صفحات الثقافة

عن الكتابة انطلاقًا من الفشل/ فاليريو روكو لوزانو

7 مارس 2025

ترجمة: نجيب مبارك

لماذا نكتب؟ في كثير من الأحيان، لأننا نفشل. في الواقع، ينبع فعل الكتابة (مقال، رواية، أطروحات أو حتى رسائل)، خصوصًا منذ بزوغ الفكر الإنساني وبدايات الحداثة الأولى، من إدراك فجوة بين الكينونة والواجب، بين الواقع والمثال. حتى العبارة الشهيرة في كتاب مبادئ فلسفة الحق: “كل ما هو واقعي عقلاني، وكل ما هو عقلاني واقعي”، التي غالبًا ما يُساء فهمها باعتبارها جبرية ومحافظة، تعبر في الواقع عن الفارق الحتمي بين ما اعتبره هيغل مجرد شيء واقعي – زائل ومتحجر- وبين ما هو أصلًا فعّال ــ أي ما يرقى إلى مستوى المفهوم وزمنه الخاص، وبالتالي ما يجب تحقيقه من خلال الفعل. هذا التفاوت بين ما تكون عليه الأشياء وكيف نعتقد أنه يجب أن تكون يولّد فرقًا في الإمكانات، يؤدي غالبًا إلى فعل يكون في المقام الأول سياسيًا، بالمعنى الواسع للكلمة. وبناءً على ملاحظة هذه الفجوة، يميل البشر- بشكل أكثر أو أقل تنظيمًا في جماعة- إلى الرغبة في تغيير الواقع للاقتراب من مثال معين.

لكن تحقيق هذه المهمة لا نهائي بالضرورة، كما عبّر عن ذلك كانط بمفهومه عن “المثال التقاربي”. إن “استمرار السلبية الذي لا يمكن تقليصه”، الذي تناوله كتاب الجنس وفشل المطلق لسلافوي جيجيك، هو إرث لا يمكن القضاء عليه، مما يُحبط بالضرورة كل محاولة لتحقيق التوافق التام بين الكينونة والمثال. وبهذه الطريقة، فإن جهودنا للقضاء التام على الفشل – الذي يُفهم على أنه عدم الرضى الذاتي عن الظلم، أو اللاعقلانية، أو الشر، أو اندفاع الطبيعة اللامتوقع الذي لا يمكن ترويضه – محكوم عليها بالفشل حتمًا. وهنا بالتحديد ينشأ فعل الكتابة. بعد إدراك استحالة التحويل الكامل للعالم وفقًا للمثال، تعود الكتابة بشكل رجعي إلى الفعل السياسي من ثلاث زوايا مختلفة، سنحاول تقديم بعض الأمثلة عنها. هذه المقاربات الثلاث للفشل تُعالج فعلًا من خلال الفلسفة، الأدب، والتأريخ. فقد تمت مناقشة جميع هذه الأبعاد في السنوات الأخيرة ضمن إطار المشروع الأوروبي المسمى الفشل: إعادة النظر في الأنساب التاريخية لعدم النجاح (القرن السادس عشر- القرن التاسع عشر)، الذي يضم العديد من المشاركين في هذا الملف الخاص، وإن لم يكن جميعهم. دعونا نستعرض باختصار كيف تتجلى الزوايا الثلاث للكتابة عن الفشل.

أولًا، تركز العديد من التحليلات الفلسفية على مفهوم الفشل نفسه، لأنه مفهوم مراوغ وبذلك جذاب للغاية. تكمن خصوصيته المنطقية الرئيسية في إمكانية تطبيقه على ثلاثة مستويات مختلفة: فردي (على أشخاص يفشلون في حياتهم أو في بعض جوانبها)، وجماعي أو اجتماعي (مجموعات تُعتبر فاشلة ومن ثم مستبعدة ومهمشة)، ومؤسساتي (على مؤسسات من أنواع مختلفة توصف بأنها فاشلة بناءً على ظروف سياسية، اقتصادية أو اجتماعية).

غالبًا ما تتشابك هذه المستويات بشكل لا يمكن فصله، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالفشل السياسي: المقال الافتتاحي لدييغو غاروتشو، المستوحى من شخصية السياسي- الفيلسوف الفاشل (من أفلاطون إلى مايكل إغناتيف)، أو مراجعة إدواردو زازو عن كتاب انهيار الديمقراطيات للينز، يقدمان تذكيرًا بضرورة أخذ جميع المستويات المنطقية لمفهوم الفشل في الاعتبار معًا: فلا يجوز لوم فرد فقط على فشل (سياسي أو من نوع آخر)، ولا يُعتبر من المنطقي تبرئة الأفراد بالكامل استنادًا إلى تأثير السياقات والظروف الخارجية فقط. إن الفشل الذاتي والجماعي والمؤسساتي يتغذى كل منهما على الآخر بشكل معقد وغالبًا ما يكون من الصعب إعادة بنائه.

هناك خصوصية أخرى ملحوظة لمفهوم الفشل، ما يجعله جذابًا للغاية للتحليل الفلسفي ــ هي نشأته عبر تنوع لغوي كبير بناءً على أصوله الاشتقاقية المختلفة في كل لغة من لغات قارتنا. فعلى سبيل المثال، تشير الكلمة الإنجليزية failure والإيطالية fallimento إلى البعدين المزدوجين (الديني والمعرفي) للسقوط والخطأ، وكلاهما متضمن في اللاتينية fallere، ويشمل ضمنيًا الحكم على البطلان المعرفي للمهزوم بفضل التصريف (falsum). أما في الإسبانية، فتحمل كلمة “فشل” (fracaso) أصداء الارتطام المزلزل للكسر والانهيار (ومن ثم الفضيحة)، المشتقة من الإيطالية fracasso. أما الفرنسية échec فهي تشير إلى “التحذير” في الشطرنج، مما يضيف بُعدًا استراتيجيًا ونضاليًا إلى فعل الفشل. وأخيرًا، فإن الكلمة الألمانية scheitern، بما أنها إحدى الطرق العديدة للإشارة إلى الفشل، فترتبط مباشرةً بالغرق، وبالتالي تقود إلى الاستعارة الملاحية وتشبيه الحياة البشرية برحلة عبر محيط شاسع مليء بالتغيرات والصدف. وكما يظهر من هذا التحليل الاشتقاقي الموجز، يمكن تفسير الفشل من منظور معرفي (خطأ) أو أخلاقي (ذنب)، ويشمل تدرجات مختلفة بناءً على السرعة (انحدار، سقوط، كارثة) والنطاق (تعثّر، عيب، كارثة). علاوة على ذلك، تأتي بعض المقاربات للفشل من تحليل عقلاني، بينما تميل لغات أخرى إلى اعتباره عاطفيًا أو جماليًا.

من جهة أخرى، هناك عدد كبير من المصطلحات المرادفة للفشل، التي تم استكشافها في إطار المشروع المذكور سابقًا من خلال “ميتافورولوجيا الفشل”، أي سرد “تصورات الفشل”، والتي أثمرت كتاب “معجم الفشل”. هذا المجلد يتكون من عشرين مدخلًا: إفلاس، سقوط، ذنب، انحدار، هزيمة، كارثة، خيبة أمل، دين، خطأ، نفي، وصمة، وحوش، غرق، غروب، نسيان، فقدان، فقر، خراب، انتحار، وتعثر. وانطلاقًا من تحليلات اشتقاقية وتاريخية، تنتقل مجموعة من هذه الكلمات إلى الأدب والفنون، مما يوسع نطاق مفهوم الفشل إلى مجالات دلالية ووجودية، سيكون من غير الممكن بدونها فهم هذا المفهوم بشكل كامل منذ ظهوره في الحداثة.

في الواقع، إن إحدى الخصائص التي تجعل مفهوم الفشل مميزًا هو أنه نشأ منذ وقت ليس ببعيد، مع بدايات العصر الحديث. ومع ذلك، من المهم هنا الإشارة إلى نقطة تحذيرية: الحداثة تُقال بطرق متعددة. بقدر ما يمكن أن يُقال عن “الوجود” في فلسفة أرسطو. أو الأنطولوجيا عند أرسطو، يبدو أن هناك طريقة للحديث عن الحداثة تهيمن على كل الطرق الأخرى. في الواقع، لقد منح التقليد الأوروبي خلال الخمسة قرون الأخيرة هذا المصطلح معنى محددًا للغاية. فالحداثة هي تجربة التحرر، من خلال الاستخدام النظري والعملي للعقل، من أشكال العبودية المختلفة التي كبلت الجنس البشري على مدى قرون: العبودية الطبيعية، الدينية، الخرافية، اللاهوتية أو السياسية.

وفقًا للاستعارة التي استخدمها غاليليو في كتابه “Il Saggiatore” (عام 1632)، فإن الطبيعة كتابٌ مفتوح مكتوب بلغة الرياضيات، وبالتالي، هي أداة يمكن الوصول إليها بالعين (للاستمتاع بها)، باليد (للتلاعب بها)، وبالعقل (لفهمها والتحكم بها). هناك بنية عقلانية أساسية يمكن قراءتها من قِبل أي شخص يتعلم مفاتيح الوصول إليها. ووفقًا لاستعارة غاليليو وما تحمله من معنى للحداثة، لم يعد العالم لغزًا أو سرًا، كما كان بالنسبة للخيال اليوناني أو العبري. العالم، بالنسبة للإنسان الحديث، هو موضوع معرفة، علم، تجربة، ومغامرة. ومنذ عصر النهضة وحتى القرن التاسع عشر (مع التركيز بشكل خاص على عصر التنوير)، فسّرت أوروبا نفسها والعالم بأسره من خلال مواجهة مباشرة وثورية مع العصور الوسطى (imago mundi)، مواجهة تميزت بفقدان المركز والانفتاح على اللانهائية في المفهوم الكوني (من المركزية الأرضية الأرسطية- البطليموسية إلى المركزية الشمسية الكوبرنيكية والغاليليكية، وكذلك من الثنائية الكونية الأرسطية إلى العوالم اللامتناهية لدى جيوردانو برونو)؛ والجغرافية (من مركزية روما والقدس إلى الإبحار حول العالم واكتشاف عالم لانهائي مركزه في كل مكان)؛ والاجتماعية (من النظام الاجتماعي الثابت والهرمي – “مسرح العالم” الكالديروني حيث يؤدي كل فرد الدور الذي مُنح له بأمانة – إلى صعود البرجوازية والتوسع اللامحدود للمشاريع الإنسانية).

يمثل انبثاق الحداثة، بالتالي، انهيار بنية العالم الفيزيائية، وسقوط النظام الاجتماعي الطبقي الصارم، ووفاة مخلوق تقرر وجوده مسبقًا وفقًا لخطة الخالق، وولادة فرد جديد مستقل. ومن هنا، وبين أمور أخرى، أمام هذه التجربة من الأزمة، ظهر الفشل، الذي يشمل، كمفهوم، المستويات الفردية والجماعية والمؤسسية، بعد أن كان غير معروف في العالم السابق. أصبح الفرد-الموضوع صانع وجوده الخاص، يتصرف بحرية مستخدمًا عقله ويشكل ثروته الخاصة (التي قد تكون أيضًا شقاءه الخاص). من بيكو ديلا ميراندولا إلى فريدريك نيتشه، يظهر الإنسان الآن ككائن غير ثابت ومنفتح على الإبداع، كطاقة فنية وغير محدودة، كعالم مصغر يحتوي على جميع أوامر الكون، والذي، على عكس الواقع الطبيعي المحض، الذي يتسم بالضرورة، والسلبية، والواقعية، أو المنفعة، يتحدد بحريته، وقوته، ونشاطه.

ومع ذلك، إذا كانت الحداثة – كما أشرنا سابقًا – تُقال بطرق عدة، وإذا كان الفشل ظاهرة حديثة بشكل نموذجي، فإنه يُقال أيضًا بمعانٍ متعددة. إذا نظرنا إلى التأملات السابقة حول “الحداثة المعيارية”، فمن الضروري أن نتذكر أنه، من وجهة نظر النموذج العلمي والرياضي للحداثة، فإن الفشل هو كيان قابل للقياس. يتم وصف الفشل وتخصيصه من خلال آليات القياس التي يمكنها تصنيف مجموعة معينة من الأفراد وفقًا للمنطق الكمي للنجاح.

إن الفشل، بهذا المعنى، لا يعدو كونه غياب النجاح. وهو مفهوم يتشكل ويعيش بشكل مريح ضمن الإحداثيات الكمية للترييض، والفعالية، والنتائج القابلة للقياس، والإحصاءات، والتفسير العلمي. وفقًا لهذا المنظور، يفشل من لا يحقق النجاح، بينما يُحدد النجاح كميًا: الدرجات، النقاط، التقييمات، التصنيفات، تراكم الإنجازات، بمعنى قابلية النجاح للقياس. ولكن، هذا النهج يبدو تبسيطيًا، فقيرًا، وغالبًا ما يكون شديد الظلم على مستويات مختلفة. وكل هذا يحدث بشكل متزايد حتى يتم قياس الأفراد الناجحين اليوم وفقًا لاستبداد مزعوم للرقم: يوروهات في البنك، عدد المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي، قوة محرك السيارة، هكتارات الأرض، وبشكل متزايد أيضًا، الأبعاد الجسدية من حيث الطول أو الوزن. في كل من هذه المعايير، يقف النجاح على جانب من المحور الكمي، بينما يقبع الفشل في الطرف الآخر.

ولكن ماذا عن “الحداثات” الأخرى وأشكال فهم الفشل المختلفة؟ أيُّ التخصصات غير الاختزالية تهتم بما تتجاهله العلوم الحديثة ذات الطابع المادي أو الرياضي أو الإحصائي؟ هذه المعارف النوعية تعتمد على السرد، وعلى شكل معين من الكتابة الفلسفية، الأدبية، والتاريخية. وليس من الغريب أن يكون ممثلو حداثة موازية وغير علموية في مجال الفلسفة هم الذين سمحوا لنا باستكشاف البعد الوجودي للفشل في الحداثة: مقالات مونتين، تأملات باسكال، أعمال نيتشه أو الوجودية المعاصرة تقدم نظرة منطقية مستقلة عن الفشل. بعيدًا عن تعريفه كنتيجة قابلة للقياس وغير ناجحة، يُحوّل الفشل إلى العمود الفقري لكائن محدود لا يستطيع كل شيء، لا يعرف كل شيء، ومصيره الفناء الحتمي.

يتم هنا إعادة اعتبار الفشل فكرة فريدة لا يمكن اختزالها إحصائيًا. إنه فشل يتحول من مجرد نتيجة قابلة للقياس إلى تجربة ذاتية وعيش في الزمن وفي الذات نفسها. هو ممارسة أخلاقية يُقيّم فيها الفرد ذاته، أو يقرأها، أو يعتني بها وفقًا لنماذج يضعها لنفسه، بحيث يصبح الفشل وسيلة للتجريب: أن يضع نفسه على الحافة. من هذا المنظور، يكتسب الفشل كثافة نظرية تقربنا ليس إلى منطق النجاح، بل إلى الإقرار بهشاشة الوجود وهيكلية الكائن البشري ككائن محكوم دائمًا بالفشل، والغرق، أو التعثر. وهاتان الاستعارتان استخدمهما بكثرة مؤلفون ينتمون إلى هذه الحداثة الموازية وغير العلمية: مونتين، الذي يرى جوهر الحالة البشرية في احتمال الفشل المستمر؛ باسكال، الذي يصف هشاشة وحدود الفهم الإنساني بمصطلحات الفشل؛ وكارل ياسبرز، في القرن العشرين، الذي حدد الفشل ليس فقط في الخطط التي تفشل في تحقيق أهداف معينة، ولكن كعنصر مكون للكائن البشري. إن الإنسان يفشل لكونه يُفنى بالموت ولكون فكره يتعثر عندما يواجه ما يتجاوزه محاولًا إضفاء الموضوعية عليه.

هذا الوضوح في قبول الحدود يظهر في بعض المراجعات. على المستوى الذاتي والمفاهيمي، يفكك نانتو أرويو ملاحظات الانتحار لمارك كاياس، محللًا إمكانية إنهاء الحياة من منظور وجودي يتحدى النهج العلمية من علم الاجتماع أو علم النفس أو الصحة العامة. فالانتحار ليس بالضرورة دائمًا فشلًا، لا فرديًا ولا جماعيًا، رغم صعوبة تقبل ذلك. ومن منظور معرفي، يمكننا أن نأخذ مثال علم التنجيم الذي يُناقشه إدواردو بنزون: هذا التخصص، الفاشل منهجيًا بطبيعته، كان -ولا يزال في جزء منه- ناجحًا للغاية من الناحية السياسية والاجتماعية واللغوية، مكتسبًا مكانة “عضو شبح” في قانوننا العلمي مع ظهورات طيفية متكررة تُربك أولئك الذين أعلنوا وفاته مرارًا وتكرارًا. إن علم التنجيم معرفة لا تموت أبدًا، لأنه ينطلق إلى حد كبير من وعي (أو حتى إرادة) بفناء الإنسان في علاقته مع شساعة الكون والقوى الخفية التي تحركه.

ثم، من وعي هشاشة الحالة الإنسانية، ينطلق النهج الثاني الذي يمكن من خلاله الكتابة انطلاقًا من تجربة الفشل: علم التأريخ. فهذا أحد التخصصات التي يُحكم عليها، بطريقة ما، بالفشل المنهجي، كما يشير كارلو جينزبورغ، الذي تتمثل مهمته العظمى كمؤرخ من خلال مراجعة كتابه “ما زلت أتعلم” بقلم مانويل غاراتيه. إن علم التأريخ يبدأ دائمًا من سلسلة من التحيزات الذاتية التي لا يمكن كبحها تمامًا وتعتمد على سياق الكاتب. لكن هذا النقص الجوهري لدى المؤرخ هو “فشل سعيد”، لأنه يجعل من الممكن تكرار زيارة الماضي باستمرار، والتحقيق فيه مجددًا، حيث لا يُغلق أبدًا بشكل نهائي، كما يشرح أرييل غامبوا في مراجعته للعمل الضخم “الهسبانوفيلية” لجوزيه خافيير رويز إيبانييث. نحن لن نتوقف أبدًا عن السعي لفهم ماضينا وحاضرنا، والانفتاح على منظور الفشل الجوهري لدى الإنسان يعني احتضان وقبول الطابع الاقترابي (الذي لا يصل إلى النهاية أبدًا) لمعرفة البشرية، والذي يظل دائمًا قابلًا للتحسين.

كما ذكرنا، في مواجهة منطق الفشل القابل للقياس، نعتقد في مشروعنا هذا أنه من الممكن إنقاذ مفهوم للفشل داخل الحداثة، وفي إطار المعارف السردية والتأويلية والتاريخية التي ترافق النموذج العلمي، بأن لا يعتمد في الجوهر على إخضاعه لمفهوم النجاح. ومن المنهجي أن نعتبر من الخطأ تحديد نجاح أو فشل مؤسسات معينة في العصر الحديث، كما توضح مراجعات ماريا لوز غونزاليس مسكيتا حول الأمة الإسبانية “المستنيرة” أو سباستيان باروباتو حول الكليات الكبرى في الإمبراطورية الإسبانية. هذه الحالات وغيرها تتطلب معالجات دقيقة، معقدة، ونوعية، وغالبًا ما تقود إلى استنتاجات مليئة بالمفارقات. وأمثلة مثل حالة الملك سيباستيان من البرتغال، التي يقدمها جان- فريدريك شوب في مراجعته، تكشف بوضوح أن بعض حالات الفشل، عند النظر إليها سياسيًا، تتحول إلى نجاحات مطلقة من وجهات نظر أخرى. إن موت هذا الملك في المعركة عام 1578، بدلًا من أن يغرق بلدنا المجاور في الاكتئاب والارتباك، أدى إلى ظهور إيمان مسياني مذهل: السيباستيانية، أي الإيمان بأن الملك لم يمت في الواقع، وأنه سيعود لتحقيق النصر النهائي. وهي خرافة استغلها عدد من المحتالين الذين انتهى بهم الأمر، بالمناسبة، إلى نفس مصير الملك الذي كانوا يحاولون انتحال شخصيته.

مثلما تُظهر هذه الانتكاسة في الخيال الجماعي، فإن استعادة مفهوم مختلف للفشل عن المفهوم المهيمن (النوعي والخاضع للنجاح) تتطلب منظورًا حساسًا للأدب، وخاصة الرواية، التي تمثل ميدانًا متسقًا مع تجربة الفشل، حيث تُمكّن من التعبير المباشر عنه، دون نية لإيجاد حل ودون تقديم تنازلات للعقلية الإنتاجية السائدة. وهذا سيكون هو النهج الثالث، الأدبي، لبناء منطق للفشل، يخرج معناه من إطار القياس ويغامر بتفسير وجودي، سردي، وحيوي. وبالتالي، يمكنه أن يرى في الكارثة، والألم، والمأساة، نوعًا من “البشرى السارة” ضد أي إغراء شامل، كما هو الحال في مثال ليوبولدو ماريا بانيرو، أو “أسطورة الفشل” التي يكتب عنها سيزار خيمينيز، أو الهزيمة الوجودية، لا سيما في أعمال كافكا، التي يتناولها سانشيز- كامبيلو.

لا شك أن الأدب كان، في الحداثة، إحدى الوسائل المفضلة للكتابة انطلاقًا من الفشل وعن الفشل. وكما يشير ديفيد سانشيز أوسانوس، فإن الأدب في جوهره مليء بالفشل بسبب محاولته (تحديد) ذاته، إلى حد كبير لأنه يكثف اللاوعي الاجتماعي لجماعة ما في لحظة محددة من الزمن، خاصة فيما يتعلق بنقائصها وتطلعاتها. ومن ثم، كما قلنا في البداية، يقف الأدب في ذلك الفاصل – المستحيل إغلاقه – بين تجربة الفشل الحاضر وأمل مستقبلي معين. وباستخدام استعارة جغرافية، فإن حدوده هي دائمًا أفق، ولذلك فإن طبيعته في جوهرها اقترابية. ومن هنا، فإن صلة الأدب بالفشل – الذي هو بدوره مقاوم لأي تعريف – قوية جدًا.

وكما ذكرنا في البداية، فإن فعل الكتابة وُلد في الحداثة كرد فعل على الإقرار باستحالة التوافق الكامل بين الكائن والمثال. وعليه، فإن المظاهر الثلاثة التي يتخذها هذا الفعل الكتابي (الفلسفة، الأدب، وعلم التأريخ) يتعين عليها أيضًا أن تعترف في النهاية بطبيعتها الفاشلة التي لا يمكن إصلاحها. فإذا كانت الفلسفة لا تستطيع أبدًا أن تطمح إلى الفهم الكامل والنهائي للواقع من خلال المفهوم (بسبب الظهور المستمر لسلبية غير قابلة للاستيعاب)، فإن الأدب، كما رأينا للتو، يفشل لأنه يقاوم التعريف، في كونه اقترابيًا وهجينًا. وحتى علم التأريخ، كما تظهر العديد من المراجعات، يهرب أكثر فأكثر من فهمه الذاتي العلموي ويفتح الباب للاعتراف بفشله المنهجي المستمر والحاجة المستمرة للعودة إلى ماضٍ مفتوح دائمًا ومحل نزاع.

إن هذا الفشل الجوهري للفلسفة والأدب وعلم التأريخ، في صراع مع النموذج الكمي للحداثة الذي يضع النجاح في مركزه، ينشأ من الإقرار بثلاث خصائص مميزة للعالم، والمعرفة، والإنسان؛ وهي: التعقيد المتزايد لواقعنا، الحتمية في محدودية المعارف التي لم تعد تطمح حتى إلى الكمال، وهشاشة الإنسان، الذي تتمثل ميزته، ربما، الأكثر تفردًا وعالمية في إمكانية الفشل. التعقيد، المحدودية، والهشاشة: هكذا تتجسد تجربة الفشل، منذ بدايات الحداثة وحتى يومنا هذا.

(*) فاليريو روكو لوزانو: أستاذ تاريخ الفلسفة الحديثة في قسم الفلسفة في جامعة مدريد المستقلة، ومدير دائرة الفنون الجميلة في مدريد منذ عام 2019.

(**) نشر هذا المقال في “مجلة الكتب” RdL الإسبانيَّة (Revista de Libros)، رقم 8- 2025 (مجلد1)، 7 كانون الثاني/ يناير 2025.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى