقاده أن القوى الفاعلة اليوم في سورية هي “تركيا وقطر والسعودية”، مضيفاً: تأتي إسرائيل من الخلف لممارسة العبث والتشويش على هذه القوى. وفي الشمال الشرقي من سورية، تبقى الولايات المتحدة حاضرة بقوة من خلال قواعدها المنتشرة في ريفي الحسكة ودير الزور، فضلاً عن قاعدة التنف في المثلث الحدودي السوري الأردني العراقي. ولكن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم تتطرق حتى الآن للأوضاع الجديدة في سورية، ولم يتضح موقفها حيال الانسحاب أو عدمه من الشمال الشرقي، غير أن أي انسحاب أميركي من سورية يعزز أكثر من النفوذين التركي والروسي في سورية، التي باتت اليوم ميدان تنافس واسع على النفوذ الإقليمي والدولي، في ظل غياب دور عربي فاعل.

———————-

نصْلُ الاحتلال الإسرائيلي بالجسدين اللبناني والسوري: منع نهوض الدولة/ منير الربيع

الجمعة 2025/03/07

أصبح من المؤكد أن إسرائيل لا تريد الانسحاب من النقاط التي لا تزال تحتلها في جنوب لبنان، بالمدى المنظور. يعتمد الإسرائيليون أسلوب التسريبات الكثيرة حول حصولهم على ضمانات أميركية للبقاء. يقولون إن سبب عدم انسحابهم يتصل بعدم التزام لبنان بتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار، وبسبب عدم انتشار الجيش اللبناني بشكل كامل في الجنوب وسيطرته على كل مواقع ومناطق حزب الله. كما يواصل الإسرائيليون عمليات الاغتيال والاستهداف، وآخرها اغتيال قيادي في فرقة الرضوان يوم الثلاثاء في بلدة رشكنانيه، وهم يريدون القول من وراء ذلك إن عناصر وكوادر الحزب ما زالوا يتحركون في الجنوب، ويتخذون من ذلك ذريعة للبقاء. ولكن عملياً تبقى الأهداف الإسرائيلية لهذا البقاء والانتشار أبعد من المسألة العسكرية أو الأمنية-التقنية، أو مواجهة الحزب، لتشتمل على أهداف سياسية.

توسع في الاحتلال

لم توافق إسرائيل على كل المقترحات التي جرى تقديمها سابقاً حول انتشار الجيش اللبناني في النقاط التي تسيطر عليها هي، كما لم توافق على انتشار قوات اليونيفيل ولا حتى الكتيبة الفرنسية من ضمن هذه القوات، وتتمسك بنشر جنودها حصراً، وسط معلومات ميدانية تفيد بأن الإسرائيليين لا يكتفون فقط بالانتشار في النقاط الخمسة، بل هناك نية لتوسيع انتشارهم وتمركزهم في 7 نقاط، بالإضافة إلى السيطرة على طرقات عديدة مؤدية إلى هذه النقاط. وهو ما تستغله إسرائيل لخلق منطقة عازلة في جنوب لبنان بعمق يتراوح ما بين 1 إلى 2 كلم. وفي الأيام الماضية واصلت القوات الإسرائيلية العمل على بناء التحصينات العسكرية في النقاط التي تواصل الانتشار فيها، وسط مخاوف لبنانية من توسيع هذه النقاط أكثر في المرحلة المقبلة.

لا يرتبط المشروع الإسرائيلي في جنوب لبنان بالمعنى الميداني فقط، ولا بوضع الجنوب اللبناني حصراً، بل وبالنظر إلى الخريطة الواسعة، فإن ما تقوم به تل أبيب في لبنان، تقوم بما يماثله ويقابله في سوريا، خصوصاً من خلال عمليات التوغل المستمرة والقضم البطيء لمناطق عدة في الجنوب السوري. هذا التقدم الذي يتواصل وسط مخاوف من أن يصبح على مشارف دمشق. وهذا له أكثر من هدف. فأولاً، جاهر الإسرائيليون بأنهم يريدون “حماية الأقليات” في سوريا، وتحديداً الدروز، وهم يعملون على تقديم إغراءات كثيرة في العمل لتسجيل خروقات في صفوف البيئة الدرزية، وهم على تنسيق مع “المجلس العسكري” في السويداء، وقد عملوا على إمداد هذا الفصيل بالأسلحة والأموال.

نحو الحدود العراقية

تسعى إسرائيل من وراء ذلك إلى إقامة منطقة عازلة في الجنوب السوري، وإقامة سد منيع يشكله الدروز ضد “الإدارة السورية الجديدة”، التي يعلن المسؤولون الإسرائيليون إنهم لا يثقون بها. ثانياً، يجاهر الإسرائيليون بعلاقاتهم مع بعض القوى الكردية، وفي أنهم يريدون توفير الحماية والدعم والمساعدة لها، ليبدو المشروع وكأنه محاولات إسرائيلية لإضعاف السلطة المركزية في سوريا، وعدم السماح للإدارة الجديدة من أن تكون هي صاحبة السيطرة على كامل الجغرافيا السورية. ثالثاً، في حال نجح الإسرائيليون بتثبيت نفوذهم في الجنوب السوري، ومن خلال التعاون مع فصائل كثيرة درزية أو غير درزية، سيسعون للوصول إلى الحدود العراقية السورية عبر البادية، وهي منطقة صحراوية شبه خالية، وبذلك يكونون قد حققوا صلة اتصال مباشر وخط مفتوح مع المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في شمال شرق سوريا.

تتعدد الأهداف الإسرائيلية من وراء هذا المشروع. فأولاً تريد إسرائيل تشكيل عناصر ضغط كبيرة على الإدارة السورية لدفعها إلى معاهدة سلام، أو أن الضغط العسكري سيستمر. كذلك في حال لم تحقق ما تريده، فهي ستعمل على تغذية الصراعات القومية أو الدينية من خلال دعم مجموعات متعددة، لا سيما الدروز والأكراد، لإقامة كيانات ذاتية أو إرساء “فيدرالية” في سوريا، تضعف الدولة المركزية، وتكون إسرائيل هي صاحبة القوة الأساسية في المنطقة. رابعاً، تهدف إسرائيل إلى قطع طريق الإمداد بين العراق وسوريا، وبين سوريا ولبنان، في إطار مساعيها لمواجهة النفوذ الإيراني ومنع حلفاء إيران من إعادة تشكيل قوتهم.

أبعد من “الهدنة”

أمام هذا المشهد، لا بد من العودة إلى مراقبة التطورات الإسرائيلية في الجنوبين السوري واللبناني. فبالتزامن مع التقدم في جنوب سوريا، عمل الإسرائيليون في الأيام الماضية على فتح طرقات جديدة في قرى القطاع الشرقي في جنوب لبنان، ووصلها مع بعض مناطق السيطرة الإسرائيلية في مزارع شبعا، بالإضافة إلى شق طرقات في مزراع شبعا ووصلها مع المناطق التي تقدم إليها الإسرائيليون في جنوب سوريا. وقد أصبحت هذه المناطق ما بين جنوب لبنان وجنوب سوريا متصلة ببعضها البعض بفعل السيطرة الإسرائيلية.

كما تريد إسرائيل فرض شروط سياسية على سوريا، كذلك تريد في لبنان، إما لدفعه إلى تقديم تنازلات سياسية والذهاب إلى اتفاق أبعد من اتفاق الهدنة، وإما من أجل فرض أمر واقع عسكري وسياسي، يمنع حزب الله من إعادة تكوين نفسه، ويمنع إعادة الإعمار وإعادة سكان قرى عديدة على طول الشريط الحدودي، وتصنيفها منطقة عازلة، ولفرض أمر واقع جديد لاحقاً، يتصل بتوسيع صلاحيات قوات اليونيفيل أو فرض انتشارها تحت الفصل السابع، بحيث يصبح عمل قوات اليونيفيل إلزامياً وبلا أي تنسيق مع الجيش اللبناني. وما سيضغط به الإسرائيليون لاحقاً هو أن الصيغة الحالية المعتمدة من قبل قوات اليونيفيل لا تبدو ناجعة، ولا بد من وقف تمويل هذه القوات أو تغيير آلية عملها، أو أن الخيار الثالث سيكون بقاء إسرائيل في تلك النقاط واستمرار سيطرتها بالنار على مختلف قرى الجنوب، بالإضافة إلى مواصلة عمليات الاستهداف والاغتيال.

المدن

—————————————–

إسرائيل تستخدم ورقة الدروز في مفاوضاتها مع الإدارة السورية

الجمعة 2025/03/07

علمت “المدن” من مصادر ديبلوماسية إقليمية، أن إسرائيل ترسل رسائل للإدارة السورية الجديدة تلمح فيها إلى رغبتها بالانفتاح عليها، والتخلي عن فكرة استخدام ورقة الدروز.

وحسب المصدر المطلع، فإن إسرائيل تشعر بالتهديد نتيجة التغيير السياسي الذي حصل في سوريا بشكل مفاجئ. ولذا، اتجهت لتفعيل الاتصالات مع قوات سوريا الديمقراطية شمال شرق سوريا، وإطلاق يد رئيس المحكمة الدرزية موفق طريف، للتواصل مع بعض الأطراف في محافظة السويداء، بهدف إثارة القلاقل للإدارة الجديدة.

ووفقاً للمصدر، فإن تل أبيب، وبالتزامن مع حديثها عن تقديم الحماية للدروز، بعثت بالفعل رسائل إلى دمشق، أشارت فيها إلى إمكانية التفاهم حول الملفات الأمنية التي تشكل هاجساً لإسرائيل، وعلى رأسها منع نشاط الفصائل المدعومة من إيران مجدداً على الحدود مع هضبة الجولان، بالإضافة إلى عدم إنشاء تركيا لقواعد عسكرية في الجنوب السوري كما يشاع.

وأشارت المصادر إلى أن تل أبيب منفتحة على الانتقال من مرحلة التفاوض عبر الوسطاء إلى اللقاءات مع الإدارة الجديدة، مما يعني أن تلويحها بورقة حماية الدروز يأتي في سياق الخيار البديل في حال لم تصل إلى توافقات أمنية مع دمشق.

وبالتوازي مع التصريحات الإسرائيلية، التي ترفض وجود قوات تتبع لحكومة دمشق في الجنوب السوري، ظهرت تشكيلات عسكرية جديدة في محافظة السويداء، أبرزها “المجلس العسكري”، ثم تبعه بعد أيام الإعلان عن المجلس العسكري لتحرير سوريا، بقيادة ضابط سابق في جيش نظام الأسد يدعى غياث دلة.

وتشترك قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مع المجالس العسكرية المعلن عنها حديثاً في التنسيق الذي تصاعد بعد الهجمات الموسعة التي نفذها الطيران الإسرائيلي على جنوب سوريا ودمشق آواخر شباط/ فبراير الماضي، ومطالبة حكومة نتنياهو للقوات التابعة لوزارة الدفاع السورية بالانسحاب من الجنوب.

——————————

إسرائيل تُواصل هجمتها الشاملة: تفكيك سوريا أولوية/ يحيى دبوق

الجمعة 7 آذار 2025

تواصل إسرائيل تنفيذ إستراتيجيتها المتعدّدة الأبعاد في سوريا، والتي تهدف إلى إعادة هيكلة الدولة السورية ككيان فدرالي مُفكَّك، يكون جنوبه منطقة نفوذ إسرائيلي دائم. ورغم «الإشارات الودية» التي بعثت بها القيادة السورية الجديدة إلى إسرائيل (وإنْ تبدّلت لاحقاً)، فإن الأخيرة لم تتراجع عن مخطّطها العسكري والاقتصادي والسياسي – الفتنوي في سوريا، وخصوصاً أن التنسيق مع الجانب الأميركي قائم. وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ووزير خارجيته جدعون ساعر، أكدا، في مواقف علنية، أن الإستراتيجية الجديدة تتجاوز البُعد الأمني التقليدي (كمنع التهديدات وحماية الحدود الشمالية)، إلى محاولة تحقيق مكاسب جيوسياسية دائمة.

ولفت ما قاله ساعر أمام مؤتمر وزاري في بروكسل (24 شباط الماضي)، من أن «سوريا المستقرّة لا يمكن إلّا أن تكون سوريا فدرالية تضمّ كيانات ذات استقلالية»، إذ يجري العمل على ترجمة هذه المواقف عمليّاً في الجنوب السوري، في اتجاه تأسيس «دويلة» تُدار عبر أدوات إسرائيل المحلّية.

أمّا نتنياهو، فقد رسم حدود مشروعه عبر خطاب يتسترّ بـ«حماية الدروز»، قائلاً: «لن نسمح لقوات هيئة تحرير الشام أو الجيش السوري الجديد بدخول المنطقة الواقعة جنوب دمشق»، مطالباً بـ«نزع السلاح كليّاً من محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء». وتكشف تلك التحذيرات الموجّهة إلى النظام السوري الجديد، والذي جرت مخاطبته بهويته العقائدية، أي «هيئة تحرير الشام»، عن توجُّس يمكن أن يدفع إسرائيل إلى التعامل مع واقع مختلف قد يتشكّل مستقبلاً، ما يوجب العمل من الآن على الحدّ من نجاحه، وعدم الركون إلى النيّات المعلنة للحكّام الجدد.

وعلى هذه الخلفية، تسعى إسرائيل إلى تكريس نفوذها جنوباً، فيما تدفع الأكراد شمالاً إلى تأسيس كيان مواز من شأنه أيضاً أن يغري أقليّات أخرى بالانفصال والفدرلة. وهي تعمل، في الوقت ذاته، على إبقاء روسيا في المشهد، عبر الحفاظ على قاعدتَيها العسكريتَين في طرطوس وحميميم لموازنة النفوذ التركي – وهو ما طلبته فعليّاً من موسكو -، كما تُصرّ على منْع تعاظم سلطة المركز في دمشق، من طريق الحدّ من سيطرته على بقيّة الفصائل المنضوية أو غير المنضوية بشكل كامل تحت سلطته.

مع ذلك، ثمة وجهان لهذه العملة؛ إذ فيما تعتبر إسرائيل أن النظام السوري الجديد يمثّل فرصة لتحقيق أطماعها، فهي تتعامل معه بحذر، كونها تريد إضعافه بما يكفي لمنعه من إعاقة مخطّطاتها، لكن من دون أن يفقد قدرته على صدّ النفوذ الإيراني، أو منع تحويل سوريا مجدّداً إلى «ممرّ» لدعم «حزب الله» في لبنان. ورغم تلك الطموحات الكبيرة، فإن تحدّيات كثيرة تبقى ماثلة أمام إسرائيل، على رأسها أن الساحة السورية تشهد صراعاً بين لاعبين دوليين وقوى إقليمية قد تُعطّل خططها.

كما أن الداخل السوري، بتركيبته المعقّدة و«عقيدة» الفاعلين والحكّام الجدد فيه، يُحتمل أن تتحوّل معه التهديدات الإسرائيلية إلى مقاومة شعبية، خاصة إذا تجاوزت تل أبيب الخطوط الحمراء وذهبت بعيداً في تدخّلها. وعلى أي حال، تبدو إسرائيل مصرّة على المضيّ قدماً، مُراهِنةً على أن «أوراق الضغط» التي ستجمعها اليوم (كدعم الدروز أو تأسيس كيانات انفصالية)، ستكون أداة لفرض إرادتها على أيّ نظام قادم في سوريا، إن استطاع هذا الأخير فرض نفسه. وفي النهاية، تبقى الإستراتيجية الإسرائيلية معلنة ومُصرحاً بها، لكن تحقيقها يصطدم بتعقيدات الواقع السوري والإقليمي، حيث الفرق بين التخطيط والتنفيذ شاسع.

الاخبار

—————————-

الجنوب السوري خاصرة لبنان الأضعف في مواجهة إسرائيل/ علي حيدر

الجمعة 7 آذار 2025

كان المتغيّر السوري، ولا يزال، حدثاً إقليمياً ولبنانياً أيضاً لجهة ما يترتّب عليه من تداعيات وتهديدات تطاول كل المحيط، وفي مقدّمه لبنان.

ويعود ذلك إلى موقع سوريا في معادلة الصراع مع العدو، وإلى مزاياها الجغرافية والسكانية وإمكاناتها قياساً بلبنان. ويمكن تلمّس معالم الدور الذي لعبته سوريا من خلال الشواهد التاريخية التي تُظهر بوضوح التأثير المباشر للواقع السوري وخيارات النظام فيه على استراتيجية العدو إزاء لبنان. وقد تعاظم هذا الدور بعد اتفاقية كامب ديفيد والاجتياح الصهيوني في عام 1982… وصولاً إلى معركة إسناد غزة والحرب الأخيرة، كون سوريا شكّلت عمقاً استراتيجياً للمقاومة في لبنان وخط إمداد مفتوحاً لها.

لوهلة قد يبدو تدمير إسرائيل لقدرات الدولة السورية، كما لو أنه حدث سوري. إلا أن تداعياته ومخاطره تطاول لبنان والمنطقة أيضاً. وقد عمد العدو إلى هذا الخيار بعد إسقاط النظام السابق وتبلور واقع سياسي وأمني جديد، مكّن العدو من تحقيق ما كان يحتاج في ظروف أخرى إلى شن حرب واسعة لتحقيقه. بتعبير آخر، فإن تحييد سوريا كقوة إقليمية في معادلة الصراع، فضلاً عن إضعافها، يُعتبر قوة لإسرائيل وتعاظماً لمخاطرها على لبنان وفلسطين والمنطقة.

البعد الإسرائيلي الإضافي للمتغيّر السوري يكمن أيضاً في ما ترتّب عليه من حرمان للمقاومة من عمق استراتيجي وممر رئيسي للسلاح، مكّناها طوال عقود من مواجهة المخاطر والاعتداءات الإسرائيلية.

وهذا أيضاً يحضر كمعطى رئيسي على طاولة التقدير والقرار في كيان العدو ويؤثّر في بلورة خياراته العدوانية. وفي المرحلة الحالية، يساهم الوضع السوري المستجدّ في تعزيز رهانات العدو ضد المقاومة في لبنان، إذ يرى في ذلك فرصة لمزيد من التمادي في الاعتداءات مع قدر من الاطمئنان. أما الحرب التي شنّها العدو قبل سقوط النظام السوري السابق فقد نبعت بشكل رئيسي من تقديره، كما اتضح خلال الحرب، أن بالإمكان حسمها مع حزب الله بفعل الأوراق الأمنية والعسكرية التي كان يملكها.

لا تقتصر المخاطر المستجدّة على ما تقدّم. فالتوسع الإسرائيلي في جنوب سوريا وفرض منطقة عازلة، يشكلان التفافاً أيضاً على لبنان. ومن الناحية العملية يتحوّل جزء من الحدود السورية إلى خاصرة رخوة للبنان، بعدما كان لبنان تاريخياً يتصف بهذه الصفة. وهذا من دون الحديث عن إمكانية تحوّل الحدود السورية إلى تهديد مباشر للبنان والمقاومة.

مع ذلك، فإن كل هذه المتغيّرات جرت بعدما تحوّلت المقاومة في لبنان من حالة إلى مجتمع عصي على الإخضاع والانهيار كما ثبت في كل المحطات التي مرّت بها.

وبعدما قطعت أشواطاً هائلة على مستوى بناء القوة والخبرات والإمكانات، حاولت إسرائيل أن تدمّرها وحقّقت نتائج جزئية، إلا أنها بقيت القوة الرئيسية في استراتيجية الدفاع عن لبنان والتي لا يمكن لأي تهديد خارجي إلا أن يأخذها في الحسبان. وكما أثبتت تجارب العقود والسنوات الأخيرة، فإن المنطقة مُشبعة بالديناميات التي قد تؤدي إلى متغيّرات تعزّز هذا الاتجاه أو ذاك. وفي كل السيناريوهات تبقى المقاومة جاهزة لمواجهة أي تداعيات تنتج عنها و/ أو الاستفادة من أي فرص تتشكل في سياقها.

الاخبار

—————————————-

مشروع نتنياهو التقسيمي إذ يتلاقى مع إيران في سوريا/ صهيب جوهر

2025.03.07

لا يكتفي نتنياهو حتى اللحظة بكل الوقائع السياسية والعسكرية التي فرضتها الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، ويمتد بطموحاته لتهديد أمن سوريا أو الأردن ومصر، فهو يحمل مشروعاً تاريخياً يشتمل على فرض هيمنة شاملة على قرار الشرق الأوسط بتوصيف نفسه “بن غوريون 2” والذي تسعى فيه إسرائيل لتكون الدولة الأكثر تفوقاً وتقدماً على إيران من جهة، وعلى تركيا والعرب من جهة أخرى، وخاصة في ظل التقدم التركي اللافت في مجالات متعددة عسكرية وسياسية، وما يطمح له نتنياهو اليوم هو وراثة الدور الأميركي إذا ما قرر ترمب تخفيف حضور واشنطن والاهتمام بالمد الصيني واستيعاب روسيا.

وهذا الحلم الإسرائيلي يتجلى اليوم باستمرار نتنياهو بابتزاز الوسطاء في وقف إطلاق النار في غزة عبر محاولات فرض التمديد للمرحلة الأولى ودفع الإدارة الأميركية لمفاوضة حماس مباشرة، تحت ضغط التهديد بتهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة والضفة الغربية وإجهاض حلم بناء دولة فلسطينية على حدود 67.

وفي لبنان يستمر نتنياهو في تأكيد أنه لن ينسحب من النقاط التي يحتلها في جنوبي لبنان وتحديداً النقاط المشرفة على جنوب نهر الليطاني، لفرض مسار تفاوضي على الحكومة اللبنانية الجديدة من جهة وخلق تحديات داخلية لبنانية في مواجهة حزب الله، والذي يصر حتى اللحظة على عدم النقاش بملف السلاح في شمال الليطاني، متسلحاً بالشرعية الشعبية التي منحت له في تشييع حسن نصرالله.

أما وفي سوريا يعلن الإسرائيليون بوضوح عن دعمهم لمكونات دون أخرى، درزية من جهة وكردية من جهة أخرى، في إطار مشروع تقسيم سوريا الى دويلات طائفية ومذهبية، وتمزيق الجغرافيا السورية مع تسجيل اختراقات متعددة في الجغرافيا بعد احتلال جبل الشيخ المشرف على دول المنطقة.

وليس من باب المصادفة أن تفرد القناة 13 الإسرائيلية ساعتين لنقاش تطورات الملف السوري لمحللها العسكري، والذي ذهب بعيداً باعتبار أن هنالك في لبنان من يراهن على تصدير أسلحة لحزب الله وحماس عبر سوريا بطرق مختلفة، باعتبار أن التهريب مهنة قديمة وشائعة لها عصاباتها وتمتهنها عشائر وعائلات موجودة عند الحدود. والأوضاع في سوريا لا تزال غير مضبوطة.

وكان لافتاً ما قاله المحلل العسكري الإسرائيلي باعتباره أن وجود مجموعات سورية متعددة وغير منسجمة في كثير من الأحيان. ومن بينها مجموعات إسلامية هي متأثرة بخطاب وفكر حركة حماس قد تساعد على نقل أسلحة للحزب في المستقبل، واعتبار قيام ضباط سابقين في جيش الأسد ببيع بعض المعدات والأسلحة والذخائر بعد سقوط النظام لقاء بدل مادي والمساعدة في تهريبها إلى البقاع هو أحد مؤشرات فلتان الحدود. وجاء استهداف الطائرات الإسرائيلية لمسؤول في قوة الرضوان في حزب الله لتعزز هذه الرواية الإسرائيلية.

على أي حال، ومن دون الحاجة إلى تبرير، نفذ الإسرائيليون حتى اليوم خطوات متسارعة في سوريا، بعد سقوط نظام الأسد. فبعدما ضربوا كل المقدرات العسكرية للسلطة على امتداد الأراضي السورية، أمسكوا بقمم جبل الشيخ، ووسعوا المنطقة العازلة، وفرضوا نفوذهم حتى مشارف ريف دمشق، ومنعوا السلطة من تجاوز خط دمشق جنوباً. ثم بدأوا يسهلون إدخال أبناء القرى الدرزية إلى إسرائيل للعمل، وتم إغراؤهم برواتب عالية. ونصبت حكومة نتنياهو نفسها حامية للأقلية الدرزية أولاً والكردية ثانياً.

ما تعمل له إسرائيل في الواقع هو خلق منطقة سيطرة لها تصل حتى مشارف دمشق. وهي من خلال تثبيت المنطقة ذات الأغلبية الدرزية في الجنوب تريد توفير الدعم اللازم لتثبيت المنطقة الكردية في الشمال، على أن يتم الربط بينهما بمعبر ضيق يحاذي الحدود السورية- العراقية، يطلق عليه الإسرائيليون اسم “ممر داود”. وبهذا الوضع سيكون الإسرائيليون قد أحكموا حصارهم غرباً على سوريا وشرقاً على العراق ولامسوا حدود تركيا.

ولكن، حتى الآن، ليس واضحاً اتجاه الحدث الكردي، بعد الدعوة التي وجهها عبد الله أوجلان قبل أيام، من سجنه التركي، إلى رجاله لكي يرموا السلاح. فالأمر هناك ربما يتعلق أيضاً بمقايضات يعقدها الأميركيون مع تركيا، تماماً كما أن مصير المنطقة العلوية مرهون بالمقايضة بين ترمب وبوتين، ما قد يسمح لهم بالحفاظ على القاعدتين العسكريتين في الساحل، لكن ما يبدو محسوماً في سوريا هو أن المحافظات الجنوبية الثلاث، درعا والقنيطرة والسويداء، باتت أكثر فأكثر تحت سيطرة إسرائيل الحصرية، ووسط صمت إقليمي وعربي، وتواطئ أميركي واضح المعالم.

من هنا يمكن فهم أسباب عودة حزب الله بشكل مطرد للحديث عن سوريا والدخول الإسرائيلي المستمر فيها، وهو يبرر تمسكه بالسلاح والعودة الأمنية وإعادة ترتيب تنظيمه العسكري السري على طريقة التسعينيات، اعتباراً أن ما يجري في سوريا يشي بالذهاب إلى مشروع تفتيت سوريا إلى كيانات طائفية وفق تقدير الحزب وإيران.

وهو ما يعني استعادة النظريات السابقة والتي تحدثت عن إلغاء حقبة حدود “سايكس بيكو” لمصلحة دويلات طائفية صغيرة متناحرة ومعدمة اقتصادياً. وفي حال صحت هذه المخاوف، فهذا سيعني أنها ستصيب الجغرافيا اللبنانية أيضاً، وخاصة مع تصاعد الخطاب اليميني المسيحي اللبناني الداعي للتقسيم، على اعتبار أن لبنان ولأول مرة ضم في حكومته أحد الوزراء الداعين للفدرالية والتي تعاكس طبيعة اتفاق الطائف.

لذا فإن حزب الله وبيئته تبدو مشتتة جغرافياً بين الجنوب وخط تماسه مع إسرائيل، والبقاع الشمالي وخط تماسه الجديد مع القوات السورية المتنازع معها عقائدياً. وفي هذه الحالة سيفكر في طريقة التواصل مع عمقه في الساحل السوري وحمص.

تلفزيون سوريا

————————-

قوات إسرائيلية في مواقع إيرانية… وهوية الجنوب السوري تتغيّر!

اقتحام مواقع عسكرية بعينها يشي بوجود أسلحة تريد إسرائيل إتلافها لمنع وقوعها في متناول الفصائل أو الإدارة السورية الجديدة…

جاد ح. فياض

يتجه الاهتمام نحو الجنوب السوري، حيث تنشط إسرائيل لتغيير وجه المنطقة وواقعها السياسي والأمني. وبعد التقدّم نحو جبل الشيخ والادّعاء بتقديم الحماية للطائفة الدرزية، نفّذت إسرائيل أعمق توغّل لها فوصلت إلى قمّة تل المال في درعا بعمق 13 كيلومتراً، وعملت على تدمير بنى تحتية عسكرية كانت تستخدمها الجماعات الإيرانية و”حزب الله”، وفق وسائل إعلام عبرية.

هذه الحركة تشي بأن إسرائيل تسعى لإرساء تغييرات من شأنها تشكيل منطقة جغرافية شبه عازلة تفصل بينها والإدارة السورية الجديدة والفصائل المسلّحة، وتدمير كل إمكانات عسكرية تسلّحية وبنى تحتية في هذه المنطقة، لضمان أمنها وإبعاد التنظيمات التي قد تشكّل خطراً عليها، تفادياً لسيناريوات مشابهة لـ7 أكتوبر من جهة، وتحضيراً لواقع سياسي جديد في الإقليم قائم على التقسيم.

بالعودة إلى التوغّل الإسرائيلي في تل المال، يتحدّث مدير شبكة “درعا 24″، الذي يفضّل عدم ذكر اسمه، عن الواقعة، فيقول إن “القوّة الإسرائيلية وصلت إلى محيط تل المال والسرية العسكرية السابقة في ريف درعا الشمالي، وقامت بعمليات تدمير للبنى التحتية وتفتيش عن بقايا أسلحة”، لافتاً إلى احتمال وجود معدات رصد واستطلاع كون هذه المواقع كانت مخصّصة لهذه المهام.

هذا الاقتحام يندرج ضمن سلسلة توغلات نفّذتها القوات الإسرائيلية في الجنوب السوري. وفي هذا السياق، يشير مدير الشبكة إلى دخول الجيش الإسرائيلي إلى بلدة مسحرة وريف القنيطرة الأوسط، والتوغّل في قرية عابدين بحوض اليرموك – ريف درعا الغربي، حيث تمركزت لساعات، ثم انتقلت إلى ثكنة الجزيرة العسكرية القريبة من قرية معرية.

اقتحام هذه المواقع العسكرية يشي بوجود أسلحة تريد إسرائيل إتلافها لمنع وقوعها في متناول الفصائل أو الإدارة السورية الجديدة، حتى لا تشكّل لها أي تهديد مستقبلي، ووفق مدير “درعا 24″، فإن هذه المناطق التي دخلتها إسرائيل وتقع على حافة الجولان، “شهدت وجوداً عسكرياً متعدداً نتيجة الصراع السوري وتدخلات الدول الإقليمية”، وهي جماعات إيرانية و”حزب الله”.

هذه الاقتحامات قد تكون مقدّمة لتوغّلات أخرى في الجنوب السوري، وعمليات في مختلف المناطق حتى تلك البعيدة عن الحدود الفاصلة بين سوريا وإسرائيل، وخصوصاً أن الأخيرة نفّذت في السنوات الماضية عمليات قصف وإنزال قبل سقوط نظام بشّار الأسد، وذلك بهدف تحييد أي خطر عسكري عليها قد يتخذ من سوريا منطلقاً لها.

تدمير البنى التحتية العسكرية في الجنوب السوري ومنع الفصائل من امتلاك أسلحة نوعية وأنظمة رصد يتكامل مع مشروع التقسيم الذي تسعى إليه إسرائيل وتموّله، وفي هذا السياق، توافرت معلومات لصحيفة “وول ستريت جورنال” عن تخصيص مليار دولار لمساعدة الدروز شمال إسرائيل، مع العلم أن نسبةً كبيرة من الأموال المخصّصة لهؤلاء الدروز من إسرائيل تُرسل من خلالهم إلى دروز سوريا.

الهدف يكمن في إنشاء مناطق منزوعة السلاح و”مدجّنة” سياسياً وأمنياً، تكون عبارة عن مساحات جغرافية تفصل إسرائيل عن كل محيط قد يشكّل خطراً عليها، وتكون الجماعات التي تسكن بها بشكل غير مباشر “حرس حدود” لإسرائيل، تمتنع عن مهاجمتها كونها تحت حمايتها وتمويلها، وتمنع أي طرف عسكري من الاقتراب من الحدود وتهديد أمن إسرائيل.

في المحصّلة، فإن الأنظار ستتجه في المرحلة المقبلة إلى التحرّكات الإسرائيلية السياسية والعسكرية والأمنية في الجنوب السوري، ومحاولات الإدارة العبرية تنفيذ مشاريع استراتيجية تقسيمية مرتبطة بالأمن القومي لتل أبيب، لكن العين أيضاً على مقاربة الإدارة السورية الجديدة وسكّان الجنوب السوري لهذه التحرّكات، لمعرفة رسم معالم اليوم التالي.

النهار العربي

————————–

جنبلاط يقطع الطريق أمام إعطاء ذريعة لتدخل اسرائيل في سوريا/ زياد سامي عيتاني

2025-03-07

ما حدث مؤخراً في مدينة جرمانا ذات الأغلبية الدرزية وأدى إلى مقتل شخص وإصابة تسعة أشخاص آخرين، لا يختلف في دلالاته عن حوادث مشابهة جرت في الساحل السوري، وتم تطويقها، على قاعدة أن المرحلة الانتقالية التي تشهدها سوريا من الطبيعي أن تشهد مثل هذه الممارسات الشاذة، قبل أن يتمكن الحكم الجديد من فرض سلطته الأمنية على كامل الأراضي السورية، على الرغم من أنها عملية معقدة وتحتاج الى وقت وحكمة بسبب التركيبة المجتمعية السورية، التي يحاول البعض، لا سيما فلول النظام البائد والخارجي “المعادي” إستغلالها لتأجيج صراعات مذهبية وعرقية.

إلا أن الاختلاف بين ما حصل في الساحل وجرمانا، كان في دخول إسرائيل على الخط، معلنة أنها ستوفر “الحماية” للطائفة الدرزية، وأصدر رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يسرائيل كاتس تعليمات للجيش تقضي بالاستعداد لحماية الدروز في مدينة جرمانا القريبة من دمشق، بزعم تعرضهم لهجوم من القوات السورية الجديدة. وقال نتنياهو وكاتس في بيان مشترك: “لن نسمح للنظام الارهابي للإسلام المتطرف في سوريا بإلحاق الأذى بالدروز، إذا أساء النظام إليهم، فسوف نؤذيه”.

محاولة إسرائيل “إستمالة” دروز سوريا لم تنجح، إذ سارع أبناء الطائفة ووجهاؤها إلى رفض الوصاية الزائفة، بحيث لم يخفَ عليهم أن إسرائيل تحاول استغلال الوضع الحالي في سوريا لتحقيق أهداف شريرة بعيدة المدى، وأعلنوا بوضوح أنهم قادرون على إدارة شؤونهم وحل مشكلاتهم ولا يريدون أيّ تدخل خارجي في الشأن السوري.

هنا لا بد من التأكيد أن إسرائيل تعتبر أن حكومة أحمد الشرع غير مستقرة وتواجه تحديات كبيرة في إدارة التعددية والتنوع في سوريا، إذ إن “براغماتية” أحمد الشرع وموقفه المسالم ورغبته في عدم الاصطدام مع الداخل ودول الجوار لم تقنع اليمين الاسرائيلي، الذي فضّل التعامل معه بناءً على نواياه غير المعلنة، والتي افترضت إسرائيل أنها لن تكون في صالحها في نهاية الأمر، وهو ما أكده وزير الخارجية الاسرائيلي جدعون ساعر بوصفه حكومة الشرع أنها “جماعة إرهابية إسلامية من إدلب استولت على دمشق بالقوة”، مؤكداً أن “إسرائيل لن تتنازل عن أمنها على الحدود”. و”ضمان” أمن إسرائيل، ترجمته تل أبيب إلى مئات الغارات التي شنتها على مواقع عسكرية في العاصمة دمشق والعديد من المدن الأخرى، ملحقة تدميراً واسعاً بالبنية العسكرية للنظام السابق.

ويأتي هذا التأجيج الطائفي في الوقت الذي تبحث فيه إسرائيل عن مسوّغ يمهد لتدخلها بصورة مباشرة في سوريا واستغلال المرحلة الانتقالية لفرض واقع أمني وعسكري توسعي داخل العمق الجغرافي السوري.

الأهداف المخفية لإسرائيل من وراء إصرارها على “حماية” الدروز، دفعت “الزعيم” الدرزي النائب السابق وليد جنبلاط إلى إتخاذ موقف حاسم بصورة فورية للتأكيد على الإرث الوطني والعروبي لأبناء الطائفة الدرزية، ولقطع الطريق على المخطط الاسرائيلي “الخبيث”، متهماً تل أبيب بأنها تريد التمدد إلى جبل العرب في سوريا. وحذر من حرب أهلية يسعى إليها “بعض ضعفاء النفوس”، كاشفاً أنه ذاهب إلى دمشق لتأكيد “مرجعية الشام بالنسبة إلى الدروز”. وقال جنبلاط عقب اجتماع استثنائي عقدته الهيئة العامة للمجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز في دار الطائفة بالعاصمة بيروت: “نعوّل كثيراً على الشخصيات العربية السورية من كل الأطياف لمواجهة مخطّط إسرائيل الجهنمي”، في رسالة تهدف إلى لفت نظر السوريين إلى خطر الاستقطاب الطائفي والعرقي في ضوء ما يجري في جرمانا الدرزية القريبة من العاصمة دمشق وخطر توسيع دائرة الصراع إلى تصعيد إقليمي.

موقف جنبلاط “الحكيم”، الذي سيقترن بتحرك عملي، ينبع أولاً من حرصه على منع أن يكون دروز سوريا سبباً وبالتالي وقوداً لحرب داخلية، وبالتالي تحييدهم عن الصراعات التي تشهدها المنطقة، من خلال تحشيد العقلاء في الطائفة، قطعاً للطريق أمام زجها في حرب “عدمية”، من موقع الزعامة الدرزية التاريخية لـ “المختارة”، وتأثيرها على الموحدين الدروز ليس في لبنان وحسب، بل في سوريا وفلسطين المحتلة.

وعلى الرغم من الضغوط والتهديدات التي يتعرض لها الدروز في سوريا تزامناً مع بدء المرحلة الانتقالية بقيادة أحمد الشرع، ينظر جنبلاط إلى الخطر ببعده الأشمل معارضاً توظيف قضيتهم في خوض حرب جديدة بالمنطقة وجرهم إليها، وهذا ما دفعه لأن يذهب مجدداً إلى سوريا ولقاء الشرع لتطويق هذا الخلاف من خلال الحوار، بدلاً من أن يحسب على الدروز أنهم كانوا سبباً في إثارة الحرب وإعطاء شرعية للتدخل الاسرائيلي في سوريا. ومن جهة أخرى يريد جنبلاط المحافظة على الإرث التاريخي الوطني والعروبي للزعيم الراحل سلطان باشا الأطرش وعلو الهوية السورية العربية لدروز سوريا، لتحشيد العقلاء في الطائفة، رفضاً لوصاية مزعومة يريد نتنياهو فرضها عليهم.

جنبلاط يستحضر روح سلطان باشا الأطرش، الذي كان أول من بادر الى التحرك لحث السوريين على المقاومة، وأول من رفع علم الثورة العربية على أرض سوريا قبل دخول جيش الملك فيصل، بعد أن رفض مشروع إنشاء دولة درزية عام 1921، وقال الأطرش سنة 1925: “أيها العرب السوريون تذكروا أجدادكم وتاريخكم وشهداءكم وشرفكم القومي، تذكروا أن يد الله مع الجماعة، هيا إلى السلاح أيها الوطنيون تحقيقاً لأمان البلاد وتأييداً لسيادة الشعب وحرية الأمة”.

جنبلاط من خلال عمق معرفته بالمخاطر التي تحيط بدول المنطقة، يسعى بحكمة وعزيمة الى إستنهاض الدور التاريخي لدروز سوريا الذين كانوا في طليعة المقاومين للإستعمار، للمحافظة على هذا الدور، وما التظاهرات التي يشكلون القوام الرئيسي لها، في السويداء الا أحد أشكال هذه المقاومة ضد محاولة الصهاينة عزلهم عن مجتمعهم ووطنهم عبر إعلان نتنياهو أن الكيان الاسرائيلى لن يسمح بالمساس بهم.

—————————–

حتى لا تعيدنا إسرائيل إلى زمن الغفلة/ عز الدين أعرج

7 مارس 2025

شرح باحثون فلسطينيون وعرب طوال عقود أن رفض التطبيع مع إسرائيل ليس مجرد خيار عاطفي أو أيديولوجي، ولكنه مرتبط بالمصالح الاستراتيجية للشعوب والدول العربية. وقد بيّنت اتفاقيات التطبيع منذ كامب ديفيد، ثم الحروب الأهلية التي انخرطت إسرائيل فيها بشكل مباشر، والأنظمة السياسية المستبدة التي منحتها شرعية، أن حتى المبررات البراغماتية للتطبيع هشة، وأن أسئلة المنطقة، من الاقتصاد إلى النظام السياسي والتحول الديمقراطي والاستقرار والحريات والحقوق الدينية، لا تجيبها إسرائيل ولا التحالف معها.

ربما يكون جزء من دروز فلسطين ومجموعات أخرى ممن اختاروا أن ينسلخوا عن مجتمعهم، وحاولوا الاندماج في المشروع الاستعماري الاستيطاني ضد مجتمعهم، أبرز مثال على هذه الخلاصة. فبعد عقود من الخدمة العسكرية ومن الوقوف في الصف الأول ضد ناسهم بالنار والمدافع، لا تحظى هذه المجموعات بأكثر من مواطنة درجة ثالثة على أفضل تقدير. ورغم أنهم فهموا أن الانتماء إلى الأمة الاستيطانية لا يصير سوى بمزيد من العنف ضد السكان الأصليين، فقد اصطدموا بحقيقة لا مفر منها؛ أنه كلما توسع المشروع الاستيطاني بهم، ضاقت تعريفاته لنفسه عنهم. فطبيعة الدولة لا بد أن تكون يهودية، وإن أُنجز ذلك عبر آخرين.

لم تنسلخ هذه المجموعات عن جماعتها الوطنية فقط، ولكنها عبر محاولاتها الفاشلة للاندماج في المشروع الاستيطاني في فلسطين، تخلت عن جزء من هويتها، وسمحت لهذا المشروع أن يعيد صياغتها في “زمن الغفلة” على حد تعبير المؤرخ الراحل قيس فرو، الذي لا يزال أبرز من أرّخوا لهذه الانتكاسة المستمرة. فسمحت لهذا المشروع أن يحولها إلى أقلية، تعتمد في مطالباتها على خطاب وسلوك يشبه خطاب وسلوك المرتزقة، تستجدي حقوقها عبر ممارسة العنف ضد مجتمعها. وهذا ما فهمته شرائح واسعة من المجتمع الدرزي في فلسطين، ممن اختاروا أن يحتموا بشعبهم بدل أن يحتموا بالعنف ضده. وكذلك فعل المجتمع السوري في الجولان المحتل طوال عقود.

في سوريا اليوم وبعد سقوط نظام الدكتاتور، تحاول إسرائيل إعادة إنتاج زمن الغفلة في واقع مفتت ومليء بالتحديات. وحيث يعيد فلول النظام السابق تنظيم أنفسهم في خطاب أقليات طائفي، وجدت إسرائيل في نفس الخطاب فرصة. فقد صار واضحًا أن سوريا الجديدة تخيف تل أبيب، ليس لأن الإدارة الجديدة نفسها تقلقها، فهذا متروك للزمن، ولكن لأنها تجد في أي إدارة عربية جديدة خطرًا. ولطالما فضّلت إسرائيل، صراحًة، استبدادًا ثابتًا يسهل فهمه والتعامل معه، على نظام سياسي حيوي يتغير. ولذلك فقد كانت معاداة إسرائيل لأي تحول ديمقراطي في المنطقة العربية، بالنسبة لها، حاجة أمنية.

ليس أمام السوريين خيارات كثيرة أمام هذا الواقع، فقد استغلت إسرائيل انهيار نظام الدكتاتور وانكسار عربي شامل لتتوسع وتحتل مناطق جديدة من البلاد. لكن على الأقل، من المهم ألا نسمح لإسرائيل اليوم بإنتاج زمن غفلة جديد. ليست هذه فقط مسؤولية المجموعات التي تحاول إسرائيل استقطابها بوعود صار معروفًا أنها مضللة، ولكنها مسؤولية السوريين جميعهم، ومسؤولية الإدارة الجديدة. فإجابة خطاب الأقليات هي مشروع وطني جامع، يعيد إنتاج هوية سورية تتجاوز المأساة، وتنتج مسارًا متكاملًا من المصالحة والتعافي لا التشفي والانتقام. ولا بد للمظلوميات، حتى لو كان جزء منها طائفيًا بسبب طبيعة عنف النظام السابق، أن تصاغ أيضًا بلغة وطنية لا طائفية.

ليس هذا كلامًا نظريًا، ولكنه رحلة شاقة وطويلة. فسوريا الجديدة لا تستقر فقط بتفاهمات إقليمية، ولا باستبدال مؤسسات النظام السابق، وبالتأكيد ليس عبر النظر إلى سقوط النظام كلحظة خارج التاريخ؛ إنصاف لمجموعة وعقاب لمجموعات أخرى. إن ما تركه النظام وعنفه الطائفي إرث ثقيل، فعبر سنوات من العنف المنظّم حاول القضاء على أي هوية جمعية وتحويل المجتمع السوري إلى أقليات ضد أغلبية. وبنفس الطريقة، يقوم فلوله اليوم، ممن لم يبق لهم سوى الفوضى كخلاص، بمحاولة إنتاج نفس المنطق. وعلى الإدارة الجديدة أن تجابه مثل هذا الخطاب بالممارسة قبل البلاغة السياسية، فهو باب مفتوح ليس فقط للفلول ولكن لإسرائيل أيضًا. العدالة والإنصاف والهوية الوطنية الجماعية هي فقط ما يمكن أن يغلق هذا الباب ورياح أزمنة الغفلة التي تتسرب عبره.

الترا سوريا

————————–

السوريون الدروز.. جرمانا والسويداء والتدخلات الإسرائيلية

جسّد التوتر الذي شهدته بلدة جرمانا في ريف دمشق فرصة للنقاش مجدداً حول السوريين الدروز وأوضاعهم ما بعد سقوط نظام الأسد.. في هذه الحلقة يروي لنا الباحث والكاتب مازن عزي باختصار ما الذي حدث في البلدة،  ويشرح تركيبتها السكانية والعلاقة التي تربطها بالسويداء. كما يشرح المشهد السياسي والعسكري والديني في السويداء نفسها والعلاقة المعقدة بين المحافظة الجنوبية والسلطات الجديدة، ثم نحاول التفكير معاً في محاولات التدخل الإسرائيلية وواقعيتها ودور دروز إسرائيل في هذا الملف وكذلك العلاقات مع القيادات الدرزية اللبنانية، لنختم مجدداً من حيث انطلقنا لنقاش التجييش الطائفي الذي رافق التوتر في جرمانا ومن ثم اقتراح أي حلول ممكنة..

——————————

السويداء والسلطة السورية الجديدة.. فرص التلاقي والتصادم

تطرح الأوضاع المتغيرة في سوريا أسئلة ملحة على أبناء وبنات محافظة السويداء، وعلى السوريين الدروز، وكذلك على السلطات الجديدة في دمشق، كما على عموم السوريين.. يحاول هذا الحوار مقاربة بعض القضايا الأساسية قيد النقاش: طروحات الفيدرالية واللا مركزية والإدارة الذاتية، العلاقات مع قسد وفصائل درعا العسكرية وغيرها من القوى، العلاقة المتذبذبة مع المركز قبل وبعد ٨ ديسمبر، وزن الشيخ الهجري داخل السويداء والنظرة تجاهه من خارج المحافظة، احتمالات الانقسام الداخلية عسكرياً وسياسياً، العلاقات مع الامتدادات الدرزية داخل سوريا وكذلك في دول الجوار، احتمالات التدخل الإقليمية في الجنوب السوري..

يناقش ملاذ الزعبي كل هذه الأسئلة مع ضيفي الحوار: الصحافية رشا النداف والكاتب والصحافي عمر الأسعد.

#سوريا #السويداء #الهجري #الشرع #الجولاني #دمشق #درعا #إسرائيل

تصميم الغلاف: يوسف حمّص

بودكاست “ما بعد الأبد” من إعداد وتقديم: حسام القطلبي، وكنان قوجه، وملاذ الزعبي

Transcript

——————————–

هل هناك طائفة سنيّة في سوريا؟ وهل يحتاجون لتطمينات؟ أم أن عليهم إجراء مراجعات أخلاقية وضميرية؟

#بشار_الأسد

يجيب الباحث والكاتب السوري أحمد أبازيد على أسئلة تتعلق بالطائفة السنية في سوريا اليوم، بداية من السؤال الأساسي: هل يمكن النظر إلى السنة كطائفة متماسكة؟ ومن هذا السؤال ننطلق إلى أسئلة أخرى: هل تحتاج هذه الطائفة إلى تطمينات بسبب ما حصل خلال سنوات الثورة أو حتى ما سبقها؟ ومن جهة أخرى هل على السنة إجراء مراجعات بسبب انتهاكات ارتكبتها فصائل وتنظيمات سنية؟ وما هي احتمالات تفجر صدام طائفي مجدداً؟ وكيف يرى أبازيد ما قد يوصف بأنه تسنين للدولة السورية اليوم؟ وما هو رأيه بقائد الإدارة الحالية أحمد الشرع؟ وهل كان يمكن لزهران علوش أن يكون في المكان نفسه اليوم لو يتم اغتياله؟

ناقشنا أيضاً مع ابازيد أوضاع الجنوب السوري في درعا والسويداء وما يتعلق بفصائل المحافظتين واحتمالات التدخل الإقليمية والتمدد الإسرائيلي إلى ما بعد مرتفعات الجولان.

#سوريا #درعا #السويداء #السنة #العلويون #إسرائيل #الشرع #دمشق #بشار_الأسد #المسيحيون #حلب #داعش #النصرة #الإسلام

تصميم صورة الغلاف: يوسف حمّص

بودكاست “ما بعد الأبد” من إعداد وتقديم: كنان قوجه وحسام القطلبي وملاذ الزعبي

00:00 استرجاع سوريا بعد ٨ ديسمبر

 06:09 هل السنّة في سوريا طائفة متماسكة

12:42 هل السنّة بحاجة لتطمينات ودور هوياتهم المحلية

19:02 السنّة وإجراء المراجعات وتقديم الاعتذارات

24:57 الموقف من جيش الإسلام

31:36 احتمالات الصدام الطائفي بين السنة والعلويين

37:31  احتمالات صدام الإدارة الجديدة مع شرائح سنية

44:45 تسنين الدولة السورية

49:27 أحمد الشرع.. تحولات كثيرة وقائد واحد

56:14 المقارنة بين زهران علوش وأبو محمد الجولاني

01:14:08 وضع فصائل درعا وهل أحمد العودة هو خليفة حفتر السوري

01:18:26 قسد والانضمام للجيش السوري الجديد

 01:20:46 احتمالات التدخل الإقليمية في الجنوب السوري

01:23:07 السويداء والسلطة المركزية

01:24:36 التمدد الإسرائيلي في الجنوب

01:28:13 رمزية ذكرى الثورة ١٨ آذار في حوران

 01:32:51 هل انتهاكات جيش الإسلام مبررة؟

01:41:06 العودة إلى سوريا وفئات الناشطين المنعزلة عن المجتمع

Chapters

—————————

لماذا غضب منّي الشيخ الهجري؟

——————————-

موقع إعلامي سوري يكشف خفايا التوتر الدرزي وتورط إسرائيل و”قسد” في معركة النفوذ الإقليمي

تحديث 07 أذار 2025

شهدت مدينة جرمانا، المحاذية للعاصمة دمشق، تصعيدًا غير مسبوق بدأ بخلافات محلية وتحول إلى أزمة إقليمية، كشفت عن صراع نفوذ درزي داخلي، وسط دخول إسرائيلي على الخط، وحديث عن مخطط تمرد مسلح مدعوم من واشنطن وتل أبيب.

التقرير المطول الذي نشره موقع “الجمهورية.نت” يسلّط الضوء على هذا التوتر، موضحًا كيف تفاقمت الأزمة في جرمانا وانتقلت تداعياتها إلى لبنان والمنطقة، مع تصاعد الحديث عن دور إسرائيلي محتمل في تأجيج الصراع الداخلي بين الدروز، بالتوازي مع لقاءات سرية أجراها مسؤولون دروز مع الولايات المتحدة ومساعٍ لتغيير التوازنات في سوريا ما بعد الأسد.

تطورات ميدانية

بحسب التقرير، تفجرت الأوضاع في 28 فبراير نتيجة تصاعد الخلافات المحلية، ما دفع وجهاء ومشايخ دروز في جرمانا والسويداء إلى التدخل لاحتواء التوتر، خاصة بعد تصريحات إسرائيلية متكررة حول نيتها “حماية الدروز” في سوريا.

في محاولة لاحتواء الأزمة، زار وفد درزي من السويداء الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، مؤكدين على تمسكهم بوحدة الأراضي السورية ورفض أي تدخل خارجي، في حين أشارت مصادر أخرى إلى تصاعد الحديث عن اتصالات سرية بين شخصيات درزية سورية وإسرائيل.

لم تقتصر التداعيات على سوريا، حيث أدى التصعيد إلى استنفار في المختارة، مقر الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط. ودعا جنبلاط إلى اجتماع طارئ للمجلس المذهبي الدرزي في لبنان، معتبرًا أن ما يجري “أخطر من اتفاق 17 أيار”، الذي وقعته الحكومة اللبنانية مع إسرائيل عام 1983.

جنبلاط اتهم شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في إسرائيل، موفق طريف، بمحاولة احتكار تمثيل الدروز في المنطقة بدعم إسرائيلي، وهو ما زاد من توتر المشهد الإقليمي.

لقاءات سرية ومخطط تمرد مسلح

أحد أكثر الأجزاء إثارة في التحقيق يكشف عن لقاء سري جرى في واشنطن، خلال فبراير الماضي، بين خلدون الهجري، ممثل الزعيم الديني الدرزي في السويداء الشيخ حكمت الهجري، ومسؤولين أمريكيين، حيث قدم خطة لتنفيذ تمرد مسلح ضد الحكومة السورية الانتقالية، بدعم من “قوات سوريا الديمقراطية” ومجموعات علوية في الساحل السوري، وبتنسيق مع إسرائيل.

تقرير “الجمهورية.نت”، الذي استند إلى خمسة مصادر سورية وأمريكية، أشار إلى أن الاجتماع لم يسفر عن موافقة أمريكية رسمية على الخطة، لكن مجرد طرح الفكرة يكشف عن تحركات لإعادة رسم الخريطة السياسية في سوريا.

بالتوازي مع تلك اللقاءات، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في واشنطن يعرض “ورقة بيضاء” حول سوريا، حذر فيها من أن “تحالف الشرع مع تركيا قد يشكل تهديدًا لإسرائيل خلال العشرين عامًا القادمة”، بحسب مصادر أمريكية تحدثت إلى “الجمهورية.نت”.

هذه التحركات أعادت الجدل حول “تحالف الأقليات” الذي لطالما حاول النظام السوري الترويج له في الماضي، حيث دعا مسؤولون دروز ومسيحيون وأكراد إلى عدم الوقوع في الفخ الإسرائيلي الذي يسعى لتقسيم المنطقة على أسس طائفية.

مواقف متباينة بين الزعامات الدرزية

أبرز ما كشفه التحقيق هو التباين بين الزعامات الدرزية حول الموقف من الأزمة، فبعد أن هاجم جنبلاط الشيخ موفق طريف، متهمًا إياه بخدمة الأجندة الإسرائيلية، حذر ثائر منصور الأطرش، حفيد سلطان باشا الأطرش، من “مخططات التفريق” بدعم صهيوني، داعيًا الدروز في سوريا إلى رفض أي تدخل خارجي. واعتبر سعود الأطرش، حفيد سلطان باشا الأطرش أيضًا، أي دعم إسرائيلي “خطًا أحمر”.

ودافع خلدون الهجري عن اللقاءات مع الأمريكيين، معتبرًا أنها كانت مجرد “نقاش سياسي” وليس اتفاقًا على تمرد مسلح.

على الأرض، يشير التحقيق إلى حراك شعبي بدأ يتشكل في الجنوب السوري، رافضًا أي “تدخل إسرائيلي في شؤون الدروز”. تقارير محلية أكدت أن شعارات “شعب واحد، مصير واحد” بدأت ترفع في احتجاجات داخل السويداء، رفضًا للمساعي الإسرائيلية المزعومة لتشكيل تحالف جديد داخل سوريا.

مصادر التحقيق تشير إلى أن الحكومة السورية كانت على علم باتصالات خلدون الهجري، وسارعت إلى استدعاء الشيخ حكمت الهجري لسؤاله عن تفاصيل تلك الاجتماعات. في المقابل، نفى حكمت الهجري هذه المزاعم، لكن هذا لا يتوافق مع تصريحات خلدون الهجري نفسه، الذي أقر بوجود اللقاءات.

(وكالات)

————————-

إسرائيل تستخدم ورقة الدروز في مفاوضاتها مع الإدارة السورية

الجمعة 2025/03/07

علمت “المدن” من مصادر ديبلوماسية إقليمية، أن إسرائيل ترسل رسائل للإدارة السورية الجديدة تلمح فيها إلى رغبتها بالانفتاح عليها، والتخلي عن فكرة استخدام ورقة الدروز.

وحسب المصدر المطلع، فإن إسرائيل تشعر بالتهديد نتيجة التغيير السياسي الذي حصل في سوريا بشكل مفاجئ. ولذا، اتجهت لتفعيل الاتصالات مع قوات سوريا الديمقراطية شمال شرق سوريا، وإطلاق يد رئيس المحكمة الدرزية موفق طريف، للتواصل مع بعض الأطراف في محافظة السويداء، بهدف إثارة القلاقل للإدارة الجديدة.

ووفقاً للمصدر، فإن تل أبيب، وبالتزامن مع حديثها عن تقديم الحماية للدروز، بعثت بالفعل رسائل إلى دمشق، أشارت فيها إلى إمكانية التفاهم حول الملفات الأمنية التي تشكل هاجساً لإسرائيل، وعلى رأسها منع نشاط الفصائل المدعومة من إيران مجدداً على الحدود مع هضبة الجولان، بالإضافة إلى عدم إنشاء تركيا لقواعد عسكرية في الجنوب السوري كما يشاع.

وأشارت المصادر إلى أن تل أبيب منفتحة على الانتقال من مرحلة التفاوض عبر الوسطاء إلى اللقاءات مع الإدارة الجديدة، مما يعني أن تلويحها بورقة حماية الدروز يأتي في سياق الخيار البديل في حال لم تصل إلى توافقات أمنية مع دمشق.

وبالتوازي مع التصريحات الإسرائيلية، التي ترفض وجود قوات تتبع لحكومة دمشق في الجنوب السوري، ظهرت تشكيلات عسكرية جديدة في محافظة السويداء، أبرزها “المجلس العسكري”، ثم تبعه بعد أيام الإعلان عن المجلس العسكري لتحرير سوريا، بقيادة ضابط سابق في جيش نظام الأسد يدعى غياث دلة.

وتشترك قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مع المجالس العسكرية المعلن عنها حديثاً في التنسيق الذي تصاعد بعد الهجمات الموسعة التي نفذها الطيران الإسرائيلي على جنوب سوريا ودمشق آواخر شباط/ فبراير الماضي، ومطالبة حكومة نتنياهو للقوات التابعة لوزارة الدفاع السورية بالانسحاب من الجنوب.

————————–

مخططات نتنياهو في السويداء وجرمانا… محاولة لإجهاض الدولة السورية/ أحمد زكريا

2025.03.04

بعد سنواتٍ من الحرب والدمار، استطاع الشعب السوري أن يفتح صفحةً جديدةً بإسقاط النظام البائد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، لتبدأ رحلة بناء دولةٍ وليدةٍ تسعى لاستعادة عافيتها واستقرارها.

لكن هذا الانتصار لم يَرق للكيان الصهيوني، الذي بدأ يَحوك مخططاته لتقويض هذه الدولة الناشئة بشتى الوسائل، سواء عسكرياً أو سياسياً أو إعلامياً، فما الذي يدفع الاحتلال الإسرائيلي إلى اتخاذ هذا الموقف العدائي؟ وكيف يواجه الشعب السوري هذه التحديات؟

منذ اللحظة الأولى لسقوط نظام الأسد السابق، سارعت إسرائيل إلى قصف مئات الأهداف العسكرية السورية، بما في ذلك مخزونات الأسلحة الاستراتيجية التي كانت تابعةً للجيش السابق، وكان الهدف واضحاً: منع السلطة الجديدة من السيطرة على هذه الأسلحة واستخدامها لتأمين الحدود وضبط الأمن الداخلي.

هذا التدخل العسكري لم يكن مجرد ردّ فعلٍ عشوائي، بل جزءاً من استراتيجيةٍ مدروسةٍ لإبقاء سورية ضعيفةً عسكرياً، عاجزةً عن مواجهة التهديدات الخارجية أو حتى فرض سيادتها على أراضيها. واحتلالُ إسرائيل للمنطقة العازلة السورية، مُعلِنةً انهيار اتفاقية فضّ الاشتباك لعام 1974، يعزّز هذا التوجّه، مما يثير تساؤلاتٍ حول نواياها الحقيقية.

على الصعيد السياسي والإعلامي، لجأت إسرائيل إلى أسلوبها المعتاد في استغلال التنوع العرقي والديني لسورية كمدخلٍ للفتنة، فتصريحات رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الحرب يسرائيل كاتس بشأن “حماية الأقلية الدرزية” في حال تعرضها للخطر لم تكن سوى ذريعةٍ للتدخل في الشؤون الداخلية السورية.

بل إن إعلان نتنياهو أن الجيش الإسرائيلي سيحمي سكان جرمانا بريف دمشق، متوعداً بضرب أي قوةٍ أمنيةٍ سورية تحاول فرض السيطرة هناك، يكشف عن محاولةٍ لفرض وصايةٍ على مناطق محددة بحجة “الحماية”.

بلا شك، فإن هذه التصريحات أثارت غضب أهالي السويداء، الذين خرجوا في مظاهراتٍ رافضةٍ للتدخل الصهيوني، مؤكدين على وحدة التراب السوري ورفضهم لأي وصايةٍ خارجية.

يبدو أن الإعلام الصهيوني يلعب دوراً موازياً في تضخيم هذه الرواية، محذراً من السماح لأي قوةٍ عسكريةٍ سورية بالاقتراب من مناطق الدروز، وهو ما يعكس سعياً واضحاً لخلق انقساماتٍ داخلية، لكن الشعب السوري، بوعيه المتزايد، أدرك أن هذه التصريحات ليست سوى محاولةٍ لجرّ سوريا إلى “حربٍ أهلية”، خاصةً بعد أن أثبتت المظاهرات في دمشق والسويداء تماسك المكونات السورية في مواجهة هذا التهديد.

لم تكتفِ إسرائيل بالتدخل العسكري والسياسي، بل عمدت إلى دعم حركات التمرد داخل سوريا لخلق حالةٍ من الفوضى، فإعلان دعمها للأكراد في شمال شرق الفرات، على سبيل المثال، يهدف إلى إضعاف سلطة الدولة الجديدة على كامل أراضيها. وهذا الدعم ليس جديداً، بل يندرج ضمن استراتيجيةٍ طويلة الأمد تهدف إلى تقسيم سوريا وإبقائها دولةً فاشلةً، عاجزةً عن تشكيل أي تهديدٍ للكيان الصهيوني، فكما يؤمن اليمين الإسرائيلي، وفق نظرية المستشار السابق لشارون عوديد ينون، فإن قوة إسرائيل تكمن في ضعف جيرانها.

هذا النهج يتقاطع مع مشاريع تقسيمية غربية-إسرائيلية، مثل خطة برنارد لويس التي رسمت خرائط لتفتيت الدول العربية بناءً على التجمعات العرقية والمذهبية، وبالتالي فإن الدعوات “الدرزية” التي تروّج لها إسرائيل ليست سوى جزءٍ من هذا المخطط، الذي يسعى إلى تفكيك النسيج الاجتماعي السوري وإضعاف الدولة الوليدة.

ورغم هذه التحديات، أظهر الشعب السوري تماسكاً لافتاً. المظاهرات في السويداء ودمشق لم تكن مجرد ردّ فعلٍ عابر، بل تعبيراً عن وعيٍ شعبيٍّ بأهمية الوحدة الوطنية، فقائد حركة “رجال الكرامة” في السويداء أكّد رفضَ أيّ وصايةٍ خارجية، مشدداً على أن سورية موحّدةً هي الهدف الأسمى، وهذا الوعي يمتدّ إلى جميع المكوّنات، التي رفضت الوقوع في فخّ الفتنة الصهيونية، مدركةً أن استقرار الدولة وإعادة إعمارها هما الردّ الأقوى على هذه المخططات.

وعلى الصعيد السياسي، تحرّكت الحكومة الجديدة بحنكةٍ لكسب الاعتراف الدولي، وهو ما أثار استياء إسرائيل، وهذا النجاح الدبلوماسي، الذي يمهّد لدعمٍ اقتصاديٍ لإعادة الإعمار، يعزّز شرعية الدولة الوليدة ويجعل التدخل العسكري الصهيوني المباشر أمراً مستبعداً، خاصةً مع تماسك الشعب السوري للدفاع عن وطنه.

بعض الأصوات ترى أن الحلّ يكمن في المشروع الكردي الذي تدعمه “قسد”، معتبرةً أن له حقاً تاريخياً في المناطق الغنية اقتصادياً بشرق الفرات، لكن هذا الطرح يتناقض مع واقع الدولة السورية الموحّدة، التي تؤكد السلطات الجديدة على حقوق جميع الطوائف في إطارها، فأيّ انفصالٍ أو تقسيمٍ سيخدم فقط أجندة إسرائيل والغرب، ولن يحقّق الاستقرار المنشود.

إسرائيل، بقيادة نتنياهو، لن تتجاوز حدود التصريحات والتدخلات المحدودة، لأنها تعلم أن الشعب السوري المتكاتف قادرٌ على إفشال مخطّطاتها، والدولة السورية الجديدة، التي حظيت بقبول غالبية المجتمع الدولي، تملك اليوم فرصةً تاريخيةً لإعادة بناء نفسها، شريطة أن يظلّ شعبها متمسكاً بوحدته وواعياً للمؤامرات التي تحاك ضدّه، ففي النهاية، لن تكون القوة العسكرية أو الدعم الخارجي وحدهما كفيلين بالانتصار، بل إرادةُ شعبٍ يرفض التقسيم ويسعى لاستعادة كرامته وسيادته.

عندما ننظر إلى مساعي بنيامين نتنياهو تجاه الدروز في سوريا، يتبادر إلى الذهن سؤالٌ مشروع: هل يسعى نتنياهو فعلاً لحماية الدروز، أم أن الأمر مجرد لعبةٍ سياسيةٍ تهدف إلى توريطهم، واستغلالهم، وحتى تدميرهم معنوياً لتحقيق أهدافٍ أكبر؟ لنكن صريحين، فالتاريخ يعلّمنا أن الدول، وإسرائيل ليست استثناءً، لا تتحرك عادةً بدافع الإنسانية، بل بدافع المصلحة، والمصلحة هنا تبدو واضحةً: إضعافُ سوريا عبر دقّ الأسافين بين مكوّنات شعبها، وفق مبدأ “فرّق تسد” الذي أثبت فعاليته عبر العصور.

لطالما راهنت إسرائيل على مشاريع تفكيك سوريا، وكان أبرزها في السابق الرهان على الوحدات الكردية كقوةٍ قادرةٍ على تقطيع أوصال البلاد، لكن مع تراجع هذا الرهان لأسبابٍ سياسيةٍ وعسكرية، تحوّلت الأنظار نحو مدخلٍ جديد: الدروز.

إن تردد الدروز في حسم موقفهم تجاه التغيرات الأخيرة في سوريا، سواءٌ بالانضمام إلى الإدارة الجديدة أو مواجهتها، يمنح إسرائيل هامشاً ذهبياً للتلاعب بهذا الواقع.

لنطرح السؤال بصراحة: متى كانت الدول، وبالأخصّ إسرائيل، تتعامل بمبدأ الإنسانية؟ وما الضيم الكبير الذي وقع على أهل السويداء حتى يُقال إن هناك حاجةً لـ”حمايتهم”؟ الحقيقة أن القصة أعمق من مجرد شعارات، فأهل السويداء، بوطنيتهم التي لا تُنكَر، يقفون اليوم على محكّ اختبارٍ وطنيٍ حقيقي، فهم ليسوا بحاجةٍ إلى “حماية” خارجيةٍ بقدر ما هم بحاجةٍ إلى وحدةٍ داخليةٍ تحميهم من الوقوع في فخّ الاستغلال.

سوريا الموحّدة، بكل مكوّناتها، تشكل خطراً وجودياً على إسرائيل، وهذا ليس افتراضاً بل حقيقةٌ تاريخية، ولهذا لا يمكن قراءة مساعي نتنياهو تجاه الدروز إلا كجزءٍ من استراتيجيةٍ أوسع تهدف إلى تأجيج الانقسامات الداخلية في سوريا، ليس فقط لإضعافها بل لإبعادها عن أي مواجهةٍ محتملةٍ مع إسرائيل.

الدروز هنا ليسوا هدفاً للتدمير المباشر، بل أداةٌ يمكن تطويعها لخدمة المصالح الإسرائيلية، كما حدث مع دروز فلسطين الذين جُنّدوا تاريخياً ليكونوا جزءاً من النسيج السياسي والعسكري للدولة العبرية.

في النهاية، دعمُ إسرائيلَ للدروز في سوريا ليس سوى ورقةَ ضغطٍ ودعايةٍ سياسيةٍ تُدار بعناية، أي أن نتنياهو لا يريد “حماية” الدروز بقدر ما يريد استغلالهم لتعزيز الفوضى وتقويض وحدة سوريا، والسؤال الذي يبقى معلّقاً: هل سينجح في ذلك، أم أن وعيَ أهل السويداء وتمسّكهم بوطنيتهم سيفشل هذه اللعبة؟ الجواب يعتمد على الدروز أنفسهم، لا على نتنياهو ونواياه.

————————————

مشروع حماية الدروز”: حرب نتنياهو على الدولة السورية الجديدة/ شادي علاء الدين

2025.02.27

تسعى إسرائيل تحت قيادة بنيامين نتنياهو وفي خضم التحولات السياسية والعسكرية التي تشهدها سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، إلى إعادة صياغة معادلات السطوة في الجنوب السوري عبر مشروع “حماية الدروز”، الذي يشكل في جوهره محاولة ممنهجة لإنشاء حزام أمني جديد داخل الأراضي السورية، على غرار ما حاولت إسرائيل فرضه في جنوبي لبنان خلال فترة الاحتلال عبر “جيش أنطوان لحد”.

تمتد المناطق التي يشملها مشروع نتنياهو من الجولان المحتل إلى محافظة القنيطرة، ثم درعا والسويداء، وصولاً إلى جنوبي دمشق وريفها. هذه الرقعة الجغرافية تمثل أهمية استراتيجية لإسرائيل لعدة أسباب، أولها أنها تشكل حاجزاً طبيعياً أمام أي امتداد عسكري سوري اتجاه الحدود، وثانيها أنها ترتبط مع شبكة طرق حيوية تربط سوريا بالأردن، مما يمنح إسرائيل قدرة على السيطرة على أهم المنافذ التجارية الأساسية لسوريا الجديدة، وثالثها أن هذه المناطق، بحكم طبيعتها الديمغرافية، تمكنها من اللعب على المخاوف الطائفية والمناطقية.

تمتلك إسرائيل خبرة واسعة في توظيف الأقليات الدينية والطائفية لمصلحتها، ولا تكتفي بتوظيف هذا المشروع في سوريا، بل تحاول تعميم نموذج “الحزام الأمني” على أكثر من جبهة.

ويستند المشروع الإسرائيلي في سوريا على فكرة الحماية الظاهرية للدروز، لكنه يهدف في عمقه إلى فرض واقع جديد.

تل أبيب تدرك أن نجاحها في إقامة حزام أمني في جنوبي سوريا سيوفر لها ثلاث فوائد أساسية: الأولى هي ضرب سلطة الدولة السورية الجديدة، عبر منعها من بسط سيادتها على كامل أراضيها، والثانية هي تأمين حدودها مع سوريا بأقل كلفة عسكرية ممكنة، من خلال الاعتماد على قوات محلية بديلة، والثالثة هي تعزيز نفوذها الإقليمي عبر فرض معادلات ميدانية تفرض لاحقاً على المجتمع الدولي التعامل معها كأمر واقع.

الرفض الشعبي لهذا المشروع في الجنوب السوري كان واضحاً منذ اللحظة الأولى. الدروز، الذين عانوا من تهميش كبير من قبل النظام السوري الأسدي لا يرون في إسرائيل خياراً يمكن الوثوق به. معظم القوى الدرزية، رغم خلافاتها الداخلية، تدرك أن الانخراط في المشروع الإسرائيلي سيضعها في مواجهة مباشرة مع باقي المكونات السورية، وسيفتح الباب أمام صراعات دموية.

الرفض الشعبي لا يعني أن إسرائيل ستتراجع عن مشروعها بسهولة. حكومة نتنياهو تراهن على أمرين: الأول هو الضغط الاقتصادي، حيث تعيش مناطق الجنوب السوري أوضاعاً صعبة والثاني هو التحركات السياسية، حيث قد تحاول فرض واقع مستجد من خلال دعم شخصيات درزية موالية لها، والسعي إلى تقديمها كبديل عن القيادة التقليدية للدروز.

الدولة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع التي تحاول إنشاء بنية مؤسساتية محكمة كانت الحرب قد دمرتها، تدرك أن إبداء أي تساهل مع المشروع الإسرائيلي سيفقدها السيطرة على الجنوب نهائياً، لكن في الوقت ذاته، فإن قدرتها على المواجهة العسكرية المباشرة محدودة، نظراً للضغوط الاقتصادية والدولية التي تواجهها. السيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن تعمل دمشق على تعزيز وجودها غير المباشر في الجنوب، عبر استقطاب الفصائل المحلية، ومحاولة بناء تحالفات مع القوى البارزة الرافضة للمشروع الإسرائيلي والضغط من خلال المسارات الدولية والإقليمية.

ولا يتوقع أن تنظر الولايات المتحدة تحت ظل إدارة ترمب بعين الرضا الكاملة إلى مثل هذا المشروع، لأنها تسعى إلى الإنهاء السريع للصراعات المندلعة في المنطقة للتفرغ للعناوين الأكثر أهمية بالنسبة لها، والمتعلقة بفرض سطوة تكنولوجية اقتصادية على العالم. وتاليا فإن المشروع الإسرائيلي بما يتوقع أن يستجره من توترات وصراعات مفتوحة ومستمرة لا ينسجم في آفاقه المتوقعة مع المسار الأميركي، لذا قد تجد حكومة نتنياهو صعوبة في إقناع الحكم الأميركي الجديد بدعمه.

إسرائيل، وفي حال السير بخطوات تنفيذية، ستخوض هذه المغامرة بمفردها في مواجهات تكتلات من المصالح الدولية والإقليمية والمحلية التي تتعارض معها بدرجات متفاوتة من الشدة.

وتتصدر روسيا قائمة الدول المتضررة من طموحات إسرائيل في الجنوب السوري وهي دولة لا تزال تمتلك نفوذا كبيرا وفاعلا في سوريا، ويرجح أن يزداد مع حسم الحرب الأوكرانية لصالحها عبر مفاوضات لا يمتلك فيها الطرف الأوكراني عناصر قوة في ظل انكفاء الدعم الأميركي.

إيران من جهتها قد تجد في هذا المشروع فرصة لإعادة تعزيز نفوذها المتهالك، عبر تفعيل عنوان مواجهة المخططات الإسرائيلية، مما قد يفتح الباب أمام صراع جديد بالوكالة بين طهران التي تسعى للدفاع عن حضورها في سوريا، وإسرائيل التي تبذل جهودا كبيرة في محاولات تصفية الوجود الإيراني في دمشق ومحاولات تهريب السلاح إلى حزب الله في لبنان.

وكذلك فإن فكرة فرض المشروع بالقوة العسكرية دونه محاذير كثيرة فالواقع السوري الجديد لا يتطابق مع الظروف الفلسطينية واللبنانية لناحية فرض واقع جديد عبر النار، لأن نتنياهو لن يجد نفسه في مواجهة سلطة محلية وحسب، ولكنه سيدخل في مواجهة مع شبكات مصالح كبرى ترعاها دول وازنة.

من هنا فإن مشروع “حماية الدروز” الذي يروج له نتنياهو يهدف إلى فرض واقع إسرائيلي جديد في سوريا، و في لبنان أيضاً، عبر إنشاء أحزمة أمنية تخدم مصالح إسرائيل على المدى الطويل. لكن هذه الاستراتيجية، تحمل في طياتها مخاطر كبيرة إذ إنها قد تؤدي إلى تقسيم المنطقة وتفتيتها وتعطيل مشاريع السلام كما ستعطي حجة متينة لنشوء أنواع جديدة من الاعتراض المسلح على الوجود الإسرائيلي يرجح أن تكون أكثر راديكالية وتشددا.

كل ذلك من شأنه أن يخلق واقعاً متفجرا تصعب السيطرة عليه وإدارته في مواجهة معادلات سلطة سورية جديدة تطرح عنوان وحدة الأراضي السورية كعنوان عام لشرعيتها، ومشاريع عربية تطرح الحلول العادلة للقضية الفلسطينية وضبط الأوضاع في لبنان والمنطقة عموما كشروط أساسية للسير في عملية السلام.

——————————–

قوات إسرائيلية في مواقع إيرانية… وهوية الجنوب السوري تتغيّر!

اقتحام مواقع عسكرية بعينها يشي بوجود أسلحة تريد إسرائيل إتلافها لمنع وقوعها في متناول الفصائل أو الإدارة السورية الجديدة…

جاد ح. فياض

يتجه الاهتمام نحو الجنوب السوري، حيث تنشط إسرائيل لتغيير وجه المنطقة وواقعها السياسي والأمني. وبعد التقدّم نحو جبل الشيخ والادّعاء بتقديم الحماية للطائفة الدرزية، نفّذت إسرائيل أعمق توغّل لها فوصلت إلى قمّة تل المال في درعا بعمق 13 كيلومتراً، وعملت على تدمير بنى تحتية عسكرية كانت تستخدمها الجماعات الإيرانية و”حزب الله”، وفق وسائل إعلام عبرية.

هذه الحركة تشي بأن إسرائيل تسعى لإرساء تغييرات من شأنها تشكيل منطقة جغرافية شبه عازلة تفصل بينها والإدارة السورية الجديدة والفصائل المسلّحة، وتدمير كل إمكانات عسكرية تسلّحية وبنى تحتية في هذه المنطقة، لضمان أمنها وإبعاد التنظيمات التي قد تشكّل خطراً عليها، تفادياً لسيناريوات مشابهة لـ7 أكتوبر من جهة، وتحضيراً لواقع سياسي جديد في الإقليم قائم على التقسيم.

بالعودة إلى التوغّل الإسرائيلي في تل المال، يتحدّث مدير شبكة “درعا 24″، الذي يفضّل عدم ذكر اسمه، عن الواقعة، فيقول إن “القوّة الإسرائيلية وصلت إلى محيط تل المال والسرية العسكرية السابقة في ريف درعا الشمالي، وقامت بعمليات تدمير للبنى التحتية وتفتيش عن بقايا أسلحة”، لافتاً إلى احتمال وجود معدات رصد واستطلاع كون هذه المواقع كانت مخصّصة لهذه المهام.

هذا الاقتحام يندرج ضمن سلسلة توغلات نفّذتها القوات الإسرائيلية في الجنوب السوري. وفي هذا السياق، يشير مدير الشبكة إلى دخول الجيش الإسرائيلي إلى بلدة مسحرة وريف القنيطرة الأوسط، والتوغّل في قرية عابدين بحوض اليرموك – ريف درعا الغربي، حيث تمركزت لساعات، ثم انتقلت إلى ثكنة الجزيرة العسكرية القريبة من قرية معرية.

اقتحام هذه المواقع العسكرية يشي بوجود أسلحة تريد إسرائيل إتلافها لمنع وقوعها في متناول الفصائل أو الإدارة السورية الجديدة، حتى لا تشكّل لها أي تهديد مستقبلي، ووفق مدير “درعا 24″، فإن هذه المناطق التي دخلتها إسرائيل وتقع على حافة الجولان، “شهدت وجوداً عسكرياً متعدداً نتيجة الصراع السوري وتدخلات الدول الإقليمية”، وهي جماعات إيرانية و”حزب الله”.

هذه الاقتحامات قد تكون مقدّمة لتوغّلات أخرى في الجنوب السوري، وعمليات في مختلف المناطق حتى تلك البعيدة عن الحدود الفاصلة بين سوريا وإسرائيل، وخصوصاً أن الأخيرة نفّذت في السنوات الماضية عمليات قصف وإنزال قبل سقوط نظام بشّار الأسد، وذلك بهدف تحييد أي خطر عسكري عليها قد يتخذ من سوريا منطلقاً لها.

تدمير البنى التحتية العسكرية في الجنوب السوري ومنع الفصائل من امتلاك أسلحة نوعية وأنظمة رصد يتكامل مع مشروع التقسيم الذي تسعى إليه إسرائيل وتموّله، وفي هذا السياق، توافرت معلومات لصحيفة “وول ستريت جورنال” عن تخصيص مليار دولار لمساعدة الدروز شمال إسرائيل، مع العلم أن نسبةً كبيرة من الأموال المخصّصة لهؤلاء الدروز من إسرائيل تُرسل من خلالهم إلى دروز سوريا.

الهدف يكمن في إنشاء مناطق منزوعة السلاح و”مدجّنة” سياسياً وأمنياً، تكون عبارة عن مساحات جغرافية تفصل إسرائيل عن كل محيط قد يشكّل خطراً عليها، وتكون الجماعات التي تسكن بها بشكل غير مباشر “حرس حدود” لإسرائيل، تمتنع عن مهاجمتها كونها تحت حمايتها وتمويلها، وتمنع أي طرف عسكري من الاقتراب من الحدود وتهديد أمن إسرائيل.

في المحصّلة، فإن الأنظار ستتجه في المرحلة المقبلة إلى التحرّكات الإسرائيلية السياسية والعسكرية والأمنية في الجنوب السوري، ومحاولات الإدارة العبرية تنفيذ مشاريع استراتيجية تقسيمية مرتبطة بالأمن القومي لتل أبيب، لكن العين أيضاً على مقاربة الإدارة السورية الجديدة وسكّان الجنوب السوري لهذه التحرّكات، لمعرفة رسم معالم اليوم التالي.

النهار العربي

————————–

جنبلاط يقطع الطريق أمام إعطاء ذريعة لتدخل اسرائيل في سوريا/ زياد سامي عيتاني

2025-03-07

ما حدث مؤخراً في مدينة جرمانا ذات الأغلبية الدرزية وأدى إلى مقتل شخص وإصابة تسعة أشخاص آخرين، لا يختلف في دلالاته عن حوادث مشابهة جرت في الساحل السوري، وتم تطويقها، على قاعدة أن المرحلة الانتقالية التي تشهدها سوريا من الطبيعي أن تشهد مثل هذه الممارسات الشاذة، قبل أن يتمكن الحكم الجديد من فرض سلطته الأمنية على كامل الأراضي السورية، على الرغم من أنها عملية معقدة وتحتاج الى وقت وحكمة بسبب التركيبة المجتمعية السورية، التي يحاول البعض، لا سيما فلول النظام البائد والخارجي “المعادي” إستغلالها لتأجيج صراعات مذهبية وعرقية.

إلا أن الاختلاف بين ما حصل في الساحل وجرمانا، كان في دخول إسرائيل على الخط، معلنة أنها ستوفر “الحماية” للطائفة الدرزية، وأصدر رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يسرائيل كاتس تعليمات للجيش تقضي بالاستعداد لحماية الدروز في مدينة جرمانا القريبة من دمشق، بزعم تعرضهم لهجوم من القوات السورية الجديدة. وقال نتنياهو وكاتس في بيان مشترك: “لن نسمح للنظام الارهابي للإسلام المتطرف في سوريا بإلحاق الأذى بالدروز، إذا أساء النظام إليهم، فسوف نؤذيه”.

محاولة إسرائيل “إستمالة” دروز سوريا لم تنجح، إذ سارع أبناء الطائفة ووجهاؤها إلى رفض الوصاية الزائفة، بحيث لم يخفَ عليهم أن إسرائيل تحاول استغلال الوضع الحالي في سوريا لتحقيق أهداف شريرة بعيدة المدى، وأعلنوا بوضوح أنهم قادرون على إدارة شؤونهم وحل مشكلاتهم ولا يريدون أيّ تدخل خارجي في الشأن السوري.

هنا لا بد من التأكيد أن إسرائيل تعتبر أن حكومة أحمد الشرع غير مستقرة وتواجه تحديات كبيرة في إدارة التعددية والتنوع في سوريا، إذ إن “براغماتية” أحمد الشرع وموقفه المسالم ورغبته في عدم الاصطدام مع الداخل ودول الجوار لم تقنع اليمين الاسرائيلي، الذي فضّل التعامل معه بناءً على نواياه غير المعلنة، والتي افترضت إسرائيل أنها لن تكون في صالحها في نهاية الأمر، وهو ما أكده وزير الخارجية الاسرائيلي جدعون ساعر بوصفه حكومة الشرع أنها “جماعة إرهابية إسلامية من إدلب استولت على دمشق بالقوة”، مؤكداً أن “إسرائيل لن تتنازل عن أمنها على الحدود”. و”ضمان” أمن إسرائيل، ترجمته تل أبيب إلى مئات الغارات التي شنتها على مواقع عسكرية في العاصمة دمشق والعديد من المدن الأخرى، ملحقة تدميراً واسعاً بالبنية العسكرية للنظام السابق.

ويأتي هذا التأجيج الطائفي في الوقت الذي تبحث فيه إسرائيل عن مسوّغ يمهد لتدخلها بصورة مباشرة في سوريا واستغلال المرحلة الانتقالية لفرض واقع أمني وعسكري توسعي داخل العمق الجغرافي السوري.

الأهداف المخفية لإسرائيل من وراء إصرارها على “حماية” الدروز، دفعت “الزعيم” الدرزي النائب السابق وليد جنبلاط إلى إتخاذ موقف حاسم بصورة فورية للتأكيد على الإرث الوطني والعروبي لأبناء الطائفة الدرزية، ولقطع الطريق على المخطط الاسرائيلي “الخبيث”، متهماً تل أبيب بأنها تريد التمدد إلى جبل العرب في سوريا. وحذر من حرب أهلية يسعى إليها “بعض ضعفاء النفوس”، كاشفاً أنه ذاهب إلى دمشق لتأكيد “مرجعية الشام بالنسبة إلى الدروز”. وقال جنبلاط عقب اجتماع استثنائي عقدته الهيئة العامة للمجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز في دار الطائفة بالعاصمة بيروت: “نعوّل كثيراً على الشخصيات العربية السورية من كل الأطياف لمواجهة مخطّط إسرائيل الجهنمي”، في رسالة تهدف إلى لفت نظر السوريين إلى خطر الاستقطاب الطائفي والعرقي في ضوء ما يجري في جرمانا الدرزية القريبة من العاصمة دمشق وخطر توسيع دائرة الصراع إلى تصعيد إقليمي.

موقف جنبلاط “الحكيم”، الذي سيقترن بتحرك عملي، ينبع أولاً من حرصه على منع أن يكون دروز سوريا سبباً وبالتالي وقوداً لحرب داخلية، وبالتالي تحييدهم عن الصراعات التي تشهدها المنطقة، من خلال تحشيد العقلاء في الطائفة، قطعاً للطريق أمام زجها في حرب “عدمية”، من موقع الزعامة الدرزية التاريخية لـ “المختارة”، وتأثيرها على الموحدين الدروز ليس في لبنان وحسب، بل في سوريا وفلسطين المحتلة.

وعلى الرغم من الضغوط والتهديدات التي يتعرض لها الدروز في سوريا تزامناً مع بدء المرحلة الانتقالية بقيادة أحمد الشرع، ينظر جنبلاط إلى الخطر ببعده الأشمل معارضاً توظيف قضيتهم في خوض حرب جديدة بالمنطقة وجرهم إليها، وهذا ما دفعه لأن يذهب مجدداً إلى سوريا ولقاء الشرع لتطويق هذا الخلاف من خلال الحوار، بدلاً من أن يحسب على الدروز أنهم كانوا سبباً في إثارة الحرب وإعطاء شرعية للتدخل الاسرائيلي في سوريا. ومن جهة أخرى يريد جنبلاط المحافظة على الإرث التاريخي الوطني والعروبي للزعيم الراحل سلطان باشا الأطرش وعلو الهوية السورية العربية لدروز سوريا، لتحشيد العقلاء في الطائفة، رفضاً لوصاية مزعومة يريد نتنياهو فرضها عليهم.

جنبلاط يستحضر روح سلطان باشا الأطرش، الذي كان أول من بادر الى التحرك لحث السوريين على المقاومة، وأول من رفع علم الثورة العربية على أرض سوريا قبل دخول جيش الملك فيصل، بعد أن رفض مشروع إنشاء دولة درزية عام 1921، وقال الأطرش سنة 1925: “أيها العرب السوريون تذكروا أجدادكم وتاريخكم وشهداءكم وشرفكم القومي، تذكروا أن يد الله مع الجماعة، هيا إلى السلاح أيها الوطنيون تحقيقاً لأمان البلاد وتأييداً لسيادة الشعب وحرية الأمة”.

جنبلاط من خلال عمق معرفته بالمخاطر التي تحيط بدول المنطقة، يسعى بحكمة وعزيمة الى إستنهاض الدور التاريخي لدروز سوريا الذين كانوا في طليعة المقاومين للإستعمار، للمحافظة على هذا الدور، وما التظاهرات التي يشكلون القوام الرئيسي لها، في السويداء الا أحد أشكال هذه المقاومة ضد محاولة الصهاينة عزلهم عن مجتمعهم ووطنهم عبر إعلان نتنياهو أن الكيان الاسرائيلى لن يسمح بالمساس بهم.

—————————–

حتى لا تعيدنا إسرائيل إلى زمن الغفلة/ عز الدين أعرج

7 مارس 2025

شرح باحثون فلسطينيون وعرب طوال عقود أن رفض التطبيع مع إسرائيل ليس مجرد خيار عاطفي أو أيديولوجي، ولكنه مرتبط بالمصالح الاستراتيجية للشعوب والدول العربية. وقد بيّنت اتفاقيات التطبيع منذ كامب ديفيد، ثم الحروب الأهلية التي انخرطت إسرائيل فيها بشكل مباشر، والأنظمة السياسية المستبدة التي منحتها شرعية، أن حتى المبررات البراغماتية للتطبيع هشة، وأن أسئلة المنطقة، من الاقتصاد إلى النظام السياسي والتحول الديمقراطي والاستقرار والحريات والحقوق الدينية، لا تجيبها إسرائيل ولا التحالف معها.

ربما يكون جزء من دروز فلسطين ومجموعات أخرى ممن اختاروا أن ينسلخوا عن مجتمعهم، وحاولوا الاندماج في المشروع الاستعماري الاستيطاني ضد مجتمعهم، أبرز مثال على هذه الخلاصة. فبعد عقود من الخدمة العسكرية ومن الوقوف في الصف الأول ضد ناسهم بالنار والمدافع، لا تحظى هذه المجموعات بأكثر من مواطنة درجة ثالثة على أفضل تقدير. ورغم أنهم فهموا أن الانتماء إلى الأمة الاستيطانية لا يصير سوى بمزيد من العنف ضد السكان الأصليين، فقد اصطدموا بحقيقة لا مفر منها؛ أنه كلما توسع المشروع الاستيطاني بهم، ضاقت تعريفاته لنفسه عنهم. فطبيعة الدولة لا بد أن تكون يهودية، وإن أُنجز ذلك عبر آخرين.

لم تنسلخ هذه المجموعات عن جماعتها الوطنية فقط، ولكنها عبر محاولاتها الفاشلة للاندماج في المشروع الاستيطاني في فلسطين، تخلت عن جزء من هويتها، وسمحت لهذا المشروع أن يعيد صياغتها في “زمن الغفلة” على حد تعبير المؤرخ الراحل قيس فرو، الذي لا يزال أبرز من أرّخوا لهذه الانتكاسة المستمرة. فسمحت لهذا المشروع أن يحولها إلى أقلية، تعتمد في مطالباتها على خطاب وسلوك يشبه خطاب وسلوك المرتزقة، تستجدي حقوقها عبر ممارسة العنف ضد مجتمعها. وهذا ما فهمته شرائح واسعة من المجتمع الدرزي في فلسطين، ممن اختاروا أن يحتموا بشعبهم بدل أن يحتموا بالعنف ضده. وكذلك فعل المجتمع السوري في الجولان المحتل طوال عقود.

في سوريا اليوم وبعد سقوط نظام الدكتاتور، تحاول إسرائيل إعادة إنتاج زمن الغفلة في واقع مفتت ومليء بالتحديات. وحيث يعيد فلول النظام السابق تنظيم أنفسهم في خطاب أقليات طائفي، وجدت إسرائيل في نفس الخطاب فرصة. فقد صار واضحًا أن سوريا الجديدة تخيف تل أبيب، ليس لأن الإدارة الجديدة نفسها تقلقها، فهذا متروك للزمن، ولكن لأنها تجد في أي إدارة عربية جديدة خطرًا. ولطالما فضّلت إسرائيل، صراحًة، استبدادًا ثابتًا يسهل فهمه والتعامل معه، على نظام سياسي حيوي يتغير. ولذلك فقد كانت معاداة إسرائيل لأي تحول ديمقراطي في المنطقة العربية، بالنسبة لها، حاجة أمنية.

ليس أمام السوريين خيارات كثيرة أمام هذا الواقع، فقد استغلت إسرائيل انهيار نظام الدكتاتور وانكسار عربي شامل لتتوسع وتحتل مناطق جديدة من البلاد. لكن على الأقل، من المهم ألا نسمح لإسرائيل اليوم بإنتاج زمن غفلة جديد. ليست هذه فقط مسؤولية المجموعات التي تحاول إسرائيل استقطابها بوعود صار معروفًا أنها مضللة، ولكنها مسؤولية السوريين جميعهم، ومسؤولية الإدارة الجديدة. فإجابة خطاب الأقليات هي مشروع وطني جامع، يعيد إنتاج هوية سورية تتجاوز المأساة، وتنتج مسارًا متكاملًا من المصالحة والتعافي لا التشفي والانتقام. ولا بد للمظلوميات، حتى لو كان جزء منها طائفيًا بسبب طبيعة عنف النظام السابق، أن تصاغ أيضًا بلغة وطنية لا طائفية.

ليس هذا كلامًا نظريًا، ولكنه رحلة شاقة وطويلة. فسوريا الجديدة لا تستقر فقط بتفاهمات إقليمية، ولا باستبدال مؤسسات النظام السابق، وبالتأكيد ليس عبر النظر إلى سقوط النظام كلحظة خارج التاريخ؛ إنصاف لمجموعة وعقاب لمجموعات أخرى. إن ما تركه النظام وعنفه الطائفي إرث ثقيل، فعبر سنوات من العنف المنظّم حاول القضاء على أي هوية جمعية وتحويل المجتمع السوري إلى أقليات ضد أغلبية. وبنفس الطريقة، يقوم فلوله اليوم، ممن لم يبق لهم سوى الفوضى كخلاص، بمحاولة إنتاج نفس المنطق. وعلى الإدارة الجديدة أن تجابه مثل هذا الخطاب بالممارسة قبل البلاغة السياسية، فهو باب مفتوح ليس فقط للفلول ولكن لإسرائيل أيضًا. العدالة والإنصاف والهوية الوطنية الجماعية هي فقط ما يمكن أن يغلق هذا الباب ورياح أزمنة الغفلة التي تتسرب عبره.

الترا سوريا

————————–

====================

————————-

ملاحظات

Malath Alzoubi

في مزاج سنّي ظافر ومنتشي بسوريا، مشكلته مركبة جداً، حاسس بفوقية تجاه الآخرين وأحقية امتلاك البلد حرفياً، ومتعامي قديش هو نفسه ضعيف وهزيل وأساسا غير متماسك ومش حيقدر يشد عصب كل السنّة السوريين وراه. حيسبب أذى للطوائف الأخرى أكيد، بس حينأذى كمان. اليوم ما في قدرات وجاهزية وعديد مقاتلين كافي ليضبط الأمن داخل سوريا على المستوى الجنائي، فما بالنا على مستوى الصدام مع جماعات أهلية أخرى وضبط الحدود والجاهزية لأي تدخلات خارجية. هذا بينما البلد فعلياً ومش مجازاً على الأرض ووضع البشر المعيشي والخدمي صار أسوأ من ما قبل ٨ ديسمبر/ كانون الأول واللي كنّا مفترضين إنو ما حيصير أسوأ منه.

ما في أي نية ولا قرار لليوم عند السلطات الحالية بإشراك قوى سياسية أخرى بشكل فعلي، ولا الاستعانة بخبرات حقيقية عندها استقلالية  عن السلطات وما حتكون مجرد تابعة منفذة للأوامر. والسلطات نفسها ما عندها الخبرة الكافية أساسا لتدير دولة ومؤسساتها، ومسيطر عليها شعور بالاكتفاء والامتلاء بالنفس وخاصة إنها مفكرة إنو هي فعلاً أسقطت النظام لوحدها، هذا عدا عن زهوها واقتناعها بالنجاح الكاسح لـ”تجربة إدلب” ما قبل سقوط الأسد. اختصار النظام اليوم هو موسى العمر، ومش عم نمزح هون: مزيج الرداءة المهنية والانتشاء السني وغياب المؤسسية.

مقابل هالمزاج، في أمزجة طوائفية وعرقية متفرقة، ما حدا فيها حابب يقدم تنازلات مؤلمة بدوره، ولا يشوف بعينتين مفتوحتين وبضمير متواضع شو صار بالعرب السنّة بين ٢٠١١ و٢٠٢٤.

Wael Merza

الكلام كتير حدّي ملاذ.. بتفهَّم كلامك لما نسقطو على بعض النماذج.. بس أرجو مايكون المقصود تعميم الوصف بالنص الأول من الكلام على جماعة بشرية كاملة لو بتدور شوي أكتر بتلاقي أديش هية عم تشعر بأنو في تعالي وتكبر كبير عليها ممزوج بتجاهل اللي صار معها (اللي اختصرتو بسطر بآخر كلامك رح ينقرى أنو من باب رفع العتب) وفوقها بتضل هي مطالبة بكل المراحل أنو تضحي وتتعالى عالجراح.. وبالآخر بتقرأ متل هالتوصيف إلها: “ضعيف وهزيل وأساسا غير متماسك”. عم نطالب دائماً بمغادرة المظلومية وبالترفع على الماضي. بس لما نوصل لاستحقاق معين الناس ماعاد عندها شي تخسروا أكتر، ولهيك “شد العصب” ممكن أكتر مما نأمل ونتصور بكتير.. صدقني في مئات آلاف وصلان الوضع معها لحالة الشعور بالاختناق. فبالتالي المقام هون بتصور مو مقام التحدي أنو “أنتو ماراح تحسنوا تسيطروا عالدولة بهالظروف” لأنو الموضوع ماعاد يصير موضوع احتفاظ بالسيطرة عالدولة، وإنما بيصير موضوع وجودي. لهذا ياريت نحاول نقرأ الواقع بشكل أكتر شمولية وعمق. مثلاً لما نطلب إشراك قوى سياسية أخرى. الكلام صحيح ١٠٠٪ ولازم نضل نناضل سوا، ومن مداخل مختلفة، ليصير حقيقة (وانت بتعرف شو طبيعة المراحل الانتقالية بالتراكم الأكاديمي حول الموضوع). بس بالمقابل، شو نساوي بتصدي (رجال الدين) لتمثيل الناس بالجنوب والساحل مثلاً وبشكل شبه مطلق؟ شفت فيديو السيدة حنان معروف عن الهجري؟ ليش مابيصير حكي واضح ومباشر (مو عام وموارب وكتير مختصر) عن هالقضايا وبالتحديد من قبل المثقفين الديمقراطيين؟ شو يعني وجود شي اسمو (درع جرمانا) بالعاصمة وأنو ممنوع تفوت الدولة عليه؟ شو يعني لما يجي وفد من السويدا بيكون الحكي أنو “مشايخنا ماحدا بيمسهم”؟ وكمان بالمقابل، ليش السكوت عن التصرف الإيجابي كتير للأمن بالتعامل مع هادا الموضوع؟ وليش بيتم تجاهل أنو لو السلطة بدها تتصرف حسب مشاعر البعض غير الله ماكان بيعرف شو بيصير؟ انت بتعرف أنو مافي بالحياة السياسية، وتحديداً ببلد متل سوريا، أسهل من إطلاق شعارات كمبادئ لهالحياة، بتعميم وبتجريد، وبعدين إغفال ضرورة المتابعة المنهكة بما يتعلق بتفاصيل تنزيلها على الواقع. معلش الحكي صار طويل، بس لسا الموضوع بيحتاج شغل كتير وبشكل مؤسسي ومشترك عليه. وتحياتي

Malath Alzoubi

Wael Merza شكرا للرد أستاذ وائل، آخر سطر بكلامي ليس من باب رفع العتب. ما أقصده بالضعف والهزل هو مدى القوة الفعلية العسكرية والاقتصادية حالياً. أما لما أقول في مزاج سني ما فما عم احكي عن جماعة بشرية كاملة، وأنا ما عم طالبها بقدر ما عم طالب أشخاص ممسكين بالسلطة. أما بخصوص

الفيس بوك

هل الاسلام العلماني ممكناً؟/ براء موسى

في اسطمبول تستطيع أن ترى الكلاب الشاردة سارحة في شوارعها وحاراتها وبين حوانيتها، والناس يعاملونها باحترام وحنان، وفي المدن السورية قلّما ترى الكلاب في أماكن البشر، فتعاليم الاسلام السورية  بشكل عام تصرّ على نجاسة الكلب، بل نجاسة أنفاسه أيضا، ووجوب تطهير الوعاء إذا “ولغ” أو شرب  منه كلب بغسله سبع مرات إحداها بالتراب، فهل يختلف المذهب السنّي السوري عن شقيقه التركي؟

واقع الحال يُشير إلى ذلك بالفعل، فالمنهج الصوفيّ الذي يغلّف المذهب السنّي في تركيا، هو غيره في سورية، حيث المنهج الصوفيّ في سورية يختلط بنسب متفاوتة مع المنهج السلفي، ويصعب الفصل بينهما فقهاً وممارسة، وليس هذا المعيار الوحيد للفروقات في المذهب السني نفسه، بل نجد له ألواناً في كلّ بقعة من بقاع الأرض، فهو في مصر مثلاً غيره في أندونيسيا، وفي بلاد الشام يختلف عن الشمال الافريقي، وهكذا، إذ لكلٍ حمولته التاريخية المختلفة، وصفاته الراهنة بحسب مقتضى الحال، وثمّة فرق جذري بين الاسلام العربي، والشعوب المسلمة من غير العرب، فالاسلام والعروبة اندغما ببعضهما تماما، وأنتجا ثقافة واحدة بحيث يصعب الفصل بينهما، وأمّا الشعوب التي أسلمت، فإنّها اتخذت الاسلام ديناً، ولكنها حافظت على ثقافتها بنسبة كبيرة، ولعل ذلك يلقي بعض الضوء على الاختلاف السنّي السنّي، وبذات الوقت يجعل من الصعب عمليّاً أن يكون لسنّة العالم مرجعية واحدة جامعة.

للنهج الصوفي مسحة إنسانية عالمية يفتقر إليها النهج السلفي، يُختزل في الفرق بين التأويل المفتوح، و غلْق باب الاجتهاد، ولكن في سورية لامعالم واضحة في الفروقات بين النهجين، وقد عمل نظام البعث والأسدان على عدم الاعتراف الرسمي بالأول، وخنَق الثاني، و لكن إلى حين،، فمع بداية القرن الحالي دجّن النظام النهجين بما يخدم مصالحه في البقاء، ومن ذلك أنّه أرسل مُقاتلين إسلاميين إلى العراق، وكان هؤلاء خلطة عجيبة بين النهجين السلفي والصوفي، ولكن عندما عاد بعضهم اعتقلهم تحت تهمة السلفيّة!.

في عهد البعث ونسختي الأسد في سورية لا شيء يسمّى باسمه الحقيقي والعلمي (لا اسم على مسمّى)، وغياب حقائق الأمور حتى عن الدراسات والمناهج التعليمية والبحوث كان السبب الجوهري لما نعيشه اليوم من تراكمات هائلة في الاختلاف، تحتاج إلى التفكيك قبل إعادة التركيب على أسس أفضل.

في تركيا وماليزيا مثالا لا حصرا، نجح الاسلام في علْمنة نفسه، مدعوماً بنهوض اقتصادي جيد، وعدالة نسبية، وهذه العوامل ساهمت في تقليص حجم الفساد، كما عزّزت مشاعر الوطنية، ومثل هاتين التجربتين جعلتا مصطلح “الاسلام العلماني” ممكناً، فيما ترزح بلدان اسلامية الطابع تحت نير الاستبداد والديكتاتورية كحجّة لاستحالة أن يكون الاسلام علمانياً، ويؤيد تلك الفكرة قوى عالمية مُسيطرة بحكم مصالحها وليس لأنّ تطبيق العلمانية الاسلامية غير ممكنة، فوجود الديكتاتوريات المستبدة هو السبب الرئيس لكي يتطفّل رجال الدين برعاية الاستبداد على شؤون القانون والدولة، وهذا ما خبِرَه الغرب تماماً من تجربته التاريخية.

لعلّ مصطلح “الاسلام العلماني”  نحت لغوي لا يستقيم فهمه بالتأكيد دون التقريب و التشبيه ب”مسيحية الغرب الديمقراطي”، وغالباً ستحتال الفتاوى على التسميات للالتفاف على مصطلح العلمانية لما شابهُ من تشويهات حادت عن علميته. لا بأس بذلك طالما كل الدروب وجهتها واحدة نحو الكرامة البشرية التي هي حق وراءه سعاة شرفاء.

الفيس بوك

—————————-

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى