سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 09 أذار 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
———————————-
في معنى تمثيل السوريين أفراداً/ مضر رياض الدبس
09 مارس 2025
بدأت فكرة عقد مؤتمر حوار وطني في دمشق مباشرةً بُعيد تحرير البلاد من النظام البائد. وما إن بدأ السوريون في التفكير بعقد مؤتمر، حتى بدأوا يكتشفوا صعوبة تمثيلهم فيه. ومع اتفاق الرأي العام على ضرورة الابتعاد عن نمط التمثيل الطائفي والعصبوي، وإلغاء مبدأ المحاصصة، وغياب حياة سياسية في البلاد، برزت مشكلة غياب منهجية معروفة للتمثيل يمكن أن تلائم الوضع السوري الحالي. بعد ذلك، رأت السلطة الحالية أن يكون التمثيل في المؤتمر فردياً، وهذا جيد، أو لنقل إنه كان أفضل الممكن، وجرى المؤتمر على أساس هذا التمثيل. وتطرح منهجية التمثيل هذه سؤالين مهمين: ما هو الفرد؟ ومن ثم كيف يكون المرء فرداً ليتناغم فعلاً مع هذا النوع من التمثيل؟ يناقش هذا النص السؤالين، ويحاول مقاربتهما، ومن ثم اشتقاق اقتراحات مستقبلية بموجب نوعية هذه المقاربة، خصوصاً أن هذا النوع من الأسئلة يكتسب أهميةً كبيرةً بالنظر إلى حقيقة أن الفرد هو نواة المواطن، فلن يكون السوري مواطناً إلا بالمرور في مفهوم الفرد.
ثمّة في الدنيا مفهومات لا تعيش وحيدة، لكنها تعيش في ثنائيات مع الـ”لا التي تخصها”؛ مثلاً لو لم يكن إيمان، لما كانت ثمة حاجة إلى مفهوم الإلحاد، ولو لم يكن خير، لما كنا في حاجة إلى مفهوم الشر، وهكذا. أيضًا، مفهوم الفرد لا يكون من دون مفهوم الجماعة، فلو كان الإنسان لا يعيش في جماعات، لما برزت الحاجة إلى مفهوم الفرد من الأساس. إذاً، واحدة من أهم المسائل التي تُحدد مفهوم الفرد، أو نوعية التفرد، والإفراد، هي نوعية الجماعات التي ينتسب إليها الفرد. وهنا نحن نميز بين التفريد (individuation) والإفراد (individualization)، الأولى على وزن تفعيل (فرَّد تفريداً)، أي أن الشخص يجعل نفسه فرداً بقرارٍ منه، وهو واعٍ بما يفعل، وواعٍ بمسيرة فردنته؛ والثانية على وزن إفعال (أفرد إفراداً)، أي ثمة مَن جعل منه فرداً برغبته، أو من دونها. ونقول إن التفريد، والإفراد، لا يتمان إلا بموجب نوع العلاقة التي تربط كلاً منهما بالجماعة. ولأن الفرد بحاجةٍ دائمة إلى التعاون، والشغل، والتبادل، لتحقيق مصلحته الخاصة؛ فإنه ينخرط بالضرورة داخل نظام المجتمع، ومن ثم يصبح هو نفسه وسيلةً بيد الآخرين، لأنهم يتصرّفون بالطريقة نفسها، وهذه طبيعة الأمور. هذا يعني أن الإفراد والتفريد لا يتمان إلا داخل أشكال التضامن التي ينتجها الأفراد في ما بينهم بطريقةٍ واعية، أو غير واعية. والآن، صار مُمكناً أن نقترح الآتي: الحالة الأولى إذا كانت الجماعة مبنية بطرائق غير واعية، سابقة على مفهوم الفرد، مثل الطائفة، أو القبيلة، وكل ما يندرج تحت “حسبُنا ما وجدنا عليه آباءنا”؛ فإن التفريد فيها لا يمكن أن يجري إلا بصورة “صعلكة”، لأن هذا المسار محكومٌ بالهُويَّة التي لا تترك خياراتٍ إلا الهُويَّة أو البَريَّة. في هذه الحال، ما إن يتّخذ عضو الجماعة قراره بالانحياز إلى فردانيته، حتى تحكم عليه القبيلة بالإفراد على غرار الطريقة التي حكمت فيها على طرفة بن العبد مثلاً (إلى أن تحامتني القبيلة كلها وأُفرِدتُ إفرادَ البعير المُعبَّد): والبعير المُعبَّد هو الأجرب الذي يُدهن بالقطران، ويُعزل عن القطيع. والحالة الثانية إذا كانت الجماعة مبنية على أسسٍ واعية لاجتماعها، وتحترم كل فردٍ فيها، ورأيه موضع اهتمامٍ وتقدير، ويبنيه من دون عنفٍ وضغط، وهو غاية في حد ذاته. هذه جماعة تدعم أفرادها، وهي، بطبيعة الحال، ليست عصبوية، ويكون التفريد فيها “استقلالاً بالآخر”، على مبدأ أبو حيان التوحيدي عندما قال إن الحُب استقلال الشريكين كل منهما بالآخر، لاكتمال الذكورة بالأنوثة، والعكس، وهذا الاستقلال بالشراكة هو المعنى الأعمق للفردية. في الحالة الأولى الروابط في الجماعة عصبوية بالمعنى الذي قدَّمه ابن خلدون، وهي روابط تقوم على صهر الناس بعضهم ببعض، والتضامن فيها مبني على نعرة الدم، أو العصبية القبلية: العائلة، والقبيلة، والطائفة، أمثلةٌ على هذا النوع من الروابط. وفي الحالة الثانية تقوم الروابط على تجسير العلاقات بين البشر من دون صهر الناس بعضهم ببعض، هي روابط مدينية تستبدل بالعصبية ما يعرف في العلوم الاجتماعية بـ”رأس المال الاجتماعي”، وهو نوع من الروابط الاجتماعية التي يبنيها الأشخاص نتيجة روابط واعية تؤدي إلى بناء ما يعرف بـ”شبكات الثقة”، هذا النوع من الروابط هو المثالي للمجتمع المدني، وهو الوسط الذي ينبت فيه مفهوم الفرد وينضج، مثال ذلك جماعة القراءة المشتركة، أو جماعة تمكين المرأة، أو جماعة دعم الأطفال المشردين، أو جماعة هواة ركوب الدرّاجات، وإلى ما هنالك. في هذه الحالة ينشأ بين أفراد هذه الجماعات، نتيجة نشاطاتهم المشتركة، نوعٌ من الثقة التي تعمل بعلاقةٍ متعدية؛ فأنا لا أعرف “س”، لكن أثق به لأنني أثق بـ”ع”، و “ع” يثق بـ”س”. والمجتمع المدني هو مجال الاختلاف، لكنّه عتبة الوحدة: يعني ذلك أن الاختلاف ضروري للوحدة، فلولا منظومة المجتمع المدني، التي تعترف بأفراد مستقلين بالشراكة مع الآخر، ومختلفين بعضهم عن بعضهم، لما كان أي معنى للوحدة على المستوى السياسي، لأن مجال السياسة، هو مجال الوحدة (الدولة)، يعني ذلك أن المجتمع المدني هو عتبة الدولة، والعتبة مكانٌ للدخول، وللخروج أيضاً. هذا يعني أن المجتمع المدني من حيث هو وسطٌ ينبت فيه مفهوم الفرد، وحاضنٌ لمفهوم الاختلاف، هو أيضاً عتبة الدولة ومنه ندخل إلى مجال الوحدة، ونخرج.
صار لدينا الآن ثلاثة مفهومات للفرد: في المجتمع العصبوي يكون صعلوكاً، وفي المجتمع المدني يكون فرداً، وفي المجتمع السياسي يكون مواطناً. الأول عزلة (إفراد البعير المُعبَّد)، والثاني استقلالٌ بالآخر (إفرادٌ بالشراكة)، والثالث استقلالٌ بالحق (إفرادٌ بالقانون)؛ فعلى مستوى الدولة الفردانية حق. صورة التضامن في الأول عصبية، وفي الثاني رأس مالٍ اجتماعي، وفي الثالث رأس مالٍ وطني (رمزي، واجتماعي، ومادي، وثقافي). من كل ما سبق يمكن أن نقول إن الحالة العادية هي أن يبني المجتمعُ المدني الدولةَ، ولكن إذا لم يكن ثمة مجتمع مدني، وهو عتبة الدولة، فكيف ندخل إلى الدولة؟ ندخل إليها قفزاً، وهذا ما حصل في سورية الآن. لقد قفزنا كلنا إلى الدولة في هذا المؤتمر الأخير، ولا بأس في هذا القفز، بل إنه رائعٌ لأنه يعني النصر؛ فالنصر العسكري أصلاً هو أنْ نقفز إلى الدولة قفزاً، وربما هذا معنى الثورة في العمق، لكن بشرط أن تظل فكرة المجتمع المدني في رأسنا، أي نفكّر دائماً في بناء العتبة من داخل الدولة، وليس من خارجها، كما في الحالة المثالية. يعني ذلك أن تساهم الدولة في بناء مجتمع مدني قوي يحتضن الاختلاف، ومن ثم يعود هذا المجتمع المدني ليقوّي الدولة، أن تبني الدولة عتبة الدخول إليها من داخلها؛ فتسمح للجديد بالدخول إليها وتحسينها. وصلنا الآن إلى سؤال: كيف تبني الدولةُ، التي دخلنا إليها قفزاً، المجتمعَ المدني من داخلها؟ تبنيها عبر وزارة الثقافة؛ وفي تقدير صاحب هذه المقالة، في الوضع السوري الحالي، أهم وزارة للمستقبل (وليس للمشكلات المرحلية) هي وزارة الثقافة إذا اضطلعت ببناء مجتمع مدني سوري، من طريق بناء شبكات ثقة على أسس ثقافية تشكل حالة أنموذجية ومنهجية لنوعية علاقات تقوم على رأس المال الاجتماعي، وتشكل ضامناً للدولة مستقبلاً، لأن فيها ينبت مفهوم الفرد، ويتمايز.
العربي الجديد
————————
مخاوف من ابتلاع اتحاد الصحافيين السوريين/ جلنار العلي
05 مارس 2025
جدل واسع في الأوساط الصحافية السورية على خلفية القرارات الحكومية القاضية بحل المؤتمر العام لاتحاد الصحافيين وتشكيل “مكتب مؤقت” في فبراير/ شباط الماضي لتسيير أعمال الاتحاد المنحلّ، لا سيما أن أعضاء المكتب هذا من خارج الاتحاد. وقد دعا الاتحاد الدولي للصحافيين الحكومة السورية للتراجع عن هذا القرار باعتباره تدخلاً سياسياً خطيراً في شؤون النقابات، معبراً عن خشيته إزاء بناء منظمة نقابية هدفها خدمة أجندة الحكومة وسياساتها بدلاً من الدفاع عن حقوق الصحافيين. المكتب المؤقت رد على هذه الدعوة بالتأكيد على أن الإجراءات الحكومية “خطوة ضرورية لوضع حد لتوغل أجهزة النظام السابق في مؤسسات العمل النقابي”، وأشار إلى أن “الاتحاد السابق لم يتمكن طيلة السنوات الماضية من منع الممارسات التي تفتقر لأبسط درجات المهنية الصادرة عن الإعلاميين والصحافيين العاملين في ظل النظام السابق”.
ويقول نائب رئيس اتحاد الصحافيين سابقاً مصطفى المقداد، لـ”العربي الجديد”، إن القرار “صحيح من حيث الشكل القانوني، ولكن كان يفترض من حيث المضمون اختيار أعضاء اللجنة المؤقتة من ضمن الصحافيين المنضوين تحت مظلة الاتحاد الذي يضم أكثر من 2500 صحافي بصفة عضو عامل، والذين لا يمكن اعتبارهم من فلول النظام بأكملهم، فكثيرون منهم انتقدوا ورفعوا أصواتهم بوجه الفساد”. وأضاف المقداد: “لم يكن مطلوباً من الجميع المغادرة لإسقاط النظام، فلكل شخص ظروفه الخاصة، وليس مطلوباً من أحد تبرير سبب بقائه في الداخل”.
وأوضح المقداد أن الاتحاد الدولي للصحافيين حاول من خلال رده الإبقاء على عضوية سورية وإيجاد صيغة مناسبة، بعيداً عن البيان الذي أصدره. فقد حول عضوية رابطة الصحافيين السوريين من الشكل المشارك إلى عضوية كاملة في الاتحاد، كونها تضم صحافيين سوريين منتشرين في أكثر من دولة في العالم لم تكن لهم مشاركة في المكتب التنفيذي المؤقت، فمن غير المنطقي – على حد وصفه – اختيار أعضاء يحتاجون دراسة كاملة لمعرفة مفاصل اتحاد الصحافيين، ووصف رد اتحاد الصحافيين على بيان الاتحاد الدولي بأنه “بسيط وساذج”، وفيه سلوك كان سائداً في المرحلة السابقة من ناحية التبرير الخاطئ لما هو موجود.
أما الصحافي المستقل كمال شاهين فيعتبر أن تشكيل المكتب المؤقت ممن هم خارج الاتحاد هو مخالفة قانونية، ويترك ظلالاً من الشك بأن الهدف من هذه الإجراءات هو تهميش العمل النقابي، وقد تكون لذلك صلة ببنية السلطة نفسها. ويلفت شاهين إلى أن إعلام الثورة واصل العمل خارج تلك المنصات منذ 14 عاماً مقابل الإعلام الرسمي، ولكن هناك الكثير من الأمور التي يتم البناء عليها بهدف السيطرة على منصات الإعلام، لتبقى السلطة حاضرة بشكل دائم، ويبدي عدم تفاؤله بأن السلطة ستكون ديمقراطية أكثر من السلطة السابقة، وذلك وفقاً لما ظهر خلال الشهرين الماضيين، إذ “توجد مراقبة للعمل الإعلامي وتصعيد وتجييش”. ومن جهة أخرى، يرى شاهين أن ما يشاع عن إلغاء وزارة الإعلام “أمر خطير” في بلدان عاشت لسنين طويلة على وجود منظم للعمل الإعلامي كسورية، التي قضت سنوات طويلة تحت حكم شمولي. ويضيف أن هناك أسئلة كثيرة بعد صدور قرار حل المؤتمر العام لاتحاد الصحافيين، وبينها: من سيحمي الصحافيين ويمنع تعرضهم للاعتقال أو المساءلة؟ من سيمنع ابتلاع المؤسسات الإعلامية الصغيرة من قبل المؤسسات الكبيرة؟ ويقول: “يجب أن تعود للنقابات حرياتها، فهي تستطيع التصدي لأي سلطة قمعية قد تتشكل في سورية خلال السنوات المقبلة”، ويستذكر تجربة النقابات في ثمانينيات القرن الماضي ودورها في الحراك السوري.
ويرى أن موقف الاتحاد الدولي للصحافيين صائب، ويوجه رسالة للصحافيين السوريين حول دورهم في المرحلة المقبلة، ويلفت إلى أن اتحاد الصحافيين كان الحلقة الأضعف في عهد النظام السابق، حيث تم إيقاف جميع وسائل الإعلام الخاصة في سورية منذ الثامن من مارس/ آذار عام 1963، ما أدى إلى تحول الاتحاد إلى جهاز ناطق باسم البعث الحاكم، فميثاق شرف الاتحاد كان مشتقاً من فكر حزب البعث وأيديولوجيته من دون وجود أي عناصر نقابية أو مهنية.
وحاولت “العربي الجديد” نقل كل تلك المخاوف للمكتب المؤقت لاتحاد الصحافيين، ليشير عضو المكتب محمود أبو راس إلى أن الاتحاد السابق “كان جزءاً من المنظومة التي حكمها حزب البعث، فالنظام الداخلي الخاص ينص على العمل على تحقيق أهداف الحزب، ويتضمن ثغرات قانونية في إحدى مواده تتيح لرئيس مجلس الوزراء حل مجلس إدارة الاتحاد والمؤتمر العام في حال خالف الأهداف، وبالتالي يعتبر الاتحاد بحكم المنحل أساساً قبل صدور قرار بذلك، نتيجة حل حزب البعث بالشرعية الثورية، وفقاً للمؤتمر الثوري الذي عقدته الفصائل العسكرية، لذلك كان ملف الاتحاد من الملفات الحاضرة التي يجب مناقشتها في سورية الجديدة، وقد تمت مناقشة الموضوع مع إدارة الاتحاد السابقة التي كان يرأسها موسى عبد النور، وكانت هناك مرونة من قبلهم في تسليم الملفات والتعاون مع المكتب المؤقت الجديد إلى حين إجراء الانتخابات”.
وحول الانتقادات بأن أعضاء اللجنة المؤقتة هم من خارج أعضاء الاتحاد، يبين أبو راس أن “حل جسم الاتحاد الذي كان يتعاون بشكل أو بآخر مع النظام السابق يعارض فكرة تعيين أشخاص ذوي خلفيات مجهولة كانوا موجودين ضمنه، ناهيك عن عدم إمكانية الوصول إلى صحافيين كانوا في الاتحاد وانشقوا عنه أو تم تجميد عضويتهم أو إلغاؤها لظروف تتعلق بمواقفهم المعارضة، إضافة إلى تعذّر البحث في خلفيات أعضاء الاتحاد الموجودين، لعدم امتلاك رفاهية الوقت”، ويقول: “يجب التركيز على أن المكتب الحالي مؤقت وليس إدارة ديكتاتورية ستفرض على الصحافيين السوريين سواء كانوا يعملون بمناطق سيطرة النظام أو خارجها”، موضحاً أن مدة عمل هذا المكتب هي ستة أشهر قابلة للتمديد، “ريثما يعاد ترتيب صفوف الاتحاد وإعادة الأعضاء المفصولين وتعديل النظام الداخلي وصياغة نظام جديد يرقى لمؤسسة نقابية صحافية تمثل جميع الصحافيين السوريين وتخدم تطلعاتهم بأن تكون مؤسسة مستقلة لا تتبع لأي حزب أو جهة حكومية، ليصار بعد ذلك إلى التحضير لمؤتمر عام يجري ترشح الأشخاص من خلاله وانتخابهم ديمقراطياً، لتشكيل مجلس إدارة دائم ومكتب تنفيذي، ومدراء فروع، وغير ذلك”.
ويرى أن أسلوب خطاب اتحاد الصحافيين الدوليين لرئيس مجلس الوزراء “وصائي ومعيب وغير إيجابي، ناهيك عن أنه لم ينظر عندما قبل عضوية اتحاد الصحافيين السوريين في السابق إلى تبعيته لحزب البعث ورئاسة مجلس الوزراء وعدم استقلاليته، وبالتالي هناك تناقض واضح في مواقفه، وبناء على ذلك تم إرسال كتاب له لتوضيح أساس اتخاذ تلك الإجراءات”.
ومن جهة أخرى، يفيد بأن اللجنة المؤقتة تواجه الكثير من الملفات المعقدة الموجودة في الاتحاد تعود إلى عام 2005، لافتاً إلى وجود الكثير من قضايا الفساد ووضع اليد على أصول وأملاك تعود ملكيتها للاتحاد. وحول ما يتم العمل عليه اليوم من قبل اللجنة المؤقتة، يكشف أبو راس عن “العمل على حماية الصحافيين وضمان حقوقهم الجسدية والنفسية والفكرية، كي لا يتعرضوا للنصب والاستغلال مثلاً من قبل بعض الجهات الإعلامية، إضافة إلى السعي لتكافؤ فرص العمل وإنهاء حالة الاحتكار، كما تم الطلب من وزارة الإعلام إعادة شرعية منح البطاقة الصحافية للاتحاد وفق شروط معينة”.
العربي الجديد
——————————-
خطوات ما بعد مؤتمر باريس في سوريا قد تكون حاسمة/ ديفورا مارغولين, هارون ي. زيلين
٤ مارس ٢٠٢٥
تحليل موجز
مع انقضاء شهر العسل الذي أعقب سقوط الأسد، لا يزال أمام واشنطن متسع من الوقت للاعتراف بالوقائع على الأرض، وذلك من خلال تقديم الخبرة الفنية الأمريكية اللازمة، فضلًا عن الدعم الاستراتيجي للمساعدات الدولية، وجهود التعافي، ومكافحة الإرهاب.
في 13 شباط/فبراير، اجتمع ممثلون عن الحكومة السورية الانتقالية مع تسع عشرة دولة من دول التحالف الدولي ، بالإضافة إلى أربع منظمات متعددة الجنسيات في باريس، حيث ووقعوا بيانًا مشتركًا حول مستقبل البلاد. واستنادًا إلى روح قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، دعا بيان باريس إلى إقامة سوريا موحدة وشاملة للجميع، وعقد مؤتمر حوار وطني يُفضي إلى إصلاح دستوري وانتخابات. كما دعا البيان السلطات السورية إلى احترام حقوق الإنسان وتطبيق العدالة الانتقالية وإنهاء إنتاج الكبتاغون والاتجار به والحد من الجريمة المنظمة وتدمير الأسلحة الكيميائية وضمان عدم عودة الجماعات الإرهابية للظهور على الأراضي السورية. وتعهد الموقعون من جهتهم بزيادة حجم ووتيرة الجهود الإنسانية وجهود التعافي، والسعي إلى إنشاء مجموعة “دعم المرحلة الانتقالية السورية” طويلة الأمد لتنسيق المشاركة الدولية.
وربما تكمن الفائدة الرئيسية لهذا المؤتمر المعروف بـ”الخيمة الكبيرة”، في تقليص العديد من الفجوات الواسعة بين حلفاء التحالف في سوريا، حيث تم إشراك تركيا، وهي اللاعب الرئيسي في الحوار دون السماح لها بالمضي قدمًا في أجندتها الخاصة بشكل منفرد. ومع ذلك، اقتصر دور الولايات المتحدة على المراقبة فقط ولم توقّع على البيان المشترك، وبالتالي فوتت فرصة كبيرة للتأثير في مسار الحوار. وعلى الرغم من ذلك، أشار المؤتمر إلى أن المجتمع الدولي ملتزم بتنسيق عملية تحقيق الاستقرار في سوريا وإعطائها الأولوية. وعليه، ينبغي أن تُركز المؤتمرات المستقبلية على معالجة الفجوات المتبقية بين الحلفاء، مع وضع خارطة طريق واضحة ومحددة، ولا سيما من خلال تعزيز المشاركة الأمريكية.
ويُلاحظ أيضًا غياب روسيا وإيران، اللتين طالما تدخلتا في السياسة السورية، إلى جانب الصين التي قد تسعى لتحقيق مصالح اقتصادية مهيمنة بعد رحيل الأسد. وقد أشار استبعاد هؤلاء الفاعلين المفسدين المحتملين إلى أن الدول المناهضة للغرب لن تُمنح الفرصة لملء الفراغ مع ظهور سوريا الجديدة.
وفي الوقت نفسه، عقدت دمشق حوارها الوطني في 24 و25 شباط/فبراير. غير أن العملية كانت متسرعة للغاية ، إذ نظمت اللجنة التحضيرية المؤلفة من سبعة أشخاص الحوار في أسبوع واحد فقط، وعقدت المحادثات اللاحقة بعد يومين فقط من انعقاده، وجرت العملية برمتها قبل بداية شهر رمضان، حيث سيتوقف معظم عمل الحكومة لمدة شهر. وقد تؤدي هذه العوامل إلى خلق مظالم طويلة الأمد من شأنها الإضرار بالاستقرار في المستقبل.
هل هناك مخرج أمريكي أفضل للانسحاب؟
اضطلعت الولايات المتحدة بدورٍ نشط في قيادة التحالف الدولي لهزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية” منذ إنشائه في عام 2014، وقد صرحت إدارة ترامب بأن القتال ضد التنظيم سيظل مستمرًا. ومع ذلك، أوضح الرئيس أيضًا أن القوات الأمريكية ستنسحب من سوريا، رغم أن الجدول الزمني لهذا الانسحاب لا يزال غير واضح.
أما فيما يتعلق بالعقوبات، فقد أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية في أوائل كانون الثاني/يناير الترخيص العام رقم 24، الذي يُتيح بعض المعاملات مع الحكومة الانتقالية في سوريا، بالإضافة إلى السماح بالتحويلات الشخصية عبر البنك المركزي السوري لمدةٍ تصل إلى ستة أشهر. ومع ذلك، لم تتخذ الإدارة الأمريكية أي خطوات ملموسة منذ ذلك الحين لتخفيف العقوبات الأخرى. وقد أدى قرار تجميد الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) وبرامج وزارة الخارجية الأمريكية الأخرى إلى زيادة حالة عدم اليقين بشأن مستقبل التمويل والاستثمار الأمريكي في سوريا، رغم حصول العديد من المشاريع المناهضة لتنظيم “الدولة الإسلامية” في الشمال الشرقي على إعفاءات مؤقتة تُمكّنها من مواصلة عملها.
ويرى العديد من الحلفاء أن الموقف الأمريكي يشكّل عقبة أمام وضع خارطة طريق ناجعة لسوريا، مما يُعرقل الجهود المشتركة لتحديد معايير واضحة يمكن للحكومة الانتقالية تحقيقها ضمن جدول زمني واقعي. كما أثار نهج واشنطن مخاوف لدى أولئك الذين يطمحون إلى الحصول على دعم الولايات المتحدة في احتواء انتشار تنظيم “الدولة الإسلامية ” في سوريا والتواصل المباشر مع القادة الجدد في البلاد.
ومع انتهاء شهر العسل الذي أعقب سقوط الأسد، واستمرار واشنطن في التزام الصمت في معظم الأحيان، بدأ حلفاء الولايات المتحدة بطرح مقترحاتهم الخاصة. فعلى سبيل المثال، اقترحت أنقرة تشكيل مجموعة إقليمية لمكافحة تنظيم “الدولة الإسلامية”، تضم قوات تركية إلى جانب وحدات من العراق والأردن وسوريا. غير أن هذه المبادرة لا تحظى بدعم كبير في عمّان وبغداد، كما أن أنقرة تفتقر إلى الإمكانات والتنسيق اللازمين لتنفيذها بمفردها، رغم أن الفكرة قد تبدو جذابة لواشنطن.
وقد اقترح الحلفاء الأوروبيون بديلاً أكثر واقعية، وهو أن يطلب الرئيس الانتقالي أحمد الشرع من عملية “العزم الصلب” -الذراع العسكرية للتحالف الدولي-البقاء في سوريا. وقد قدمت بغداد طلبًا مماثلًا للعراق في السابق، وإذا اتخذ الشرع الخطوة ذاتها، فقد يُسهم ذلك في تهدئة بعض المخاوف بشأن ارتباط فصيله السابق بتنظيمي “الدولة الإسلامية” و”القاعدة”.
ووفقًا لهذا السيناريو، ستتولى فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة ودول أخرى الجزء الأكبر من عملية “العزم الصلب” بدلاً من واشنطن، مع إنشاء غرفة عمليات مشتركة في دير الزور تجمع بين دمشق و”قوات سوريا الديمقراطية”،- الشريك المحلي الرئيسي لواشنطن في الحرب المستمرة منذ سنوات ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”. ومن ثم، سيتبنى الطرفان نهجًا تدريجيًا للتقارب العسكري الداخلي، على أمل أن يتم تعزيز الثقة وتعميق التعاون بمرور الوقت. وقد نفّذت المملكة المتحدة وفرنسا بالفعل عمليات ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” في شمال شرق سوريا، فيما أصبحت لدى فرنسا موارد أكبر الآن بعد توقف عملياتها في منطقة الساحل. كما أن إعادة تفعيل “عملية العزم الصلب” قد تُساعد أنقرة على الحفاظ على ماء وجهها، من خلال إضفاء الشرعية على القواعد التركية داخل سوريا كجزء من جهود التحالف. وفي ضوء هذه المكاسب المحتملة، ينبغي لواشنطن النظر في وضع خطط انتقالية لنقل قيادة “عملية العزم الصلب” إلى باريس، مع استمرار الولايات المتحدة في أداء دورها كشريك رئيسي، ولكن دون أن تتولى قيادة المهمة مستقبلاً.
وفي الوقت عينه، يمضي الاتحاد الأوروبي قدمًا في تخفيف العقوبات على نطاق أوسع، دون الحصول على دعم أمريكي، حيث قام بتعليّق القيود المتعلقة بالطاقة والنقل وإعادة الإعمار خلال اجتماع عُقد في 24 شباط/فبراير في بروكسل. كما أسفر الاجتماع عن منح إعفاءات دائمة للمساعدات الإنسانية، ورفع تجميد الأصول عن خمسة بنوك، بالإضافة إلى تخفيف القيود المفروضة على البنك المركزي السوري، مما يعزز مساعي أوروبا الأخرى لسد الفجوات التي خلفتها السياسة الأمريكية. فعلى سبيل المثال، سبق أن منحت واشنطن إعفاءات للمنظمات غير الحكومية العاملة داخل مخيم الهول، الذي يحتجز الآلاف من أفراد عائلات تنظيم “الدولة الإسلامية” في شمال شرق سوريا. ومع ذلك، لم يوضح المسؤولون الأمريكيون الجهة التي ستتحمل هذه التكاليف مستقبلاً، مما دفع فرنسا ودولًا أخرى إلى وضع خيارات بديلة، تتراوح بين تحمل أنشطة تكاليف المنظمات غير الحكومية بأنفسهم، وتعزيز جهود لم شمل السوريين على أمل تقليل عدد سكان المخيم. وفي نهاية المطاف، من المرجح أن يجد الشركاء الأوروبيون أنفسهم مضطرين إلى مواجهة الواقع وإعادة ما تبقى من مواطنيهم المحتجزين إلى أوطانهم، بعد سنوات من التأجيل.
الأشهر القليلة القادمة هي الأكثر أهمية
في أعقاب مؤتمر باريس مباشرة، يتعين على الولايات المتحدة وحلفاؤها إيلاء اهتمام خاص لثلاث قضايا رئيسية قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار بسرعة:
قوات سوريا الديمقراطية. بالأمس، أصدر عبد الله أوجلان بيانًا تاريخيًا دعا فيه “حزب العمال الكردستاني” إلقاء السلاح وإنهاء القتال المستمر منذ عقود مع الحكومة التركية. وحتى قبل هذا الإعلان، بدا مظلوم عبدي -قائد “قوات سوريا الديمقراطية”، التي تصنفها تركيا كامتداد لـ”حزب العمال الكردستاني”- مستعدًا لدمج قواته في الجيش السوري الجديد. ومع ذلك، لا تزال تفاصيل هذه العملية غير واضحة، مما يستلزم ضغط المفاوضين للحصول على إجابات عن عدة تساؤلات محورية: كيف سيتم دمج “قوات سوريا الديمقراطية” في الجيش الجديد؟ كيف سيتم ضمان أمن منشآت النفط والغاز في الشمال الشرقي؟ من سيتولى السيطرة على الحدود السورية؟ وكيف ستضمن التسويات الجديدة حماية الأكراد من أي تهديدات تركية؟ يجب على واشنطن وحلفائها تشجيع المزيد من المحادثات حول هذه القضايا، مع التأكيد على أهمية تحقيق التوازن بين حماية حقوق الأكراد وضمان وحدة سوريا.
المجتمع المدني. تحتاج الحكومة الانتقالية إلى الانخراط بشكل أعمق مع المجتمع المدني داخل سوريا وخارجها. فحتى الآن، ركزت غالبية جهودها على التعامل مع الوجهاء المحليين ورجال الأعمال والزعماء الدينيين والشخصيات القبلية، مما أدى إلى تهميش الجهات الفاعلة في المجتمع المدني، التي تتمتع بتنظيم جيد ولها دور محوري في المرحلة الانتقالية وعملية إعادة الإعمار. كما يمكن أن يضطلع الشتات السوري بدور داعم في هذا الإطار. وستتطلب هذه الجهود وقتًا، فيما ستظل العدالة الانتقالية عنصرًا جوهريًا في العملية. وعلى امتداد هذه المساعي، يجب أن تضمن واشنطن وحلفاؤها أن تؤدي الخطوات المستقبلية إلى تشكيل حكومة شاملة بحق.
التهديد الجهادي العالمي. يتوجب على دمشق اتخاذ خطوات ملموسة للانخراط بفعالية في محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا، وصولًا إلى تولي زمام المبادرة مستقبلاً. وسيكون قبول مقترح “عملية العزم الصلب” الأوروبية خطوة في الاتجاه الصحيح، إلى جانب توفير معلومات استخباراتية مستمرة لدعم الضربات الأمريكية بطائرات مسيرة ضد فلول تنظيم القاعدة. من شأن هذين الإجراءين أيضًا طمأنة الجهات التي لا تزال متوجسة بشأن ارتباطات الإدارة الأمريكية السابقة بالجهاديين.
كما ستتطلب الأشهر القادمة جهوداً متضافرة لقطع الطريق على المفسدين المحتملين في سوريا تشمل:
روسيا. رغم التعقيدات والاضطرابات الدبلوماسية المحيطة حاليًا بسياسة الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا وروسيا، ينبغي على واشنطن وحلفائها الضغط على دمشق لتقليص نفوذ موسكو في المرحلة الانتقالية. وقد يتطلب تحقيق ذلك وقتًا وحذرًا، لا سيما أن دمشق ستظل بحاجة إلى دعم موسكو في العديد من المهام الانتقالية الأساسية، مثل صيانة العتاد العسكري الذي يعود إلى الحقبة السوفييتية، والخروج من قائمة الأمم المتحدة للإرهاب، بالإضافة إلى إعادة بشار الأسد (والأموال التي استحوذ عليها) إلى سوريا لمحاكمته، وإعادة إعمار البلاد التي ساهم القصف الروسي في تدميرها. ولتلبية الحاجة الأولى، ينبغي على واشنطن تشجيع أوكرانيا على سد الفجوة في صيانة الأسلحة السورية بسرعة. وقد سبق لكييف أن قامت بجهود مماثلة في قطاع القمح بعد انسحاب روسيا من معظم الأراضي السورية إثر سقوط الأسد.
إيران وحزب الله وشبكات الكبتاغون. لقد اتخذت دمشق بالفعل خطوة تستحق الترحيب بمواصلتها مكافحة شبكات التهريب التي يديرها فلول نظام الأسد و”حزب الله” اللبناني و”الحرس الثوري الإيراني”، بما في ذلك تفكيك مستودعات الكبتاغون ومخابئ الأسلحة. وينبغي على واشنطن تسليط الضوء على هذه الجهود أمام الحكومة الإسرائيلية، موضحة أن الجارتين تتشاركان الخصومة ذاتها، وأن الحكومة السورية الجديدة تمثل فرصة أكثر من كونها تهديدًا في مواجهة “محور المقاومة” الذي تقوده طهران. علاوة على ذلك، قد تدعم إيران بقايا “حزب العمال الكردستاني” المحتملين الذين يرفضون دعوة أوجلان ويسعون إلى عرقلة الحوار بين دمشق و”قوات سوريا الديمقراطية”. وعليه، يجب على واشنطن العمل على تنسيق الجهود مع شركائها في “قوات سوريا الديمقراطية” وتركيا والعراق لإحباط أي محاولات من هذا القبيل.
ثمة الكثير على المحك، ولكن إذا نجحت دمشق والمجتمع الدولي في استثمار الزخم الذي أعقب مؤتمر باريس، فقد يُشكل ذلك الأساس لمستقبل مستقر في سوريا، مستقبل لا يقتصر على ضمان الأمان لسكانها فقط، بل يسهم أيضًا في بناء السلام في منطقة طالما عانت من الحروب
عن المؤلفين
Devorah Margolin
ديفورا مارغولين
الدكتورة ديفورا مارغولين هي زميلة أقدم في برنامج الزمالة “بلومنشتاين-روزنبلوم” في “برنامج جانيت وايلي راينهارد لمكافحة الإرهاب والاستخبارات” في معهد واشنطن، وأستاذة مساعدة في “جامعة جورج تاون”.
Aaron Zelin
هارون ي. زيلين
الدكتور هارون ي. زيلين هو زميل أقدم في برنامج الزمالة “غلوريا وكين ليفي” في “برنامج جانيت وايلي راينهارد لمكافحة الإرهاب والاستخبارات” في معهد واشنطن، حيث يتركز بحثه على الجماعات الجهادية العربية السنية في شمال أفريقيا وسوريا، وعلى نزعة المقاتلين الأجانب والجهادية الإلكترونية عبر الإنترنت.
معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى
——————————
مساعي سوريا لتأمين تدفق النفط قد تتضمن شحنات روسية/ نعوم ريدان
٧ مارس ٢٠٢٥
تحليل موجز
في إطار جهودها لتلبية احتياجاتها الطارئة من الطاقة، قد تعتمد الحكومة السورية الجديدة على مشغّلي سفن روس خاضعين للعقوبات أو مصادر أخرى غير مشروعة.
تعمل الحكومة السورية المؤقتة بشكل متسارع على تأمين شحنات نفطية إضافية لمعالجة أزمة الطاقة الحادة التي ورثتها من نظام الأسد. غير أن خياراتها تظل محدودة، حيث لا تزال الشركات التجارة الدولية الكبرى ومالكو السفن مترددين في المخاطرة بمخالفة العقوبات الغربية. وقد قام الاتحاد الأوروبي مؤخرًا بـ”تعليق”الإجراءات التقييدية في قطاعات رئيسية مثل الطاقة، كما أصدرت الإدارة الأمريكية السابقة إعفاءات مؤقتة للمعاملات التي تلبي الاحتياجات الإنسانية الأساسية. ومع ذلك، سيستغرق الأمر وقتًا حتى تؤثر هذه التدابير على معنويات السوق المتقلبة في ظل الشكوك المحيطة بالعقوبات الأمريكية.
وفي ظل هذه الظروف، من المرجح أن يكون بعض التجار ومشغلي السفن ذوي النزعة الانتهازية أكثر استعدادًا من غيرهم للدخول في علاقات تجارية مع سوريا، بما في ذلك الدول المناوئة للغرب مثل روسيا، التي تمتلك معرفة عميقة بقطاع الطاقة السوري وتسعى للحفاظ على موطئ قدم لها هناك، خاصة بعد تقليص وجودها العسكري في مرحلة ما بعد الأسد. فخلال الأسبوعين الماضيين فقط، تم رصد سفينتين مرتبطتين بروسيا وخاضعتين للعقوبات الأمريكية أثناء توجههما إلى الموانئ السورية (انظر أدناه). لذا يتعين على واشنطن وشركائها الأوروبيين إيلاء اهتمام وثيق لطبيعة أي موردين يسعون إلى تلبية احتياجات سوريا الملحة من النفط والطاقة. فبعد أربعة عشر عامًا من الحرب، تعرض قطاع النفط في سوريا بأكمله للشلل ما يستدعي إعادة بنائه تحت إشراف السلطات الجديدة بطريقة مدروسة، إذا كان المسؤولون يأملون في تجنب الإخفاقات الهيكلية التي شهدتها دول مجاورة خلال العقود الماضية.
مستقبل النشاط النفطي الروسي في سوريا بعد الأسد
في 23 شباط/فبراير، قامت ناقلة النفط بروكسيما، التي ترفع علم بربادوس (رقم تعريف المنظمة البحرية الدولية 9329655)، بتغيير وجهتها في نظام التعريف الآلي(AIS) من مدينة مرسين في تركيا، إلى ميناء بانياس السوري أثناء إبحارها من روسيا. تم اكتشاف هذا التغيير في المسار عبر بيانات “مارين ترافيك”، وتم تأكيده من قبل متتبعي السفن في” قائمة لويدز المخابراتية”، وموقع TankerTrackers.com)) . في 26 شباط/فبراير، أعادت السفينة تغيير وجهتها في نظام التعريف الآلي إلى مدينة مرسين، مما أثار شكوكًا حول محاولتها إخفاء وجهتها الحقيقية.
تعزز خلفية ناقلة “بروكسيما”، التي تحمل حاليًا منتجًا نفطيًا يُرجح أنه ديزل، من حدة هذه الشكوك. فالسفينة مدرجة على قائمة العقوبات التي يحتفظ بها مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية ، كما أنها مرتبطة بشركة “فورناكس شيب مانجمنت”، وهي شركة مقرها الإمارات العربي ة المتحدة وتربطها علاقات بشركة الشحن الروسية المملوكة للدولة، “سوفكومفلوت”. في ظل العقوبات الغربية، برز أسطول من السفن المتخصصة في نقل النفط الروسي إلى الأسواق الرئيسية، خصوصًا الهند والصين – اللتين تعدان أكبر عملاء موسكو، بحسب منصة “الأضواء الكاشفة البحرية” التابعة لمعهد واشنطن. بالإضافة إلى تركيا التي أصبحت مستوردًا رئيسيًا ومعيد تصدير للديزل الروسي. وتعد روسيا موردًا أساسيًا للعملاء الذين يحتاجون إلى الديزل لتوليد الطاقة وتشغيل الشاحنات والآلات، وغيرها من الاستخدامات – وهي فجوة تحتاج سوريا إلى سدها بشكل عاجل.
لا تزال الوجهة النهائية لشحنة الناقلة “بروكسيما” غير واضحة حتى وقت كتابة هذا التقرير، إذ لم تصل السفينة بعد إلى مياه الشرق الأوسط، وقد لا تكون سوريا وجهتها النهائية . ومع ذلك، أظهرت بيانات نظام التعريف الآلي في وقت سابق اليوم أن ناقلة أخرى مرتبطة بروسيا وخاضعة لعقوبات أمريكية- وهي “بروسبريتي” (رقم تعريف المنظمة البحرية الدولية 9322956)، المعروفة سابقًا باسم “إن إس برايد”-وصلت إلى سواحل بانياس، وعلى الأرجح تحمل شحنة ديزل تم تحميلها في ميناء بريمورسك الروسي، وفقًا لشركة “كبلر”. وغالبًا ما تكون صور الأقمار الصناعية ضرورية لتحديد مواقع ناقلات النفط الخاضعة للعقوبات، خصوصًا إذا كانت متورطة في عمليات إخفاء متعمدة. ولكن في هذه الحالة أكد كل من “مارين ترافيك” وTankerTrackers.com أن بيانات نظام التعريف الآلي أظهرت وجود “بروسبريتي” في سوريا اعتبارًا من 5 آذار/مارس؛ وسيتم تأكيد نتائجهم بشكل أكبر بمجرد توفر صورة الأقمار الصناعية. وتخضع السفينة حاليًا لعقوبات متعلقة بالغزو الروسي لأوكرانيا، وهي مسجلة في بربادوس- وهي ممارسة شائعة بين مشغلي السفن الذين يتاجرون بالنفط الخاضع للعقوبات من موردين مثل روسيا وإيران.
والأهم من ذلك، يرى خبراء مخضرمون في ملف تدفقات النفط إلى نظام الأسد، مثل سمير مدني من موقع TankerTrackers.com، أن موسكو قد ترسل شحنات نفط إلى الحكومة الجديدة مقابل ضمان استمرار وجودها العسكري في سوريا والحفاظ على قواعدها هناك. في غضون ذلك، أفاد تقرير إعلامي بتاريخ 3 آذار/مارس بأن دمشق تمكنت من تأمين شحنة من النفط الخام الخفيف لتكريره محليًا، ومن المتوقع وصولها خلال الأسابيع المقبلة.
واردات المنتجات النفطية السورية: الاتجاهات والحدود
تضم محطة بانياس عدة أرصفة مخصصة لأنواع مختلفة من النفط، بما في ذلك الغاز النفطي المسال (LPG)، والنفط الخام، وزيت الغاز/الديزل، والبنزين. وقد شهدت المحطة قبل انهيار نظام الأسد رسو ناقلات تحمل شحنات نفط خام من إيران، التي كانت في السابق المورد البحري الرئيسي للنفط إلى سوريا. ووفقًا لشركة “كبلر”، بلغ متوسط واردات النفط السورية من إيران العام الماضي نحو 55,000 برميل يوميًا، تُنقل عبر شحنة أو شحنتين شهريًا بواسطة ناقلات من فئة “سويزماكس”. وقد وفرت هذه الشحنات مواد أولية أساسية للمصافي السورية، ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح كيف ستتمكن دمشق من إعادة تشغيل خط إمداد ثابت وكبير من النفط الخام البحري لمصفاتي بانياس- الأكبر في البلاد-وحمص.
حاليًا، يبدو أن شحنات الغاز النفطي المسال البحرية- التي تُستخدم بشكل عاجل للتدفئة والطهي-تشهد تدفقًا أكبر من منتجات النفط الأخرى. وتأتي معظم هذه الشحنات من مدينة دورتيول في تركيا، التي تُعد مُصدرًا سريًا منذ فترة طويلة خلال عهد الأسد. خلال شهر شباط/فبراير، قامت ناقلة الغاز النفطي المسال “غاس كاتالينا” (رقم تعريف المنظمة البحرية الدولية 9183568)، التي ترفع علم بالاو، بثلاث رحلات على الأقل من دورتيول إلى بانياس . ويُقال إن هذه السفينة مرتبطة بشركة “هامبورغ مارين لاينز”، التي يقع مقرها في الهند. وفي 1 آذار/مارس، غادرت “غاس كاتالينا” دورتيول متجهة إلى بيروت، لبنان، لكنها على الأرجح توجهت إلى بانياس. كما لوحظت ناقلة غاز نفطي مسال أخرى تشير إلى ميناء طرابلس اللبناني، ومع ذلك، يجب مراقبتها نظرًا للسجل السابق لبعض ناقلات النفط التي تشير إلى وجهة واحدة ثم تنتهي في سوريا بدلاً من ذلك مع إخفاء وجهتها النهائية. علاوة على ذلك، غادرت ناقلة الغاز البترولي المسال “غاس هاسكي” (رقم تعريف المنظمة البحرية الدولية 9507764)، التي ترفع علم ليبيريا-وتُعد جزءًا من أسطول شركة “ستيلث ماريتايم كوربوريشن” اليونانية- ميناء دورتيول في 26 شباط/فبراير، متجهة إلى بانياس.
وفيما يتعلق بالديزل، أعلنت وكالة الأنباء العربية السورية في 27 شباط/فبرا يرعن وصول ناقلة نفط تحمل مادة “المازوت” الضرورية إلى ميناء بانياس، دون الكشف عن اسم السفينة أو مصدرها. وتشير بيانات S&P Global Commodity Insights إلى أن إجمالي الطلب النفطي للبلاد قد يبلغ متوسطه حوالي 100,000 برميل يومياً في المدى القريب، معظمها من الديزل/زيت الغاز. وتجدر الإشارة إلى أن هذه التقديرات قد تكون محدودة، نظرًا لأن الحكومة ستحتاج إلى مزيد من الوقت لإتمام مهمة ما بعد الحرب الصعبة المتمثلة في تحديث قواعد بيانات الطاقة الخاصة بها.
وبشكل لافت، كشف وزير النفط السوري المؤقت غياث دياب في كانون الثاني/يناير أن شحنات النفط يتم “استيرادها من شركات خاصة” ولم يتم الحصول عليها من خلال ” اتفاقيات وعقود دولية”، مما يشير إلى عدم وجود عقود إمداد بين الحكومات. وأضاف أن الشركات الخاصة مسموح لها باستيراد النفط وتفريغه في مرفأ بانياس، ولكن ليس توزيعه. وفي الوقت الحالي، لا تزال طبيعة ودور الشركات المحلية المشاركة في عملية الاستيراد غير واضحة، وكذلك العملية نفسها.
وفيما يتعلق بالطرق البرية، يُقال إن دمشق استأنفت اتفاقًا “معدلا ً” مع الإدارة الكردية في شمال شرق سوريا لتلقي النفط الخام وإمدادات النفط الأخرى من الحقول التي يسيطر عليها الأكراد، وهي صفقة تعود إلى عهد نظام الأسد. ومع ذلك، تُقدر الكميات المعنية بنحو خمسة آلاف برميل يومياً فقط – وهي كمية غير كافية إطلاقًا لتلبية احتياجات سوريا. وخلال تلك الفترة ، قيل إن بعض عمليات نقل النفط الخام الكردي تمت من خلال وسطاء خاضعين للعقوبات الأمريكية مثل القاطرجي، وهي شركة كانت متورطة سابقًا في تسهيل مبيعات نفط “تنظيم الدولة الإسلامية” للنظام . ومع ذلك، لا تزال تفاصيل الاتفاق الجديد بين الإدارة الكردية والحكومة السورية غير واضحة، بما في ذلك التكاليف والوكلاء المتورطين.
وفي غضون ذلك، بدأت الأردن بإرسال الغاز النفطي المسال إلى سوريا عبر الشاحنات. ومع ذلك، سيكون من الصعب العثور على عدد كافٍ من الموردين الشرعيين، خاصة مع وقف شبكات التهريب المتجذرة بعمق، التي كانت مسؤولة عن جلب البنزين ومنتجات النفط الأخرى من لبنان. ونظرًا للحاجة المُلِحّة للغاز المسال في سوريا، يُتوقع أن تتزايد محاولات تهريب الوقود من لبنان، ما يسمح ببيعه بأسعار مرتفعة في السوق السوداء السورية.
التداعيات على السياسة الأمريكية
أظهرت تجارب ما بعد الحرب في لبنان (بعد عام 1990) والعراق (بعد عام 2003) أن قطاع الطاقة يُعد من أكثر القطاعات عرضة للمخططات الفاسدة التي تعرقل التنمية الاقتصادي. ومن ثم، تحتاج سوريا في مرحلة ما بعد الأسد بشكل عاجل إلى موارد مالية وسلع لدعم تشغيل الخدمات العامة الأساسية، والتي تعرضت لقيود كبيرة خلال فترة حكم الأسد. وإذا لم تتمكن السلطات من إيجاد حلول فعالة لتلبية هذه الاحتياجات والتعامل مع مخاوف السوق المتعلقة بالعقوبات، فقد تبرز عدة سيناريوهات غير مواتية.
قد يستغل عدد محدود من الموردين الوضع لاحتكار إمدادات الطاقة في سوريا، مستفيدين من غياب المنافسة.
يمكن أن يؤدي استمرار الغموض بشأن تخفيف العقوبات الأمريكية إلى منح الشبكات التجارية والوسطاء الحاليين فرصة لتكثيف عملياتهم، وهو ما يشكل مشكلة خطيرة، لا سيما أن هذه الشبكات اعتادت العمل في ظل نظام الأسد الفاسد ولا تخدم عمومًا المصالح الأمريكية، مما يجعل مراقبتها أمرًا بالغ الأهمية.
قد تستغل روسيا الفرصة لتعزيز نفوذها في سوريا عبر إبرام صفقات غير مواتية مع دمشق، تتعلق بإمدادات الطاقة ونقص العملة، لضمان استمرار حضورها في البلاد.
وفي ظل التدهور الاجتماعي والاقتصادي الحاد في سوريا، قد يجادل بعض المسؤولين في واشنطن وأوروبا بضرورة تجاوز هذه المخاوف والتركيز على تلبية الاحتياجات الإنسانية العاجلة بكل السبل المتاحة. ومع ذلك، فإن تجاهل هذه التحديات قد ينطوي على مخاطر كبيرة، ليس فقط من حيث استدامة الفساد الذي ترسخ أثناء حكم الأسد، بل أيضًا من خلال تمكين الشبكات غير القانونية وتقوية نفوذ الخصوم الدوليين.
عن المؤلفين
Noam Raydan
نعوم ريدان
نعوم ريدان هي زميلة أقدم في معهد واشنطن، وتكتب حول المواضيع المتعلقة بصناعات الطاقة والشحن في الشرق الأوسط، مع تركيز خاص على لبنان والعراق.
معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى
————————–
“الخَضْرَمة” في الأدب والسياسة.. بين فتح مكة وتحرير دمشق/ ياسين عبد الله جمّول
2025.03.08
في جامعةٍ سوريةٍ من جامعات الثورة جاء مدرّس مادة أدب صدر الإسلام لطلبة السنة الثانية في اللغة العربية تحت عنوان “أدب صدر الإسلام مدرسة الأمس لليوم” بسؤالين:
ربطاً بكلامٍ سابقٍ عرضه عليهم في الموضوع، منه قول بنت الشاطئ: “إن منطق الخضرمة لا يحكم مرحلة الانتقال فيما بين شعر الجاهلية والإسلام فحسب؛ ولكنه يصدق كذلك على كل مرحلة انتقالية بين عصرَين، أيِّ عصرين”، فكلامها ينسحب على كل مراحل الاتصال الحضاري.
ويُحمد لطلبة ما زالوا في أوَّل دَرَج التعليم الأكاديمي أنهم أبدعوا فيهما؛ مع أن الواقع السوري اليوم يشهد أن كثيرين لا يستوعبون ذلك على حقيقته، فيأخذون الأمر بالطُّرف أو التقريع؛ وأظهرُ ما في هذا إطلاق مصطلح “تكويع” ومشتقاته حتى صارت “ترند”!
وبالعودة إلى مصطلح “الخضرمة” نتذكر أنه أُطلق على مَن أدركوا الجاهلية والإسلام، ثم توسعوا فيه فأطلقوه على مَن عاصروا الأمويين والعباسيين فأسمَوهم: مخضرمي الدولتَين. والنظر سريعاً في أصل اللفظ لغةً يوقفنا على معانٍ عدة كلها متصلة بالمصطلح ودلالاته بعد النقل عن أصله اللغوي، من ذلك معنى الاختلاط فيكون فيه آثار من كلتا الحقبتَين؛ فضلاً عن الاتساع لأنه امتد فأدرك حقبتَين زمنيتَين، والقطع من حيث انقطاعُه عن الجهة الأولى التي كان عليها.
ومَن ينظر إلى ديوان حسان بن ثابت يجد آثاراً جاهلية كما كان عليه الجاهليّ من التغني بالخمر مع الشَّرب (الصحب في الشراب) والتكسب على أبواب ملوك الغساسنة ودعوات الثأر والقتل ضد الأوس شركائهم في يثرب، وبين قصائده ومقطعاته في ذلك ترتفع قصائده الإسلامية في الدفاع عن الدين ومدح النبي صلى الله عليه وسلم ورثائه. ومع ما في وصول تلك الآثار الجاهلية من الإنصاف في تاريخ أمتنا وتراثنا العظيم دون تشنّج؛ ففيه شواهد على الاختلاط في الإنتاج والآثار عند مَن يدرك حقبتَين مختلفتين، دون أن يطعن ذلك في حسان؛ فقد كفر بماضيه الجاهلي وتجاوزه إلى الإسلام وأقام نموذجه الجديد على ذلك.
ولكن ثمّة ملاحظات تفيدنا في واقعنا اليوم.
أول ذلك أن قيام النموذج الجديد لا يكون فوراً؛ فالخضرمة بما فيها من اختلاط تعني أننا سنبقى مدة نرى التداخل والصراع بين النموذج القديم والنموذج الجديد حتى يستقر على ما يغلب عليه، فاستقامة حسان على الإسلام لا يلغي أن الذين ارتدُّوا اضطربوا وانتهوا إلى الخروج عن النموذج الجديد وعادوا لما ألْفَوا عليه الآباء والكبراء! فلا نحكم لِـمَن “كوّع” ونصدّره قبل أن يستقرّ أمره ونعرف على أي الجانبَين ينام، فلا ينقلب مع أول صيحة كما حصل مع الذين هتف بهم هاتف الردة فارتدوا وكادوا يقضون على الدين ودولته الوليدة.
ثاني ذلك أن حسان بن ثابت أيّده روح القدس وهو يهجو المشركين؛ ولكن في وقت الحرب، وللدفاع عن النبي الكريم والدعوة؛ فلما انتهى الصراع وحُسم الأمر بفتح مكة طُويت تلك الأشعار، وحُظر من القيادة ممثَّلة بالنبي ثم خلفائه الراشدين كلُّ ما يبعث الأحقاد؛ وهذا ملحظ مهم لابد منه حتى يكون انتقالٌ حقيقيّ من الصراع إلى التعافي، وما أحوج السوريين إلى هذا الوعي اليوم وهم في أُوْلى الخطى على طريق التعافي الطويلة.
***
وقبل أن تحتدّ عليّ أيها القارئ الكريم تحسب أنني أفرّط بالحقوق فهذا ثالث التنبيهات: نعود إلى أدب صدر الإسلام، لنجد أن من أهم ما تميز فيه من الموضوعات الاعتذار؛ اعتذار مَن ناصبوا الدعوة العداء وقالوا منكراً في ذلك، وما أكثر ذلك في شعر مَن اصطفوا مع المشركين ضد المسلمين طوال سنوات الصراع، ومثل ذلك عند مَن وافقوا المرتدين وشاركوهم القول أو الفعل؛ وكانوا على خوف شديد ألَّا تُقبل توبتهم ويُعفى عنهم؛ فما للمكوّعين اليوم يُطلب منهم الاعتذار فتأخذهم العزّة بالإثم ويرون الاعتذار مهانة، دون أن يروا كذلك ما كانوا عليه لسنوات وهم في صفوف المجرمين مصفّقين أو مشاركين بالفعل في الإجرام؟
ولعل ذلك أن أولئك كانوا عرباً رجالاً أعزّة رغم ما كانوا عليه، لم يروا في الاعتذار انتقاصاً من رجولتهم، بل الاعتذار عن الخطأ من تمام الرجولة ورجاحة العقل؛ فعلى مَن وافق المجرم الهارب بأي نوع من الموافقة أن يعتذر عما سبق منه، وأن يرجو القَبول والعفو قبل أن يتشدق ويطلب حقوقاً كان طوال سنوات الثورة والحرب متنازلاً عنها لأسياده؛ فالعفو من قيادة النصر والتحرير لا يفسح لأولئك أن يتعالَوا، فإن أخذت القيادة بنهج العفو فليكن أولئك على قدر رجولة الجاهليين أو المرتدّين عند إسلامهم وتوبتهم. فضلاً عن عدم التفريط بحقوق الناس؛ فلْتسامح القيادة وتعلن العفو تِلو العفو، ولكنّ حقوق الناس لهم أنفسهم، وليس لقيادة ولا لدولة أن تسامح بها أو تعفو عنها؛ ولكن المطالبة بها عبر الطرق القانونية؛ حتى لا تكون فوضى وتنبعث الثارات. ولا عفو ولا صفح عن كبار المجرمين؛ دون أن يتحسس من هذا اللطفاء رافعو لواء الحب والعفو، فالذي يُنسب إليه “اذهبوا فأنتم الطلقاء” عند فتح مكة حدّد بعض رؤوس المشركين وأمر بقتلهم حتى وإن تمسكوا بأستار الكعبة، وهذا من تمام العدل وإنصاف الضحايا وذويهم.
ورابع ذلك أننا أمام المخضرمين في صدر الإسلام لم يعِب أحد على النبي صلى الله عليه وسلم إعلاءه من شأن صحابته الذين شاركوه آلام الجوع والتهجير القسري، بل بقي يكرر ذلك وأن منهم مَن لا يُكافأ كأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، ومَن اعتذروا من بعد جفاء مع الدعوة وأهلها انخرطوا جنوداً في معارك الفتح، ولم يقدّم الخلفاءُ مَن ارتدوا أو مَن أسلموا عند الفتح فوراً في مناصب قيادية ولا هم طالبوا بذلك، فكفاهم العفو وقبول التوبة، لينخرطوا جنوداً في جيوش الدعوة الجديدة، ثم ليتقدم بعد ذلك مَن يثبت منهم فينالها بجدارة، حتى لا يكاد يُصدّق أن عمرو بن معدي كرب أو طلحة بن خويلد كانا يوماً قادة في الردّة بعد أن تصدّروا حروب الفتوحات وقادوا معارك فيها وحققوا انتصارات للدعوة التي كانوا قبل سُنيّات مرتدّين عنها محاربين لها قولاً وفعلاً.
***
ومع ذكر الردّة والمرتدّين نستحضر هنا ما كان في حقبة الخضرمة الأولى من ذاك التمرّد الواسع؛ كيف كان تعامل القيادة وقد ارتدَّت أكثر القبائل كلٌّ منها ينادي بدعوة وزعامة؟ حتى إن بعضاً من أقوى قيادات المسلمين آنذاك تردّدوا في مواجهة المرتدين، حتى كان موقف الخليفة الصدّيق رضي الله عنه وهو الحليم؛ لكنه أعلنها مزمجرة بقتال مَن يفرّق بين أركان الدعوة وينادي بأجندة خاصة وانفصالية عن الدولة ويمنع موارد الزكاة المخصصة. فاشتدّ في حرب المرتدين حتى استقرت الدولة وخبت نار الفتنة، ثم عفا عن أفراد المرتدين وسمح لهم بالانضمام إلى صفوف جيوش الفاتحين التي خرجت للفتح ثم انشغلت بحربهم حين ارتدّوا ثم أكملت طريقها معهم.
إنْ كان الأدب من الثقافة التي هي جزء من هوية الأمة فالأدب القديم هويتها من جهة الأدب ومن جهة التاريخ؛ وحريّ بنا ونحن على أبواب مرحلة تاريخية فاصلة أن نرجع البصر في تاريخنا وأدبنا ففيهما من الدروس كثيرٌ مما يُستفاد منه لواقعنا ونهضتنا.
تلفزيون سوريا
————————-
جدران السجن بين القيد والانعتاق/ فاطمة عبود
2025.03.09
لم تكن جدران السجون التي رأيناها في سوريا مجرَّد أحجار صامتة تفصل المعتقلين عن العالم الخارجي فحسب، بل هي في حقيقتها شواهد على معاناة إنسانية، تتجدد مع كلِّ لحظة قضاها السجين في عزلته القسرية، وتتحول هذه المساحات الضيقة إلى عالم مغلق وقاس، تتردد فيه صرخات آلام المعذبين واستغاثاتهم، وتنحشر فيها أصداء ذكرياتهم المحفورة بأظافر مكسورة وأصابع مرتجفة. في السجن، تصبح الجدران ذاكرة جماعية، توثِّق الخوف والقهر، وتستشرف بخجل الأمل المراوغ المنبثق من بين الآلام، وتدين الطغاة والمستبدين وتصمهم بالعار الأبدي بدلاً من الخلود، وتظلُّ بجبروتها الأبكم شاهدة على نضال المعتقلين ضدَّ محاولات محو هويتهم وسحق إنسانيتهم.
شكَّل السجن في سوريا أداة مركزية لقمع الأفراد وعزلهم عن محيطهم الاجتماعي، حيث لم يقتصر دوره على تقييد الحرية الجسدية، بل امتدَّ ليحطِّم روابطهم الإنسانية، ويدفع المعتقل إلى حالة من العزلة الوجودية، فهو يفرض بجدرانه حصاراً مادياً، وفي الوقت ذاته يمثل حاجزاً نفسياً يكرس مشاعر العزلة واليأس.
ويمكن أن يحمل جدار السجن رمزاً مزدوجاً، وذلك حين يعكس استمرارية الوجود الإنساني في ظلِّ أحلك الظروف الإنسانية القاسية، وبذلك يتمُّ توظيف الجدران كوسيلة بديلة لمقاومة الحرمان اليومي الذي يفرضه السجن، مما يجعلها عنصراً مركزياً في تجربة المعتقلين الحياتية، فالافتقار إلى الأدوات الأساسية للعناية الشخصية مثلاً يدفع السجناء إلى التكيف مع واقعهم باستخدام ما هو متاح، في عملية تعكس محاولتهم لاستعادة بعض السيطرة على حياتهم داخل السجن، كحفِّ أظافرهم لتقليمها، أو الاستعانة بخشونة الجدار لصنع أدوات تنفعهم داخل السجن كالإبرة. وبالتالي لم يعد الجدار هنا مجرد سطح صامت، بل أصبح عنصراً تفاعلياً يُجبر السجين على التكيف معه بطرق مختلفة، وهذه التفاصيل الصغيرة تكشف كيف يُمكن للسجين أن يُعيد تشكيل بيئته المحدودة للحفاظ على إحساسه بذاته ووجوده، وإبراز تمسكه بالحياة.
وقد تتحوَّل الجدران إلى سجلٍ يؤكد حياة المعتقلين ووجودهم، حيث تُستخدم لنقش الأسماء والتواريخ، وكأن السجناء يبعثون برسائل خفية إلى أحبائهم، تحمل أثراً منهم، علَّها تخفف شيئاً من ألم الفراق الذي فرضه عليهم هذا النظام القمعي، إذ يتحوَّل السجن بجدرانه من مجرد مكان احتجاز إلى فضاء تفاعلي، يحمل بقايا من أرواح المعتقلين، كما أنَّ وجود خطوط لحساب الأيام وعدِّها يُظهر الصراع العميق بين الزمن المقيد داخل الجدران، والتوق إلى حياة أخرى خارجها، أما كلمة (حرية) المنقوشة على جدران معظم السجون فإنها تجاوزت المفهوم السياسي، وأصبحت حاجة وجودية تعكس رفض المعتقلين الاستسلام والتمسك بالأمل، ففي بيئة يهيمن عليها القهر، يمكن أن تنمو فكرة الحرية، كما لو كانت نبتة صامدة بين الخراب.
جدران السجن ليست مجرد حواجز صلبة تفصل السجين عن الخارج، بل هي امتداد لمعاناته النفسية، تمتص آلامه وتتحول إلى مساحة يودع فيها روحه حين يعجز عن إيصال صوته إلى العالم، وفي ذلك بعد نفسي، حيث تتحول الجدران إلى كائن حساس يمتلك رهافة منقطعة النظير، وكأنها وحدها القادرة على احتضان المعتقلين حين يبتعد عنهم جلادوهم، ومن جهة أخرى، فإنَّ فعل لمس الجدار بأنامل مكسورة الأظافر والتصاق أجساد المعتقلين وانكماشهم على هذه الجدران يحمل دلالة رمزية قوية، إذ يعكس محاولة المعتقل التواصل مع شيء محسوس، شيء قد يمنحه شعوراً بالوجود، في واقع يهدف إلى محوه، هذه اللمسات ليست مجرد احتكاك مادي، بل هي فعل وجداني يعبّر عن حاجة المعتقل لترك أثر، لإثبات أنَّه كان هنا، وأن صوته، رغم الصمت المفروض عليه، لا يزال يصرخ داخل الجدران على شكل نقش أو حرف.
وقد تتحول الجدران أحياناً إلى أداة لمقاومة الوحدة وكسر العزلة، ويمثِّل هذا الفعل تحدياً مباشراً للقمع، من خلال خلق نافذة للتواصل، حيث تتحول الجدران من حاجز إلى ممر سري نحو الحرية، فالثقب الذي يمكن أن يوجد في جدار السجن يمكن أن يفتح آفاق جديدة من الأمل والتفاعل الإنساني، أو استخدام لغة مورس من خلال النقر على الجدران هو فعل مقاومة في جوهره، ويعكس التحول النفسي العميق الذي يمر به السجين، حيث أنَّ العزلة القسرية تجعله يبحث بأي وسيلة عن طريقة تواصل بشري يعيد له الإحساس بالحياة وبإنسانيته، ويؤكد أنه ما زال محتفظاً بوجوده الاجتماعي في عزلته الفردية القاتلة.
إنَّ جدران السجن التي وثَّقت معاناة المعتقلين ليست مجرد سجلّ للماضي، بل هي مرآة تعكس الحاضر وتطرح تساؤلات حول المستقبل، لأنها تخلق سردية مضادة تحارب النسيان، وتحفظ تاريخ الذين مرّوا من هنا، ليظل صداهم يتردد في فضاء الوعي الجمعي، فهذه الجدران ستتحول إلى أرشيف للذاكرة، يُستخدم في محاسبة الجلادين، وفي إعادة الاعتبار لمن كُتمت أصواتهم خلفها، ستصبح الجدران التي سُخّرت للقمع رموزاً للحرية، وسيعاد النظر في هذه المساحات التي تفنن النظام السوري في إنشائها ونشرها في أنحاء البلاد كلها، فوق الأرض وفي باطنها، ليس بوصفها سجوناً مغلقة، بل بوصفها أماكن توثّق نضالات الشعوب ضد الطغيان والظلم.
تلفزيون سوريا
———————-
كاتب إسرائيلي: محظور علينا الخروج إلى مغامرة في سوريا
تحديث 09 أذار 2025
لندن- “القدس العربي”: يحذر الكاتب الإسرائيلي إيال زيسر، في مقال نشرته صحيفة “إسرائيل اليوم”، من مخاطر تورّط إسرائيل في مغامرة عسكرية في سوريا، معتبراً أن حكومة نتنياهو ارتكبت خلال الأشهر الثلاثة الماضية “كل خطأ ممكن” في تعاملها مع الوضع السوري الجديد بعد سقوط نظام بشار الأسد.
يبدأ زيسر مقاله بتشخيص الوضع الإقليمي، حيث يرى أن إسرائيل تواجه تحديات على عدة جبهات: في غزة حيث “رمّمت حماس قوتها وعادت لتحكم بيد عليا القطاع وسكانه” تحت ظل وقف إطلاق النار، وفي لبنان حيث استعاد “حزب الله” قدراته رغم “التواجد الرمزي” للجيش الإسرائيلي على طول الحدود.
ويتساءل الكاتب باستغراب عن توجيه “طاقة دولة إسرائيل” نحو مغامرة في سوريا يصفها بأنها “سخيفة وعديمة المنطق السياسي والعسكري” ستلحق الضرر بإسرائيل في المستقبل، بدلاً من التركيز على تصفية “حماس” أو هزيمة “حزب الله”.
التحول السياسي في سوريا
يشير الكاتب إلى التغيير الكبير الذي حصل في سوريا مطلع ديسمبر 2024 حين انهار نظام بشار الأسد، الذي وصفه بـ”شيطاننا المعروف والمحبب” لأنه “حرص على الحفاظ على الهدوء على طول الحدود، لكنه سمح لإيران أن تتموضع في بلاده وساعدها على أن تجعل “حزب الله” تهديداً هاماً لإسرائيل”.
ويوضح أن من حل محل الأسد هو أحمد الشرع، المعروف سابقاً بـ”أبي محمد الجولاني”، زعيم “جبهة تحرير الشام”، التنظيم ذي الجذور المرتبطة بالقاعدة وداعش. ويلفت إلى أن الشرع “لا يمر يوم دون أن يبعث لنا برسائل تهدئة، بل وحتى مصالحة”، وأن متحدثين باسمه “تنبأوا بإمكانية إقامة سلام” مع إسرائيل.
كيف تعاملت إسرائيل مع الوضع الجديد؟
يعدد زيسر ما يراها أخطاء ارتكبتها إسرائيل في سوريا: احتلال أراضٍ داخل سوريا “دون أي حاجة أمنية، بل بمجرد أنه ممكن ولأن صورة الأمر تبدو جميلة”. إعلان “فارغ من المضمون” عن إقامة منطقة مجردة من السلاح جنوبي دمشق، وهو أمر “غير عملي”. والإعلان عن التدخل لنجدة الدروز “الذين لا يريدون نجدتنا على الإطلاق”.
ويشرح أن “الدروز في سوريا مثل إخوانهم في لبنان وفي إسرائيل، يرون أنفسهم جزءاً لا يتجزأ من الدولة التي يعيشون فيها”، وأنهم “لا يريدون أن يوصم مستقبلهم بوصمة التعاون مع إسرائيل”.
يحذر الكاتب من أن إسرائيل “بأيدينا أنفسنا نحن ندفع سوريا إلى أذرع تركيا، ومن لا يريد الشرع سيتلقى أردوغان”.
ويرى أن هذه السياسات أدت إلى تشويه صورة إسرائيل في نظر “كثيرين من السوريين” الذين اعتبروها “حتى كعنصر إيجابي وعاطف، وبالتأكيد في ضوء الضربات التي أوقعتها على حزب الله”.
أما الآن، فقد عاد “الجميع لأن يروا فيها، في سوريا، وفي أوساط أصدقائنا في الخليج، أزعر كلّ رغبته استعراض القوة، التوسع والاستيلاء على أراض ليست له”.
ويختتم زيسر مقاله بالقول: “عن إسرائيل ندافع من أراضي إسرائيل. لو كنا فعلنا هذا في 7 أكتوبر، ما كانت لتقع الكارثة.” ويضيف: “عن إسرائيل ندافع بتشخيص القدرات العسكرية للعدو وإبادتها. لو كنا فعلنا هذا قبل الأوان في لبنان، لوفّرنا على أنفسنا مشاكل كثيرة.” و”عن إسرائيل لا ندافع بتصريحات عليلة وبخطوات علاقات عامة – لا تخدم أمننا القومي بل فقط تمس به.”
———————-
تحفظات مصرية تعرقل توطيد العلاقات مع سورية
09 مارس 2025
لا تزال مصر تبدي تحفظات على الإدارة السورية الجديدة، ما يعيق تحقيق تقدم ملموس في مسار تطبيع العلاقات مع سورية بعد إسقاط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الماضي. وتقول مصادر مطلعة لـ”العربي الجديد” إن هذه التحفظات تتمحور حول مخاوف أمنية بالدرجة الأولى، في ظل وجود عناصر تصنفها القاهرة بـ”الإرهابية” داخل سورية، وفي مقدمتها أفراد منتمون إلى هيئة تحرير الشام التي تضعها مصر على قوائم الإرهاب. وتضيف المصادر أن القاهرة تطالب بتسليم بعض هذه العناصر قبل أي خطوات جدّية نحو إعادة العلاقات مع دمشق، إلى جانب مخاوفها من إمكانية انتقال بعض المقاتلين إلى ليبيا، ما يشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي المصري، في ضوء الاضطرابات الأمنية في الساحة الليبية.
جهود لتطبيع العلاقات مع سورية
في هذا السياق، تواصل تركيا أداء دور الوسيط بين الطرفين، إذ تكثف جهودها لتقريب وجهات النظر بين القاهرة ودمشق، في إطار تحرّكاتها الإقليمية الهادفة إلى تحسين علاقاتها مع الدول العربية، لا سيما مصر. وتقول مصادر إن هناك محاولات إقليمية ودولية لدفع مصر نحو تطبيع العلاقات مع سورية وإدارتها الجديدة، في إطار جهود أوسع تسعى إلى إعادة سورية إلى المشهد العربي والدولي، بعد سنوات من العزلة. ومع ذلك، لا تزال القاهرة تفضل اتخاذ موقف حذر، إذ تربط أي تقدّم في هذا الملف بإجراءات أمنية وضمانات واضحة بشأن مخاوفها. وكانت العاصمة الإدارية الجديدة قد شهدت لقاءً بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره السوري أحمد الشرع، على هامش القمة العربية غير العادية، الثلاثاء الماضي.
رغم الأجواء الإيجابية التي أحاطت بالاجتماع، فإن بيان الرئاسة المصرية عكس حذراً واضحاً تجاه النظام السوري الجديد، وتبايناً في الرؤى بين القاهرة ودمشق بشأن مستقبل سورية. فقد كان لافتاً أن الخطاب الرسمي تجنب الإشارة إلى “دعم سورية” كدولة، بل اكتفى بالتعبير عن “دعم الشعب السوري”، وهي عبارة ذات دلالات مهمة حول الموقف المصري. وتعكس هذه الصياغة حرص مصر على تأكيد بعد إنساني وسياسي في دعمها سورية، من دون تقديم تأييد غير مشروط للنظام الجديد في دمشق. كما أن تأكيد الرئيس المصري “إطلاق عملية سياسية شاملة لا تقصي طرفاً”، يعكس موقف القاهرة الثابت تجاه الحل السياسي للأزمة السورية، ورغبة في رؤية تحول سياسي حقيقي، لا مجرد تغييرات شكلية في السلطة، فيما حملت تصريحات الرئيس السوري نبرة تصالحية واضحة، إذ أكد حرصه على بدء صفحة جديدة في العلاقات مع الدول العربية، وخصوصاً مصر.
مع العلم أنه عقب المعارك التي شهدتها مناطق سورية في الأيام الماضية، أصدرت الخارجية المصرية بياناً أشارت فيه إلى أن مصر تعرب عن قلقها إزاء المواجهات، وتؤكد “موقفها الداعم للدولة السورية ومؤسساتها الوطنية واستقرارها في مواجهة التحديات الأمنية، ورفض مصر لأية تحركات من شأنها أن تمس أمن وسلامة واستقرار الشعب السوري الشقيق”.
ضمانات وصغوط
وبشأن العلاقات مع سورية والبيان حول اللقاء بين السيسي والشرع، يقول المحلل السياسي عمار علي حسن، في حديث لـ”العربي الجديد”، إن البيان المصري “يعكس قناعة القاهرة بأن النظام الحالي في سورية لم يستقر بعد ولم يفرض سيطرته الكاملة، بدليل التطورات التي تشهدها البلاد”. ويوضح أن “لمصر منطلقات أساسية في تعاملها مع سورية، أبرزها الحفاظ على وحدة الأراضي السورية ومنع تقسيمها”. بالإضافة إلى “ضمان وجود سلطة سورية تراعي المصالح والهواجس المصرية، خصوصاً في ما يتعلق بالمقاتلين المصريين الذين انضموا إلى السلطة الجديدة وأسقطوا نظام بشار الأسد”. وتتوقع القاهرة من النظام السوري الحالي، وفق حسن، اتخاذ “موقف أكثر صرامة تجاه إسرائيل، خصوصاً في ظل التطورات الحالية بين مصر وإسرائيل على خلفية الحرب في قطاع غزة، إذ تحتل إسرائيل أجزاء واسعة من الأراضي السورية”. ويضيف أن “مصر ترغب في اتخاذ خطوات واضحة من السلطة السورية الجديدة في ما يتعلق بالمقاتلين المصريين، ليس بالضرورة عبر تسليمهم، ولكن على الأقل بضمان عدم استهدافهم السلطة المصرية الحالية”.
وبحسب حسن فإن “مقاربة مصر للمسألة السورية حالياً تختلف عن موقفها عند وصول أحمد الشرع إلى دمشق وإسقاطه نظام بشار الأسد، إذ بدأت بعض الهواجس في التراجع، والتحفظات في الزوال”. ويوضح أن “حضور الشرع القمة العربية في القاهرة، ومصافحته للرئيس المصري، إلى جانب توقف الإعلام المصري عن مهاجمته، والترحيب بموقفه من القضية الفلسطينية ورفض الاحتلال الإسرائيلي، كلها إشارات إيجابية قد تدفع القاهرة إلى الاقتراب أكثر من النظام السوري الجديد”. يأتي ذلك خصوصاً إذا تمكن النظام “من إعادة الأمن إلى البلاد وهزيمة المجموعات التابعة للنظام السابق، والتي بدأت في التحرك بدعم إقليمي لمناهضة السلطة الجديدة”.
من جهته يرى السفير عبد الله الأشعل، المساعد السابق لوزير الخارجية المصري، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “مصر لا تزال تبدي تحفظات واضحة تجاه الإدارة السورية الجديدة”، موضحاً أن البيان المصري الصادر بشأن لقاء السيسي مع الشرع استخدم مصطلح “الشعب السوري” بدلاً من “الدولة السورية”، إذ إن “الدولة تشمل الشعب والنظام معاً، بينما تجنبت مصر الإشارة إلى النظام بشكل مباشر”. وتبرز عوامل أخرى إقليمية ودولية تحكم طبيعة العلاقات مع سورية. وتواجه القاهرة، وفق الأشعل، “ضغوطاً إقليمية ودولية كبيرة لدفعها نحو احتضان النظام السوري، خصوصاً من الولايات المتحدة والسعودية”. في المقابل، يعتقد الأشعل أن “طبيعة النظام السوري الجديد، الذي يحمل توجهات إسلامية، تجعله أقرب إلى جماعة الإخوان المسلمين منه إلى النظام المصري الحالي، وهو ما ينشئ حالة من التوجس لدى القاهرة”.
العربي الجديد
————————–
السوريون الأعداء.. من تأليه بشار إلى ثقافة العواء
الأحد 2025/03/09
في سن السادسة، تلاحقك تماثيل حافظ الأسد وصوره أينما ذهبت ــ شرقاً، غرباً، شمالاً، وجنوباً. تنتشر في الساحات، على الجدران، وحتى على دفترك المدرسي، لتصبح جزءاً من رؤيتك البصرية، بل ومن ذاكرتك ذاتها. تتساءل بعفوية: من هذا الرجل ولماذا كل هذا التقديس؟
يأتيك الجواب سريعاً: “إنه الأب القائد الخالد الذي لا يموت”. لكن في زوايا الحديث، تتردد همسات خافتة عن التعذيب والاعتقالات، تحذّر من الأسئلة، وتُلقنك أوّل درس في الخوف: “الحيطان إلها آذان”. بعفوية الطفولة، تستغرب كيف يمكن للجدران أن تسمع، لكنك تدرك لاحقاً أن هذه العبارة ليست إلا مفتاحاً لصمت طويل.
تحت التراب
تسمع همساً عن مجزرة حماة في الثمانينات، حيث أُبيدت عائلات بأكملها، ثلاثة أجيال تحت التراب، لكن يُطلب منك ألا تذكر ذلك حتى لأقرب أصدقائك. هكذا تنمو في بيئة مشبعة بالخوف، تغذّيها الرقابة والرقابة الذاتية، ليُزرع في داخلك خياران لا ثالث لهما: إما أن تدفن رأسك في الرمال، أو أن ينتهي بك الأمر في سجن صيدنايا.
تكبر في طفولة تائهة، محاطاً بمآزق لا تنتهي. ترتدي البدلة العسكرية منذ الصغر، تردد يومياً “أمّة عربية واحدة” و”حماة الديار”، بينما يُغرس فيك الخضوع بلا وعي، ليصبح الانبطاح عقيدة.
تُدفع إلى معسكر “الصاعقة”، حيث تتشكل ملامحك تحت أنظار نظام يرفع شعار العلمانية، لكنه يستثمر في الطائفة، يعزّز الولاءات، ويخنق أي تمرد. فحتى أبناء طائفته لم يسلموا من بطشه، وإن تجرأ أحدهم على المعارضة، انتعشت السجون، ازدهرت أجهزة القمع، وازداد عدد زوار أقبية المخابرات.
هناك فقط، يصبح للحيطان آذان، في إنجاز استثنائي يُضاف إلى سجل “القائد الخالد”. حين يموت الأسد الأب، تصطدم بواقع لم يخطر لك يوماً: كيف يموت من قيل لنا إنه خالد؟ تتجلى الصدمة الأولى، ويُساق الجميع إلى مسيرات الحزن، حيث لا مفر حتى لو اختبأت في الخزانة. كل سوريا، بعلوييها وسنّييها ومسيحييها، مطالبة بإعلان الحداد.. فالبلاد توقفت، وكأنها فقدت إلهاً.
السلطة لا تموت
لكن السلطة لا تموت، بل تُعيد تدوير نفسها. يخضع الدستور لغسل دماغ سريع، يُعدَّل لمصلحة “الوطن”، ليُفتح الطريق أمام الوريث. يظهر الأسد الابن، متقمصاً خطاباً علمانياً، ومظهراً حضارياً لم يألفه الناس في حكم والده. ينزل إلى الشوارع التي لم تطأها قدما أبيه يوماً، يتجول في المطاعم بين الناس، ويُصبح التعامل معه أشبه بصدمة ثانية: كيف نتخطى عقيدة التأليه، ونتعامل معه كإنسان من لحم ودم؟
لكن الانتقال لم يكن عشوائياً، فالوريث أحاط نفسه بالسنة قبل العلويين، مستثمراً في مخاوف الطائفة العلوية التي عانت من مجازر تاريخية، كما استمال المثقفين الذين كرسوا فلسفة السلطة، والتجّار الذين أدركوا أن الولاء هو مفتاح الاستمرارية. كل ذلك في ترتيب مدروس، استعداداً لما كان يعرفه جيداً: الانتفاضة قادمة لا محالة.
تنتفض البلاد بعد سنوات طويلة من القمع. يتجرأ البعض على التمثال الذي ارعبنا جميعاً لمجرد النظر إليه ليكون بالفعل هذا “الشبل من ذاك الاسد”، ويبدأ نهر الدم يسيل في الشوارع السورية وسجونها، وتنتشر مقاطع وحشية في مناطق الثورة، يُطلب بها من الثوار أن ينطقوا بأن بشار هو ربهم الأعلى، يفعلون ذلك ويُقتلون بعدها بدم بارد، ويجلس القتلة على جثثهم يُدخّنون السجائر، ويتفاخرون وتسمع أصوات البراميل المتفجرة لكنك تصم أذنيك … لتعيش البلاد في دوامة الحرب الطاحنة 12 سنة وتطمس الثورة والجرائم التي ارتكبت بحقها، ثمّ نمضي كسوريين اعداء في طريقنا والطائفية تنهشنا من الداخل حتى لو تبادلنا القبل والسلام ويصفنا الرئيس “بالجراثيم”.
خادم لا حاكم
يسقط الأسد فجأة، ويُعلن أحمد الشرع رئيساً في دمشق التي تستقبل العهد الجديد بترحيب واسع. الشوارع تضج بالحشود، الساحات تمتلئ بأول نفس حر بعد عقود من القمع، والهتاف هذه المرة ليس لمن يدّعي الألوهية، بل لمن وعد أن يكون خادماً لا حاكماً.
لكن ما هي إلا أسابيع حتى تذبل فرحة التحرر، لتبدأ مرارة العيش. بلدٌ منهك، لا رواتب، لا كهرباء، مشهدٌ مألوف للسوريين. غير أن تمرّد الساحل، حيث بدأت “فلول النظام” – كما أسماهم الرئيس الجديد – تقلب المعادلة، يدفع بالأحداث إلى منحى مظلم.
تعود المجازر بالوحشية ذاتها، بدم بارد لا يفرّق بين من ثار على النظام البائد ومن لم يفعل. تُسفَك الدماء، وتُدنّس أجساد القتلى بإذلال ممنهج. يُجبر الضحايا على العواء قبل إعدامهم، وتُفرش موائد رمضان على جثثهم.. مشهد كابوسي يعيد إلى الأذهان فظائع النظام الساقط، لكن بوجوه جديدة.
حين تطول الحرب، يصبح الخطر الأكبر ليس هزيمة العدو، بل أن تتحول إلى نسخته الأخرى.
نعم، نحن السوريون الأعداء الذين تحدث عنهم الروائي العظيم فواز حداد في روايته، نُباد منذ الأزل، لا بالسلاح فقط، بل بالإقصاء والتهميش، إبادة مادية، بيولوجية، ثقافية، واقتصادية تمتد عبر الأجيال.
نحن الذين لم نحب بعضنا يوماً، لم نعرف كيف نصنع وطناً يحتوينا جميعاً، نقاتل بعضنا أكثر مما نقاتل الطغاة، ونغرق في أحقادنا قبل أن نغرق في دمائنا.
كُتبت هذه المادة بينما لا يزال الساحل السوري مسرحاً لمجازر مروعة مستمرة منذ ثلاثة أيام، حيث قُتل الأبرياء وعناصر من الدفاع، وأُغرقت المنطقة في الظلام بعد قطع الكهرباء والماء، وصودرت الهواتف، ليبقى الموت وحده شاهداً على مجزرة تُرتكب بصمت، بعيدًا عن أعين العالم.
المدن
———————–
… لماذا لا يُقرّ «حزب الله» بالهزيمة؟/ حازم صاغية
9 مارس 2025 م
استعاد كثيرون في الآونة الأخيرة ما فعله آية الله الخميني، عام 1988، حين «تجرّع السمّ»، وهو التعبير الذي استخدمه وصفاً لقبوله قرار مجلس الأمن الرقم 598 لإنهاء الحرب مع العراق. فإيران، رغم الجموح الإيديولوجيّ المعهود فيها، تصرّفت يومذاك تصرّف دولة استنفدت قدراتها وطاقاتها على مدى ما يقرب من عقد. ذاك أنّها أحسّت، اقتصاديّاً وعسكريّاً ومعنويّاً سواء بسواء، أنّ طريق حربها باتت موصدة تماماً. وبينما كانت علاقتها مع الولايات المتّحدة تزداد توتّراً، تبعاً لاحتجاز موظّفي السفارة الأميركيّة بطهران، دافعةً بعض المراقبين إلى عدم استبعاد حرب ما، بدا أنّ العالم لن يعاقب بغداد على استخدام القوّات العراقيّة أسلحة دمار شامل.
والخمينيّ ليس من كارهي الحروب. وكانت تلك الحرب، التي بدأها صدّام حسين، قد وفّرت له تصليب نظامه الإسلاميّ الناشئ الذي تعصف به تناقضات كثيرة. مع ذلك، وحين رجحت كفّة الخسائر على كفّة المكاسب، كما راحت قاعدة النظام الشعبيّة تكتوي بتأثيرات الحرب فيما يتقلّص استعدادها للتحمّل، قرّر آية الله الموافقة على وقف النار، ولو رأى الأمر كريهاً مثل تجرّع السمّ.
طرف راديكاليّ آخر، ولو اختلف مضمون الراديكاليّتين ووجهتهما، سبق أن أقدمَ، قبل سبعين عاماً بالتمام، على تجرّع سمّ من نوع آخر.
فبعد أشهر قليلة على ثورة أكتوبر البلشفيّة في 1917، وقّعت روسيا و»القوى المركزيّة» بقيادة ألمانيا معاهدة برِست ليتوفسك التي أوقفت الحرب بين الطرفين. لكنّ المعاهدة كانت مؤلمة جدّاً للحكّام الجدد من البلاشفة: فهي قضت بتخلّي بلادهم عن كامل «أراضيها» في مناطق البلطيق وأوكرانيا وبولندا، تاركةً لألمانيا أن تُلحق الكثير من تلك الأراضي «الروسيّة» بها. وفوق هذا تنازلت موسكو، في الجنوب الشرقيّ، عن أراضٍ للدولة العثمانيّة، حليفة ألمانيا في الحرب. أي أنّ اتّفاقيّة السلام بدت عقابيّة جدّاً للروس، أذلّتهم وحرمتهم مدناً صناعيّة ومساحات زراعيّة جبّارة، فضلاً عن انتزاع مناطق ذات كثافة سكانيّة مرتفعة منهم. أمّا حلفاء روسيا في الحرب العالميّة، بريطانيا وفرنسا والولايات المتّحدة وإيطاليا واليابان، فاعتبروا سلامها مع ألمانيا خيانة ونكثاً بتعهّد التحالف الروسيّ معهم، كما قطعه العهد القيصريّ، لمواجهة الألمان. وكانت للموقف هذا تبعات حربيّة واقتصاديّة مؤلمة، فتشدّدَ الحلفاء أولئك في دعمهم «الجيش الأبيض» خلال الحرب الأهليّة الدائرة، وفي سحب استثماراتهم الضخمة من روسيا. ووُجّهت للقيادة البلشفيّة اتّهامات شتّى بالتفريط والتخلّي الوطنيّين، وكانت الاتّهامات تصدر عن اليمين القوميّ كما عن اليسار الأشدّ راديكاليّة. وحتّى قادة الحزب الحاكم أنفسهم لم يكونوا مُجمعين على الاتّفاقيّة المذكورة، بحيث هدّد زعيمهم فلاديمير لينين بالاستقالة في حال رفضها.
والحال أنّ روسيا البلشفيّة أقدمت على توقيع برِست ليتوفسك لأسباب كثيرة يتصدّرها اثنان:
الأوّل، الهزائم العسكريّة ورفض الجنود الروس البقاء في الخنادق. وكان الحزب البلشفيّ قد قدّم نفسه، منذ 1914، حزب الانسحاب الفوريّ والمباشر من تلك الحرب «الدائرة بين إمبرياليّين»، وبدعايته هذه خاطب الجنودَ الذين انحازوا إليه وقاتل بعضهم في صفوفه.
أمّا السبب الثاني، وهو ربّما كان الأهمّ، فأنّ لينين ورفاقه كانوا يحملون مشروعاً يستدعي كامل التفرّغ له، هو بناء نظامهم الاشتراكيّ في روسيا، والذي يخدمه السلام ويوفّر له البيئة المطلوبة بقدر ما يؤذيه استمرار التورّط في الحرب.
وقد يقال بحقّ إنّ الدقّة تخون مقارنة تلك التجارب بما يحصل راهناً في لبنان، ما يجعلها مقارنة فضفاضة وقليلة النفع. مع هذا، يبقى مفيداً التذكير بالمناخين الذهنيّ والسياسيّ اللذين يحيطان بتقديم تنازلات تترجم واقع الهزيمة والإقرار به، سيّما حين يصدر الإقرار عن طرف راديكاليّ ينطق بوعي صراعيّ ما.
فـ «حزب الله» لم يصفْ موافقته على وقف إطلاق النار بـ «تجرّع السمّ»، بل جاءت أوصافه أقرب إلى الادّعاء بأنّه هو مَن يجرّع إسرائيل السمّ. وتزويرٌ كهذا يقول إنّ ثمّة علاقة غريبة بين الحزب وجمهوره، أساسها افتراض الحزب وجود تسليم أعمى وتفويض مطلق من جمهوره لن تليهما محاسبة أو مساءلة، وهذا علماً بأنّ النتائج الكارثيّة المُرّة على الجمهور كانت وتبقى صعبة الإخفاء أو التمويه. وإلى هذا، فإنّ الحزب لا يريد أن يبني شيئاً يستدعي الحرص عليه وتقديم التنازلات الكبرى من أجله. فهو، بطبيعة الحال، لا يملك دولة كدولة الخمينيّ، بل يتحكّم بدولة من دون أيّة مسؤوليّة عنها. لكنّه، إلى ذلك، لا يملك مشروعاً كمشروع لينين. ذاك أنّ الدولة التي يقاتل لأجلها، وينضبط بمصالحها، ليست دولته هو، بينما المشروع الوحيد الذي يحرص عليه هو السلاح للسلاح، أي السلاح بذاته والسلاح فحسب.
هكذا نراه يستمرّ في سياسة ورواية ترفضان أن تقرّا بالهزيمة، وأن تبنيا على إقرار كهذا موقفاً كالذي وقفه الخمينيّ حين تجرّع السمّ، أو لينين حين كلّف ليون تروتسكي التوقيع على برست ليتوفسك.
الشرق الأوسط»
————————-
فيدان يحذر طهران.. معركة تركيا وإيران في سوريا/ سمير العركي
9/3/2025
“تهدف علاقاتنا الثنائية مع إيران إلى أن تتطور على أساس مبادئ عدم التدخل في الشؤون الداخلية والاحترام المتبادل وحسن الجوار”، هكذا حددت وزارة الخارجية التركية – على موقعها الرسمي- الأهداف المصممة من قبل أنقرة لعلاقتها مع طهران.
هذا الإطار جاء متسقًا مع مبادئ معاهدة الصداقة التي تم توقيعها بين البلدين، في أبريل/نيسان 1926، والتي شملت مبادئ أساسية تحكم العلاقات الثنائية، وهي؛ الصداقة والحياد، والابتعاد عن مسببات الحروب. كما نصت المعاهدة على إمكانية العمل المشترك للقضاء على أي تهديدات انفصالية داخل أراضي البلدين.
وما بين التنافس والتعاون، مضت علاقة الدولتين، عبر عقود من الزمان، كانت تستبطن من طرف خفي سنوات الصراع المرير بين العثمانيين والصفويين، والتي انتهت بتوقيع معاهدة “قصر شيرين” في مايو/ أيار 1639، التي أنهت زهاء قرن ونصفٍ من القتال بين الطرفين، كما رسمت حدود إيران الحالية مع كل من تركيا والعراق.
وقد شهد العقدان الماضيان، اشتداد حدة الصراع الجيو-إستراتيجي، والجيو-سياسي، بين الدولتين، إثر اتساع النفوذ الإيراني في العراق، عقب سقوط نظام صدام حسين والبعث العراقي 2003، ثم تمدد طهران الواسع في سوريا عقب ثورة 2011، إضافة إلى ازدياد الحضور الإيراني المكثف في لبنان، وفي اليمن.
كل هذا كان يمثل خصمًا من الرصيد الجيو-إستراتيجي لتركيا، قبل أن تتبدل الأوضاع مجددًا، مع إسقاط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، في موازاة تراجع النفوذ السياسي والعسكري لحزب الله اللبناني.
هذه التطورات قلبت الموازين مجددًا، ومنحت تركيا مزايا إستراتيجية هائلة على حساب إيران، أفضت إلى شعور طهران بالهزيمة أمام أنقرة للمرة الثانية خلال سنوات قليلة، كما سنوضح لاحقًا.
من هنا فإن التوتر الحاصل بين الطرفين خلال الأيام الماضية على إثر تحذيرات أطلقها وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، لم يكن إلا كاشفًا عن الغضب المكتوم لدى الطرفين.
تحذيرات فيدان
في مقابلة مع قناة الجزيرة، انتقد وزير الخارجية التركي، سياسة إيران الخارجية المرتبطة بأذرعها المسلحة وقال: إنها تنطوي على “مخاطر كبيرة رغم بعض المكاسب التي حققتها”، مؤكدًا أن طهران “تكبدت تكلفة أكبر مقابل الحفاظ عليها”.
وفي رده على سؤال بشأن احتمال دعم إيران قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، أو وحدات الحماية الكردية “YPG” ضد تركيا، حذّر فيدان إيران من ذلك، قائلًا: “يجب ألا ترمي الحجارة إذا كنت تعيش في بيت من زجاج”، وأردف: “إذا كنت تسعى إلى إثارة بلد ما من خلال دعم مجموعة معينة هناك، فقد تواجه موقفًا حيث يمكن للبلد المذكور أن يزعجك من خلال دعم مجموعة أخرى في بلدك”.
في أعقاب هذه التحذيرات تبادلت وزارتا الخارجية في البلدين استدعاء السفير التركي في طهران، والقائم بالأعمال الإيراني في أنقرة، للتعبير عن الاستياء المتبادل.
الغضب المكتوم
لا يمكن فصل تحذيرات فيدان، عن الغضب المتراكم لدى تركيا خلال السنوات الماضية، وذلك بسبب عبث إيران بأمنها القومي، وعدم احترامها معاهدة الصداقة المبرمة بين البلدين.
هذا العبث الإيراني اتخذ عدة تمظهرات، أبرزها السعي لإحداث تغيير ديمغرافي ومذهبي واسع في سوريا، التي تمثل العمق الإستراتيجي لتركيا، وذلك عبر إفراغها من المكون العربي السني، وإحلال المكونين الشيعي والكردي مكانه.
كما تعمدت إيران انتهاك اتفاقية خفض التصعيد الموقعة عام 2017، وذلك بقصف المناطق المشمولة بالحماية عبر التنظيمات المسلحة المرتبطة بها، وبالتناوب مع روسيا وقوات نظام بشار الأسد.
أيضًا اتهمت تركيا إيران بدعم ومساندة حزب العمال الكردستاني “PKK”، ففي مايو/ أيار 2023، كشف وزير الداخلية السابق، سليمان صويلو عن نقل الحزب، معسكره الرئيسي من جبال قنديل في شمال العراق إلى منطقة ماكو في إيران بالقرب من الحدود التركية، وقال: “إنّه بالرغم من نفي إيران وجود المعسكر لكن تركيا تعرف وجوده وما يدور فيه”.
وفي مايو/ أيار من العام 2024، جدد وزير الدفاع، يشار غولر، التبرم قائلًا: إنَّ «نهج الإيرانيين ليس لطيفًا، نتحدَّث إليهم ونقدم معلومات (عن حزب العمال)، فيردون علينا: لا شيء، لا يوجد أحد». وأضاف: «من دون شك، نحن منزعجون».
ومع سقوط نظام بشار الأسد، بدا واضحًا أن تركيا لن تسمح بعدم استقرار الأوضاع في سوريا مرة أخرى، بعد أن باتت على بُعد خطوات من إغلاق ملف تهديد حزب العمال إلى الأبد.
كما أن العبث بالأمن القومي السوري، يتردد صداه على الفور في أنقرة، كما أبانت سنوات الفوضى التي ضربت سوريا لحوالي 13 عامًا.
سوريا.. هل كان ثمة انقلاب؟
لم يمر على تصريحات فيدان سوى أيام قليلة، حتى اندلعت مواجهات عنيفة في منطقة الساحل، إثر هجوم واسع شنته مجموعات مسلحة مرتبطة بالنظام السابق، وتتلقى دعمًا من قوى خارجية، كما صرّح بذلك مصدر مسؤول بالحكومة السورية.
الهجوم استهدف قوى الأمن العام، وخلف عشرات القتلى، كما أدى إلى سيطرة هذه المجموعات على أجزاء واسعة من محافظتي طرطوس واللاذقية.
الهبة الشعبية الواسعة، والتحرك الفعال لقوات الأمن العام ووزارة الدفاع، ساهما في التصدي للهجوم المباغت الذي وصف بأنه كان محاولة انقلاب تم ترتيبها بمساعدة جهات خارجية، حيث أشارت أصابع الاتهام إلى إيران.
اللافت للنظر هو التحرك التركي السريع لدعم ومساندة القوات السورية في مواجهة تمرد الساحل.
إذ نفذت الطائرات الحربية التركية غارات على مواقع قوات سوريا الديمقراطية “قسد” لمنعها من القيام بأي عمليات متزامنة في ريف حلب الشرقي، وربما في المدينة نفسها.
كما شنت المسيرات التركية غارات على مواقع وحدات الحماية الكردية، في حيي الشيخ مقصود والأشرفية بحلب. فيما دفع الجيش التركي بتعزيزات كبيرة لتغطية تقدم مقاتلي الجيش السوري باتجاه منطقة الساحل.
التحركات التركية المنسقة والسريعة، أعادت إلى الواجهة تحذيرات فيدان، ونبهت على طبيعة تحركات الدولتين في سوريا.
الصراع التركي الإيراني في سوريا
لا تزال إيران تتجرع تداعيات الهزيمة الجيو-إستراتيجية التي منيت بها في القوقاز، إذ استطاعت القوات الأذرية – بدعم ومساندة تركيا – عام 2020 إلحاق الهزيمة بالقوات الأرمينية، واستعادة السيطرة على إقليم ناغورني قره باغ، ثم بسطت سيطرتها تمامًا عليه عام 2023.
هذا الانتصار منح تركيا ميزات إستراتيجية واسعة في منطقة القوقاز، ومهد لربطها بريًا من جديد بتلك المناطق، إضافة إلى مناطق آسيا الوسطى، خاصة مع استكمال إنشاء ممر زنغزور الإستراتيجي، الذي سيعيد ترتيب الأوضاع جنوب القوقاز، على حساب النفوذ التقليدي الذي كان متوفرًا لإيران، والذي سيتراجع بشدة.
وفي المحطة التالية، تعرضت إيران لخسارة إستراتيجية كبيرة، بسقوط نظام بشار الأسد، لحساب منافستها التقليدية تركيا، التي أعادت تموضعها الإستراتيجي بانتصار الثورة السورية.
فالتعاون بين إيران، منذ انتصار ثورتها عام 1979، وبين نظام البعث السوري، منحها تفوقًا إستراتيجيًا في مواجهة تركيا، إذ حرم الأخيرة من مجالها الحيوي في الشام، والذي تحول لاحقًا إلى مصدر خطر أمني منذ تأسيس حزب العمال الكردستاني برعاية حافظ الأسد.
كما وفّر لإيران ممرًا إلى البحر المتوسط، وأتاح لها تأسيس قواعد متقدمة للدفاع عنها في لبنان بواسطة حزب الله.
لذا لم يكن من المنتظر أن تستسلم إيران لخسارة سوريا، وخروجها منها خالية الوفاض، وهذا ما تدركه تركيا جيدًا وتتحسب له.
وفي هذا السياق المضطرب، يمكن فهم تحذيرات فيدان، وكذلك التحرك السريع والمنظم لقوات الجيش التركي، لدعم نظيره السوري في مواجهة التمرد “الانقلاب” في منطقة الساحل.
فهذا التبدل الحادث في موازين القوة الإقليمية، جاء موازيًا لتعزيز الحضور التركي دوليًا، إذ تتعاظم الحاجة الأوروبية إليها في بناء بنيتها الأمنية الجديدة، وتدور المفاوضات الآن حول كيفية هذه المساهمة وما يمكن أن تمنحه القارة العجوز لأنقرة في المقابل.
إضافة إلى دورها المرتقب في مفاوضات السلام بين روسيا وأوكرانيا.
هذه الأوراق التي تتجمع في يد أنقرة، ستعمل على توظيفها لتعزيز حضورها الإقليمي خاصة في الملف السوري.
على العكس من إيران التي تعيش أيامًا صعبة مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي ألمح مؤخرًا إلى إمكانية اللجوء إلى الخيار العسكري في التعامل معها، إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق بشأن القضايا العالقة.
هذا التهديد يأتي في ظل أوضاع اقتصادية صعبة تعيشها إيران؛ بسبب العقوبات الأميركية الضاغطة، والمرشحة للتصاعد خلال الفترة المقبلة.
لهذا من الصعوبة بمكان صمود إيران طويلًا في لعبة “عضّ الأصابع” مع تركيا، خاصة في ظل الحاجة إليها لمواجهة تقلبات المرحلة المقبلة.
الأمر الذي قد يدفع طهران إلى القبول بسياسة الأمر الواقع، والاعتراف بالمسار الجديد في سوريا، ومن ثم الكفّ عن أي تدخلات ستضعها مباشرة في مواجهة مع تركيا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
كاتب وباحث في الشؤون التركية
الجزيرة
——————————-
=====================