مقالات سينمائية

شوقٌ خاص يردّني إلى سينما ثيو أنغيلوبولوس/ جورج كعدي

7 مارس 2025

إشتقتُ، في ذروة ضيق من واقعنا، إلى شعرية سينما ثيو أنغيلوبولوس Théo Angelopoulos  (1935 – 2012)، فرحتُ ألتهمُ أفلامه مجددًا وأفتتنُ بها كما في المشاهدة الأولى. المعركة هي لأنغيلوبولوس معركة الذات ضد كل ما هو غير عاديّ وغير عادل وغير خاضع للمحاسبة. على المرء أن يقاتل، في عرف السينمائيّ، ضدّ كل شيء في هذه الحياة حيث ثمة وهم بالمعنى والهدف، بينما لا معنى ولا هدف ولا فائدة ترجى. المعركة هي الحياة نفسها، والزمن كثيمة رئيسية لدى السينمائيّ اليونانيّ عرَّفه هيراقليط بأنّه “طفلٌ صغير يلعب بالحصى عند جرف البحر”.

سينما أنغيلوبوليس مسكونةٌ بطفولته وبما شهدته حياته من اضطرابات سياسية في اليونان، بلده العريق، وهي أيضًا مرآة لأسئلة كثيرة في التاريخ اليونانيّ المعاصر. بل إنّ لهذا السينمائي الكبير فيلمًا بعنوان “غُبار الزمن” (2008) يروي فيه قصة حبٍ ممتدة من الخمسينيات إلى مطالع الألفية عن مخرجٍ أميركيّ من أصلٍ يونانيّ يصنع فيلمًا حول المصير المأساويّ لوالديه وحياتهما العاطفية التي أحبطها التاريخ (الزمن) خلال الحرب الباردة. في هذا الفيلم تقوده رحلته إلى إيطاليا وألمانيا وروسيا وكندا والولايات المتحدة، رحلة حقيقية عبر عالم القرن العشرين، مرثية عن المصير البشري والحب المطلق الذي يجتاحه غبار الزمن.

أنغيلوبولوس المولود في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي في أثينا، عانى انقسام عائلته العنيف بسبب الحرب الأهلية. من هنا رغبته الدائمة في استدعاء الماضي الذي كان له تأثيرٌ قويّ، بالمعنيين الحرفيّ والمجازيّ، على بداياته كمخرج مع فيلمه الروائيّ الطويل الأول “إعادة التأسيس” (1970) وهو إعلانٌ حقيقي عن خطابه السينمائيّ، فالسينما بالنسبة إلى أنغيلوبولوس هي وجهة نظر ولا تستطيع بالتالي إدِّعاء أي حقيقة تاريخية. هو يقوم فقط بـ”واجبه السينمائيّ” الذي تمليه عليه ذاكرته ومشاعره وقناعاته. وفي عام 1972 صوّر أنغيلوبولوس الجزء الأول من ثلاثيته الأولى عن التاريخ اليونانيّ وحمل عنوان “أيام 36” الذي تكشف قصته الاستعارية تنصيب الجنرال الديكتاتوريّ ميتاكساس. ثم كان بعد عامين فيلم “رحلة الممثلين” (1974) الذي يستحضر الفترة الأكثر مأساوية في التاريخ اليونانيّ المعاصر بين عامي 1939 و1952. واختُتمت هذه الثلاثية الأولى بفيلم “الصيادون” (1977)، ففي حين بدا أن اليونان استعادت حريتها أراد أنغيلوبولوس التعبير عن قلقه من أن الطبقة الحاكمة احتفظت بظلال الماضي. ظهرت جماليات أسلوب أنغيلوبولوس الفريد تمامًا وبدأ يحصد الجوائز في المهرجانات الدولية ومن أولاها الأسد الذهبي في مهرجان البندقية عن فيلمه “الإسكندر الأكبر” وهو استعارة أسطورية عن لصٍّ جبليّ يتحول إلى طاغية مصاب بجنون العظمة، وتميّز هذا الفيلم بطوله الذي بلغ خمس ساعات.

وفي عام 1984 بدأ العمل على ثلاثية جديدة حول تطور اليونان المعاصرة من خلال الصورة “الداخلية” لثلاثة أجيال متعاقبة مع فيلم “الرحلة إلى كيثيرا” (1984) ثم فيلم “مربي النحل” (1986) مع النجم الكبير مارشيلّلو ماستروياني، ثم فيلم “خطوة اللقلق المعلقة” (1991) مع الممثلة القديرة جانّ مورو. أمّا في التسعينيات فكان له فيلمان وفوزان عظيمان: “نظرة يوليسيس” (1995) مع الممثل الأميركيّ المعروف هارڨي كيتل الذي يلعب دور مخرج أميركيّ يحاول العثور على أول فيلم بلقانيّ صوّره مطلع القرن العشرين الأخوان ميناكيس. وفاز هذا العمل المميز لأنغيلوبولوس بجائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان كان، رغم أنه كان يتوقع السعفة الذهبية التي نالها فيلم “تحت الأرض” لكوستوريتسا، وكنتُ شاهدًا عامذاك في المهرجان على خيبة أمل أنغيلوبولوس التي عبَّر عنها بانفعالٍ في مؤتمره الصحافيّ. ولكن جاءته السعفة الذهبية كتكريس لعظمة سينماه وفرادتها بعد ثلاث سنوات عن فيلمه البديع والإنسانيّ الرهيف “الأبدية ويوم واحد” (1998)، والفيلم البديع هذا عن رجلٍ ستينيّ (الممثل الألمانيّ الرائع برونو غانز) مصاب بمرضٍ عضال وينتظر موته القريب، فتتقاطع في أيام حياته الأخيرة ذكريات الماضي مع الحاضر وتبرز زوجته وابنته محوريّتين في الذاكرة العائلية، بينما تربطه بالمصادفة صلة أبوية حنونة مع طفل ألبانيّ مهاجر ومُشرَّد يُطارده الخوف والعصابات، فتنشأ بين الرجل المحتضر والطفل علاقة غاية في الرقة والتأثير.

كان السينمائي المعلِّم، لحظة وفاته عام 2018 بحادث صدم عبثيّ، سابحًا في أفكاره، سائرًا في عالمه الداخليّ، متأمّلًا في الحلّ الإخراجيّ لمشهد من مشاهد فيلمه الجديد المكمّل لثلاثيته الأخيرة التي استهلّها عام 2004 بأوّل أجزاء هذه الثلاثية “المرج الباكي” وأتبعه بجزء ثانٍ عام 2008 عنوانه “غبار الزمن” إلّا أنّ عبث الأقدار لم يمهله لينجز الجزء الثالث، وكان في طور تصويره قبل أن تدهمه درّاجة الشرطي المسرع تهوّرًا في نهار ضبابيّ ماطر، فأرداه على قارعة الطريق حيث كان مأخوذًا بشغف حياته الأعظم، السينما، رغم أعوامه السبعة والسبعين، هو المولود في أثينا في 27 نيسان عام 1935.

مات سينمائيّ الضباب في الضباب. يقول الروائيّ Kundera: “إنّ غاية الرواية أن تكشف ما تستطيع الرواية وحدها أن تكشفه”. سينما أنغيلوبولوس تعمل بطريقة مماثلة: تكشف لنا ما تستطيع السينما وحدها أن تكشفه، وغالبًا ما يكون هذا الاكتشاف مربكًا، خاصة لجمهور اعتاد الإيقاع السريع والحبكات الهوليوودية الموجّهة. سينمائيّ مؤلّف، ابتكر لنفسه أسلوبًا تعبيريًا خاصًا ومغايرًا فأثار الجدال وأطلق عبر أفلامه تساؤلًا عميقًا حول النظرة إلى العالم، في داخلنا وحولنا، مقترحًا إعادة بناء للواقع والتاريخ والأسطورة. نال شهرة واسعة في العالم وحاز العديد من الجوائز، لكنّه ليس معروفًا بما يكفي لدى الجمهور العريض إذ يُعتبر مخرجًا “صعبًا” ذا رؤية عميقة وأسلوب خاص جدًا. سبب عدم تواصله مع الجمهور العريض اهتمامه بمواضيع فكرية وفلسفية عميقة تتصل بالحياة والموت، الذاكرة والندم، التاريخ والهوية. لقطاته بطيئة، طويلة، تعالج الزمان والمكان. قال عنه المخرج الكبير الراحل أكيرا كوروساوا: “يرصد أنغيلوبولوس الأشياء في هدوء ورصانة من خلال عدسات الكاميرا. إن ثقل هدوئه وحدّة نظرته الثابتة يمنحان أفلامه قوّتها”. عانى أنغيلوبولوس طفلًا من الحرب العالمية الثانية وتبعاتها، في بلاد شهدت على الدوام هزّات سياسية واقتصادية عنيفة. والعديد من ذكريات طفولته تتحوّل إلى مشاهد سينمائية، وإحدى أكثر تلك الذكريات إيلامًا وإثارة للصدمة في وجدانه الفتيّ هي ذكرى حادثة إبعاد، أو اختفاء، والده بعد الحرب، فغياب الأب (أو حضوره المجازيّ) والبحث عنه، من الثيمات الأساسية والمتكرّرة في أفلامه. هو ابن طفولته التي طُبع بها، مثلما طُبع بتاريخ اليونان والحرب العالمية ومرحلة الديكتاتورية العسكرية في بلاده. إنه ابن تجربته الخاصة. أفلامه ذاتية جدًا وأبطاله انعكاس لذاته.

ليست السينما لأنغيلوبولوس مجرّد وسيلة تعبير، بل هي شكلٌ من أشكال الحياة. صنع الأفلام بالنسبة إليه هو صنع حياة ثانية، موازية. كانت السينما له، الهواء الذي يتنفّسه. يتساءل من خلال أفلامه: كيف يمكننا أن ننشئ مجتمعًا يزدهر فيه الفرد بلا قمع أو استبداد؟ كيف يمكن التأسيس لنوع مختلف من التجمّع البشريّ؟ كيف يمكن إذابة التعارض بين الفرد والجماعة؟ في نظره، الحدود هي الشرّ الذي ينبغي إزالته. في كل فيلم جديدٍ له يبدو أكثر اهتمامًا بمصير الأفراد المنفيين، النازحين، اللاجئين. ويبدي اهتمامًا خاصًا بماضي دول البلقان وحاضرها كأقاليم جغرافية وثقافية وروحية. “كم حدودًا علينا أن نعبر حتى نصل إلى وطننا؟”- تسأل شخصيةٌ في فيلم “خطوة اللقلق المعلقة”، والعبارة ذاتها تتكرّر في “نظرة يوليسيس”. المنفى ثيمة سياسية واجتماعية متكرّرة في أفلامه. يقول مارشيللو ماستروياني في “خطوة اللقلق المعلقة” إنه لاجئ سياسيّ في وطنه، في حين يقول برونو غانز بطل “الأبدية ويوم واحد” إنه عاش طوال حياته في منفى.

إحساس أنغيلوبولوس الدقيق بالتكوين البصريّ متأثرّ عميقًا بالتقليد البيزنطيّ رسمًا للأيقونات. مشاهد أفلامه سكونية، صامتة، تحرّك المخيّلة وتدفع إلى التأمّل والسَبْر والتأويل. بلقطاته الطويلة يتودّد إلى الحواس بدلًا من أن ينقضّ عليها على الطريقة الهوليوودية. يقول الممثل الأميركيّ هارڨي كيتل: “إن الوقت الذي يستغرقه أنغيلوبولوس في تصوير لقطة واحدة يكفي لينجز تارانتينو فيلمًا كاملًا”. في لقطاته الطويلة، يحتضن أنغيلوبولوس الزمان والمكان. يصبح المكان مجالًا لعبور الزمن. من خلال اللقطة الطويلة يمكن الحفاظ على وحدة المكان ووحدة الزمان. مثل تاركوڨسكي، وُجدت السينما لأنغيلوبولوس كي تُسعفه في تسجيل زمنيه، الداخليّ والخارجيّ، وفي استحضار ذاكرة الأشخاص والأماكن، وفي جعل السينما فنًّا عظيمًا خالدًا، نعيش من أجله ونموت. عاش أنغيلوبولوس من أجل السينما ومات من أجلها.

للمزيد عن هذا المخرج والكاتب اتبع الرابط التالي

https://www.imdb.com/name/nm0000766

https://www.imdb.com/title/tt0091506/?ref_=nm_flmg_job_1_cdt_t_10

https://www.imdb.com/title/tt0366721/?ref_=nm_flmg_job_1_cdt_t_4

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى