الناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

نساء سوريا بين الأمس واليوم: “بين الزند و الترند”/ ضحى الدرويش

السبت 2025/03/08

لطالما كانت الجدّات السوريات نساء من نارٍ وطين، يلدنَ الأبطال والشعراء والفلاسفة، وينجبنَ الخيول قبل الرجال. كنّ يحترفن تدوير الأيام، يقمن بثورات في المطابخ، ويخضنَ حروبًا شرسة ضد القدر والمجتمع، بينما كان رجالهن يتجادلون في المقاهي حول “حقوق المرأة”، من دون أن يسمحوا لنسائهم بالخروج بلا إذن رسمي مختوم بالخوف والعار. أما اليوم، فقد “تحررت” المرأة السورية، أو هكذا يُقال! أصبحت حرة بقدر ما يسمح لها الإنترنت، ترتدي حجابًا أو لا، تضع المكياج أو تلعنه، تناقش قضايا النسوية بين منشور وآخر، ثم تخرج لتجد أن عقدها الاجتماعي ما زال معلقًا بين “اذهبي لبيتكِ” و”أنتِ ناقصة عقل”. الفرق الوحيد أنها اليوم لم تعد في حاجة إلى مصباح علاء الدين، فلديها “إنستغرام” و”تيك توك” كبديل عصري عن سحر الماضي.

يأتي يوم المرأة العالمي إلى العالم العربي كما يدخل الضيف الثقيل إلى بيت شرقي، عبر الأبواب الخلفية، على استحياء، محاطًا بنظرات الريبة والتوجس، بينما يتساءل الجميع “وهل كانت النساء بحاجة إلى يوم خاص بهن؟ ألا تكفيهن أيام السنة كلها؟”

استقبله البعض، في البداية، وكأنه فكرة غريبة مستوردة، كعلبة شوكولاتة أجنبية، غلافها برّاق لكن طعمها مشكوك فيه. آخرون رأو فيه مؤامرة كونية تهدف إلى تفكيك الأسرة، بينما اعتبره البعض الآخر مجرد فرصة لالتقاط صور مع موظفات الشركات تحت شعار “نحن نحترم المرأة”، قبل أن يعودوا في اليوم التالي كي يديروا نقاشاً حول خطورة دخول النساء في سوق العمل. ففي زمن ما، كانت المرأة السورية ترفع إبريق النحاس بيدها اليمنى، وتسكب القهوة بيدها اليسرى، وهي تمسح الأرض بطرف ثوبها، وتصغي بانتباه لحكمة جدتها، وتحفظ الشعر الحلبي كما تحفظ وصايا أمها حول “الشرف”، ذاك الصنم المقدس الذي ظلّ حارسًا على حياتها أكثر من أي دستور.

أصبحت المرأة السورية اليوم أيقونة الحداثة: وزيرة، شاعرة، موظفة، مؤثرة في السوشيال ميديا، لكنها ما زالت تحسب خطواتها جيدًا حتى لا تسقط في فخ العيب أو الحرام، أو “ماذا سيقول الناس؟”. صارت تكتب عن الحرية، لكنها تعود لتمحو تعليقاتها خوفًا من مجتمع يوزع صكوك الشرف بأثر رجعي. كانت تُجلد إذا أحبت، واليوم تُحارب إذا لم تحب. بالأمس، كانت تُحاكم بتهمة السحر إذا ما تجرأت على قراءة كتاب، واليوم تُحاكم بتهمة الجهل إن لم تحفظ أسماء ماركس وبرنارد شو ودوستويفسكي. الفرق أن السوط أصبح “الهاشتاغ”، والسجن تحول إلى غرفة فايسبوكية يقطنها قضاة افتراضيون. ثم جاء الإعلام العربي، فأخذ المناسبة وأعاد تدويرها كما يفعل مع أي قضية خصص لها برامج تلفزيونية. يبكي الإعلام على معاناة المرأة، ثم يدعو إلى استضافة “خبير اجتماعي” (لا خبيرة) كي يشرح بحزم أن “تكريم المرأة لا يحتاج إلى يوم عالمي، بل إلى رجل حقيقي يرعاها”، لتنتهي الفقرة بوَصلة من التصفيق الحار!

أما أمي، فلم تكن تعلم أن هناك يومًا عالميًا للمرأة. كانت تعتقد أن الأيام كلها متشابهة، تبدأ مع شروق الشمس، ولا تنتهي إلاّ مع انطفاء آخر شمعة من شقاء النهار. لم يكن لديها وقت لمتابعة البيانات الأممية، ولا لقراءة المقالات عن “تمكين المرأة”. كانت منهمكة بتمكين العائلة من البقاء على قيد الحياة، وبإدارة دولة منزلية صغيرة، موازنتها صفر، ومسؤولياتها بلا حدود. أنا أيضاً، لم أكن أعلم أن هناك يومًا عالميًا للمرأة، ولم أسمع بتلك الجمعيات النسوية التي تتحدث عن حقوقها حتى وقت متأخر. كنت أظن أن المرأة تحصل على حقوقها بالصبر والكدّ والتعب، لا عبر الاجتماعات والتقارير والبيانات الصحافية. كنت أظن أن العدالة تُكتسب مثل الخبرة، ولا تُمنح مثل الهدايا. لكنني اكتشفت لاحقًا أن هناك من يحتفل بها كل عام، يتبادلون الشعارات، يوزعون عبارات الدعم، ثم يطوون المناسبة كما يُطوى منشور قديم لم يعد يجلب التفاعل.

أما مواقع التواصل الاجتماعي، فقد احتفت باليوم على طريقتها: منشورات منمقة، صور لنساء يبتسمن بتكلف، إقتباسات مستعارة من كتب لم يقرأها أحد، ومقالات طويلة تبدأ بـ”المرأة نصف المجتمع” وتنتهي بلائحة محظورات على هذا النصف البائس. ومع مرور الزمن، باتت نساء عربيات يحيين هذا اليوم كما يحيين أعياد الميلاد بانتظار الهدايا الرمزية، وبعض الورود البلاستيكية، وكلمات منمقة تُنسى مع أول نقاش حول “حقوق الطلاق” أو “الوصاية”. أما البقية، فقد واصلن حياتهن كما كنّ يحاربن في المطابخ، يدرسن في الجامعات، يكتبن الشعر، ويُسكتن العالم بضحكة ساخرة من كل هذا الضجيج. دخل يوم المرأة العالمي إلى العالم العربي مثل فكرة ما زالت تبحث عن مقعد لها، يُحتفل بها في العلن، وتُناقش خلف الأبواب المغلقة، تُرفع لها الشعارات، لكنها لم تصل بعد إلى القلوب والعقول التي تحتاجها حقًا.

وهكذا، يأتي يوم المرأة العالمي كضيف ثقيل، يحتفي به الجميع بالورود والكلمات الرنانة، بينما الواقع يواصل الضحك من خلف الستار. في الماضي، كانت المرأة السورية ملكة بلا تاج، واليوم هي “ترند” بلا عرش!

لكن، وبالرغم من كل شيء، تبقى النساء السوريات كما كنّ دائمًا: أقوى من كل قيد، وأذكى من كل مؤامرة اجتماعية، وأجمل من كل نظريات التحرير، يواصلن السير في درب طويل، حيث الحرية ليست شعارًا، بل معركة تبدأ مع كل ولادة جديدة.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى