في رحيل مُنشد الثورةِ السوريةِ: الغناء بإحساسِ المُقاومِ النَبيلْ/ أنور محمد

8 مارس 2025
الغناءُ أو الشَدُو في حالة أبو وطن قاسم جاموس (1989-2025)، أحد أبرز الأصوات في ساحات وميادين التظاهر السورية منذ انطلاق شرارتها في 25 آذار/مارس 2011، مؤدِّيًا أهازيج وأناشيد ثورية مستمدَّة من الفلكلور الحوراني، والذي رَحَلَ إِثْرَ حادثِ سيارةٍ كان يقودها مساء 3 آذار/ مارس 2025 على طريق دمشق بلودان؛ هو توليدٌ للشجاعة لهزمِ الألمِ والخوفِ الذي سبَّبَهُ حُكْمُ العائلة الوحشية للسوريين أكثر من خمسين عام. فقد برز إلى جانب رفاقه مثل سميح شقير، وإبراهيم القاشوش الذي غنّى: “يا يُمَّا بثوب جديد… زِفِّيني جيتك شهيد… يا يُمَّا”، وعبد الباسط الساروت الذي من أغنياته: “حَانِنْ للحريَّة حَانِنْ، يا شَعب بِبيتو مِشْ آمنْ”، وعبد الوهاب ملّا وأبو ماهر صالح وأبو الجود وأبو مالك الحموي وخاطر ضَوَّا وأحمد القسيم. ومن المنافي وبلدان الاغتراب: الموسيقار مالك جندلي الذي حوَّل أغنية إبراهيم القاشوش “يَلاَّ ارْحَلْ يا بشَّار” إلى سيمفونية تجريدية من عزف البيانو، والمنشد يحيى حوَّا ووصفي المعصراني. وكل هؤلاء شكَّلوا حالةً غنائية ثورية رجولية في الزلزال السوري وبغاية الروحانية والعقلانية.
أبو وطن قاسم جاموس كان يقود المظاهرات بغنائه، ومن أغنياته: جاي النصر وأقسمنا بالله وغيرهما، كان يغني بحماسة، وبصوتٍ لاهب، كَأنَّ حواسَه وأعصابَه تكادُ تنفجر من شدَّة إحساسه بالألم الذي عشناه طيلة تلك السنين. كان يغني ويحوِّل ُغناءه إلى متعةٍ ربَّانية وبقلب طفولي، ومرحٍ بديهي وهو يغرفُ بصوته ألحانَه من أشدِّ ينابيع اللاشعور في أعماقه حزنًا وجمالًا، ونرى كيف يتصاعد حزنه وحتى خوفَه ويتحوَّلُ إلى غضبٍ سامٍ؛ غضبُ الثائرين حين يغدرُ بهم حاكِمُهم الذي هو مُواطنهم، والذي وعَدَهم وأقسمَ على القرآن بأن يَحميهم ويَحمي سورية ولم يَحْمِهِما. بل رماهم بالبراميل المتفجِّرة وبالكيماوي وذوَّبَهُم بالأسيد.
غناءُ أبو وطن الذي كان آخرُ ظهورٍ له في ساحة الكرامة بمحافظة السويداء؛ لَهُ سطوةٌ روحيةٌ على سَمَعِ السوريين، ففي غنائِه تصعيدٌ ورفعٌ لمعنوياتهم المُنكسِرة والجريحة المُذَلَّة التي تعرَّضت للإخضاع، رغم أنَّه غناءٌ من كلام بسيط وعفوي: أهزوجات وعدِّيات وأمثولات يتداولها السوريون في حياتهم الاجتماعية. إنَّما في غناء أبو وطن قاسم جاموس صار كلامًا مشحونًا بطاقةٍ أيديولوجية تدفع عند سماعها إلى تغذية الإحساس بالتمرُّد على العبودية وعيًا وفعلًا. وهذا النوع من الغناء على ديباجته وعفويته اللغوية- غير غناء القصيدة الشعرية؛ يقوم بدورٍ تحريضي؛ بل يصير لعبةً عذبةً رقيقة، فنصير لحظة سماعها أشدُّ إرهافًا وتوهجًا بسوريتنا.
لقد كان الغناء في حالة الثورة السورية التي قام بشار الأسد بمحاولة وئدها بعد أشهر من قيامها، حاجةً معنوية؛ حاجةً روحية، وإنَّه غناءٌ مبعثه الحزن والألم، غناءٌ يُعبِّر عن انفعالات السوريين؛ ما شكَّلَ قوَّةً أخلاقية، قوَّةً فاعلةً ربما أكثر من الشعر والرواية والرسم والمسرح والسينما. فكان المُغني أبو وطن قاسم جاموس في أدائه مثل جريح معركة دمه ينزفُ ولكنَّه يُغني ويُغني بإحساسِ المُقاومِ النبيل. ومثلُ هذا الغناء الذي لا ضابط موسيقي له- عفوي وارتجالي، يُعبِّرُ برأيي عند أبو وطن والساروت والقاشوش وشقير وبقية المغنين عن سموُّ المعاناة التراجيدية. فالموسيقى كما بقية الفنون والآداب إنَّما هي مثلُ جسورٍ نعبرُ فوقها إلى المعرفة والحريَّة. أبو وطن في أغانيه هو يُعبِّر عن إحساسه المتوهِّج بالحياة؛ غناءٌ لا لتفريغ شحنةٍ عاطفية، بل هو تحفيزٌ للفكر، هو إزالة القشرة الباردة نحو النواة الأكثر التهابًا، وكأنَّ الغناء عاصفة/ عواصف جنونية بالحريَّة التي افتقدناها أكثر من نصف قرن.
لقد عشنا حياة الكدِّ والتعب والحرمان والاحتقار والإذلال والفساد والإفساد والتفسيد طويلًا، وصار حزننا مُتحجِّرًا- تحجَّرَ من كثرة القهر والتقهير والتعهير السياسي والاقتصادي. لقد حَجَرَ علينا الحكَّام الوحوش ورموا بنا في أعماق الوجود بل في العدم كأنَّنا حيوانات؛ فيما نحنُ بشرٌ- والله بشر؛ وفي حالةِ يقظةٍ وما فوقَ اليقظة، يَقَظَة تُوقظُنا فيها الموسيقى من السُكْرِ بالخوفِ من الحاكمِ المستبدِّ الذي يغتصبُ الوجود. غناء – وإن كان عند أبو وطن قاسم جاموس يأخذُ منحىً عنيفًا في الأداء، حتى في حركات جذعه ويديه ورأسه من شدَّة فرحه وألمه معًا، وانفعالهِ بالحريَّة – انفعالٌ ترى فيه جسدَه وهو يرتج من كثرة- ربَّما انخطافه بمعنى الحريَّة وهو يغني/ يشدو.
أبو وطن؛ المُغني قاسم جاموس، والوطنُ كان في أشدِّ لحظات الإصغاء لغنائه فلا يتلعثم ولا يتعثَّر، وحبَّات العرق تقطر من على جبينه، كان الكلامُ وهو يشدو به إنَّما يبعثه من روحه ليمسك بعدها بالروحِ، فلا تروح.
ضفة ثالثة