في معنى تمثيل السوريين أفراداً/ مضر رياض الدبس

09 مارس 2025
بدأت فكرة عقد مؤتمر حوار وطني في دمشق مباشرةً بُعيد تحرير البلاد من النظام البائد. وما إن بدأ السوريون في التفكير بعقد مؤتمر، حتى بدأوا يكتشفوا صعوبة تمثيلهم فيه. ومع اتفاق الرأي العام على ضرورة الابتعاد عن نمط التمثيل الطائفي والعصبوي، وإلغاء مبدأ المحاصصة، وغياب حياة سياسية في البلاد، برزت مشكلة غياب منهجية معروفة للتمثيل يمكن أن تلائم الوضع السوري الحالي. بعد ذلك، رأت السلطة الحالية أن يكون التمثيل في المؤتمر فردياً، وهذا جيد، أو لنقل إنه كان أفضل الممكن، وجرى المؤتمر على أساس هذا التمثيل. وتطرح منهجية التمثيل هذه سؤالين مهمين: ما هو الفرد؟ ومن ثم كيف يكون المرء فرداً ليتناغم فعلاً مع هذا النوع من التمثيل؟ يناقش هذا النص السؤالين، ويحاول مقاربتهما، ومن ثم اشتقاق اقتراحات مستقبلية بموجب نوعية هذه المقاربة، خصوصاً أن هذا النوع من الأسئلة يكتسب أهميةً كبيرةً بالنظر إلى حقيقة أن الفرد هو نواة المواطن، فلن يكون السوري مواطناً إلا بالمرور في مفهوم الفرد.
ثمّة في الدنيا مفهومات لا تعيش وحيدة، لكنها تعيش في ثنائيات مع الـ”لا التي تخصها”؛ مثلاً لو لم يكن إيمان، لما كانت ثمة حاجة إلى مفهوم الإلحاد، ولو لم يكن خير، لما كنا في حاجة إلى مفهوم الشر، وهكذا. أيضًا، مفهوم الفرد لا يكون من دون مفهوم الجماعة، فلو كان الإنسان لا يعيش في جماعات، لما برزت الحاجة إلى مفهوم الفرد من الأساس. إذاً، واحدة من أهم المسائل التي تُحدد مفهوم الفرد، أو نوعية التفرد، والإفراد، هي نوعية الجماعات التي ينتسب إليها الفرد. وهنا نحن نميز بين التفريد (individuation) والإفراد (individualization)، الأولى على وزن تفعيل (فرَّد تفريداً)، أي أن الشخص يجعل نفسه فرداً بقرارٍ منه، وهو واعٍ بما يفعل، وواعٍ بمسيرة فردنته؛ والثانية على وزن إفعال (أفرد إفراداً)، أي ثمة مَن جعل منه فرداً برغبته، أو من دونها. ونقول إن التفريد، والإفراد، لا يتمان إلا بموجب نوع العلاقة التي تربط كلاً منهما بالجماعة. ولأن الفرد بحاجةٍ دائمة إلى التعاون، والشغل، والتبادل، لتحقيق مصلحته الخاصة؛ فإنه ينخرط بالضرورة داخل نظام المجتمع، ومن ثم يصبح هو نفسه وسيلةً بيد الآخرين، لأنهم يتصرّفون بالطريقة نفسها، وهذه طبيعة الأمور. هذا يعني أن الإفراد والتفريد لا يتمان إلا داخل أشكال التضامن التي ينتجها الأفراد في ما بينهم بطريقةٍ واعية، أو غير واعية. والآن، صار مُمكناً أن نقترح الآتي: الحالة الأولى إذا كانت الجماعة مبنية بطرائق غير واعية، سابقة على مفهوم الفرد، مثل الطائفة، أو القبيلة، وكل ما يندرج تحت “حسبُنا ما وجدنا عليه آباءنا”؛ فإن التفريد فيها لا يمكن أن يجري إلا بصورة “صعلكة”، لأن هذا المسار محكومٌ بالهُويَّة التي لا تترك خياراتٍ إلا الهُويَّة أو البَريَّة. في هذه الحال، ما إن يتّخذ عضو الجماعة قراره بالانحياز إلى فردانيته، حتى تحكم عليه القبيلة بالإفراد على غرار الطريقة التي حكمت فيها على طرفة بن العبد مثلاً (إلى أن تحامتني القبيلة كلها وأُفرِدتُ إفرادَ البعير المُعبَّد): والبعير المُعبَّد هو الأجرب الذي يُدهن بالقطران، ويُعزل عن القطيع. والحالة الثانية إذا كانت الجماعة مبنية على أسسٍ واعية لاجتماعها، وتحترم كل فردٍ فيها، ورأيه موضع اهتمامٍ وتقدير، ويبنيه من دون عنفٍ وضغط، وهو غاية في حد ذاته. هذه جماعة تدعم أفرادها، وهي، بطبيعة الحال، ليست عصبوية، ويكون التفريد فيها “استقلالاً بالآخر”، على مبدأ أبو حيان التوحيدي عندما قال إن الحُب استقلال الشريكين كل منهما بالآخر، لاكتمال الذكورة بالأنوثة، والعكس، وهذا الاستقلال بالشراكة هو المعنى الأعمق للفردية. في الحالة الأولى الروابط في الجماعة عصبوية بالمعنى الذي قدَّمه ابن خلدون، وهي روابط تقوم على صهر الناس بعضهم ببعض، والتضامن فيها مبني على نعرة الدم، أو العصبية القبلية: العائلة، والقبيلة، والطائفة، أمثلةٌ على هذا النوع من الروابط. وفي الحالة الثانية تقوم الروابط على تجسير العلاقات بين البشر من دون صهر الناس بعضهم ببعض، هي روابط مدينية تستبدل بالعصبية ما يعرف في العلوم الاجتماعية بـ”رأس المال الاجتماعي”، وهو نوع من الروابط الاجتماعية التي يبنيها الأشخاص نتيجة روابط واعية تؤدي إلى بناء ما يعرف بـ”شبكات الثقة”، هذا النوع من الروابط هو المثالي للمجتمع المدني، وهو الوسط الذي ينبت فيه مفهوم الفرد وينضج، مثال ذلك جماعة القراءة المشتركة، أو جماعة تمكين المرأة، أو جماعة دعم الأطفال المشردين، أو جماعة هواة ركوب الدرّاجات، وإلى ما هنالك. في هذه الحالة ينشأ بين أفراد هذه الجماعات، نتيجة نشاطاتهم المشتركة، نوعٌ من الثقة التي تعمل بعلاقةٍ متعدية؛ فأنا لا أعرف “س”، لكن أثق به لأنني أثق بـ”ع”، و “ع” يثق بـ”س”. والمجتمع المدني هو مجال الاختلاف، لكنّه عتبة الوحدة: يعني ذلك أن الاختلاف ضروري للوحدة، فلولا منظومة المجتمع المدني، التي تعترف بأفراد مستقلين بالشراكة مع الآخر، ومختلفين بعضهم عن بعضهم، لما كان أي معنى للوحدة على المستوى السياسي، لأن مجال السياسة، هو مجال الوحدة (الدولة)، يعني ذلك أن المجتمع المدني هو عتبة الدولة، والعتبة مكانٌ للدخول، وللخروج أيضاً. هذا يعني أن المجتمع المدني من حيث هو وسطٌ ينبت فيه مفهوم الفرد، وحاضنٌ لمفهوم الاختلاف، هو أيضاً عتبة الدولة ومنه ندخل إلى مجال الوحدة، ونخرج.
صار لدينا الآن ثلاثة مفهومات للفرد: في المجتمع العصبوي يكون صعلوكاً، وفي المجتمع المدني يكون فرداً، وفي المجتمع السياسي يكون مواطناً. الأول عزلة (إفراد البعير المُعبَّد)، والثاني استقلالٌ بالآخر (إفرادٌ بالشراكة)، والثالث استقلالٌ بالحق (إفرادٌ بالقانون)؛ فعلى مستوى الدولة الفردانية حق. صورة التضامن في الأول عصبية، وفي الثاني رأس مالٍ اجتماعي، وفي الثالث رأس مالٍ وطني (رمزي، واجتماعي، ومادي، وثقافي). من كل ما سبق يمكن أن نقول إن الحالة العادية هي أن يبني المجتمعُ المدني الدولةَ، ولكن إذا لم يكن ثمة مجتمع مدني، وهو عتبة الدولة، فكيف ندخل إلى الدولة؟ ندخل إليها قفزاً، وهذا ما حصل في سورية الآن. لقد قفزنا كلنا إلى الدولة في هذا المؤتمر الأخير، ولا بأس في هذا القفز، بل إنه رائعٌ لأنه يعني النصر؛ فالنصر العسكري أصلاً هو أنْ نقفز إلى الدولة قفزاً، وربما هذا معنى الثورة في العمق، لكن بشرط أن تظل فكرة المجتمع المدني في رأسنا، أي نفكّر دائماً في بناء العتبة من داخل الدولة، وليس من خارجها، كما في الحالة المثالية. يعني ذلك أن تساهم الدولة في بناء مجتمع مدني قوي يحتضن الاختلاف، ومن ثم يعود هذا المجتمع المدني ليقوّي الدولة، أن تبني الدولة عتبة الدخول إليها من داخلها؛ فتسمح للجديد بالدخول إليها وتحسينها. وصلنا الآن إلى سؤال: كيف تبني الدولةُ، التي دخلنا إليها قفزاً، المجتمعَ المدني من داخلها؟ تبنيها عبر وزارة الثقافة؛ وفي تقدير صاحب هذه المقالة، في الوضع السوري الحالي، أهم وزارة للمستقبل (وليس للمشكلات المرحلية) هي وزارة الثقافة إذا اضطلعت ببناء مجتمع مدني سوري، من طريق بناء شبكات ثقة على أسس ثقافية تشكل حالة أنموذجية ومنهجية لنوعية علاقات تقوم على رأس المال الاجتماعي، وتشكل ضامناً للدولة مستقبلاً، لأن فيها ينبت مفهوم الفرد، ويتمايز.
العربي الجديد