أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

سوريا… عدالة انتقالية أم انتقائية؟/ أسعد الأمير أحمد

السبت 8 آذار 2025

«لا أعتقد أنني في وضع يسمح لي بأن أحكم إذا ما كانت الإجراءات أخلاقية أو غير أخلاقية، فأنا أُخضع ضميري الأخلاقي إلى حقيقة واحدة وهي أنني كنت جندياً وأنني مجرد ترس بسيط في آلة ضخمة»؛ هذه كانت إجابة المتهم أوتو أولندورف وذلك أمام المحكمة العسكرية في نورنبرغ والتي تعتبر أول سابقة قانونية في التاريخ بمحاكمة مجرمي الحرب بعد الحرب العالمية الثانية.

وقد أنشئت هذه المحكمة بموجب اتفاقية لندن في 8 آب 1945ووُضع النظام الأساسي للمحكمة العسكرية الدولية في نورنبرغ في 15/10/1945، وهي محكمة عسكرية دولية لمحاكمة كبار مجرمي المحور، وكانت الجرائم مقسمة وفقاً للمادة السادسة من نظام المحكمة إلى:

(1) جرائم السلام، وتشمل الإعداد أو البدء بشن عدوان أو حرب تشكّل انتهاكاً لاتفاقيات وضمانات دولية.

(2) جرائم الحرب، وتشمل الجرائم المسلحة والانتهاكات الخاصة بالاعتقالات والترحيل والعمليات الانتقامية.

(3) الجرائم ضد الإنسانية، وتشمل الحرب والاغتيالات والإبادة والاستعباد والترحيل وغيرها من الأفعال اللا-إنسانية المرتكبة ضد المدنيين والاضطهاد لدوافع سياسية أو عنصرية أو دينية. وكذلك شملت قائمة الجرائم الموجهين والمنظمين والمحرضين والمتدخلين الذين لهم مساهمة في التمهيد لتلك الجرائم.

هل تحققت العدالة في نورنبرغ؟ في الحرب التي كلّفت العالم أربعين مليون شخص بالحد الأدنى وتدمير أوروبا بشكل خاص، فإننا نتوقّع أن يكون المتّهمون بعشرات الآلاف ولكن ستكون المفاجأة كبيرة حين نعلم أنه لم يمثل أمام نورنبرغ سوى 22 متهماً فقط فيما حوكم 185 شخصاً في اثنتي عشرة محكمة متفرعة عن نورنبرغ.

واليوم في سوريا، بوجود مئات الآلاف من الأهالي ينتظرون تحقيق العدالة الغائبة لأبنائهم الذين لم يعودوا رغم الانتظار، فإنّ الكلمة المفتاحية لسوريا هذه الأيام هي العدالة الانتقالية ومحاكمة مجرمي الحرب عبر محاكم مختصة ونظام أساسي تقوم عليه تلك المحاكم وتفصيل لآلية عملها وتشكيلها.

ولكن كيف يمكن تشكيل محكمة مجرمي الحرب:

في سوريا بعد أن سقط النظام في 8 ديسمبر 2024، أضحى سؤال العدالة على شفاه مئات آلاف الناس. وبعد مضي أكثر من ثلاثة أشهر على استلام الإدارة الجديدة وتكرارها لعبارة العدالة الانتقالية، إلا أنه ليس واضحاً ما تفعلهُ في سبيل هذا الملف، وهل أعدّت قوائم بمجرمي الحرب، وما هي أعدادهم، ومن هم المتورّطون الحقيقيون، ومن هي المحكمة المعنيّة بمحاكمتهم، خاصّة أنها جرائم تتطلّب قوانينَ خاصة ونظام محكمة خاصاً وقضاة خاصين غير خاضعين للضغط العاطفي من الناس أو من السلطة، وأيضاً مع كثرة تداول مصطلح «فلول النظام» والذي لا معيار واضحاً تتخذه السلطة في سوريا لتحديدهم الأمر الذي يفتح الباب واسعاً لإباحة الاعتقال تحت هذا المُسمّى الآن ومستقبلاً ويشكّل طعنة في ظهر دولة العدالة التي يرغب فيها الجميع.

وعليه، إنّ الإسراع بإنشاء محكمة مؤقتة خاصة بمجرمي الحرب، على غرار محاكم نورنبرغ، هو ضرورة واقعية، خاصة مع ازدياد الانتهاكات التي تحدث من طرف أشخاص أو فصائل يُحسبون على السلطة الجديدة، سواء رغبةً منهم في تحقيق العدالة التي يظنّون أنهم يستحقونها ويخشون أن تُهدر أو بدافع الانتقام من مدنيين لا تربط بينهم وبين المجرمين إلا العقيدة أو الموقف السياسي، أو بسبب انفلات الأمن، أو بسبب الحقد المشبعة به بعض النفوس.

وعلى تلك المحكمة ألا تتحوّل إلى مسرح استعراض كما كان يحصل حين أنشأ النظام السوري محكمة مكافحة الإرهاب في عام 2012 فتحوّل قوس المحكمة إلى مسرح يستعرض عليه رئيس المحكمة بطولاته. وقد شهدتُ شخصياً في عام 2014 أحد استعراضات رئيس المحكمة حيث اتهم طالباً جامعياً كان موقوفاً بممارسة نشاطات إرهابية على الإنترنت، وحين ساد صمت في قاعة المحكمة ونحن ننتظر ما هي تلك النشاطات بينما رئيس المحكمة يُقلب في أوراق الملف كسر صمت القاعة صوته وهو ينظر إلى المتهم نظرة احتقار وقال له بكل استهزاء وسخرية: «ومعجب بصفحة الشيخ العريفي؟». كان وضع اللايك والإعجاب لصفحة «فايسبوك» جُرماً إرهابياً في سوريا، الأمر الذي جعل من تلك المحكمة مسرحية أكثر منها قانونية، وهذا ما لا يمكن له أن يحصل في دولة تدّعي أنها ستحترم الحقوق والحرّيات.

وإذا ما أخذنا في الحسبان فساد السلك القضائي السوري بنسبة كبيرة، لأنه قائم على التزلّف والخوف من السلطات القديمة والجديدة، والفساد بنسبة لا بأس بها، فهنا تكمن المهمة الصعبة للإدارة الجديدة (فيما لو أرادت تطبيق القانون والعدالة حقاً) باختيار قضاة لا يخشون في الحق لومة لائم تضعهم بحسب كفاءتهم لا ولائهم كما تفعل في عدد من مراكز القرار، إذ إنها حتى الآن تعتمد الولاء قبل أي اعتبارٍ آخر.

ومن الممكن أن تكون محكمة دولية ووطنية في آن، ضمن نظامٍ خاصّ بها، ويكون فيها قضاة مشهود لهم بالعلم والنزاهة والحياد، سواء من البلدان العربية أو الأجنبية، وهذا الأمر قد يعتبره البعض مسّاً بالسيادة الوطنية إلا أن هذا الكلام غير صحيح قانونياً، فالدولة حين تدخُل في اتفاق دولي مع دول أو منظمات هي لا تُنقص من سيادتها ولا تُقيدها، بل في حقيقة الأمر هي تُحقّقها، وسابقة المحاكم الدولية قد حصلت في الكثير من البلدان، أقربها زمانياً المحكمة الخاصة باغتيال رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني، وقبلها المحكمة الخاصة برواندا، ويوغوسلافيا، وطوكيو، ونورنبرغ.

حق الدفاع

بالعودة إلى مقدمة هذا المقال وما قاله أوتو أولندورف، فإنّ هذه الحجة الرئيسية التي قام عليها دفاعه لم تفلح لأن نظام المحكمة العسكرية في نورنبرغ قد ردّ على هكذا ادعاءات في المادة الثامنة منه والتي رفضت الأخذ بمبدأ أن المتهم يقوم بإطاعة أوامر رئيسه لإعفائه من المسؤولية، ولكن تركت أمر النظر في تخفيف الحكم للمحكمة إذا رأت ذلك. وهذه الحجة ستظهر في دفاع أي متهم في جرائم الحرب في سوريا، خاصة أننا نعرف أن مخالفة الأوامر العسكرية والأمنية قد تودي بصاحبها ليصير ضحية بدلاً من أن يكون الجلاد، وسيقول لم أكن إلا مجرد ترس بسيط في آلة ضخمة.

وإنّ المادة الثامنة من نظام محكمة نورنبرغ ينبغي تطبيقها في نظام أي محكمة سورية ستأتي، ويُسمح للمحكمة بتخفيف الحكم إذا رأت ذلك، لأن لكل فرد ظرفه الخاص وحسب الفعل الذي قام به، دون أن يغيب أن البعض هو مصدر الأوامر لا متلقيها، وهنا سيشتد الخلاف الأخلاقي حول ما فعل المرؤوس بأمر رئيسه، وستتعرّض المحكمة لضغوط هائلة من ذوي الضحايا الذين قد يعتبرون أن أي فعل لمرؤوس يمثّل جريمة بغض النظر عن فداحته أو خطورته. وهذا الخطر الآخر الذي يهدّد حياد القضاة ونزاهتهم. ورغم أن محاكمات نورنبرغ كانت تحاكم أشخاصاً تسببوا في قتل الملايين، إلا أن النظام الأساسي للمحكمة أعطاهم كامل الحق بالدفاع عن أنفسهم بموجب المادة 16 منه، سواء من حيث الرد على لائحة الاتهام أو توكيل المحامين أو طلب الشهود أو تقديمهم لأدلتهم أو استجوابهم باللغة التي يفهمونها.

وحق الدفاع هذا لا يتعلق بالمتهمين فقط بل حتى بالضحايا لكي يفهموا الآلية التي كان يتم تحت ظلّها ارتكاب الجرائم والكيفية لذلك، وكيف استطاع القتلة أو المعذبون في الأفرع الأمنية القيام بتلك المهمة الدنيئة دون أن يخالجهم شعور العار أو وخز الضمير. هل كانوا وحوشاً حقاً؟ لا، لم يكونوا وحوشاً، هذه المفاجأة المدوية سيقولها لنا المدعي العام بينجامين فيرينز في محاكم نورنبرغ في لقاء معه على التلفزيون الألماني DW في عام 2015: «افتراض أن هؤلاء وحوش بشرية هو افتراض غير صحيح، لا يمكن تمييزهم عن أشخاص تلتقيهم في أي مكان، إنهم مثقفون ولطفاء مع حيواناتهم الأليفة وربما آباء جيدون، ولكنهم اعتقدوا أن واجبهم الوطني والبطولي هو قتل الآلاف من الأطفال». كان بعض المجرمين يعتقدون أنهم يقومون بأدوار بطولية تحت منظومة تعمل لحمايتهم وفقاً لعقيدة أو أيديولوجية عملت على تغييب ضميرهم الأخلاقي. وفي هذا المجال ينبغي فهم تلك الحالة لكي لا يتكرر هذا الحدث ثانيةً ولكي لا يتم تعليق الضمير الأخلاقي وتغييبه لأي شخص دعماً لأي سلطة فيتحوّل إلى مجرم.

العدالة

قبل الخوض بالحديث في العدالة علينا أن نسأل أنفسنا كيف تحوّل بعض السوريين إلى جناة ومجرمين؟ هل كان الأفراد الذين يقومون بالقتل يفعلون ذلك من أجل تنفيذ الأوامر أم من أجل العقيدة أم من أجل أنفسهم؟ هذا السؤال قد يُخطئ القانون بالإجابة عنه لكن عالم النفس هيربرت كيلمان يُجيب فيقول إن الوازع الأخلاقي ضد الفظائع يميل للاختفاء بمجرد تحقق ثلاثة شروط، وهي: التفويض باستخدام العنف عبر الأوامر الرسمية، وتنميط العمل أي مأسسته ضمن منظومة توزع الأدوار بشكل دقيق، وثالث الشروط وهو أهمّها تجريد الضحايا من الصفات الإنسانية وتوصيفهم بأيديولوجيات وتوصيفات تفقدهم كل صفة إنسانية جديرة بالتعاطف معهم.

وهكذا يتحوّل المرؤوس من ترس صغير في آلة ضخمة إلى آلة بذاته يقيم العقاب بذاته ولذاته ويستطيع بعد أن يقتل طفلاً في الصباح أن يذهب ويعانق أطفاله في المساء ويلعب معهم، وهذا ما يُمكن تسميته بالمسافة الأخلاقية بين الفعل والعاطفة أو تحويل الجريمة إلى وظيفة عامة أو مهنة، فيعتبر عمله بالتعذيب أو القتل بمنزلة الوظيفة العامة يذهب إليها يؤدي واجبه ثم يعود إلى بيته يمارس حياته الطبيعية، يعانق زوجته وأطفاله وقد أنهى واجبه اليومي الذي يتكرر في اليوم التالي ذاته.

إن العدالة، وإن كانت غاية في ذاتها، إلا أنها ينبغي أن تتحول إلى وسيلة ردع للآخرين لارتكاب مثل هذه الأفعال، وينبغي أن تتم على كل مرتكب لجريمة حرب رأى في إنسانٍ ضعيف عدواً ينبغي قتله. وعليه، فعلى السلطة الجديدة أن تُفهم عناصرها أن واجبهم يقتصر على القبض على المجرم لا ضربه أو تعنيفه أو محاكمته كما نرى في عشرات الفيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي لكي لا نعيد المأساة مرة ثانية، ولأن واجبهم يقتصر على ذلك فلا ينبغي التعدّي على واجب القضاء بتقرير الحكم وتنفيذه، وهذا ما جرى مرات عدة تحت مسمّى الأخطاء الفردية فقد كان أكبر آلام المجتمع هو التعذيب وعلى هذا السلوك أن يتم ترويضه حتماً.

هل هي انتقالية أم انتقائية؟

هل في التاريخ ما يثبت أن المنتصر حاكم مجرميه كما فعل بالخاسر، هل قامت دول الحلفاء بسؤال الولايات المتحدة عن إلقاء القنبلتين النوويتين في هيروشيما وناكازاكي؟ هذا سؤال سيبدو من العبث البحث عنه، وهذا أمر يُحيلنا إلى عدالة المنتصر. كانت هذه أحد الانتقادات التي واجهتها محاكمات نورنبرغ، فهي إذاً عدالة انتقائية، تنتقي الطرف الخاسر لتقيم له المحاكمات بينما المنتصر يحتفل بانتصاره.

وبما أن السوريين قد ظهر فيهم جناة من طرفي الحرب، سواء من كان تحت سلطة النظام أو من كان تحت سلطة المعارضة، فلكي تكون عدالة انتقالية لا تورث الجروح والندوب فعليها أن تكون انتقالية تشمل الجميع لتُشفي الجميع. إنّ الإحساس بالعدالة هو المطلب لدى الشارع العام لتهدئة النفوس وإنهاء الشعور بالغضب الذي لا يخدشه شيء أكثر من حسّ الظلم الذي لم يُجبر، والذي سيحوّله شيئاً فشيئاً إلى حدث عنيف في المستقبل. وبالتالي إذا كان علينا نحن السوريون أن نبني وطناً ينبغي أن نبني عدالته أولاً. والعدالة على الجميع وللجميع، وهكذا يُمكن للجيل الذي لم يشهد الحرب ألا يخوضها ويُجرّبها كما فعلنا نحن، مع الأخذ في الحسبان أن العدالة الكاملة لا يُمكن تحقيقها مهما بذل من جهد لذلك، ولكن يُمكن للمجتمع الإحساس بتحقيقها.

إذاً، هل تحققت العدالة في نورنبرغ؟ يجيب المدعي العام في محاكم نورنبرغ بينجامين فيرينز تلخيصاً للحقيقة القاسية والمؤلمة: «من بين ثلاثة آلاف شخص قاضيت اثنين وعشرين فقط. ما الذي حدث للثلاثة آلاف الباقين؟ لا شيء، العدالة لم تتحقق إذاً، لقد كان ذلك مجرد رمز للعدالة، على أمل أن يمنع هذا آخرين من ارتكاب مثل هذه الجرائم في المستقبل».

* محام سوري

الاخبار

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى